ردّ الإهانـــة !!

الوفد:4/10/2001

ردّ الإهانـــة !!

هل آن الأوان لكى نغلق ـ ولو مؤقتا ـ ملف الكلام، والتفسير، والتأويل، والتبرير، والعزاء، والنفاق، والتهديد، وإعلان المخاوف، وتفسير التآمر، والفخر، والهجاء، ؟ لا أعتقد أن هذا ممكن وسط كل هذا الغموض والترقب، والهجوم، فالاعتذار، والتخبط، والتحفز. إذن نحاول أن نتبيّن حقيقة مضمون ما قيل (ويقال) من همز ولمز واتهام ودفاع: هل نحن فيما بيننا، وفى مواجهتهم، نتكلم لغة واحدة، لها نفس المضمون؟

مناظرة بين المذياع والحاكى

إذا كان تاريخ 11 سبتمبر سنة 2001 هو تاريخ فارق فى مسيرة البشر، وإذا أردنا أن نساهم فى توجيه المسار بعده إلى ما هو أحسن (وهذا وارد وإن كان بعيدا عن مجال الأفق المنظور حاليا) فإن علينا أن نعيد النظر فى كل شىء، بما فى ذلك البديهيات. ويشمل ذلك النظر فى ماهية ديننا وما فعلنا به.

يتحدثون عن صِدام الحضارات (أو صراعها أو حتى الحوار بينها)، وعن الإسلام كطرف أساسى فى ذلك. وهات يا كلام، وهات يا هجوم،، وهات يا معايرة، فننبرى بدورنا بأنه : هات يا دفاع، وهات يا تذكرة بالسلف، وهات يا فضلنا السابق، فيتفضّل الأخ دبليو بزيارة المركز الإسلامى ولم يكن ينقص إلا أن يصلى ركعتين، ويتكرم السيد برلسكونى بالزعم بأنه لم يكن آخذا باله، وأنهم أخرجوا كلامه من سياقه، وأن الإسلام أجدع دين (والذى فى القلب فى القلب). هل سألنا أنفسنا عن، أو انتبهوا هم إلى: ماهية “الإسلام” الذى يتحدثون عنه، والذى ننبرى لندافع عنه ؟ أم أن المسألة تمضى كنظام : مناظرة بين المذياع والحاكى؟ يجرى هذا فى نفس المَـكْـلَـمَة القديمة، بنفس اللهجة القديمة، رغم كل الذى حدث.!

أليس الأجدر بنا ـ وربما بهم ـ أن نتوقف قليلا أو كثيرا، نسأل ونتساءل عن ماهية هذا الإسلام الذى يخافون منه، ويلمزونه، وهم يحاولون أن يقضوا على رموزه، تحت أى عنوان وبأى حجة؟ إن المسلمين هم المسئولون أساساعن الصورة التى وصلتهم عن الإسلام. مسئولون بما يفعلون، وبما يقولون،و بما لا يفعلون.

الأديان والحضارة

الأديان، كل الأديان، فى أصولها قبل أن تتشوّه، هى وقود معظم الحضارات التى استطاعت أن تعيش حقبا أطول على مرالتاريخ، لا يوجد دين حقيقى لم يسهم فى حضارة رائعة.

هل سألتم أنفسكم، أو سألتمونا: أى إسلام هذا الذى سوف يتصادم مع حضارة سيادتكم؟ تلك الحضارة الرقيقة، الراقية، الدمِثة، التى ليس كمثلها شىء؟ !! إسلام طالبان، أم إسلام محمد خاتمى، أم إسلام خامينئى، أم إسلام د. طنطاوى، أم إسلام د. نصر فريد؟ أم إسلام د.أحمد صبحى منصور؟ أم إسلام مولانا النفّرى، أم إسلام جماعات الجزائر، أم إسلام جارودى؟ أم إسلام فكّـار؟

 أم أنه الإسلام الذى أنزله الله سبحانه وتعالى على نبينا الكريم صلوات الله عليه، لكننا جمّدناه، وشوّهناه، و أهملناه، ونسيناه، حتى صرنا إلى كل هذا الهوان والجمود؟

ثم خذ عندك الحديث عن الحضارات: ما هو الفرق بين صدام الحضارات، وصراع الحضارات، وحوار الحضارات، ودورات الحضارات؟. هل أمعنا النظر فى كل هذا؟ وهل تساءلنا عن حقيقة دعوتهم للحوار الحضارى. أهو احترام متبادل أم تسكين كلامى، ثم يظل الأقوى ماضيا إلى حيث يريد (فيضيع، ويضيّعنا معه) وهو يطبطب علينا، ونحن نصدّق، أو نعترض بأن نتخذ موقف المدافع المهزوز المذهول المُهان؟

إننى لا أريد أن أحمل القارئ عبء التقعر فى مسائل لم يحسمها الأكاديميون، ولا الفقهاء، ولكننى أنبه إلى مسئولية كل إنسان واع، مسئوليته أن يتوقف عند كل ما يصله، حتى من أهل الفتوى، على الجانبين. إن الله سبحانه سوف يحاسب كل فرد منا على ما صدّق، وما كذّب. وسوف يتبرأ منا أولئك الذين أغرونا بتبعيتهم. (“إذ تبرأ الذين اتُّـبعوا من الذين اتـَّبعوا…”)

.اتبعناهم فى “الهلس” فاستحْـلُـوها

لقد بلغ من تجاوزهم المنطق، واستهتارهم باختلاف الثقافات، واحتقارهم لعقولنا ومعتقداتنا (وعقول ومعتقدات أمثالنا) أن أخذو يطففون الموازين، ويتسببون فى قتل الأبرياء منهم ومنا، ويوقعون قرار الحرب على مجهول، ثم يسمّون ذلك “النسر النبيل “.أى والله. هل يمكن أن نصدّقهم بعد ذلك، فى غير ذلك؟ إن امتلاكهم آلات اقتحام أمخاخنا والاستهانة بعقولنا، كأننا أطفال متخلفون، قد تمادى حتى استسلمنا.

نتذكر مثالا بسيطا حدث منذ ما يقرب من عامين. حين قرروا ـ هم نفس الناس الذين يقررون اليوم ـ أن يكون 31 ديسمبر سنة 1999 هو نهاية القرن العشرين. إسأل أى طفل فى سنة سادسة ابتدائى عن نهاية القرن (الميلادى) الأول سيقول لك إنه 31 ديسمبر سنة مائة وليس سنة 99، ولكن الأقوى قررغير ذلك، فتبعه العالم واحتفل بقدوم القرن الحادى والعشرين قبل قدومه بعام كامل. وحين جاء التاريخ الحقيقى، لم يذكره أحد أصلا . هذه ليست مسألة بسيطة. إنها إشارة دالة على مدى طغيان الأقوى، حتى أنه يستطيع أن يزيّف التاريخ ونحن وسط حلبته، ولو من باب “الفرفشة، والهلس” معا.

إن مثل هذه التبعية هى التى أوهمت هؤلاء الناس أنهم الأول والآخر، وأنهم الظاهر والباطن، وأنهم إذا قالوا هذا إرهابى، فعلى العالم كله أن يردد كالصدى “إرهابى.، إرهابى ..، إمسكوه،إسحلوه، اعدموه دون محاكمة، ولا عزاء للأمم المتحدة (تلغرافيا : مجلس أمن الفيتو . نيويورك جيرو ساليم /القدس سابقا(.

جهل واستهانة

خذ مثالا آخر يدل على مدى استهانتهم بثقافة وعقول كل من هو مختلف عنهم، هو المثال الذى أشرت إليه فى المقال السابق. حيث انتهت جهات التحقيق لديهم إلى أن المرحوم البطوطى حين قال “توكلت على الله” كان يعلن أنه سوف ينتحر، ويأخذ معه من تيسر من البشر. قلنا وصرخنا، وكتبنا، أن المنتحر عندنا ـ إن وجد أصلا ـ لا يتوكل على الله، ولا يأخذ معه أحدا، لكنّهم أصرّوا وما زالوا يصرون. لأنهم ظالمون، ولأن مثل هذا جائزعندهم. يكاد يتكرر الموقف حين يدّعون أنهم عثروا على وثيقة تدين “محمد عطا” (أحد المشتبه فيهم). أورد الوفد (29 سبتمبر) الخبر يقول : ” ..العثور على وثيقة هامة مع محمد عطا، أحد المشتبه فيهم …” لا بد أنك حين تقرأ هذه البداية تنتظر أن تكون هذه الوثيقة الهامة هى رقم الطائرة المخطوفة، أو رسم كروكى لكابينة القيادة، أو تسجيل لبصمة صوت شريك له وجدوها فى الصندوق الأسود.إلخ، لكنك حين تكمل القراءة تجد أن الدليل الذى وجدوه هو أنه “….شملت الوثيقة المكتوبة بخط اليد أدعية إسلامية …(بها) مزيج من المناجاة الروحية والمراجعة النهائية” أى والله !!! المراجعة النهائية !! حين قرأت هذا الدليل (قبل أن أقرأ تفاصييل الوثيقة المزعومة فى اليوم التالى) تساءلت عن موقفهم إذا سمعنى أحدهم أدعو دعاء النوم : :…اللهم إن قبضت روحى فاغفر لها” إذن لاعتبرونى متهما فورا بأننى أعد العدة للموت منتحرا. وأن هذا الدعاء ليس إلا المراجعة النهائية لبربرى همجى، يحقد على نجاحهم و يتوجه لربه -فى مراجعة نهائية قبل أن يفجّر نفسه فى حضاراتهم بالسلامة !!! ثم أخذوا هذه المقالات دليلا مدعما للاتهام.

ثم إننى حين قرأت نص الوثيقة المزعومة فى الوفد فى اليوم التالى تأكدت من أن الاستهانة بناـ وبغيرناـ قد وصلت إلى إلغاء المنطق السليم أصلا. يبدو أن جهات التحقيق هذه لا تتورع أن تلفّق-بغباء لا يخفى على أحد- أى شىء يحقق لها غايتها ويبرر لأسيادها هجمتهم الهائجة . إن نص الوثيقة المزعومة لا يحتاج إلى تحليل محتوى لنعرف مباشرة أن كاتبها إما أنه مزوّر غبى، وإما أنه شاب مبتدئ لا يعرف ألف باء مثل هذه الأعمال الخطيرة. هل الذى جرى يوم الثلاثاء هذا بما يحمل من دقة غير مسبوقة، وإحكام معجز، يقوم به واحد يكتب حرف (ط) رمزا للطائرة فى مذكرة خاصة، وكأنه بذلك أخفى اسم الهدف. إن ذلك يفعله طالب ثانوى طالع فى المقدر جديد.!! ما هذه الاستهانة كلها؟ الوثيقة لا تحوى إلا ما هو تحصيل حاصل من نصائح ووعظ وإرشاد بشكل خائب مكرر. بل هى أشبه بالنصائح التى كانت تكتب على ظهر الكراسات زمان (إغسل يديك قبل الأكل وبعده، ولا تؤخر عمل اليوم إلى الغد) . يا سادتى إذا أردتم أن تلفّقوا ما يفيدكم فى الاستمرار فى غيّكم، فكونوا أكثر ذكاء،(أحسن عيب). تذكّروا أن ثمّة شىء اسمه المنطق السليم.

المنطق السليم

 لو كان منطقهم سليما كما ينبغى لسارعوا – قبل التحقيق وبعد التحقيق – بنفى أن تكون لنا أدنى علاقة بهذه الجريمة المحكمة جدا جدا، لأنهاـ بمنطقهم على الأقل ـ ليست فى مقدور المتخلفين الهمج أمثالنا.

 أما منطقنا نحن، لو كان سليما كذلك، لقال إنها جريمة ليست من طبع المسلمين فى شىء. إن كل مسلم، مهما بلغ غضبه وشعوره بالمهانة والظلم لا يوافق على ما يجرى فى الجزائر، ولا على ما جرى فى نيويورك، بل إن المسلم لا يوافق على أن ما جرى ويجرى فى أيرلندا هو من المسيحية فى شىء، لأنه ليس من الإسلام فى شىء. صحيح أن بعض المارقين من الإسلام ارتكب حادث الأقصر، أو نسف سفارتىن فى أفريقيا، لكن هذا من قبيل الاستثناء لا يقاس عليه. إن نوع الجريمة الحالية هو أقرب إلى ثقافتهم، وبعض شذوذ فرقهم الدينية، أو دياناتهم الجديدة. و كان ينبغى أن تكون هذه هى بداية البحث عن مرتكبها.

…كيف نقيس الحضارة

 الذى حدث – ضد منطقنا ومنطقهم معا – أن الحادث أهاج أحقادا قديمة، كما حرّك طموحات خبيثة، فقفزت الاتهامات إلى أسامة بن لادن، ممثلا للإسلام الإرهابى. ثم نسوا صفة “الإرهابى”، فقفزت المعايرة بالبربرية واللاحضارة…إلخ. يحدث ذلك بدلا من أن يكون الحادث حافزا لنا ولهم أن ينظر كل منا فى صورته التى رسمها لنفسها. بدلا من أن نُستدرج إلى التفاخر على الجانبين، كنت أحسب أنهم سيستلهمون الحادث لينظروا أعمق فى تلك الحضارة التى أفرزته من بين ناسهم، أو حتى بفضل ما أثارته فى غيرهم. كنت أتصور – أو أرجو- أن ينتبهو إلى الجانب الآخر من تلك الحضارة التى ظاهرها الرقة، والدماثة، والأدب الجم، وباطنها التحوصل، والانغلاق الفردى، والتباعد الدفاعى عن الآخر. جنبا إلى جنب مع التطاول فى البنيان، والغطرسة والتعصب والظلم، وتفضيل مواثيق الورق على العقد الاجتماعى، والحصول على الأمن من شركات التأمين لا من تواصل الناس، والاختباء فى البيوت بعد المغرب خوفا من هجمات الشارع. هذه الحضارة هى التى أفرزت حادث الثلاثاء، أكرر: سواء” منها فيها” أو مما “فعلته فى غيرها”.

إن الحضارات عبر التاريخ لا تقاس بعدد المبانى ومدى ارتفاعها، ولا بكم الأسلحة وقوة فتكها، إنما تقاس بعمق الوعى، وحميمية التواصل، وتنوع الإبداع، وتلقائية الأخلاق الحميدة. وهى تتجلى فى سلوك الأفراد واحدا واحدا، ثم جماعة جماعة، حتى يصبح السلوك الحضارى مختلطا باللحم والدم ظاهرا فى حمل مسئولية الناس جميعا. أنا لا أزعم أننا نتصف الآن بأى من ذلك بعد أن رقصنا على السلم ما بين تقليدهم، والتغنى بماض لم نعد نمثّله. لكننى آمل أن يضىء الحادث لنا ولهم الطريق إلى ذلك.

أن تكون حضاريا يا سيّدى برلسكونى هو أن تحمل هم كل الناس، أن تعاملهم بنفس المقياس طول الوقت. أن تسخِّرَ كل ما فى حوزتك لتعمير الأرض لصالح الأرقى والأبقى جَمَعًا، لا أن تدور حول نفسك فرِحا بأدواتك على حساب من ليس مثلك. إن موافقتكم المتجددة على ما يجرى فى فلسطين قبل وبعد الحادث اياه، هى مثال لأدنى ما وصل إليه إنسان على مرّ التاريخ . إنها تشريع لقتل مستمر متمادٍ.

الحضارة والأديان

إن الأديان التى لا تقوم بدورها الحضارى ليست هى ما أنزل الله، إن ما يُثبت مصداقية الأديان، بل ويبرهن على وجود الله، هو ما قامت به الأديان عبر التاريخ من دور حضارى. إن وجود الله سبحانه لا يحتاج إثباته إلى أدلة فلكية مثل التى يقدمها د. زغلول النجار، ولا إلى حسن نية الصديق الطيب د. مصطفى محمود، إن ما يُـثبت أن الدين الحق هو الدين الحق، هو دوره الحضارى بالمعنى الذى أنزله العدل تبارك وتعالى على من اصطفى من عباده، ليبلغوه الناس، فيعمّرون الأرض، ويحملون الأمانة.

الإسلام بوجه خاص، لم يكن إلا تتويجا لهذه المسيرة الحضارية الإيمانية، وقد أضاف إلى الحياة البشرية إضافات شديدة البساطة، شديدة الأهمية، شديدة الدلالة :أضاف عمقا لقيمة الحرية بالتأكيد على التوحيد المطلق، كما أكد على المباشرة فى العلاقة بالطبيعة، وبالنبض الحيوى فى كل العبادات، ثم على الإتقان والإحسان …وغير ذلك مما لا معنى لحصره ما دمنا لا نمارسه.

إن الإسلام، بهذه البساطة غير المختزِلة، وبهذه المباشرة التى تخلصت من وصاية الكهنوت، (ربما ممثـِّلا لكل الأديان الفطرية التى لم تشوه) لم يلتزم، ولم يلزم معتنقيه، بتحقيق أساطير مستقبلية، سواء بوعود العودة إلى أرض بذاتهاعلى حساب أهلها، أو بالإلزام بتفعيل محتوًى أسطورى من الكوارث تعجيلا بنهاية الزمان. لا الإسلام فعل ذلك، ولا المسيحية السمحاء، ولا اليهودية التوحيد الملتزِم.

تفعيل الأسطورة acting out

إن سوء فهم نصوص قديمة، بالإضافة إلى تقديس نصوص الأديان البدعة الجديدة التى اخترعها- أساسا وليس تماما – الإنسان الغربى الناشز عن الفطرة، هو الذى يمكن أن يؤدى إلى إلزام التابعين بتفعيل بعض الأساطير حتى يصل الأمر إلى مثل كارثة الثلاثاء . حين لاحظ البعض وجه الشبه بين الأساطير الموجودة فى نصوص بدعهم هذه، وبين ما حدث فى يوم الثلاثاء الأسود، راحوا يشيرون بأصابع الاتهام إلى هذه البدع الجديدة، حيث معتقداتها هى الأقرب لما حدث. كما أن القائمين عليها هم القادرون على حذق استعمال هذه التكنولوجيا المتقدمة. ومع ذلك، فإن موقف الإسلام من اتقاء الحدود بالشبهات، يرفض اتهام أى مخلوق دون دليل كما فعلوا هم، وكما يفعل -بالمقابل- بعضنا وبعض عقلائهم.

مراجعة

إن الواجب الأول ـ بحفزٍ مما حدث ـ هو أن يفيق الناس، سائر الناس، كلُّ فى موقعه، فيدرك كل منا مدى انحرافه عن فطرته، مرة بقهر المؤسسات الدينية الجامدة، ومرة بعبادة التكنولوجيا الصمّاء، ومرة بابتداع ديانات ما أنزل الله بها من سلطان. إن كل ذلك قد أدّى بهم إلى أوهام الرفاهية، والتحيز للظلم لصالح الأغنى والأغبى. كما أن تقليدنا إياهم، مع عجزنا البادى، قد أدى بنا إلى التبعية، فالهوان،فالغضب، فالخطأ ( ولكن ليس بالضرورة خطأ يوم الثلاثاء هذا بالذات).

إن ما نــُـلحقه بأنفسنا من إيذاء وانحطاط، نتيجة للكسل والتبعية الجاهزين، هو أضعاف أضغاف ما يمكن أن يفعلونه بنا. هذه هى مصيبتنا السوداء، من يهُن يسهل الهوان عليه. نحن هُــنّا على أنفسنا، أخذنا من كل دين، ومن كل ممارسة دينية، أكثر ما فيها من تشويه (لأن الأديان كلهافى أصولها ليس فيها تشويه)، أخذنا من تشويه المسيحية فى القرون الوسطى قهر الفكر، والوصاية على العلم، وإجهاض الإبداع، وأخدنا من فترات تدهور الحكم العثمانى المغالاة فى التعصب، والاستكبار دون التقوى، وأخذنا من التحريف اليهودى، التمسك بالأساطير، والقدرية المفرطة، والمادية المغالية .

الإبداع أو الاستسلام

إذا كنا جادين فى نفى التهمة عن الإسلام ليس أمامنا إلا سبيل واحد :هو أن نكون مسلمين كما أراد الله، لا كما كان بعض السلف (فالماضى لا يتكرر)، وليس كما ندّعى ونحن جلوس نقلد أو نغضب، فإذا تحركنا ننفجر. إن الاكتفاء بالحديث عن تاريخ قديم لم نشترك ـ نحن المتبقين الآن ـ فى صنعه، هو فخر العاجزين، وهو لا ينفى تهمة، ولا يبرر ما آل إليه حالنا، كما أنه لا يردعهم عن التمادى فيما تورطوا فيه،

إن ما فعلتْه طالبان بالإسلام من إهانة وتشويه هو أكبر ألف مرة من تصريحات برلسكونى، وبلير، وبوش معا. أين هذا المسلم الذى لا يفرح حين يترتب على هذا الحادث – بعد الألم، والحسرة، والتعازى، والنفاق- أن تكون نتيجته هو أن يعرف العالم الفرق بين الإسلام وبين طالبان، بين بن لادن وبين القرضاوى، بين المودودى وبين النفرى؟

جرائم أخرى ثابتة

إن ما تنويه أمريكا تجاه طالبان ـ وليس تجاه الأفغان الأبرياء ـ قد يكون قدرا يعاقِب من شوّهوا الفطرة إلى هذه الدرجة، نحن لا نوافق عليه لأن العقاب ليس من حق من قام بنفس التشويه بطريقته الخاصة. إن طالبان قد ارتكبوا جرائم فى حق الإسلام والحضارة والبشر والتاريخ، أكبر وأخطر من جريمة الثلاثاء الأسود. إنهم قد أحرقوا الأخضر واليابس، و أهانوا كرامة بشر أكرمهم الله، إنهم يتدخلون فى عمل خلايا دماغ لم يخلقها الله لتقبع فيما قرروه لها . إلا أن هذا ـ إسلاميا/إنسانيا ـ لا يبرر إبادتهم جماعيا. إنه يلزمنا بمحاولة هدايتهم، ربما بدءًا من التعلّم من آثار الثلاثاء الأسود. دون أن يتعارض ذلك مع أن يدفع الظالمون منهم ثمن ما اقترفوا، إن ثبت أنهم اقترفوه.

 إن المسلم الحضارى- مثل سائر البشر الساعين إلى الحضارة بحق -، يرجو الهداية للسيد دبيلو شخصيا، وللسيد برلسكونى، وللسيد بلير، وللسيد بن لادن، ولأمير المؤمنين الملآ عمر، ولكل سيد من الأسياد الذىن أضلتهم القوة، وغرّتهم السيطرة، يرجو لهم الهداية بمعنى الرجوع إلى الحق تبارك وتعالى، بكل ما يعنيه ذلك من عدل وحضارة وتعمير وإبداع.

رد الإهانة،

لن يرد هذه الإهانات يا سادتى يا كرام أن يعتذرو لنا المرة تلو المرة فنتملّقهم بأن نشترك فى الحلف ضد الإرهاب ـ دون تعريف إجرائى جامع مانع لما هو الإرهاب، وبالذات دون تحديد إن كان شارون ونتانياهو، وحتى شيمون بيريز إرهابيين أم لا . لن يرد الإهانات أو يبرئ ساحة الإسلام أن تسلّم حركة طالبان بن لادن لأمريكا، الأمر الذى لن يقدم ولن يؤخر فى القضاء على ما يسمونه الإرهاب.

لن يفرض عليهم احترامنا أن نتبارى بالمبارزات المقارنة بين الأديان وبعضها، أو بالاستشهاد بالنصوص التى لا يقرونها أصلا . إنهم إذا شاهدوا النصوص تصرفا حضاريا يمشى على الأرض، لن يحتاجوا إلى قراءة النص حتى يعرفوا مدى حضاراتنا، جارودى رأى النص الإسلامى حين رفض الجنود الجزائريين الجنود أن ينفذو فيه حكما بالإعدام رميا بالرصاص رغم أوامر ضباطهم. لأن دينهم – الإسلام -ينهى عن ذلك. جارودى لم يقرأ ذلك فى نص مترجم. وإنما عاينه فى تصرف ماثل.

إذا لم نسارع بأن نكون مسلمين، إذا لم نعلنها – كما أقرها رهط من الفقهاء- أنه لا يوجد فى الإسلام شىء اسمه حد الردة، وأنه لا يوجد فيه حائل بين المرء وربه، كما لا توجد فيه مؤسسات نستأذنها لنكون مسلمين، وأن المسلم مسئول عن كل البشر، وليس عن المسلمين فحسب، إن لم نمارس ذلك كله، فعلا قادرا واصلا مفيدا و ليس مجرد حسن نية، أو انغلاق فئوى أو فردى، إذا لم نفعل ذلك، فنحن لسنا أهلا لإسلامنا، ولا نستأهل إلا ما يلحقنا.

هل يمكن أن نرد عليهم – مهما تأخر وصول ردنا إليهم – بأن نكون مسلمين حقا، ومسيحيين صدقا، ويهود تقوى، وإنسانيين تواصلا؟ حين يبدأ كل منا بحمل مسئولية البشر من نقطة بدايته هو دون أن ينسى الآخر، حينذاك يمكن أن نأمل أن نرتقى بوجودنا من خلال ما وَصَلَـنَا من إنذار هذا الحادث، إذ نحمل عواقب ضلالات غرورهم، فى نفس الوقت الذى نعيش فيه ذعر بطشهم وظلمهم؟

حتى يتحقق ذلك، أو بعض ذلك.لا بد من إعادة النظر فى الأساطير القديمة والحديثة التى تحكم العالم.

 ولهذا حديث آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *