الرئيسية / مقالات صحفية / مجلة سطور / الحلم …الحرية البديلة

الحلم …الحرية البديلة

نشرت فى مجلة سطور

عدد  أبريل – 1999

الحلم …الحرية البديلة

لعل أهم ما يهم الناس هذه الأيام هو محاولة حل هذا الأشكال الماثل فى المواجهة الحادة بين ما يمثلة تعميق النظر فى الحاضر الجاثم، ومحاولة التخطيط للمستقبل، فالحاضر يبدو وكأنه أتاح لنا من الأدوات (التقنيات القادر على تناهى سرعة الرصد، والتواصل، والشفافية) ما يسمح لنا بأن تنصور قدرتنا على صناعة مستقبلنا كما ينتغى أو كما نشاء، أو هكذا يلوحون لنا بما يعد به النظام العالمى المزعوم (الجديد)، ليس على مستوى المسار السياسى فحسب، وإنما على مستوى مسارات المعرفة والتقدم، وصياغة، وإعادة صياغة الحياة.

فإلى أى مدى يصح كل ذلك.

وهل هذا الحلم القديم الجديد (امتلاك الأدوات التى تمكننا من امتلاك ناصية التخطيط للمستقبل حقيقة وفعلا) قد تحقق فعلا أو هو على وشك التحقيق؟

وهل يؤدى بنا الانبهار بهذا الإنجاز – الذى ليس لنا فضل مباشر فية – إلى الوقوف مشدوهين أما رواده، سواء كان اسمهم قادة النظام العالمى الجديد، أم كانوا من صفوة العلماء والإعلاميين من أهل التواصل والشفافية والتقنية الأحداث، نقف مشدوهين تابعين نردد مع الحسن بن هانئ كيف أنهم قد “.. دان الزمان لهم، فما يصيبهموا إلا بما شاءوا”؟

وهل هذا الزمان الذى دان لهم هو زمانننا أيضاُ؟ أم أنهم احتكروا نشوته ورفاهيتة كما دارت كئوس خمر أبى نواس على “فتية” بعينهم دون سواهم (دارت على فتية دان الزمان لهم… إلخ).

وهل حقيقى أن هذه الأدوات – هكذا – يمكن أن تتيح لنا أن نكف عن الحلم العادى لأن قدراتها فاقت خيالاته وشطحات الأحلام نفسها؟

وأين يقع الحلم – حلمى وحلمك كل ليلة ونحن نيام – من كل هذا؟

هل احتواته وصاية هذا النظام الجديد، وهل لاحقته وتلاحقه تلك الأدوات الرائعة القادرة؟

أم أنه هو (الحلم – حق الحلم) هو الذى بقى لنا فى منطقة أمان نسبى من هذه الإغارة؟

وهل هذه الإضافة – إضافة من الحلم المعرفة الأخرى – لازمة أم هى تزيد عابث يمكن الاستغناء عنه؟

والأجابة عندى جاهزة وحاسمة ومحدودة، على الرغم من أنها لا تعدو أن تكون فرضا جديداَ، يكمل أو يطور فرضا سبق أن طرحته حول هذه المسألة.

الإجابة “الفرض” تقول:

نعم، له دور:

للحلم دور آخر، دور باقٍ، وسيبقى، ويزيد، إن كان للإنسان أن يواصل مسيرة تطور المبدع الممتد.

فالحلم إبداع الشخص العادى، وهو قادر على إثراء حياته بعيداَ عن وصاية غرور اليقظة طول الوقت”

فكيف يكون ذلك كذلك؟

لابد من عودة سريعة (موجز قدر الإمكان) إلى الفرض القديم، ذلك الفرض الذى قدمه كاتب هذه السطور من قبل، ومقدمات هذا الفرض القديم تقول:

يتناول المخ معلومات (محتواه. تركيبه / ذواته… إلخ) أثناء اليقظة بشكل انتقائى لما هو واقع فى بؤرة وعية الظاهرى ومرتبط بقصدية سلوكه الآنى، لكن المعلومات (بالمعنى الأشمل) تصل إلينا قبل وبعد ومع هذا التحديد الانتقائى، والحلم يحاول بانتظام أن يعيد التنظيم، ويحكم التناغم، ويعزز التعلم، وقد كان لاكتشاف ظهور النشاط الحالم بإيقاع حتمى منظم (20 دقيقة كل 90 دقيقة أثناء النوم) أثر هائل فى فهم ظاهرة الحلم ووظائفها، قبل وبعد معنى الحلم ورموزه.

ومن أهم ما قدمه هذا الكشف الأحدث هو التأكيد على أن الحلم يحدث حتما، سواء تذكرناه وحكيناه، أم لا، وأن الحلم ليس حارسا للنوم كما قال فرويد، بل لعل النوم هو خادم الحلم، أى أننا لا نحلم لنحافظ على استمرار نومنا، وإنما قد يكون الأصح أننا ننام لكى تتاح لنا فرصة أن نحلم، فالحلم ليس مجرد تنفيذ أو تفريغ، بل هو “يحاول بانتظام أن يعيد التنظيم، ويحكم التناغم، ويغزز التعلم”.

وهذا الفرض أنما يضع ظاهرة الحلم المسجلة فسيولوجيا (برسام المخ الكهربائى) فى مرتبة أهم وأكثر دلالة من ظاهرة التى شغلت التحليل النفسى والوعى الشعبى قرونا، فحديث العمل الآن يرتبط بنشاط الحلم وأثره، وأكثر من ارتباطه بمحتوى الحلم وتفسيره، وهذا النشاط الحلم يقوم بتحريك الكيانات الداخلية، أى أنه يقوم بقلقبة المعلومات التى لم تتمثل تماما أثناء اليقظة، أى أنه يباشر تفكيك البنية القائمة بهدف تحقيق درجة أكبر من التوازن والتكامل والتماثل والاستيعاب. ويتكرر هذا النشاط إيقاعياً، فى محاولة دائبة لاستكمال مهمة التوازن والنمو البيولوجى (التى لا تستكمل أبداً مادامت الحياة تنمو باستمرار).

ولو أيقظنا النائم فى أثناء هذا التنشيط الإيقاعى، فإنه سيواجه – “وهو يستيقظ” – نتاج هذا الكم الهائل من تحريك مفردات المخ وكياناته ومحتواه وتراكيبه، ثم إنه سوف يتعامل مع هذا الكم المتحرك بقدر تنظيمية خاصة بنوع وعيه (وعى الحلم) فإذا حاول أن يحكى بعد استيقاظه – فى دقائق أو أكثر ما حدث، ربما فى جزء من ثانية، فهو لا شك سوف يؤلف مايمكن أن ينقله إلى شخص آخر بالحكى، أو ما قد يسجلة لنفسة أو يحادث به نفسه، وبديهى أن هذا والتألف فى أثناء سيتم (قبل التسجيل) فى جزء من ثانية – لابد أن يتم بطريقة غير طريقة التفكير والتألف فى أثناءاليقظة، بما تحمل من سرعة نقل، وتدوير للزمن، أو عكسة، أو تقطيعة، من هذا المنطلق يتطور هذا الفرض الأساسى الموضاعنا اليوم وهو يقول:

“إن عملية التنشيط، فالقلقلة والتفكيك، بما يترتب عليها مؤقتا من ترابط عشوائى، وعكس للزمن وتدويره.. إلخ – هذه العملية الناتجة عن النشاط الإيقاعى المسجل برسام المخ، ليست هى الحلم كما نسمع عنه، وإنما هى المورد لمادة الحلم ومفرداته. أما الحلم المحكى (ونفترض أنه يحدث فى أثناء عملية إبداعية هائلة السرعة، تتم فى بعض الثانية، أو فى بضع ثوان، فى حالة من الوعى لاهى وعى الحالم، ولاهى وعى اليقظة. ووظيفة “التذكر” فـ “الحكى” هى ناتج التقاط المتاح من معلومات هذا التحريك الفائق السرعة، ثم بسطه بما تيسر من إعادة تنظيم (إبداع) على مساحة من الزمن والوعى تصلح للحكى أو التسجيل”.

يمكننا، إذن، صياغة عملية الحلم فى مراحل ثلاث أساسية، تبدأمن الحلم بالقوة (كما يحضر فسيولوجيا أساسا) ثم الحلم بالفعل حين تصبح مادة المعلومات المتحركة فى متناول الحالم، ثم الحلم بالحكى، وهى المرحلة النهائية التى تصلنا إذا ما تمكن الحالم من أن يرصدها ثم يحكيها، عادة بعد أن يضيف إليها أو ينتقص منها ما شاء كما يشاء مستوى وعية بين اليقظة والنوم.

فالحلم وعى خاص يتوسط وعى النوم ووعى اليقظة

وبقدر ما تكون المادة المتاحة من وعى الحلم عارية وحاضرة فى الحلم المحكى، يكون التكثيف والتداخل والتدوير والأصالة، فيبدو الحلم أكثر غموضاً وإن كان أكثر ثراء وأقدر تحريكا.

وعلى العكس، بقدر ما يتدخل وعى اليقظة فى حبك مادة الحلم وروايتها يكون الرمز والتنظيم والتفصيل والسلسلة حتى يمكن أن ينتهى الأمر إلى تزييف كامل للمادة الخام المتعتعة أثناء النشاط الحالم الأصلى. وعلى هذا الأساسى فإن الحلم، بكل درجاته هو إضافة إلى مساحة الوجود، وليس مجرد حكى أو رصد لما هو موجود.

وأيضاً لزيادة الأيضاح، فإن الحلم ليس مجرد تفريغ دوافعى، أو انفعال موجة، أو إدراج سلبى أو تعبير عن رغبة لم تتحقق فى اليقظة ولكنه إعادة وتنظيم وترتيب وتوجه (أى عملية إبداع بشكل أو بآخر).

ومن خلالٍ هذا الفرض نرى – كذلك – أن الحلم ليس نشاطاً بدائياً، فعملياته الأولية (فرويد) ليست أولية جداً (بدائية – طفلية – عشوائية) بل إنى رصدت كيف أن الحلم كثيرا ما يستعمل “العمليات الثالثوية” التى وصفها “سيلفانو اريتى” فى الإبداع، حيث تؤلف هذه العمليات الثالثوية بين العمليات الأولية والثانوية فى ولاف إبداعى أعلى. وقد أعلن مثل ذلك “ديستويفسكى” نصاً: “…. تتميز الأحلام ببروز قوى، وشدة خارقة، وتتميز كذلك بتشابه كبير مع الواقع، قد يكون مجموع اللوحة عجيباً شاذاً، ولكن الإطار، ومجمل بسلسل التصور يكونان فى الوقت نفسه، على درجة عالية من المعقولية، ويشتملان على تفاصيل مرهفة جداً، تفاصيل غير متوقعة، تبلغ من حسن المساهمة فى كمال المجموعة أن الحالم لا يستطيع أن يبتكرها فى حالة اليقظة، ولو كان فنانا كبيرا، مثل “بوشكين”، أو “تورجنيف”.

إذن، فالحلم ليس خلطا عشوائيا، وإنما هو إبداع له ظروفه الخاصة، وسرعته هائلة، كما أن احتمالات تشويهه وتسطيحه متعددة.

ويجرنا هذا الى الحديث عن “لغة الحلم” التى اختلف حولها المفسرون والحالمونه جميعاً، ولكنهم اتفقوا بشكل أو بآخر، على أن ثمة لغة (متذكرين طوال الوقت أن اللغة غير الكلام، فاللغة بنية، والكلام بعض مظاهرها). وقد كاد الاتفاق ينعقد على أن لغة الحلم هى لغة مصورة، لها نحوها وبلاغتها الخاصة، وأنه يمكن حل شفرتها بجهد منظم.

وهنا لابد أن تثار قضية خطيرة تماماً، وهى قضية إنكار حق “الصورة” فى المثول “هكذا” من حيث هى كيان دال قائم بذاته، قادر على التشكيل الحر حتى لو لم يفد ما اعتدنا أن نفهمه من اللغة الرمز واللغة الكلمات، فالحلم يتكلم بالصورة مباشرة، وهو بذلك لا يقلب التفكير إلى صور بقدر ما يستعمل الصور الحاضرة فى وعية الخاص للتعبير، وعلينا – ما أمكن ذلك – أن نتلقى الحلم بلغته الخاصة، بدلا من أن نسارع فنترجمه إلى لغتنا السائدة فى اليقظة، ومن هذا المنطلق يمكن أن يتمدد وجودنا وتتعدد مستويات لغاتنا القادر على التأليف المتصاعد بدلا من أن تظل لغة واحدة نوصية طول الوقت على ما سواها.

وهكذا نحرر لغة الحلم من وصاية لغة اليقظة كما حررنا غايته من مجرد كونها إكمالاً لرغيات وغايات المستوى السائد فى اليقظة. فالحلم – كما ذكرنا حالا – لا يحدث “خصيصاً” لتحقيق رغبة، أو لتفريغ طاقة” فهو ظاهرة إيقاعية دورية حتمية ينبغى أن نحترم حدوثها لمجرد أنها صفة حيوية للكائن البشرى مثلما وظيفة اليقظة، ولا يوجد مبرر إذن أن نسارع بإسقاط تصوراتنا (وآمالنا) عليها حتى تختزل إلى وجود باهت على هامش اليقظة.

وقد أثبتت تجارب الحرمان من الأحلام، أن الأحلام تؤدى وظائف صمام الأمن، والتفريغ، وإعادة تنغيم (هارمونية) المعلومات، كذلك يقوم الحلم بتعزيز التعلم بطريقته الخاصة، بمعنى تعزيز المادة المكتسبة لتُمثل فى طريقها إلى أن تصبح تحويرا فى التركيب. كل ذلك يحدث حتى لو لم يعرف الحالم أنه حلم أصلا وللحلم علاقة وثيقة بالجنون (الجنون بمعنى التناثر، والاغتراب، وللغة الخاصة، وضرب الزمن) فهو يتفق مع الجنون فى تجازوه وتكثيفه وتفكيكه وغلبة لغة الصورة وفجاجته كذلك، إلا أنه فى الجنون يحدث تنشيط الداخل هذا فى أثناء اليقظة وليس بالتبادل معها، فتقتحم مادة الداخل المنشطة فى وعيها الخاص، تقتحم وعى اليقظة اقتحاما غير متوازن ولا متبادل، فيحدث التشوش والخلط.

وأهم ما يعنينا هنا هو أن وجه الشبه بين الحلم والجنون يزداد كلما اقتربنا من بداية العمليتين: بداية الحلم، وبداية الجنون، أو بتعبير أدق، كلما اقتربنا من عمق المستوى الأول لنشاط كل منهما، أما الإبداع، فهو يشترك معهما فى البداية أيضاً (المستوى الأولى)، ولكنه يختلف مساره، ونتاجه، مع اختلافات نوع الوعى وتكامل مستوياته، واتساع المسئولية، واتجاه الغائية، وفعل الإرادة، وأخيراً الطبيعة الولافية للناتج وآثاره.

فإذا صحّ هذا الفرض الأساسى، وهو يزداد تحققا من خلال الممارسة الإكلينيكية والنقد الأدبى منذ نشر سنة 1985 (فصول / 2 / 1985) فإن المطروح – هذه الأيام – على الوعى البشرى من إغارة أدوات الوعى الغالب المحكمة يصبح خطراَ على الجنس البشرى إن هو اقتصر على أن يتمادى بلغة مستوى اليقظة دون سواها، أو بأدواتها (أدوات اليقظة دون سواها). أو الثورة الإبداعية فى مجال الأدب خاصة والفن عامة (ربما اندرج تحت مسميات متنوعة مثل الحداثة وما بعد الحداثة والتفكيكية… إلخ) هذه الثورة الإبداعية على الرغم من شطحاتها وغموضها كانت صرخة مناسبة تحاول أن تذكرنا بالجانب الآخر (الأعمق) من وجودنا البشرى، وكأنها محاولة أن تعطى شرعية ما، لمستويات وجودنا الأخرى، وكأنها التقطت خطورة الاستسلام لأحادية القطب فى الكيان البشرى قبل إنذارات خطورة الاستسلام للنظام العالمى أحادى القطب على مستوى السياسة والاقتصاد.

ومع صعوبة الأمر وتحديات اللغة وخطورة الخلط بين إتاحة الفرصة لمستويات الوجود الأخرى للإسهام فى تنمية المعرفة تكاملها ومن ثم: الإبداع فالنمو، فإن الأمر يستاهل أن نقف وقفة قد يكون فيها إنقاذ للبشرية من التسطح فالانقراض.

ولاشك أن المراجعات والحوار الجارى فى مجال الإبداعى الفنى والأدبى فى هذه المنطقة، يواكبة حوار مواز جار فى مجال فلسفة العلوم ومراجعة المنهج، وما يتفتق عنه تسخير التقنيات الأحدث لعلوم أقرب إلى كسر الاستقطاب أحادى البعد، وتجاوز السببية الحتمية، وذلك مثل علم الشواش والتركيبية، كل ذلك يعلن أن الإنسان فى كل مكان، ومجال، ومنتبه بشكل أو بآخر إلى ما “ليس كذلك” ما ليس قوة عمياء ساحقة لاغبة لما لا يقع فى نطاقها أو يتكلم بلغتها، وما ليس حسابات سوق فوقية، وما ليس لذة محدودة المساحة.

نعم، إن الإنسان يقاوم لكل لغة فى مجال وهو يواجه مخاطر كل ما هو “كذلك” بالسعى المستمر لاستلهام كل ما “ليس كذلك” بالسعى الدءوب فيما وراء السطح الطافى.

وهنا لابد من وقفة تحذير من أن يُختزل هذا المدخل الذى يحاول توظيف (وعى) الحلم فى المعرفة، ومن ثم فى الإبداع، ومن ثم فى صياغة المستقبل، أن يختزل كل ذلك إلى لغة التحليل النفسى التى أدت – بكل إخلاص وعمق للأسف إلى التأكيد المستمر على ترجمة لغة هذا العملاق الغائر إلى السطح الرمزى ترجمتها إلى لغة اليقظة بدلا من تعميق استقلاليتها ثم البحث عن توليف محتمل واعد.

خلاصة القول فى هذه العجالة تؤكد:

إن الحلم – لكل وعوده وغموضه – هو حق الإنسان المعاصر الذى لا يكتمل إلا به.

وإن إنسانا لا يحلم، ولا يستلهم أحلامه (درى بها أم لم يدْر) لابد أن يقع فريسة وصاية خارجه، وأيضاً وصاية من خارجه.

وإذا كانت التجارب الفسيولوجية الأكيدة قد أثبتت بما ليس فيه مجال للشك أن الجنون والتناثر هما النتاج المباشر للحرمان من الحلم، فإن حرمان الإنسان المعاصر من حق الحلم وحق إسهام حلمه – المتجاوز للتقنيات الوصية – فى صياغة مستقبلة، لابد أن تؤدى إلى نفس المآل على مستوى الجنس البشرى.

وفى يقينى أن أخطر المضاعفات التى لحقت بالجنس البشرى من انهيار الاتحاد السوفيتى وأوربا الشرقية لم تكن فى اختفاء توازن القوى، ولا فى إعطاء الشرعية لاحتكار نظام اقتصادى واحد مشكوك فى علاقته بإنسانية الإنسان، وأنما كانت فى حرمان الناس من حلم العدل والحرية، فيهما كان الحال داخل تلك المعسكرات المنهارة من خرمان حقيقى من عمق العدل والحرية، فإنها كانت تمثل بشكل ما – حلم من هو خارجها، وهذا وحده كان كافيا للحفاظ على الأمل فى تطور أرقى ووجود أعمق.

وأحسب أن تاريخ ظهور اليوتوبيات الواحدة تلو الأخرى منذ جمهورية أفلاطون ويوتوبيا إسبرطة حتى الاتحاد السوفيتى والجماهيرية الليبية ليس إلا تأكيد لحق الإنسان فى الحلم وحاجته إليه.

وأخيرا فإننى سوف أختم هذا الحديث الموجز لاتنبيه على أننى تجنبت عمدا أن أعرج إلى ما يسمى “أحلام اليقظة”، لأننى كنت أعنى غير ما شاع عند الناس مرتبطا بهذا المصطلح (أحلام اليقظة)، فالحلم الذى أدافع عن حق الإنسان فى الاحتفاظ به، واستلهامه، والتكامل من خلاله هو الحلم الإبداع، الحلم الوعى الآخر، والحلم الحرية البديلة، أما أحلام اليقظة – كما أن معارف الإنسان التابع والمنبهر بظاهر المعلومات الجاهزة المشكوك فى فرص التعامل معها من منطلق تعدد مستويات وعى البشر، يسرى هذا بوجه خاص على ما يسمى الخيال العلمى.

إن المسألة جد لا هزل، وحق الإنسان فى استثمار مستويات وعيه الأخرى ليس قاصرا على مجال الإبداع الحديث والقديم على حد سواء… حيث يمثل الحلم إبداع الشخص العادى، وحيث يظل نشاط الحلم جزءاً لا يتجزأ من وجود البشر المتكامل، وأكاد أختم هذا المقال بصرخة فرحة تقول: افعلوا بنا ماشئتم، بكل ما تتصورون لكنكم لن تستطيعوا – بغير استسلامنا – أن تغيروا على حقنا فى الحلم بكل ما تعنية الكلمة من معان.

أما ماذا علينا بعد الوعى بروعة وضرورة ممارسة هذا الحق – حق الحلم – وهو مازال فاعلا فى المناطق الآمنة من النوم، بعيداً عن الإغارة الملاحقة لأدوات اليقظة، فهو أمر يعتمد على بقية القصة حيث لا يصبح الحلم وهو يتخلص من وصاية اليقظة، لا يصبح بديلا عنها، بل يصبح مكملاً لها، ومعدلاً لمسارها، أما كيف ذلك، فلهذا حديث أخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *