الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / التصوف والسياسة والجهاد والمعرفة(3 من3)

التصوف والسياسة والجهاد والمعرفة(3 من3)

نشرت فى الوفد

7-7-2010

 تعتعة الوفد

التصوف والسياسة والجهاد والمعرفة(3 من3)

حتى نتكلم عن التصوف وعلاقته بالسياسة، لا بد أن نعيد التعرف على ماذا يعنى التصوف وماذا نعنى بالسياسة.

السياسة – كما أتصور– هى الإسهام فى تحريك وعى مجاميع الناس وفعلهم إلى ما يعتقد المشارك أنه أصلح لهم، وعادة يتولى قيادة هذا الأمر قلة رائدة، (جيدة أو فاسدة)، فى حين يقوم به عامة الناس (أو يقاومونه) مشاركين، أو معدلين، أو منسحبين أو محاسبين أو طارحين بدائل يروْن أنها أصلح، (حتى لو لم يقصدوا ذلك). من هذا المنطلق، يمكن اعتبار كل فرد منا مشتغل بالسياسة بشكل أو بآخر، حتى المنسحب من المشاركة، هو مشارك بانسحابه.

التصوف أيضا موقف حياتىّ معرفىّ فطرىّ منغرس فى أصل تركيب كل الناس بيولوجيا، فهو الطريق لإطلاق الفطرة على مسارها إلى وجه الحق تعالى، وبالتالى لا يمكن فصله عن السياسة ما دام الإنسان سياسى بطبعه.

التصوف الشعبى الذى دافع عن حق الناس فيه الصديق الشاعر الجميل فاروق جويدة ليس إلا جزء من بعض  تجليات هذه الظاهرة المعرفية الإيقاعية البشرية فى مظهر سلوك جماعى تقوم به مجموعات من شعبنا الطيب، لكن التصوف- كما أشرنا حالا- وكما ذكر هو فى المقدمة أكبر من ذلك بكثير، فالتصوف بمعناه الثقافى والإيمانى والمعرفى هو ثروة  بلا حدود لكل الناس بلا استثناء، وهو ثروة، لم نستغلها أو نستثمرها منهجا وإبداعا بما يليق بها  ونحتاجه، المتصوف الحقيقى لا يسمى نفسه متصوفا أصلاً، ولا يعرفه الناس بصفته تلك.

تعلمت من خبرة العلاج الجمعى فى قصر العينى لمدة أربعين عاما أن العامة، خصوصا من الطبقات الأكثر شعبية وكدحا، أميين وبلا شهادات غالبا، يتعرفون على نبض وجودهم أقرب وأعمق، بما يسمح للمجموعة العلاجية أن تخلـّق فيما بينها “وعيا جمعيا”، أقدر على التصعيد – معا–  إلى وجه الحق تعالى كدحا، وهذا بعض تجليات مسيرة الفطرة إلى ما خلقنا الله به وله.

لابد أن أضع ابتداءً معالم كيف سأستعمل كلمة “التصوف” فى هذه المقدمة: إن التصوف هو المجاهدة الذاتية على طريق المعرفة المتنامية تدريبا للوعى البشرى تواصلا مع الوعى الفردى فالجمعى: تناسقا مع الإيقاع الحيوى الممتد فى الناس إلى أصلهم.

 بهذا المعنى هو سلوك سياسى بالضرورة!

وفيما يلى بعض ما تيسر من “أمثلة” فتحاً للكلام:

أولاً: روجيه جارودى لم يدخل الإسلام من باب الأزهر الشريف، بلْ من بابين معا: باب جندى مسلم، غالبا لا يعرف كلمة التصوف أصلا، لكنه تصرف من خلال علاقته بربه ودينه تصرفا أنقذ حياة إنسان عدوٍّ، مخالفا أوامر قائده، (فكأنما أحيا الناس جميعا)، أما الباب الآخر فهو باب “التصوف المعرفة الفلسفة”، كما وصله من ابن عربى وغيره،

أليس فى ذلك موقف سياسى صريح من فيلسوف بحجم جارودى ينتمى إلى جيش احتلال غاشم؟

ثانياً: التصوف الذى دفع فيه الحلاج حياته: وهو يقوّم الحكام، ليحكموا عليه بالزنقدة، فالإعدام، هذا السياسى الثائر يقول  على لسان صلاح عبد الصبور (ليلى والمجنون):

“أصحابى أكثر من أن تحصيهم يا إبراهيم

أصحابى آيات القرآن وأحرفه

……….

آلاف المظلومين المنكسرين”

ثالثا: تصوف الإمام الخمينى: هو الذى أشعل الثورة الإسلامية، (بشهادة السفير الإيرانى فى ندوة فى القاهرة مؤخرا).

رابعاً: التصوف المعرفى: (المتصوف= العارف بالله) هو منهج شديد العمق، بالغ البساطة، يكشف عن بعض جوانبه أحدث ما وصلت إليه الفيزياء الكَمَوية، والرياضة الكَمَوية (التصوف الشرقى والفيزياء الحديثة: تأليف فرتيجون كابرا) والعلم المعرفى  الأحدث، وهو يضيف إلى فرص الإبداع ما يوسع الوعى وينظم العلاقات بين البشر وبعضهم،. فيضاعف المسئولية نحو الجميع: فهى السياسة.

خامساً: التصوف الإبداع الجسدى: بتنشيط الإيقاع الحيوى، الذى يطلق للجسد وبالجسد قدرات الإبداع المعرفية الكامنة فيه، والتى لم تعد قاصرة على ما يسمى العقل، يتجلى بعض ذلك بألحان فى الذكر الراقص (ليس فقط رقصة التنورة)، أثناء تجمعات التصوف الشعبى مع موسيقى الإيقاع الحيوى فى النفس/ الكون.

هذا النوع بالذات هو ما ترفضه السلطة الدينية الحالية، وتثير عليه السلطة السياسية والأمنية، لأنه تحريك إبداعى للجسد الوعى الجمعى بما يهدد الانطلاق لتكسير القيود فالتفكيك لإعادة التشكيل.

سادسا: التصوف الجسدى التواصلى: وهو التصوف الذى يعمق “الجنس الصلاة” بين اثنين يبتهلان فيقتربان من بعضهما تحت مظلة الحق تعالى إذ يلتقيان، فيجدان نفسيهما فى حضن الناس إلى الرحمن سبحانه، وهل يتفجر من ذلك إلا انتماءٌ فتحّرر فسياسة؟!.

سابعا: التصوف الجهاد الأكبر: وهو الذى من خلاله تصبح الحياة كلها معركة رائعة من الإبداع والحضارة حالة كون الإنسان فى حالة حرب مستمرة بدرجة استعداد قصوى طول الوقت، مما يعمق علاقة الإنسان بقوانين البقاء وزخم الحياة إلى وجه خالقها، بكل يقظة، وكل سلاح، وكل معرفة، وكل إبداع.

ثامناً: التصوف الشعبى، وهو ما ركز الصديق جويدة على التنبيه إلى خطأ الحيلولة دون ممارسته، وهو النوع الشائع عندنا على مستوى العامة، ومستوى الطرق الصوفية المتعددة على اختلافها، وهو يشمل ملامح من كل ماسبق، وله منهجه، وطرقه السلوكية الواصلة المتواصلة، ويتجلى فى سلسلة من الطقوس والاحتفاليات من أول أخذ العهد، حتى تلاوة الورد، حتى الذكر، حتى الحج للموالد.. الخ.

وبعد                                               

على قدر انتمائى وممارستى العلاجية والشخصية، أقر وأعترف أن هذا هو ما وصلنى  انطلاقا من العلاج الجمعى، بما سمح لى أن أربط بين الوعى العام، والعمل السياسى، وكدح الجهاد، (ثقافة الحرب) ربطا يتجاوز صناديق الانتخاب وتزييف الديمقراطية،

 يقول مولانا النفرى مستلهما خطاب ربه:

“إلتقط الحكمة من أفواه الغافلين عنها كما تلتقطها من أفواه العاملين لها، إنك ترانى وحدى فى حكمة الغافلين لا فى حكمة العامدين”.

إن ما يخيف السلطات كل السلطات: الدينية والسياسية والأمنية والمالية العالمية والمحلية هو أن يتجمع وعى الناس إلى الحق تعالى، فيغير مسار اغترابهم، ويهدد جبروت سلطانهم، فهم يلجأون إلى الوسائل القمعية القانونية الأمنية، توقيا لذلك

الخلاصة

السلطة لا تخاف إرهاب المتصوفة تخريبا أو تفجيرا، السلطة تخاف من أى تلقائية جماعية أو إبداع قادر على أن يكشف الحقيقة ويجمع الناس بعضهم إلى بعض.

علينا نحن أن نخاف من إهمال رعاية هذا الوعى، وأن نخاف من أن يستولى عليه من هم ليسوا أهله، فيسوقونه إلى صناديق الانتخاب، أو إلى تبعيه لعولمة مالية ملتهمة مغتربه

الوعى الجمعى يا عم فاروق هو وعى سياسى فائق،

 صحيح أن فاعليته السياسية الحالية ليست جاهزة تلقائيا أمام صناديق الانتخاب، صحيح أنه ليس خطرا على الاستقرار أو الأمن حالا، وبالتالى فنفى وجه الشبه مع الجماعات أو الاخوان ليس هو ما يخيف السلطة.

 إن إيجابياته المتراكمة كدحا إلى وجه الحق، هى الخطر الحقيقى على كل الأنظمة الجاثمة.

 لكل هذا – بعد إذنك يا فاروق –  رفضت تبسيط التصوف إلى مجرد اعتباره تسكينا للفقراء، ومجالا للتفريغ، وتصبيرا على البلاء فحسب، مع أن فى بعضه بعض ذلك.

ربنا يخليك شاعرا ناقدا مشاركا أمنيا.

بعد المقال:

.. بعد انتهائى من كتابة المقال صباح اليوم الاثنين (5/7) ليصدر بعد غدا الأربعاء (7/7) قرأت ما يلى فى صحيفة نهضة مصر:

“.. وقال الشيخ علاء ماضى أبو العزايم “…. إن هناك اتجاها من الدولة للنيل من الطرق الصوفية رغم أن الصوفيين أعدادهم بالملايين على مستوى الجمهورية ولا علاقة لهم بالسياسة، وكل تركيزهم وعقولهم يصب فى اتجاه حب آل البيت… الخ”.

أليس من حق الصديق الشاعر فاروق جويدة، أن أقدم له اعتذارى وأنا أطلب منه أن يزود عن حق من تنازلوا عن حقوقهم هكذا؟.

غفر الله لى ولمولانا الشيخ علاء، ولصديقى الشاعر الجميل فاروق جويدة، وللجميع!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *