الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / الأصل فى التطبيب أن يؤمَّمَا..

الأصل فى التطبيب أن يؤمَّمَا..

نشرت فى الوفد

3-3-2010

           تعتعة الوفد

الأصل فى التطبيب أن يؤمَّمَا..

فى مثل هذا اليوم، منذ ثمان سنوات (فى 2 مارس سنة 2002) كتبت فى الأهرام، مقالا بعنوان: “وزارة الصحة: خدمات أم إنتاج” حاولت فيه أن أنبه وزير الصحة الجديد  أن “صحة المواطنين هى رأس مال الوطن، وبالتالى فإن وزارة الصحة ينبغى أن تعد من وزارات الإنتاج لا الخدمات، قلت: “إن ثروة مصر الحقيقية هى ناسها من أول العامل البسيط الذى يسافر إلى الخارج، ويعمل ضعف العمل..، ليرسل لأهله ما يعولهم، ولمصر ما يعينها من عملة صعبة…إلخ”.. أنهيت المقال بما يلى بالحرف الواحد:

“خامسا‏: ‏إنها‏ ‏فرصة‏ ‏لوزير‏ ‏الصحة‏ ‏الجديد‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏مسألة‏ “‏العلاج‏ ‏على ‏نفقة‏ ‏الدولة‏” ‏فى ‏مقابل‏ ‏الاهتمام‏ ‏بـ‏ “‏العلاج‏ ‏المجاني‏” ‏وهما‏ ‏ليسا‏ ‏مترادفين‏ “‏العلاج‏ ‏المجانى‏” ‏كان‏ ‏هو‏ ‏الأصل‏ “‏لجماعة‏ ‏المواطنين‏” ‏فى ‏المستشفيات‏ ‏العامة‏ ‏للدولة‏ ‏سواء‏ ‏مستشفيات‏ ‏وزارة‏ ‏الصحة‏ ‏أو‏ ‏المستشفيات‏ ‏الجامعية‏. ‏أما‏ ‏العلاج‏ ‏على ‏نفقة‏ ‏الدولة‏ ‏فهو‏ ‏إجراء‏ ‏لعدد‏ ‏محدود‏ ‏من‏ ‏الأفراد‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية، ‏حتى ‏لو‏ ‏بلغ‏ ‏عدد‏ ‏هؤلاء‏ ‏الأفراد‏ ‏عدة‏ ‏آلاف، ‏فهو‏ ‏موقف‏ ‏فردى ‏استثنائى، ‏يحظى ‏به‏ ‏فى ‏الخارج.. ‏كل‏ ‏الواصلين‏ ‏والموعودين، ‏ويحظى ‏به‏ ‏فى ‏الداخل‏ ‏أغلب‏  ‏المتصلين‏ ‏ذوى ‏الواسطة‏ ‏وبعض‏ ‏الصابرين” (انتهى المقتطف المكتوب منذ ثمان سنوات).

لم أكن أعلم آنذاك حجم ما وصلت إليه هذه “السبوبة” كما تعرّت هذه الأيام، مع أننى شممت رائحة بعض ذلك حين ذهبت إلى القومسيون مع ممرضى منذ سنوات، وقد أصيب بما تصورت أنه يحق له أن يتمتع بهذا الحق، ومرة أخرى لتسهيل إجراءات سفر شخص عزيز علىّ تقرر أن يعالج فى الخارج على حساب الدولة، فى كلا المرتين استقبلنى تلاميذى من الأطباء المسئولين استقبالا كريما، وسهلوا لى مهمتى بشكل قانونى طيب، وكنت خجلا من أن يكون حضورى شخصيا هكذا، هو السبب الأساسى فى حصول الاثنين على حقهما هكذا!!، ثم إننى لاحظت فى كلا المرتين مجموعات من الناس يتبعون وجيها أو واحدا يبدو من الأعيان، ولا يبدوا عليهم ما هو عند “ممرضى” من خلل فى الكبد، أو عند “عزيزى” من ورم خبيث، رحت أسأل من حولى: من هؤلاء؟  فقالوا لى إنهم أعضاء مجلس الشعب يحصلون على حقهم فى “كوتة” العلاج بأجر، وهؤلاء هم أهالى دوائرهم، لم أفهم ما علاقة مجلس الشعب بالطب، والتطبيب والعلاج، كما لم أفهم ما معنى أن يكون لعضو مجلس الشعب نصيبا معلوما (كوتة) فيما يتعلق بالطب والتطبيب، تصورت اجتهادا أن الشىء لزوم الشىء، وأن النائب المحترم الحريص على أصوات ناخبيه فى الدورة القادمة، عليه أن يخدم “مرضى” دائرته هكذا، مثلما خدمت أنا “ممرضى” و”عزيزى”، فأنا أعرف أن العامل الأول، وربما الأخير – بعد التزوير والبلطجة- المسئول عن نجاح مرشح ما  فى الانتخابات هو مدى قدرة النائب أن يخدم أهل دائرته، وليس بالضرورة أهل بلده، ولا سياسة بلده (ماله هو بالسياسة التى ليست فى اختصاصه!! ولندع حكاية الديمقراطية جانبا). لم أكن أعرف آنذاك المدى الذى تتسرب منه أموال الدولة، وأخلاق الناس، من هذا التمزق الحادث  فى كل منظومات القيم هكذا.

الأصل فى التطبيب والعلاج أن يكون مجانا، أى على حساب الدولة، لكن هذا الأصل أصبح استثناء يحتاج هذا الإجراء، ومع ذلك  فالمفروض أن يعطـَى هذا الاستثناء لمن لا يغطيه العلاج المجانى بشكل قانونى تلقائى، هذا الاسثناء وضع أساسا للفقير الذى يثبت أن العلاج المجانى لا تكفى ميزانيته أو إمكانياته لتغطية علاجه، لكن الذى ظهر أخيرا أن المسألة أصبحت سبوبة، لها قواعدها الجديدة، وأهدافها الجديدة، ومغزاها البشع.

كل الصحف (قومية، ومعارضة، ومستقلة) كتبت ما وصلها من تفاصيل ما جرى ويجرى تحت هذا البند، وليس عندى ما أضيفه إلا طرح بضعة أسئلة كما يلى:

أولا: ما معنى أن يصرح وزير الصحة مؤخرا أن من بين تعليماته (لتصحيح الوضع) :” ألا يقدم نائب الشعب طلبات علاج إلا لأبناء دائرته وألا يكون هناك وكيل عنه للحصول على القرار !!”

 بأى حق طبى أو قانونى أو سياسى تكون هذه من سلطات النائب أو من حقوقه؟

ثانيا: ما هى حدود ومسئولية الطبيب فى القومسيون، وهل يتعدى دوره أن  يقرر إن كان هذا الشخص مريضا يستحق العلاج، وكيف يعالج، وربما كم يتكلف؟ وأين هذا العلاج؟: (فى مؤسسة عامة، أم خاصة، فى الداخل،  فى الخارج..إلخ) ؟

ثالثا: كيف تصدر قرارات جماعية تعطى لنائب بالنيابة، فى حين أن هذا إجراء فردى تماما، لمريض بذاته، لمرض بذاته، يعالج فى مكان بذاته، شريطة ألا يملك هذا  المريض تكلفة علاجه

رابعا: ما علاقة هذا الإجراء بمبدأ الرشوة التى ترشوها الحكومة للنواب، ويرشوها النائب لناخبيه، على حساب أصحاب الحق الأصليين؟

خامسا: ما هى ارقام ميزانية العلاج المجانى فعلا، مقارنة بميزانية ما يسمى العلاج على حساب الدولة وكلاهما على حساب الدولة؟

سادسا: ما هى الجهة الرسمية (الاجتماعية/الاقتصادية) المكلفة بفحص قدرة كل حالة على حدة، لتقرير من يستحق ومن لا يستحق …إلخ (إذ تنتهى مهمة الطبيب حتى فى القومسيون على تقرير الحالة المرضية ومداها، ولا تمتد إلى تقرير قدرة المريض المادية وذويه ..إلخ)

الاستثناء يحل محل الأصل مع تغير القيم:

هكذا يتبين لنا كيف أن هذا الحكم هكذا، بعد كل هذه السنوات هكذا، قد تمكن من نشر منظومات جديدة من القيم، هذا الجارى هو أحد وجوها، وإليكم أمثلة أخرى:

(1)     أصبح الأصل أن تأخذ دروسا خصوصية، والاستثناء هو أن تذهب إلى المدرسة.

(2)     أصبح الأصل أن تبحث عن واسطة لتجد وظيفة، والاستثناء هو أن تجدها لأنك أهل لها.

(3)      أصبح الأصل هو الغش الجماعى فى الامتحانات، والاستثناء هو الضبط والربط.

(4)     أصبح الأصل هو أن تدفع رشوة لتسهيل مصالحك (العادية جدا من أول استخراج رخصة حتى الحصول على تأشيرة الحج)، والاستثناء هو أن تحصل على حقك بالطرق الطبيعية.

(5)     أصبح الأصل أن تعالج على حسابك أو تموت، أو تشترك فى “سبوبة” العلاج على حساب الدولة، والاستثناء هو أن تحصل على العلاج المجانى.

خاتمة:

 شرح لى والدى رحمه الله، ببيت من الألفية: مسألة أن الأصل هو تأخير الخبر، وأن الاسثناء جائز حين يتقدم عن المبتدأ، قال:

والأصل فى الأخبار أن تؤخـَّرا       وجوّزوا التقديم إذ لا ضررا،

ثم راح  يداعبنى وهو يذكر لى كيف  أن زملاءه فى المعهد الأحمدى فى طنطا، قد نسجوا على منوال هذا البيت بيتا يعلنون به تفضيلهم  الخبز “المقمّر”عن الخبز “الملدّن” قائلين:

والأصل فى الأخباز أن تـُقمّرا        وجوزوا التلدين إذ لا ضرَرَاٍ

فقلت أنسج على منوالهم  بمناسبة ما نحن فيه:

الأصل فى التطبيب أن يؤمَّمَا           وجوّزوا التأمينَ إذ لا بدَلا  

ثم إنى خشيت أن ما آل إليه حال النواب يصل الشباب الجدد  فيسخرون بلغتهم الخاصة قائلين:

والأصل فى النوّاب أن يـُـأَبَّجـُوا        وجوّزوا التهليب إذْ يُعالجوا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *