من أين نبدأ ؟

الوفد: 1/11/2001

من أين نبدأ ؟

هذا العنوان ليس من عندى، هو العنوان الذى اقترحه على شيخى الجليل نجيب محفوظ. كان ذلك مساء يوم الخميس الماضى فى فلفلـة المنيل فى جلسة “بقايا” وذكريات ما كان يسمّى الحرافيـش (تفرّقوا أيدى سَََــبَا!! رحم الله من رحل، وغفر لمن انسحب، وأعان من اضطُـر أن يبتعد). سألتُه بعد القراءة، وكان قد لامَنى على نقل مقالى فى الوفد من الخميس إلى الإثنين حتى لو احتل الصفحة الأخيرة، وكأنِّـى السبب، فهمتُ أنه يفضل الخميس ليأخذ القلم راحته، ويأخذ المقال حقه، وحتى ينتظرالقارئ كاتبه فى موعد محدد ملتزم، بعد أن انتهيت من القراءة، سألته أن يقترح على موضوعا للمقال التالي. أعلنتُ له خشيتى من أن أكرر نفسي، وأنا أتمادى فى عرض هذه الآمال الغامضة. أجابنى بعد فترة صمت طالت أكثر قليلا، أُُكتب لنا “من أين نبدأ” . فزِعتُ من حجم المسئولية، ولم أعِـده بشئ محدد .

كنت قد انتهيت من قراءتى له المقال، وأنا أشفق عليه من طوله، وكان قد أطرق برأسه أكثر من كل مرّة، ثم عقّب بما معناه ” تركتَنَـا مثل كل مرّة “.”أين البديل”؟ أجبته بنفس اليقين الذى يحمينى من الضياع ألما وحسرة، “إنّ البديل فينا طول الوقت، إن البديل يتخلّق باستمرار، حتى بالرغم منّا، إنه جنين فى ضمير كل إنسان فى كل مكان فى العالم”. هز شيخى رأسه وبدا غير مقتنع، لكنه لم يكسر خاطرى بإعلان ذلك.

كان تعقيبه على هجومى على حلول التسوية والتوفيق (أو التلفيق): أنه لا مانع من التوفيق، ولو مرحليا، إلى أن نجد الحل الأفضل، مثلا: نأخذ من أمريكا ديمقراطيتها، ومن اشتراكية روسيا الآفِلة محاولات عدلها الاجتماعي، وهكذا”..إلخ، لم أوافق. قلت له إن الخطأ أعمق من هذا وذاك، إنَّ المسيرة البشرية انحرفت بدرجة لا يصلح معها مثل هذا القص واللصق ، كان شيخى قد أثنى فى حديث سابق على “الحل “الصينى” إذِ احتفظت الصين بأسس الاشتراكية سياسيا، فى حين استعارات دفع وعجلات الرأسمالية اقتصاديا، وضعتُ مقولته هذه بين قوسين، فأنا أرفض النموذج الصينى بنفس القدر، ولنفس أسباب رفضى النموذج الأمريكى . أثناء عودتى إلى بيتى وبعدها، لم يتركنى سؤاله حتى أثناء النوم :” من أين نبدأ”.

مقارنة

 رحت أسترجع ما جري، وأنظر فيما يجرى وهو يزداد خطورة يوما بعد يوم. لقد أصبح الأمر أشد خطرا و أبشع أثرا من الحادث المسئول عنه . لا تقّدر جسامة الخطر- كما كررت مرارا- بعدد الضحايا، أو بحجم الخراب، إن الخطر كل الخطر يكمن فى التمادى فى العمي، وإلغاء العقل ، مع امتلاك أدوات الدمار هكذا على الجانبين. قد نجد فى التاريخ ما يشير إلى كوارث أبشع، وإبادات أفظع، لكن آلة التقاتل كانت محدودة الفاعلية تكنولوجيا، ومحدودة الأثر جغرافيا، أما الآن فخذ عندك : (لا القوة انتصرت، ولا العدل الشريد – محمود درويش “جدارية).

على الناظر فيما يجرى ألا يكتفى بمتابعة أعداد القتلي، وآثار التدمير بالقنابل والصواريخ، ثم تشريد الناس بالملايين، إن علينا أن نتأمل أكثر تغيّـر القيم، وانهيارالأخلاق. نحن نفتقد فيما يجرى الآن أى مواجهة بطولية بين بشر شجعان يقاتل بعضهم بعضا، كان الفارس من أحد الجيشين يمتطى صهوة جواده ينادى ” هل من منازل”، يفعل ذلك وهو يمثل جيشه لا أكثر، رمز شجاع يعرض حياته للخطر فداء لجيشه وأرضه ووطنه، يقبل التحدى فارس آخر من الجيش الآخر. يخرج إليه نيابة عن سائر ناسه، يتبارز الخصمان، وليس لزاما أن يقتل أحدهما الآخر. يكفى أن ينسحب أحدهما أو يبدى أى علامة من علامات الإذعان حتى يكفّ المنتصر عن التمادى حتى القتل. إذا وقع سيف أحد المتبارزين لا يواصل الآخر الهجوم عليه حتى القتل، وإنما يقف حتى يلتقط خصمه السيف، بل إنه يمسك بسيف خصمه ويلقيه إليه ، ثم تتواصل المبارزة حتى يذعن أحدهما أو يموت ، ينادى المنتصر لنفسه ولجيشه ولناسه من جديد ” هل من منازل آخر”؟ وهكذا ، وقد يحسم الأمر عند هذا الحد، بأقل عدد من الضحايا.

حرب هذه الأيام هى وصمة عار فى تاريخ العقل البشري، والوعى البشري. هى تلطيخ مشوّه لنقاء الأخلاق وجوهر القيم بكل المقاييس. تدور الحرب الآن ليس بين متقاتلين، ولكن بين مجروح مظلوم يائس غادر، وآخر منتقم جبار أعمى وغشوم . الفريق الأول ، المظلوم اليائس، ينقض على أبرياء لا يعرف أغلبهم اسم الذى ظلمه، لكنهم يدفعون -مع الجاني- ثمن الظلم الذى لا ذنب لهم فيه، والفريق الثاني، الرسمى المستعفي، يطيح قتلا وتشريدا فى أبرياء ليس لهم فى الطور ولا فى الطحين . الفريق الأول (المجروح المظلوم الغادر) أحل دم آلاف الأمريكيين الأبرياء فى نيويوروك وواشنطون، لكنه دفع الثمن فورا حين ذهب معهم إلى نفس المصير، فكان أغبى وأنبل. الفريق المقابل (المنتقم الجبار القاتل الغشوم ، الأكثر نذالة) راح يحيل أرض شعب بأكمله إلى جهنم .القتلى بالآلاف، والمشردين بالملايين، وكولن باول يصرح أنه لن يضرب مرحليا -العراق أو سوريا أو أى هدف عربى أو مسلم آخر، شكر الله سعيه، يصرح بذلك ليس لأن ذلك نذالة وظلم وجبروت، ولكن خوفا على التحالف الدولى، (تحالف ماذا يا حمار ؟ هل صدقتم أنفسكم ؟!)

الفاتحة

يرجع مرجوعنا إلى سؤال شيخى الجليل نجيب محفوظ “من أين نبدأ”. ليست عندى شجاعة خالد محمد خالد منذ حوالى نصف قرن، حين أعلَـن أنه “من هنا نبدأ”. لا يوجد عندى حل جاهز، الحل هو فى الرؤية ، والمحاولة، والإبداع، والمراجعة، ثم الرؤية، والمحاولة ، والإبداع، والمراجعة ….وهكذا، نحن نبدأ باستمرار دون نهاية. الله سبحانه يبدأ الخلق ثم يعيده، إن أخطر الخطر هو الجزم بأن “الشيء الفلاني، أو الفكر الفلاني، أو حتى التفسير الفلاني”هو الحل “. إن الله سبحانه لم ينزل على رسله الكرام صلوات الله عليهم حلولا منتهية، بقدر ما أنزل نورا يهدى إلى حلول ممكنة. فى فاتحة كتابنا الكريم. التى نقرأها فى كل صلاة، لا نردد” إهدنا إلى الصراط الفلانى، وإنما “اهدنا الصراط المستقيم”، وحين يقفز للقارئ المتعجّل أن هذا الصراط المستقيم هو “كذا” تحديدا، تلحقه الآية الكريمة التالية لتنقذه من تسليمه عقله لغيره، فتحدد له أنه “صراط الذين أنعمتَ عليهم”، فيطمئن قارئ الفاتحة أن المسألة مفتوحة النهاية، لم تحدد الفاتحة : أنعمتَ عليهم بماذا، الحق سبحانه وتعالى قد أنعم على عباده بكل شيء: بالعقل، والحكمة، والكرامة، والحب، والقدرة على الفعل، والإبداع، يأتى بعد ذلك توضيح فاتح أيضا حين يشير إلى أن الصراط هو صراطَ “… غير المغضوب عليهم، ولا الضالين”، لم يحدد -هنا أيضا- من أين يأتى هذا الغضب، أو كيف يكون الضلال، إنها دعوة مفتوحة. هى تأكيد على تكرار البداية فى كل صلاة، بل إننا حين نقرأ الفاتحة على روح الميت إنما نعلن -ضمنا-أنه ، حتى الموت، هو فاتحة أخرى، ثم انظر اسم السورة “الفاتحة”، ألا يعنى ذلك أن “البداية” هى دائما مطروحة، وأنناعلى أعتاب فاتحة جديدة باستمرار ؟

مصادر

تواَصَل الحوار مع شيخى حتى قلت له متشجعا: إن كتاباتك الإبداعية، لا التحريرية، تجيب بلا توقف عن سؤالك”من أين نبدأ”، وأردفُت: “مش كده ولاّ إيه؟”، فأجاب مقهقها “إيه”. رحت أؤكد له أن ما لاح لى من حلول وبدايات قد أتانى من مثل كتاباته، ومن طفولتى وسط الزرع والفلاحين قبل ظهور التليفزيون، ومن رحلاتى راكبا وراجلا فى أنحاء الدنيا، ومن صلاتى فى الخلاء وبين الناس البسطاء على الأرض، ومن مرضاى قبل أن يتدهوروا. أى من الطبيعة البشرية بشكل مباشر وليس فقط من العقل المجرد. إن البداية المتجددة هى من كل ذلك، وليست فقط من وصاية الكتبة والوصاة والأرقام والمعلومات الجافة،

فهمت من صمته أنه يريد تحديد بداية عامة متواضعة، وليس حديثا شخصيا، فيطِل السؤال:من أين نبدأ؟”

استبعاد

 أبدأ باستبعاد أمثلة محدودة لما” لا يصلح” قبل أن أشير إلى ما قد يصلح:

(1 الحلول التى تبدأ من الفكر دون الواقع فاشلة لا محالة. مهما وعد الفكر بإمكانية التطبيق. فإنه لا يصلح إن لم يقرّه الواقع بعد التجربة. حاولها أفلاطون بطريقة محدودة ورمزية فى جزيرة نائية، وكانت خيبته بليغة، وفشله بجلاجل، كما جرى تطبيق فلسفة ماركس لأكثر من نصف قرن، وكان ما كان مما لم تقتصر مضاعفاته على فشل المحاولة ، بل امتدت للأسف إلى تشويه الفلسفة التى قامت عليها التجربة، ودفن الحلم الرائع الذى كانت تعد به التجرية، ليستفرد بنا الجانب الآخر وهو يعلن نهاية التاريخ لحسابه.

(2) إن البداية ليست فى الحديث عن الأخلاق. ولا فى إعلان “قيم جديدة”، أو كتابة مواثيق إنسانية جديدة . إن الدعوة للعودة للأخلاق (بعد التأكد من انهيارها على الجانبين ، ومسئولية ذلك فيما حدث) قد لا يستفيد منها إلا من هو ضدها على طول الخط. هذا هو ما حدث ويحدث -غالبا- لممارسات كثيرة مما يسمى حقوق الإنسان”، ناهيك عن مساخر شعارات (قرارات)”الأمم المتحدة حيث أصبحت قراراتها، من حيث الفاعلية، مثل مقالات صحف المعارضة المصرية : كلام حلو كثير، على شرط ألا تغيّر شيئا فى أى شيء، هذه الأخلاق الشعارات – مع جمال منظرها – أصبحت أقرب إلى “خطابات النوايا ” التى نسمع عنها فى المفاوضات الخائبة هذه الأيام!!

(3) لا يجوز، ولايفيد، أن نبدأ بزعم الرجوع إلى الدين (دون الانطلاق إلى الإيمان المتجدد) . هذا هو ما يلوح عادة فى مثل هذه الأزمات . “الرجوع إلى الدين”، غير الانطلاق من الإيمان إلى وجه الحق سبحانه. إننا حين نعلن أن الدين (الإسلام مثلا) هو الحل، فإننا نتكلم عن نهايات وليس بدايات. القرآن الكريم -مثلا – لم يُــنزلْ ودمتم، وإنما هو يتنزل باستمرار. هو يتنزل فى أى ليلة قدر. تتفتح فيها طاقات العقل والوعى والوجدان لتستلهم النصوص من جديد.

(4) إن أى توفيق أو تلفيق لا يصلح بداية، فهو تكرار الفشل. إن الخطأ جوهري، يسرى على الجانبين،

اختراق

أنت يا شيخى سيد العارفين أننا -كل الناس – فى هذه اللحظة، فى كل بقعة من بقاع العالم، نحاول أن تنجيب على سؤالك، وأنت فى مقدمتنا. إن الأزمات الخطيرة هى حفز للاختراق الإبداعى الذى يتناسب مع خطورتها. إن كتاباتك هى التى علّمتنا “من أين نبدأ”، إننى لم أرفض – أو أتحفّظ – على أى مما كتبت إلا حين لمحتُ اضطرارك للتوفيق فى نهاية عمل ما. ربما شفقة بنا (مثل محاولة عرفة أن يعيد الحياة للجبلاوى فى أولاد حارتنا، ومثل الفصل الأخير “التوت والنبوت” فى ملحمة الحرافيش)، فيماعدا ذلك ومثله، فأنت تأخذ بيدنا- مبدعا- لنحاول البحث عن زعبلاوي، حتى لو يكن “الطريق “ممهدا، أو معروفا.

اجتهاد

فإذا شئت بعد هذا تحديدا نسبيا من مريد مجتهد ، فإليك بعض ذلك.

(1) البداية بدأت فعلا، حين رحنا نمعن النظر فيما وصلتْ إليه البشرية من تفوق رائع لكنه قاصر لأنه اكتفى بمستوى العقل الظاهر. لقد غمرتنا إنجازاتنا بالمعلومات، والحسابات جتى تضخم وعينا الظاهر، على حساب سائر مستويات وجودنا الآخري. البداية تقول: فلننظر فيما نسيناه من وجودنا لنخطط لتنميته.

(2) البداية هى أن نعلن بصراحة أنه لا معرفة إلا بتكامل كل مناهلها معا. لا وصاية لمعلومات على فن قادر، ولاوصاية لتفسير قديم على اجتهاد ملتزم، ولا وصاية لحياءٍ زائف على فطرة متناسقة، ولا وصاية لأمم متحدة ترزح تحت نيرالفيتو على ناس استطاعوا أن يتجمعوا فى سياتل ودربان، وأن يعلونها: “نحن هنا”.

(3) البداية فى أن نقر ونعترف أننا أخطأنا بتخلّينا عن الإيمان خوفا من الذين استولواعليه لحساب تفسيراتهم، ولجوءا إلى من أنكروه لحساب غرورهم. لنعترف أن الإيمان هو تعميق الفطرة البشرية بعد أن اكتسبت الوعى فاستطاع الكائن البشرى أن يدرك – مباشرة – هذه العلاقة الوثيقة بينه وبين الكون الأعظم.

 لا أحد يملك ، أو يستطيع، أن يتخلى عن إيمانه. إن هذا الإيمان يتجلى طولا فى الأديان الواحد تلو الآخر، وهو يتجلى عرضا فى هذه الأرض كما يتجلى فى تلك، وهكذا. الإيمان هو البداية والنهاية المفتوحة معا. لو عرفنا كيف السبيل إلى توصيله للناس منذ الطفولة، إذن لتغير طعم الحياة واختلفت نوعية الوجود.

حين يحل “الامتلاء ، و”الامتداد”، محل “الرفاهية” و”الاستهلاك” نعرف أننا قد بدأنا تغيير المسار إلى الفطرة السليم ، الامتلاء يتم حين يتناغم الوعى البشرى مع الوعى الكوني، من خلال العبادة والإبداع، والامتداد يتحقق حين يمتد حضورنا أبعد من مدى حواسنا إلى الغيب يقينا (الذين يؤمنون بالغيب).

البداية هى أن نستعمل هذه البديهيات التى اختُبرت عبر التاريخ ، حين نجح الرسل فى إرساء حضارات رائعة، كل تدين لا يخدم نوعية هذا الوجود البشرى الممتلئ والممتد، هو ينتقص من الإيمان لايضيف إليه. إنها الحقائق التى يعرفها العجوز الأمى كما أدركها أينشتاين حتى لو أسماها بغير إسمها.

(4) البداية يا شيخى الجليل هى من التربية والتعليم . تعليم يدرب مداخل المعرفة وأدواتها، لايعتنى بظاهر العقل وحده . نحن نعرف الله بكل ما “هو نحن”، لا بإنجازات العلم، ولا بوصاية المعاجم، النص الإلهي، هو النور الذى يعاود إضاءة الوعي، والعبادات هى تدريبات تنمى الحواس لتنجح فى التقاط الحق مباشرة. بهذا النوع من التربية يمكن أن نحقق قيمنى “الامتلاء”، و “الامتداد”، بديلا عن “الرفاهية والاستهلاك. (النموذج الأمريكي). علينا أن نجتهد حتى تشمل التربية تنقية الحس البشرى ، بنفس القدر الذى نهتم فيه بصقل العقل الحسابي، وأكثر. إن اجتهادات كثيرة تجرى فى كل العالم لمثل ذلك، لا ينقصها إلا الربط بينها. هذه البدايات، حين تتمادى لتكتمل، خليقة أن تنقذ العالم مما يهدده بالفناء .

استحالة

يستحيل أن يقدِم مخلوق بشرى امتلأ وعيه كله بالحق تعالى على ما أقدم عليه فاعل كارثة الثلاثاء أيا كان، يستحيل أن يقدم إنسان تعلّم كيف يدرك موضوعية وجود الله (وليس مجرد إثباته) على تشويه نغم الكون بإعلان حرب إبادة جبانة مثل التى تجرى الآن. الدين الإسلامى الذى شوهه أغلب المسلمين بما صاروا إليه، والذى لم يصل إلى معظم غيرهم بما هو، هو دين شديد البساطة شديد الارتقاء فى آن، عباداته جميعا تتآزر مع نبض الطبيعة ، وحميمية العلاقة بين الناس، لا يوجد وسيط بين من يعتنقه وبين الحق سبحانه وتعالي. تتم تنمية هذه العلاقة بانتظام من خلال العبادات ولقاءات التقارب بين البشر (هذاهو المفروض!). هو دين يوصى بالابداع حين يؤكد على ضرورة الامتداد فى الغيب يقينا حاضرا. لا يوجد فى الإسلام معبد مقدس وإنما كل الأرض مسجد وطهور. ماذا فعلنا بديننا حتى وصل إليهم هكذا ؟

إن الذين اضطروا أن يتخلّوا عن دينهم هذا ليكونوا إرهابيين إنما فعلوا ذلك حين حٌرموا من دينهم الحقيقى بسبب وصاية من لايعرفه، وأيضا حين حرموا من كرامة بشريتهم نتيجة لظلم من يحقد عليه، وعليهم. البداية يا شيخى الجليل هو أن نهيّئ سبل تربيتنا لنحقق إيماننا الذى يتجلى فى الإسلام وغيره من كل الأديان التى لم تتشوه، فيتحقق من خلال ذلك ما يميز البشر من “امتداد “،و:”امتلاء”. الأمر الذى يجعل الظلم نيزكا مظلما ساقطا غير قادرعلى إشعال النار وطمس البصائر. فمن أين يأتى الإرهاب ؟

ولكن

ولكن من الذى يقوم بهذه المهام ليحقق تلك البدايات؟ الحلول الفردية لا تغني، أو على أحسن القروض هى مجرد عينات صوفية بطيئة الانتشار، لا بد من “دولة، وسياسة حتى يتحقق أى شيء له صفة التعميم وفرص التطوير من خلال المراجعة . ” .ينبه  محمد سيد أحمد (الأهرام 25 أكتوبر2001) إلى أن ما نحن فيه هو “…مأساة يتوقف علاجهاعلى إزالة عيوب أساسية فى النظام الدولى القائم، أى أمور “التنمية السياسية”. ثم يتساءل ” هل من “تنمية سياسة” كفيلة لتدارك هذا العيب؟.

كيف نحقق هذه “التنمية السياسية ” على مستوى العالم والديمقراطية الشائعة زائفة، والمواثيق المطبوعة على الورق لا تنزل إلى الأرض، والذى يدير أمور العالم مجهول لا يهمه إلا الجمع والرفاهية ؟ العالم يدار بفيتو أمريكا، وإجرام شارون، وغباء دبليو ، ونفاق بلير، وخبث بوتن، ويأس بن لادن، فكيف السبيل إلى هذه التنمية السياسية الشاملة ؟ فإذا تركنا التعميم جانبا ونظرنا فى أنفسنا، فهل ثمة بداية لنا أكثر تواضعا.؟

كذب

لا وقت ولا معنى لإعادة رسم صورة ما وصلنا إليه. وهى صورة غير مشرقة مهما اتسعت ابتسامات المسئولين أو نشرت تهانيهم. أعتقد أن بدايتنا يمكن أن تكون شديدة التواضع ، ولو أنها ليست من الناس، بل من المسئولين. نحن نطلب من الله، ولا يكثر على الله، أن ينتبه المسئولون لما نقول أكثر قليلا مما يفعل قادة العالم. إن مقدار التصريحات التى تذاع ليل نهار، وخداع الأرقام التى يلوحون لنا بها، هى أبعد ما تكون عن الحقيقة على الأرض، وفى الشارع، وداخل البيوت. هل يمكن أن تكون البداية فى محاولة الإقلال من الكذب الرسمى والكذب شبه العلمي، ليس بالضرورة بالمعنى الأخلاقى (فالكذب لم تنهى عنه الوصايا العشر!!)، ولكن بالمعنى الموضوعي؟

إن كتابا يصدر عن التعليم فى مصر خلال عشرين عاما، لا يعلن فيه ما آل إليه مستوى المتعلمين ، كما يتجاهل الإشارة إلى دلالة الكارثة التى سادت فى هذه المدة ، وهي: :الغش الفردى والجماعى طول مراحل التعليم، ثم يحاول الكتاب بأرقامه وجداوله أن يوهمنا ويوهم رئيس الدولة أن هذا الإنجاز غير المسبوق هو نتيجة لتوجيهات وتخطيط رجال الحكم الذين هم، إن مثل هذا الكتاب هو أخطر على التعليم وعلى المستقبل من القروض بلا ضمان، وربما من الانتخابات بلا نزاهة

المثال الآخر هو ما يتم من تجميع أفضل العقول فى أفضل مراكز البحث العلمى ، ثم إهدار إنتاجها كأعظم طاقة بشرية نمتلكها ، لتصبح غاية مهمتها هو عمل أبحاث لا هدف منها إلا النشر والترقي، دون الكشف والإفادة، هذا الذى يجرى حين نسمّيه بحثا علميا، هو كذب صريح، رغم المنهج والشكل والنشر والإعلان،و هو نذير-أيضا – بمخاطر بلا حدود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *