الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / إنتَ “معانا” ولا مع “التانيين” ؟

إنتَ “معانا” ولا مع “التانيين” ؟

الوفد:12/10/2001

إنتَ “معانا” ولا مع “التانيين” ؟

حربٌ أم حملة تأديب وإذلال؟

إنتَ “معانا” ولا مع “التانيين” ؟

وقامت الحرب، التى هى  ليست حربا. إن  تعريف الحرب لم يعد له معنى فى هذا السياق الجارى. الذى نعيشه الآن هو عبث لم يحدث فى التاريخ ، إذا كان تفجير مركز التجارة العالمى قد فاق خيال كل مخرجى السينما والخيال العلمى، فإن الجارى الآن قد تجاوز كل العبث الذى سمعنا عنه – حتى دون أن نشاهده – طوال تاريخ مسرح العبث، لقد استبق  محمد حسنين هيكل الأحداث وقدّر أنه إذا كانت أحداث الثلاثاء تستحق أن  توصف بأنها صفحات من “كتاب الجنون” ، فإن الدفاع ضدها ” يمكن  أن يستعير فصولاً كاملة من نفس الكتاب: «كتاب الجنون».. ومع هذا  فقد عنوَنَ الفقرة التى وصفت ما سوف يجرى قبل أن يجرى بأنها “مواجهة حرب جديدة (وجهات نظر أكتوبر 2001) .

هى ليست حربا أصلا. استهانة باللغة، وإهانة لتاريخ الحروب أن تسمّى حربا.  هى أقرب إلى الحملة التأديبية، واستعراض العضلات التكنولوجية والإعلامية ، وتوزيع الصدقات مع المنّ المناسب ليختلط “الجاتوه” بدم الأطفال والعجائز، غمسوا الخبز بمنقوع الذل. يا ساتر.

هى فى نفس الوقت رسالة غبية لبقية دول العالم تقول: إما أن تسيروا على الصراط الأمريكى . وإلا: “كله من ذا”. هذه الرسالة لن تصل للناس ممن يحمونهم غصبا. لكن  للناس موقفا آخر.

الناس

كلنا ألم ، وكلنا إشفاق ، وكلنا غضب،  غضبُنا هذه المرة  متعدد التوجه،  هو  غضب على الإرهاب الذى أوصلنا إلى ذلك، سواء كان الفاعل هو بن لادن ورجاله  (ومازال ذلك مستبعَـدا رغم بيانه الأخير) أو لم يكن،  وهو غضب على طالبان  لما ألحقته بشعبها وبالإسلام، ثم هو غضب على هذا التعجّل بالضرب دون دليل دامغ، ودون محاكمة اقتداء بشارون المعظم، وهو غضب على هذا النفاق اللزج (بوش: عندى مليار مسلم صديق !! – قٌطعت هذه الصداقة إن كان التعبير عنها هكذا ). العالم الأقوى (واسمه الحركى العالم الحر) يستعرض تكنولوجيته وحذقه. يا أرض انهدّى ما عليكى قدّى ، نعم سوف تنهدّ الأرض فعلا إن لم يكن عليها إلا هؤلاء الأسياد الذين سيّدوا أنفسهم دون أخذ رأى العبيد، وهل للعبيد رأى أمام سيدنا الفيتو.

إنتَ معانا ولاّ مع التانيين

 نبّهتنا ست الكل أمريكا  أنها ترفض موقف الحياد. أعترف أن هذا ليس وقت المزاح، لكنها نكتة مصرية قديمة (ولم تبُـخ بل تجددت وتحورت).  قيلت هذه النكتة  أثناء موجات  الإرهاب المحلىة من أوّل دهشتنا لمقتل  الشيخ الذهبى حتى قتل خفير نظامى  فى نقطة  مرور نائية فى أقصى الصعيد، كانت  الأمور قد اختلطت  ولم  يعد أحد يعرف َمـن يقتل مـَـن، وعلى أى أساس. الآن نعرف من يقتل من. بلا أساس !!

تقول  هذه النكتة (القديمة) أن مواطنا طيّبا  أحاطت به جماعة مسلحة ملثّمة شاهرة أسلحتها الآلية المشحونة، وراحت تصرخ فى هذا المسكين وهى تسأله بحدّة وسرعة ” إنت معانا ولاّ مع التانيين؟” وبديهى أن هذا المواطن المصرى الطيب  أراد أن يستفسر – وهو مرعوب – عن هوية السائلين: ” من هم ” دون “التانيين”، خوفا من خطأ كذا أو كذا.  لكن المهاجمين لم يردّوا على استفساره، وأعادوا السؤال  فى حزم متعجّل، المرّة تلو المرّة، والأسلحة المُشهرة  تقترب من وجهه، والإصبع على الزناد: ” إنت معانا ولاّ مع التانيين؟” “انطق”ْ، لم يملك هذا المصرى  الطيب إلا أن يجيب الإجابة الأسلم أنه “أنا معاكم طبعا”، وهنا فتح المهاجمون النار عليه،  وأردوه قتيلا وهم يرددون “إحنا التانين”.

فى الفصل الحالى من كتاب الجنون ، أصبحت النكتة  واقعا مُعاشا : السيد  دبليو بوش يرسل رجاله يجوبون  العالم، يسألون الحكام (دون الشعوب طبعا)”  إنتوا معانا ولاّ مع الإرهاب”، فيتردد العقلاء، والسذّج، وحسنوا النية من الحكام وهم يتساءلون “من أنتم لو سمحتم”، وما الإرهاب؟”.  لكن السيد بوش وشعبه مستعجلين ، حتى بعد أن بدأ الفصل الأول من مسرحية  “الجنون المبرمَج” . حين ألح دبليو بنفس السؤال ، لم يجد أغلب الحكام بدا من  إعلان موقفهم المتوقِّـى: ” نحن معكم ولسنا مع التانيين”. تكملة للنكتة ، ما زلنا فى فصل الجنون، أن هؤلاء المهاجمون  المتعجلون سوف يستديرون  علينا  ويطيحون فينا دون تمييز، حتى إذا تساءل من تبقى منا -إن تبقى أحد –  كيف تفعلون ذلك وقد أعلنّا أننا  معكم ؟ أجابوا مثل النكتة ” إحنا التانييين” .

كان أستاذنا الدكتور مصطفى زيور يعلّمنا “إن للجنون لعقلا”، وبتطبيق هذه المقولة الرائعة يمكن أن نقرأ من تحوير النكتة المصرية الدالة ،  أن هؤلاء “التانيين” الأمريكيين هم الإرهابيون الرسميون، وأنهم ليسوا أقل وحشية من  “الإرهابيين الشرقيين” (مع الاعتذار للإعلان، والسجاد).

الخطأ خطير

 حتى بعد أن نعترف، توقيّا أو نفاقا، أنهم “أسيادنا وتاج رؤوسنا”،  وحتى بعد أن ينتصروا الآن أو بعد عشر سنوات، وحتى بعد أن يتحد العالم ضد “التانيين” مع أنهم هم  “التانيين”  يظل التحدى ماثلا أمام الجميع ، تحدٍّ يقول : إن ثم خطأ جسيما يمربه العالم، يمر به النوع البشرى جميعه،  كان الواجب -إنقاذا للنوع البشرى – أن يكون  الرد على هذا الحادث ليس بإعلان الحرب، وإنما بإعلان الإفاقة،  كلٌّ فى موقعه.  ستنتهى الحرب، وسينتصر  من ينتصر (مع أنه لا يوجد نصر،لأنه لا توجد حرب!!)  وسوف يفنى من يفنى ، مائة، ألف، عشرة آلاف، وقد يلتقط الجائعون بعض فتات ما يلقى لهم من فطائر ملوثة بدم فلذات أكبادهم، لكننا سنخرج جميعا من كل هذا  منهزمين إذا لم نستمثر الحادث، وما بعد الحادث، بما يشير إليه، وما أوْضَحَــه!!

غباء

 إن كل ما جرى ويجرى على مستوى العالم قد عرّى  تفاهة ، بل وغباء، هؤلاء الذىن تصوّروا أنهم إذا ملكوا القرش، وملأوا مخازنهم بالسلاح،  وأحسنوا توجيه أبواق الإعلام بنفس دقة توجيه مسارات الصواريخ،  فهم الأرقى . وبالتالي فلهم حق القيادة  والريادة، وعلينا جميعا  أن نتبعهم ، رضينا أم أبينا، وحتى إذا اتبعناهم  فلا ضمان أن يستديروا علينا حين يحل دورنا، إذْ قد يختلقون أيا من التهم الجاهزة لديهم من أول الخروج عن جدول ضرب حقوق الإنسان، حتى اضطهاد الأقليات. ما أسهل أن يذكّرك وهو يطلق صاروخه عليك أنك ” رفعت صوتك أثناء مناقشته، أوأنك تجرأت فلمّحت بالعدل ومعنى ذلك أنه ظالم، مع  أنه رجل “الحرية الدائمة” (ولا مؤاخذة). أو  حتى أن “دمك تقيل”. مع أن السيد بوش هوالذي  لم يفهم النكتة غالبا   !!! أستغفر الله، أعلم أن هذا ليس وقته، لكن السخرية تحضرالشعب المصري وهو فى قمة ألمه وحسرته ، أليس هذا ما فعلناه بأشجع  شجعاننا سنة 1967 ؟

   عمدة نيويورك يصرخ، وهو ثائرغاضب،  بأنه لا معنى للبحث عن أسباب ما حدث، وأنه لا بد من التعجيل بالانتقام، وأن على من يدعو إلى البحث في الأسباب  أن يذهب معه ليرى دموع الثكالى واليتامى الذين فقدوا ذويهم.   لو كان هذا السناتور يتمتع بأى قدر من الذكاء أو  يشعر بآلام البشر كما يزعم، إذن لفهم أن دموع الثكالى هى أدعى للبحث فى الأسباب وليس العكس. لو أنه  يشعر كما يشعر الناس،  إذن لتذكر مسلسل القتل  اليومى في فلسطين،  والموت جوعا فى العراق، والهرب عريا فى جبال أفغانستان، هربا من بطش طالبان، و طالبي طالبان معا.

هل هذه عقليات نطمئن لها وهي تدّعي أنها  تمثل النموذج الذى يعرض نفسه على إنسان العصر باعتباره نهاية رحلة تطوره “نهاية التاريخ ” ، يبدو أننا فعلا فى نهاية الزمان ، يقول المصرى متعجّبا من ذلك “آخر زمن” !! وعنده حق.

ثم تلك الفضيحة التي أشرت إليها في المقال السابق، أعنى الوثيقة المزورة التى نسبوها إلى”محمد عطا” وكم بلغ بله مزوّرها من الغباء حين  يرمز للطائرة بـ (ط)، ذكرت فى المقال السابق أن  محاولة بسيطة لـ”تحليل المحتوى” سوف تثبت فورا كيف أنهامزورة بغباء مفضوح.بعض  هذا التحليل قام به سامى خشبة فى أهرام  الجمعة فى اليوم التالى (5 سبتمبر)حيث نبّه إلى استعمال تعبيرات ليست في ثقافة ولا لغة المسلم  أصلا ، مثل ” .. نستغل تلك الساعات لتقديم القربان”، وكذلك “..ليكن صدرك منشرحا ، فإنه ما بينك وبين زواجك  لحظات “..إلخ”. هذا المزوّر لا يعرف شيئا عن الأدعية الإسلامية ، ولاعن الآخــرة فى الإسلام، ولا عن لغة القرآن، ولا عن الشهادة فى الإسلام. كان يمكنه أن يستأجر مسلما محترفا  بالشىء الفلانى يكتب له وصية “من التى هى”، أو لعله فعل ذلك فوقع في يد مسلم مصري “إبن بلد”، فخدعه  ليُجرّسَه على الملأ،  قربان ماذا وزواج ماذا يا عمى السيناتور؟  كان عليك أن تتدرب أكثرفى حل الكلمات المتقاطعة قبل أن تنشر هذه  الوثيقة الخائبة  فتصبح فضيحتك بجلاجل. قال  البطوطي انتحر قال!!،

ثم يزعمون أنهم أولى أن نترك مصير العالم فى أىديهم.  والمصحف الشريف سوف يذهبون بالبشرية فى ستين داهية .!!!

لا بد أن الدليل الذى يزعمون امتلاكه  هو من قبيل ما جاء فى خطاب  أسامة بن لادن . لا بد أن خبراءهم الجهابذة قد فسّروا للسيد بلير أن معنى “وأقسم بالله العظيم الذى رفع السماء بلاعمد”،أنه يقصد ركوب الطائرة  التى تطير فى السماء، لتنسف أعمدة  مركز التجارة العالمي المصنوعة من الصلب.  ثم إن هذا القسم كان  تهديدا  لأمريكا ومن يعيش فى أمريكا بأن  أمنهم مشروط بأمن الفلسطينيين.  وهل هناك  جريمة أكبر من ذلك ،  ودليل أوضح من ذلك.  كيف يساوى بين الفلسطينيين وبين الأمريكيين بكل هذه   الوقاحة والبجاحة ، هاهم يمسكون دليلا جديدا  وهات ياحرب ، هات يا ضرب.

دلالات

   أهم من الحرب ، وبغض النظر عمّا تنتهى إليه، ومع كل الألم للضحايا من الأبرياء الجوعى، أو المغيرين المخدوعين ، يظل الحادث مُلزما باستلهام الدلالات. إنه ليس أفظع الحوادث، وعدد الضحايا ليسوا أكثر من الثمانية ملايين الذين قتلهم ساسة أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية من أول جواتيمالا حتى العراق مرورا ببنما وجريناوا..إلخ..

 ربّما لأن  الحادث قد تمّ بطريقة درامية بفضل مخرج مجهول، وربما لأن الدمار كان “على عينك يا تاجر، وربما لأن أغلب  الضحايا  كانوا من البيض “الأمارى” ،رحمهم الله فعلا.  ربما لكل هذا لزمت الدلالات على الوجه التالى:

أولا : إن من يحكم العالم ، أو يدّعى ذلك، هو ليس أهلا للثقة، فهو دون العادى فى الذكاء، وفى بعد النظر، و فى الحفاظ على الأمن، وهو لا يمثل  أى نموذج إنساني راق يستأهل أن يكون قدوة لبقية الناس.

ثانيا : إن النكسة الأصولية داخل أمريكا، (والتى قد تكون مسئولة عمّا حدث) ،أو خارج أمريكا ،(سواء جاءت ردا على أصولية أمريكا أم ظهرت تلقائيا) ، هى إعلان لفشل النموذج الأمريكى المطروح على البشر .

ثالثا: إن هذه النكسات الأصولية، رغم دلالتها على فشل النموذج الأمريكى، ورغم إعلانها أن التاريخ لم ينته بانتهاء الاتحاد السوفيتى ليست هى الحل البديل، بل إنها قد تكون الوجه الآخر للتدهور. هى ردة حضارية وليست نقلة حضارية،  وهى قادرة على أن تُشعل حروبا عنصرية، ودينية، وعرقية ، تفنى الأرض بما عليها، ومن عليها.

رابعا :إنه قد آن الأوان لبني الإنسان أن يستردوا حقهم الطبيعى فى استعمال إنجازات البشر الأحدث (من أدوات التقدم والتواصل والإنجاز) في التعاون فيما بينهم لصالح بقائهم، لا لصالح من اختطفوا هذه الإنجازات واحتكروها دون أصحابها. ليأمركونا طوعا أو كرها. ولا لصالح من استعملوها لقتل الأبرياء.

خامسا : إن الإنسان مهما استحدث من أدوات، ومهما وصل إلى مناهج،  فعليه ألا ينفصل عن تاريخه لحساب الإنجازات الأحدث  الأكثر بريقا والأسرع إجابة. المعلومات ليست بديلا عن المعرفة، والتكنولوجيا ليست بديلا عن الطبيعة. المعلومات تضىء الطريق إلى المعرفة، والتكنولوجيا ينبغى أن تسخر فى خدمة الطبيعة. هذا الحادث، بما دفع إليه، وما انتهى به، يلزمنا بتصحيح المسار

سادسا: .  إن الإيمان (بمختلف تجلياته فى الأديان الحقيقية) هو  الذى حافظ على إيجابيات البشر ودفعهم إلى التحضر والتعاطف والامتداد والامتلاء عبرتاريخهم الطويل ،  وحين افتقر الناس إلى الإيمان الحقيقى  كبعد جوهرى فى الوجود، ضلّوا وأضلّوا. لقد تم التنازل عن حق الإنسان فى الإيمان إما بإنكار الدين أصلا، وإما باستعماله وسيلة لغير ما أنزل له، وإما بتهميشه  كديكور أو تعويذات قبل الأكل وفى العطلات الرسمية. كل ذلك ، بالإضافة إلى اغتراب المؤسسات الدينية الرسمية وقهرها، قد أفرغ الإيمان من وظيفته البقائية والحضارية.  والنتيجة أن تصادم البشر مثل النيازك الساقطة.

سابعا : إن اهتزاز معنى الإيمان ، وتهميشة كما سبق ، قد جعل المتشنجين   يقلبون الأديان إلى  أساطير ملزمة بالتحقيق علي أرض الواقع.   بلا منطق أو عدل أو رحمة أو مبرر. أو جعلهم يخترعون أديانا جديدة عاجزة، وخطيرة ، ونشازا، ثم يكون ما كان .

ثامنا  إن  الدعوة إلى “الرجوع إلى تفسيرات الدين السابقة” التى انتهى عمرها الافتراضى لن تغني أحدا شيئا. بل إنها تيئس العقل من محاولات الاجتهاد المبدع، وعينك لا ترى إلا الدخان حول مركز التجارة وجبال أفغانستان.

الدعوة عامة

كل هذه الدلالات،  لاقيمة لها ما لم تترجم إلى أفعال، الآن ، وليس بعد.  إن  ما نخرج به  قبل هذه الحرب (المزعومة) وبعدها، ينبغىأن يكون شيئا آخر. إن الدعوة عامة لتصنيع حضارة بديلة، حضارة  تُـكمل  وتتجاوز ،ولا تلغى، الحضارة القائمة،

 إن الحضارة  ليست كلاما  يقال، ولا هى فعل مقصود بذاته يمكن أن يُخطط له فنقوم بتنفيذه، الحضارة هى نتاج لجماع نوع من الحياة تغلب فيه الإيجابيات على السلبيات،  هى نتيجة تراكم  أعمال صغيرة تتكامل وتتضفّر وتتسق فى اتجاه عام، يصلح به البشر فيعمرون  الأرض وينطلق الإبداع. كلما زاد الكلام عن الحضارة نجد أنفسنا أبعد فأبعد عنها،إن الفعل الحضارى يكاد يتناسب تناسبا عكسيا مع الكلام عنها

يقول د. حسين مؤنس ‘إن الحضارة علم ، وعمل، وتعاون، وتفاهم” كما يؤكد ” إن الحضارة كائن حى ، ولابد أن يكون حيا دائما، …..الحضارة لاتبنى نفسها بنفسها،…والباني الأساسى للحضارة المصرية (كمثال) هو شعب مصر، وخاصة الفلاح  المصرى وهوإنسان حضارى..إلخ ” كل هذا يذكرنا-ببساطة- أن الحضارة ليست مقالات  فى الصحف، ولا هى تدمير لرموز الاغتراب على حساب الأبرياء، ولا هى حرب زائفة كما يجري الآن، ولاهى شعار خائب من النسرالنبيل، إلى الحرية الدائمة (الله يخيبكم،  ألا تخجلون ؟).

على كل واحد منا أن يسأل نفسه  الآن وليس بعد،  ماذا علىّ أن أفعل إزاء هذا الخطر المعلن (وليس الجديد) ؟ ثم نسأل أنفسنا مجتمعين نفس السؤال.  ثم  نستلهم تاريخ الحياة وننقذ  نوعنا المهدد بالفناء.

إن أى نوع من الأحياء ، أدنى من الإنسان، يحافظ على نوعه دون صحف، ودون ترسانة أسلحة، ودون  بورصات أوراق مالية. ودون “الحرية الدائمة” (ماذا لو كانوا أسموها : الحرية للجميع ؟). إن النسر الذى هو ليس نبيلا بالضرورة يستطيع أن يحافظ  على نوعه بطريقة أرقى مما يحاولها تحالف الشمال هكذا.

تقارب

إذا كان الإنسان قد فرض عليه أن يعيش بعيدا  عن أخيه الإنسان لقرون طويله سابقة ، فإن الإنجازات الأحدث قد أتاحت له فرصة أن يتقارب ويتعاطف  ليشعر أفراده أنهم أقرب لبعضهم البعض أكثر من أى وقت مضى، وبالتالى فإن ما يهدد أى فرد منهم  يهدد الجميع.إن هذاخليق أن  يزيد التعاون فى مواجهة التهديد بالفناء. يترتب على ذلك أن تتراجع الداروينية الاجتماعية المفتعلة ، لصالح الداروينية البيولوجية الطبيعة، التي تصب فى النهاية فى التصعيد البشرى إلى الأرقى للنوع كافة.

إن الداروينية البيولوجية تتأسس  على قوانين الطبيعة فى الصراع بين الأنواع تنافسا فى التلاؤم  مع الطبيعة وليس  تصارعا بين أفراد نفس النوع، أما الداروينية الاجتماعية المزعومة، فهى التي جعلت واحدا مثل “كريس موتى (مستلهما فوكوياما، فى شليي ستيل – اقتطاف سيد يسن ،الأهرام الخميس 27 سبتمبر 2001) يقول”..إنه يقع على عاتق الغرب تطوير العالم الإسلامى باتباع كل وسيلة ممكنة،”، ثم يتساءل ” “..وماذا إذ لم يتطور هذا العالم؟ ….. إن سكان هذا العالم سيصبحون حينئذ مجرد ضحايا اضافيين للصراع من أجل الوجود، لو استخدمت القنابل ضدهم”. هكذا بكل بجاحة.

لا ينبغى أن نستغرب إذن هذه الحملة التأديبية الإذلالية على أفغانستان، ثم على الباقين. إنهم لو ضحوا فيها ببضعة مئات من الألوف ، لأنهم قد”عصلجوا” ، ولم يستطيعوا أن يتطوروا بحسابات وعلى مقاس السيد “موتى”. فهم ليسو إلا  مجرد ضحايا إضافيين للصراع من أجل وجود السيد الأبيض” شكرا سيدى.

هل بعد ذلك نتعجّب أن يأتي الرد على مثل هذا الفكر غاضبا وخطيرا، ليس فقط من جانب المسلمين الذين قد لا يمتلكون أدوات الرد حتى الآن، ولكن من جانب أىٍّ من “سكان العالم” الذىن يهمّشهم هذا الرأى الفوقى.صحيح أن الردالمبدئى الغاضب الخطير تمّ  بنسف رموزالنموذج المطروح، وصحيح أنه أدّى إلي قتل الأبرياء، ولكن أليس منطق السيد موتى وأمثاله  قد يفسّر أن هؤلاء  الجناة اعتبروا أبرياء مركز التجارة والبنتاجون ” .. مجرد ضحايا إضافيين للصراع”، أم أن القاعدة تختلف إذا كان الضحايا من الملونين الهمج أمثالنا .

إسرائيل

إن منطق “موتى” هذا، ومن علي شاكلته،مثل فوكوياما، وهنتنجتون ..إلخ ،  هو الذى زرع إسرائىل بين ظهرانينا. إسرائيل هى مجرد تجسيد قريب ومكثف لما يسمّى النموذج الغربى/ الشمالى الذى يفرض نفسه على مرحلة البشرية المعاصرة ، وهو نموذج برّاق منضبط، يمثل أسوأ وأقسى ما فى هذا النموذج الغربى الكمّى القاسى القاهر، إنه النموذج الذى يستعمل أحدث وأقوى الأدوات (التكنولوجيا والتسليح حتى الذرة) ليخدم أدنى القيم: التعصب والتفرقة العنصرية والتطهيرالعرقى.

إن معركتنا – من بعدها الحضارى خاصة – معها، لو أننا كنا قدر مسئولية تاريخنا ، وإيماننا، وإبداعاتنا المحتملة.، قد تكون النموذج الذى ينبغى أن يحتذى،   هذا النموذج – مهما كان بطيئا وخياليا- هو أقرب إلى تاريخ صراع البقاء من هذه المهزلة التى تجرى في أفغانستان تحت اسم حرب ليست حربا .

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *