الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / صراع الحضارات وأسواق الفخر والهجاء

صراع الحضارات وأسواق الفخر والهجاء

الوفد: 15/11/2001

صراع الحضارات وأسواق الفخر والهجاء

يخيّل لمعظم من يكتب أنه يعرف عن ماذا يكتب ، وإلى من يكتب ، مع أن المسألة ليست بهذه البساطة، ولا بهذا الوضوح الذى يلوح للكاتب معظم الوقت.  وكل من القارىء والكاتب يخسران من جراء ذلك. خذ عندك لفظ الحضارة الذى شاع هذه الأيام حتى أصبح يتردد أكثر من ثمن الخيار ومشاكل الميكروباس.

حين نبّهـت فى المقال السابق إلى أن المواطن العادى لن يُعشـّى أولاده صدام حضارات، ويفطرهم حوار حضارات، لم أكن أقصد أن نكف عن استعمال هذه الألفاظ  فى هذه الظروف بالذات،  ولكننى كنت أنبّه نفسى، والقارئ، إلى ضرورة تحديد مضمونها فى كل سياق، وما يمكن أن يترتب على ذلك.

لم نكن نحن البادئين باستعمال هذا الخطاب بهذا الإلحاح فى هذا الظرف العصيب الذى يتطلب من كل من عنده شعور بالمسئولية (أو عنده دم) أن ينتبه إلى قتل الأبرياء، والاغتيال دون محاكمة، بدلا من استسلامه للإغراق  بهذا الرطان المتباهى على الجانبين). إنهم  مع تماديهم فى القتل العشوائى (أفغانستان) والاغتيال المنظم والمضطرد(فلسطين) راحوا يجرونا إلى هذا الخطاب عن الحضارة والتاريخ،فكان لزاما أن نرد ، ولكن !! . نوجز أولا ما كان :

 موجز الحكاية

واحد خطف طائرة، وثلاثة من زملائه عملوا مثله، والأربعة هم من عندهم (فى الأغلب،  ولن آتى بدليل إلا أن يأتوا هم أولا بدليلهم، لسنا أشطر من السى آى إيه، ولاّ إيه)، هؤلاء الواحدون (جمع “واحد”) فرقعوا ما خطفوا فى رموز لها معناها ودلالاتها، فقتلوا “منهم – فيهم” من قتلوا، ورحل المفرقعون مع ضحاياهم، رحم الله الجميع.  إيش جلـب حكاية الحضارة والبربرية فى الموضوع  ياعم بلير،  وإيش جر رِجّل الإسلام والمسلمين في الموضوع يا عم برلسكونى وياعم دبليو؟ خيبكم الله جميعا. فينبرى المسلمون، والطيبون العارفون من غير المسلمين، والذين كانوا مسلمين – حتى سلمان رشدى: (أخبار الأدب: 11 نوفمبر 2001) يدافعون عن  حضارة الاسلام الآفلة، ويظهرون نواياهم الطيبة، و يعلنون طاعتهم الواجبة . كل هذا والقتل مستمر، والاغتيال على أذنه، والفُرجة تجرى على قدم وساق ، وهات يا كلام عن الصراع، والصدام، وهات يا نفاق حول “قبول الآخر”.

شروط

صحيح أن الحادث نفسه  ليس له علاقة مباشرة بهذا “الردح” والمعايرة، والهجوم والدفاع، لكن واقع الحال أنه فتح ملفا لم يكن مغلقا تماما، فتحه على مصراعيه، فلا مفر من أن  نتحمّل الاطلاع على ما فرضه علينا هذا الفتح. إلا إنه لا يصح أن نكتفى بتقليب ما تطاير من صفحاته، بل علينا أن نعيدها إلى موقعها، ما أمكن ذلك ، ونحن نحاول أن نفهم بعض محتوياتها.

ثمة شروط واجب توافرها حتى يكون خطاب الحضارة هذا مفيدا، وهادفا، وإلا عدّونا من فئة المثقفين  الذين انفصلوا عن الناس، أوصياء أو متفرجين . أهم هذه الشروط يمكن أن نوجزها فيما يلى:

(1) ألا يلهينا الحديث عن الحضارة، والثقافة، والصراع، والصدام ..إلخ عن خبز اليوم ، وتحديات العيش اللازمة لاستمرار أغلب الناس وهم يتعاطون الحياة بأقل قدر من الضروريات.

(2) أن يتركز الحديث فيما هو “هنا والآن”، حتى لو اتسعت “هنا” لتشمل العالم كله، واتسع “الآن” للتنبؤ والتخطيط  والمستقبل المنظور. وبالتالي يصبح الحديث عن الماضى ليس بغرض الفخر والهجاء، وإنما بهدف التعلّم والمقارنة، حتى يمكن أن نتجنّب تكرار الأخطاء، وأن نستفيد ونحن نحاول تحويل المسار.

(3) أن يقع  المواطن الفرد- فى البداية والنهاية – فى بؤرة الاهتمام مهما كان  الحديث عن الجميع،

(4) أن تقاس موضوعية ، وجدوى  أى حديث أيا كان  مصدره، أو لغة خطابه، أو ملة صاحبه،  بآثاره على كل الناس فى مختلف المواقع وبمختلف اللغات وعلى مختلف الملل.

إذا نحن طبّقنا هذه المقاييس، وخاصة على ما يعرض على وعى قارئ الصحيفة اليومية، فقد نجد أن كثيرا مما يكتب يحتاج إلى وقفة . إن فائدة التنظير حول القضايا العامة مع القارئ العادى تتضاعف هذه الأيام بعد ظهور حاجة البشر كافة أن يشارك بعضهم بعضا فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبالذات بعد أن أتاحت الإنجازات الأحدث  للناس من مختلف الملل والطبقات والثقافات فى كل أنحاء الأرض أن يتواصلوا. صحيح أن التواصل الآن يتم بين فئة محدودة ولأغراض كثير منها تافه، وبعضها ضار، لكن صحيح أيضا أن ثم أملا فى ما هو أفضل وأبقى.

الرفاهية والبربرية

حين راح قادة التحالف اياه يتكلمون عن حضارتهم وما يتهددها ومن يهددها من الهمج (الذين هم نحن  باستثناء من سيعيّن منا خَدَما فى قصور رفاهتهم) لم يتذكر أغلبهم ما نبه إليه رهط من أفضل مفكريهم، وبعض عامتهم إلى ما ينحدرون إليه. إن ثم فرقا واضحا بين حديث القادة القتلة الذين يحكمونهم وبين وعى المفكرين والنقاد منهم الذين ينقدون أنفسهم وينبهونا وإياهم إلى ما  ينتظرهم  – وإيانا-  من مصير،  لو ظل الحال على ما هو عليه، إن كتابا واحدا(كمثال) صدر قبل هذا الحادث الدال بأربع  سنوات، كتبه واحد منهم، به من المعلمات والإنذارات أكثر مئات المرّات مما انتبه إليه بعضنا ونحن نعايرهم أو ندّعى تفوقنا عليهم. الكتاب المثال هو  كتاب” فكرة الاضمحلال فى التاريخ الغربى” تأليف  أرثر هيرمان (1997). على الرغم من أن هذا الكتاب ينضوى تحت ما يسمّى “علم  الأفكار” أو “علم  تاريخ الأفكار” إلا أنه تناول هاجس اضمحلال الحضارة  الغربية بشكل أمين أظهر كيف أن مؤلفه  صاحب موقف أكثر منه مؤرخ  للفكر (وإن نفى هو ذلك). إن هذا الكتاب لا يستعرض فقط آراء المفكرين والفلاسفة السابقين والمعاصرين ليبيّن أدلتهم التشاؤمية أو المنذرة بالاضمحلال، وإنما هو يستلهم أيضا اعترافات شخص عادى  أسموه “مفجر القنبلة”إشارة إلى الطرد البريدى المفخخ الذى أرسله لينفجر فى مكتب مدير إحدى الشركات ويقتل ثلاثة أشخاص ويصيب ويشوه ويقعد ثلاثة وعشرين”( وهو النموذج المصغر لما حدث يوم الثلاثاء الأسود)، كتب هذا الشخص بيانا من 35000 (خمس وثلاثين ألف كلمة) بعنوان “المجتمع الصاناعي ومستقبله ” وقد أثبت هذا البيان أسباب الهجوم، بعد أن عرّى نوع الحياة الغربية الكمية المغتربة المفروضة”، قال: “..إن هدفنا ليس سوى تدمير الشكل الحالى للمجتمع الغربى الحديث”. أنا لا أورد هذا الكلام الآن لأحوّل الأنظار إلى الفاعل الحقيقى، مع أن هذا النص ومثله يعتبر دليلا أهم مما زعموه هم عن بن لادن، لكنني فقط أنبه إلى أن الكتاب الذى احتوى هذا البيان باستشهاداته وحبكته، يمثل نوعا من النقد الأمين الذى يمارسه أهل الغرب مما يجعلنا نخجل ونحن نردد نقداً أقل منه بطريقة انفعالية تبدو أحيانا كأنها الشماتة، ثم إن كثيرا من نقدنا قد يوحى لنا أن معنى أنهم ينهارون أننا الوارثون لهذه الحضارة الآفلة ، كأننا سوف نرثها بحق الشفعة والجوار، لا بجهد الإبداع  والمسئولية . إن احتمال أن نكون الوارثين ونحن هكذا بما نحن فيه هو من أبعد الاحتمالات وأكثرها تضليلا، وليس معنى ذلك  أن نستسلم للسلبيات، ونكف عن المشاركة.

مدنية أم حضارة ؟

على الرغم من أن  موضوع احتمال انهيار حضارتهم هو موضوع  مطروق من قديم، منذ شبنجلـر وقبله حتى آل جور (الذى تحيزنا نحن العرب ضد انتخابه لصالح هذا الأبله الحالى السيد دبليو)، إلا أن حادث الثلاثاء جعل من  مناقشة مصير الحضارة الغربية  موضوعا  عاما غير قاصر على مفكر مستقبلى أو فيلسوف متشائم.  إنه حتى فى المجالس الخاصة يبدأ النقاش بسبّ فوكوياما (نهاية التاريخ) وينتهى بشجب  هنتجتون (صدام الحضارات) بشكل جعل هذين الاسمين أشهر من عمرو دياب وشعبان عبد الرحيم . وكأن المتناقشين قد حققوا بذلك أعظم إنجاز حضارى!!.

توضيح واجب

لا بد لكل كاتب أن يوضح مضمون ما يستعمل من مثل هذه الألفاظ بقدر مناسب. أبدأبنفسى فأفرّق ابتداء بين  المدنية والحضارة. الكلمتان ليستا مترادفتين. المدنية تطلق عادة على الأدوات  اللازمة والمظاهر المادية الدالة على ما هو حضارة،وهذا ما يبدو فى شكل مظاهر الرفاهية وصقل الأدوات والتطاول فى البنيان، لكن ليس كل مدنية موازية وقادرة على إفراز وترسيخ حضارة فائقة.

قديما ، ولما كانت الممالك منفصلة، والشعوب متناحرة طول الوقت، كان التحضر – بأدوات المدنية – يتم لحساب فئة على حساب الأخرى (يشمل لفظ الفئة هنا أى شعب أو مملكة أو امبراطورية أو مجموعة دول) إلا أن الأمر اختلف الآن بعد ما تواصل الناس بهذه السرعة وعلى مدى هذه المساحة التى تكاد تشمل كل الكرة الأرضية، لم يعد يمكن أن نسمى المدنية حضارة  إلا إذا ما وعى إنسان عصرها مسئولية امتلاك  الأدوات  القادرة على  تسهيل الحياة وتوفير الوقت، تلك المسئولية التي تلزمه باستعمال هذه الأدوات لتعمير الأرض- لا خرابها،  وتطوير البشر. لا تشويههم أو تناثرهم وتمزقهم أو تسهيل تسخير بعضهم لبعض. .

إن الأديان حين نزلت كانت تشير إلى أن الحضارة  الإنسانية لا تكون كذلك إلا إذا شملت كافة الناس، وبدلا من أن نتعلم من هذا الوحى العظيم شروط التحضر، قلبنا الأديان إلى مناطق نفوذ  وسلطة تميّز  بعض الفئات على البعض حتى أصبحت الأديان – للأسف- وقودا للتعصب حتى التطهير العرقى أحيانا.

 إن الذى يعرف التعريف العلمى لما هو “دين” يمكنه بسهوله  أن يتكلم عن دين اسمه “العلمانية”، وآخر اسمه “الديمقراطية”، وثالث اسمه “حقوق الإنسان” ورابع هو “العولمة.” كل هذه الأديان تبدى من السمعة الحسنة والنيات الواعدة ما يحقق لها التقديس الزائف  لتصبح دينا بشرىا بشكل ما، لكن هذه الأديان الأحدث  تنتهى إلى ما انتهت إليه الأديان التقليدية من تعصب، وتناحر، فحروب وتطهير. حين ظهر “دين العلمانية” كان يهدف إلى تصور أنه يمكن أن يتجاوز هذا التناحر الدينى الذى ابتعد بالأديان عن هدفها الأسمى، لكنه للأسف وقع فى نفس المحظور الذى وقعت فيه  معظم الأديان إذ أصبح دينا جديدا رغم  أنه بلا وحى،  وبلا إله مـُعـْلـَن.

مقاييس

لا يقاس تطور البشر وحضارتهم  بإنجازات الصفوة فى مراكز البحث وعروض المتاحف وبراءات النشر فحسب، ولكن يدخل فى التقييم والقياس نوعية تعامل الناس مع بعضهم البعض، وعمق مشاعر الأخوة الإنسانية التى ترسى قواعد العقد الاجتماعى السليم، ليس المهم ما هو مكتوب على الأوراق، بل الأهم ما يجرى بين الناس من ممارسة  القواعد العرفية التى تفرض نفسها فرضا على السلوك اليومى التلقائى.

حقيقة الحياة ليست فى الألفاظ الضخمة التى نستعملها فى وصفها، ولكنها تتكون من مجموع  أشياء بسيطة، بسيطة جدا. يمكن قياسها بالمنطق السليم مباشرة. خذ عندك  بعض التساؤلات التى أرجو أن تطرحها على نفسك، وستصل دون وصاية إلى اجابات تفيدك فى معرفة ما هو حضارى من عكسه:

(1)  ما معنى أن تمتلك طبقا فضائيا (دش) يعطيك فرصة مشاهدة أربعمائة وخمسين محطة، وأنت لا تتقن قراءة ونقد فقرة وردت فى خبر يقول : “إن طفلا واحدا مات بغير ذنب”، ثمّ لا يغيّرك مثل هذا الخبر؟

(2)  ما معنى أن تفسد واجهة العمارة بأن تدهن نوافذ شقتك – وتتصورا أنك حرٌّ فيها- بلـون يخالف كل سائر النوافذ؟ فتـقبّح المنظر أمام جارك الذى  يرى نوافذك أكثر مما تراها أنت ؟

(3) ما معنى أن تتخلف عن الميعاد،أى ميعاد، دون أن تعتذر؟

(4) ما معنى أن تحصل على أعلى درجة “عربية” (!!) تدل على تدريبك فى حرفة ما، فى مركز معترف به للقيام بهذا  التدريب، دون أن تعرف إلا عنوان هذا المركز ولافتته الخارجية ؟

(5) ما معنى أن تمارس طقوس دينك العظيم  وأنت مستعد أن تقتل كل من أعلن ابتعاده عنه ، حتى لو كان يقصد أنه يفعل ذلك  ليُحـْسِنَ النظر إليه، ولو لفترة محدودة، ثم قد يعود إليه ؟

(6) ما معنى أن يرفع أحدهم  شعار الديمقراطية ثم يقود حملة قاتلة تحت اسم مضحك (الحرية الدائمة!) ثم يروح يقتل ويشرد، تحت لواء هذه الحرية الدائمة، الألوف والملايين الأبرياء، وهو يتشدق بحضارته ويلعن بربرية وهمجية (وإرهاب!!) كل من يخالفه ؟

(7) ما معنى أن يعلن  الجميع شعار”قبول الآخر”، ثم تنظر فى أغلب هؤلاء ، فتجد أن كل واحد منهم إنما يمارس لعبة “سيب وانا أسيب”، أو “فوّت لى أفوّت لك “، والذى فى القلب فى القلب. دون أن يتأمّل رأى الأخر بينه وبين نفسه، ودون أن يتمثل مشاعره، ودون أن يتقمص وجدانه، أو يتأمل وِجـْهته ؟

(8) ما معنى أن تستشعر أنت وذويك هذا القدر من الإهانة والتحقير من الذين امتلكوا أدوات رائعة ثم أساؤوا استعمالها، ثم لا تفعل شيئا إلا أن تقلب صفحات التاريخ،  لتتشدق بأمجاد لم تشارك فى صنعها؟

إن الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها جديرة بأن تعرّفك من هو الحضارى، ومن هو غير ذلك. بل إن ثمة مقاييس أبسط يمكن أن توضح الأمر:

مثالان للسلوك الحضارى

المثال الأول: لا يجوز لمسلم أن يأكل طعاما أعدّه فى منزله، وله رائحة نفّاذة تصل إلى جاره إلا إذا أرسل له منه بعضه، يسرى ذلك على من يقلى الطعمية،  كما يسرى على من يقيم حلقة شواء (باربى كيو “بارتى”!!). لم يحدد هذا العرف الذى تصل مخالفته إلى حد التحريم فى بعض الأقوال، أن يكون الجار على دينك أو على غير دينك. إن هذا العرف إنما يحمل من معانى الحضارة الإنسانية مما يمكن بيان بعضه كما يلى: (1)أنك لا تعيش وحدك (2) أنك تتذكر مشاعر جارك وتحرص على ألا تجرحها (3) أنه “ليس منا من بات شبعانا وجاره جائع” (4) أنه لا طعم لشىء تلوكه أنت دون أن تذكر المحروم منه …إلخ

المثال الثانى:  المشروع القومي للترجمة الذى سوف يذكره التاريخ للمجلس الأعلى للثقافة وعلى رأسه     د.جابرعصفور، مثلما يذكر كل فعل حضارى من أول ما فعله ابن رشد وطه حسين حتى ما يحاوله الغرب من ترجمة محفوظ، وغيره منا، إلى لغاته، إن هذا المشروع هو الذى أتاح لمثلى أن يقرأ  الكتاب الذى أشرت إليه فى بداية المقال، إنني شعرت وأنا أقرأه أنه يدعونى شخصيا للمشاركة فى إنقاذ نفسى، وإنقاذهم، فالبشرية!!!. فإذا أضفتَ إلى القيمة الحضارية لمبدأ الترجمة قيمة الإتقان الذى تجلّت فى حبكة الترجمة (طلعت الشايب)، وإحاطة التقديم (د. رمضان بسطويسى)، فأنت أمام فعل حضارى من الدرجة الأولى.

تباديل وتوافيق

لا أعرف إن كنت سهّلتها أم صعّبتها حين حاولت أن أوضّح للقارئ معنى الحضارة بالربط بين إهداء الجار “طبقا من طعمية” صنعتها فى بيتك فوصلتْ رائحتها إلى جارك ، وبين فكرة وإتقان ترجمة كتاب رائع. أشعر أن الأمر يحتاج إلى عودة تفصيلية ، أتصور أن البداية قد تكون  فى توضيح الفرق بين المدنية والحضارة واحتمالات التباديل والتوافيق فيما بينهما، أو لعلها تكون فى توضيح الفرق بين الثقافة والحضارة، أو فى بيان  علاقة الحضارة بالثقافة بالدين (الأمر الذى تناوله ت.س.إليوت منذ أكثر من نصف قرن، وظهر أيضا في العمل الحضارى المسمى: “مكتبة الأسرة”، بعنوان “ملاحظات نحو تعريف الثقافة”، بترجمة “حضارية أيضا ” قام بها الرائد الرائع د. شكرى عياد).

إن الموضوع أكبر وأهم من  أن يلم به مقال أو عدة مقالات، ومن باب التشويق والدعوة للمشاركة ،أقدّم للقارئ عناوين تصلح فروضا لإعمال الذهن ، هى بعض ما خطر ببالى من تصنيف محتمل لبعض علاقات المدنية بالحضارة كما تتجلى في عالمنا المعاصر.

1-  مدنية فائقة،  وحضارة مترهّلة زائفة كاذبة (إسرائيل).

2- مدنية حديثة متعملقة “مستوردة” و وشعارات “كنظام” الحضارة :إما جوفاء أومقلدة  ( أغلب دول الخليج العربية ).

3-  مدنية متطورة ، وحضارة واعدة  ( اليابان  أو حتى الصين ،إذا احتفظت أى منهما بعراقة التقاليد والتقدم معا).

4- مدنية مهزوزة بادئة ، وحضارة مهمّشة هشّة ( فقراء العالم العربى، والعالم الثالث).

5- مدنية  ضعيفة وحضارة فطرية – ليست بدائية بالضرورة-   (احتمال:: الهنود الحمر أو زارعى اللؤلؤ فى البحر)

أين نقع نحن من كل ذلك ؟ وما السبيل للانتقال من مستوى إلى مستوى إن أمكن ذلك ؟ وما هى محكات أننا نفعل ذلك؟

هذه الأسئلة ومحاولة الرد عليها هى الجديرة بالنظر، وهى التى تستأهل أن نبذل الوقت والجهد فى محاولة  الإجابة عليها بدلا من الاستغراق فى الحديث عن الماضى، والانزلاق إلى خطابة  أسواق الفخر والهجاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *