الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / متى تنتقل السياسة من المسرح إلى الشارع؟!

متى تنتقل السياسة من المسرح إلى الشارع؟!

الوفد: 28/5/2001

متى تنتقل السياسة من المسرح إلى الشارع؟!

 الخطاب السياسى: بين الإزاحة والرمز واللمز !

 هل ما زال مكتوب علينا ألا نتحدث فيما هو حادث ‘الآن’ إلا بالإحالة إلى أيام زمان معظم الوقت، فإذا اقتربنا مما نحن فيه الآن، كتبنا رمزا، أو لـمّـحنا لمزاً؟ ما الفرق بين عرض هذه المسرحية الرائعة الآن (سنة 2001) وعرض مسرحية الفتى مهران منذ بضعة عقود، هل الفرق أن هذه المسرحية تأخر عرضها ست سنوات، فى حين أن “الفتى مهران” أوقفت بعد العرض. هل يجوز أن يكون هذا هو كل الفرق؟

هذا ما خطرر ببالى وأنا خارج من مسرحية “الناس اللى فى التالت”. ثم قفز إلى ذاكرتى صلاح عبد الصبورفى “ليلى والمجنون”و سعيد ينشد صديقه زياد آخر أشعاره، ويعتذر عن طول العنوان: “يوميات نبى مهزوم يحمل قلما، ينتظر نبيا يمسك سيفا”. قائلا :

“يأتى من بعدى من يعطى الألفاظ معانيها

يأتى من بعدى من لا يتكلم بالأمثال.

إذْ تأبى أجنحة الأقوال

أن تسكن فى تابوت الرمز الميت”

التغيير قادم لا محالة

إذا كان الشارع السياسى خاليا إلا من صرخات المستغيثين بلا سميع، وكانت الأحزاب الأخرى تعمل لوجه الوطن مع وقف احتمال تداول السلطة، فى حين أن ما يسمى الحزب الوطنى لا علاقة له بالناس الحقيقيين إلا بعض التوصيات للأقربين من أهل الدائرة ،خصوصا قبيل الموسم (موسم إعادة الفرز الخاص،المسّمى بالانتخابات). وإذا كان أغلب الوزراء ليسوا سياسيين ، بل يتراوحون بين أكاديميين وتكنوقراط. وإذا كانت الانتخابات، رغم جهود القضاء الرائعة فى الجولة الأخيرة، هى “كما تعلم”، ، فماذا يتبقى لنا نحن المواطنين حتى لا نتهم أنفسنا بالتخلى عن المشاركة؟ هل كل المسموح لنا أن نكتب شعرا أو نرمز مسرحا؟

أنا على يقين أن هذا الشعب العظيم سوف يحلّها رغم كل شىء. صدّقونى. أنا شخصيا أحاول أن أصدّق نفسي. التاريخ قال لنا إن هذا الشعب، وأى شعب، هو الباقى. وهذاهو ما ختمتْ به سميحة أيوب المسرحية (لا أذكر الألفاظ). صحيح أنهم “يلبسوننا مزيكا”، وصحيح أنه مسموح لبعضنا أن يشارك فى عزف اللحن المعاد، وليس مجرد التشويح بالصاجات فى الهواء، على شرط أن يحفظ اللحن ليؤديه فقط، لا أن يشارك فى صياغته، فهو عازف وليس ملحنا. ما زال اللحن هو هو طول الوقت، أما العازفون فهم يتغيّرون حسب قواعد لا نعرفها. كل من يريد أن يكون عازفا، وهذا غاية ما هو مسموح به، لا بد أن يدفع الثمن بأن يكون “منفذا للتوجيهات” لا شريكا مبدعا (تكررت كلمة التوجيهات فى المسرحية بشكل واضح رائع شجاع يشير إلى “هنا والآن” دون الماضى) ،

 كل هذا صحيح ومُقبض، لكنه ليس ميئسا، لأن الصحيح أكثر هو أننا انـتـصرنا على أى فرعون همّشَنا، وعلى أى مملوك استولى على الحكم من مملوك آخر، وحاول أن يستعبدنا، وعلى أى نظام استغفَــلَنا، وعلى أى كاذب حاول أن يخدََعَنَـــا.

هذه الثقة بالتاريخ، واليقين بالنصر النهائى لصالح عموم البشر، لا تعنى أن يتوقف ناسنا العاديين عن المشاركة، وعن النقد، وعن إبداء الرأى، وعن المحاولة. علينا أن نتحمل الإحباط، والصد، والإهمال. الناس يتحايلون من كل منفذ مهما ضاق، وهم يعبّرون بكل لغة مهما التوتْ وغمُضتْ. الناس يقولون كلمتهم من أول “زعيق”شعبان عبد الرحيم حتى أقصى الدراما وأقساها وأجملها: مثل المسرحية الرائعة: “الناس اللى فى التالت”.

إلى متى ؟

إذا كان أحمد أبو الفتح قد تساءل من خمسين عاما “إلى أين” ؟ وظل السؤال هو هو حتى عنونتُ به إحدى مقالاتى هنا، وأنا أدعو له بالسلامة، ومازلت أفعل، فالسؤال الموازى والمكمل، المطروح علينا الآن يقول: “إلى متى”؟

 إلى متى يظل خطابنا السياسى يزيح النقد إلى الماضى؟ نواصل المقارنة بين السادات وعبد الناصر بدلا من المواجهة الآنية، فإذا تشجعنا أكثر قارنّا بين عاطف عبيد (أعانه الله)، وعاطف صدقى (شكر الله له)، مع أن وجه الشبه واضح، ألا يشتركان فى الاسم الأول “عاطف”، وتظل المقارنات تدور تذكرنى بموضوع مطالعة كان علينا فى أوائل الأربعينات: “مناظرة بين المذياع والحاكى “؟

حين شاهدت مسرحية الناس اللى فى التالت (فى الأغلب استجابة لتوصية ضمنية وصلتنى من الأستاذ مجدى مهنا، وقد تكررت مرتين بصدق ثاقب) تذكرتُ مباشرة مسرحيات كان لظهورها، فى وقتها ما يبرره: بدءا بما أشرت إليه حالا: “الفتى مهران” (عبد الرحمن الشرقاوى)، ثم”عفاريت مصر الجديدة (على سالم)، وإلى درجة أقل “الفرافير”(يوسف إدريس). لم أعتبر مسرحية الناس اللى فى التالت ممثلة للمسرح السياسى الزاعق. البعد الدرامى الاجتماعى كان منسوجا مع البعد السياسى بحيث لا يمكن فصل أى منها عن الآخر. أنظر مثلا موقف الأرملة سميحة أيوب بعد أن اكتشفت أن من كانت بمثابة “شغالة” هى بنت زوجها، فأبت أن تعدّها كذلك مع أنها تمثل الأم الطيبة معظم الوقت. هذا ليس بعدا سياسىا قحا، لكنه واقعٌ رائع يؤكد ارتفاع مستوى الإبداع، وأن ثمة دراما حقيقية تُـحرك وعى الناس.

رحت أتأمل المشاهدين حولى بدءا بالناقد الكبير الدكتور عز الدين اسماعيل والدكتورة نبيلة إبراهيم، ثم الممثلة القديرة سناء جميل وزوجها الفنان لويس جريس، ثم الإذاعى اللامع أحمد فراج (تصادف أنهم جميعا كانوا هناك مساء الجمعة 11 الجارى) أخذت أتأملهم من بعيد، وأتأمل نفسى ونحن نصفق لفاروق الفيشاوى وهو ينقد المثقفين، ثم وهو يتكلم عن أن كل شىء يسير حسب “التوجيهات التوجيهات”، وليس التخطيط أو السياسات المعلنة الشفافة، كل ما فعلناه، نحن المشاهدين/الشعب، هو التصفيق جدا.

ألم يأن لكل هؤلاء وغيرهم أن يقولوها صريحة ومباشرة، أن يتحدثوا عن حكامنا الآن؟ عن أحوالنا الآن؟ دون حاجة إلى الإزاحة أو الرمز. هل سنظل نحوم ونزوم، ونرمز ونتـّقى، ونصفق، ونهمس، ونلمز ثم نكتب بعد ذلك ما تبقى مما لم تعد بنا حاجة إلى قوله؟ (كما يقول ت. إليوت عن شعره؟).

لعبة “نعم”…. و..”لكن”

نحن نمارس النقد على طريقة “نعم.. ولكن”، وإلا فلا سبيل للقول أو للنشر. شروط السلطة واضحة وهى تستعمل نفس النص (كلمة نص-هنا- هى مصطلح نفسىّ يشيرإلى السلوكٍ الدفاعى المكرر = ميكانزم): الحكومة تستعمل نفس النص كالتالى: ” نعم توجد ديمقراطية ….ولكنها فى حدود قانون الطوارئ ” “نعم توجد أحزاب …. ولكن ممنوع أن تأمل فى السلطة”،” نعم توجدصحف تنشر ما كان لا يمكن نشره من قبل … ولكن على النشر ألا يتعدى مساحة النشر”. نحن حين نكتب بدورنا نتبع نفس النص: “نعم الرئىس على حق طول الوقت…..لكن من حوله لا يبلغونه كل الحقيقة”، “نعم نحن نعترف أن مساحة السماح أكبر من أى عهد مضى…ولكن هذه المساحة هى “يعنى!!”. وهكذا.

هل هذا موقف يسمح بأى مشاركة حقيقية، أو يبشر بأى تغيير إيجابى؟

إن الواجب على كل من يجد فرصة للحركة أن يتحرك فى أى مساحة متاحة، وأكثر، حتى يحال دون حركته، وفى نفس الوقت لا بد من إدراك أن الحل الثورى ليس قريبا، ولا هو مضمون، لأنه لا أحد يعرف من الذى سيرث الثورة القادمة، لا قدر الله ! (أو: إن شاء الله).

 تزييف انتماء ثورات الشعوب

إن الشعوب تحمل جنين الثورات وهْنًا على وهْن، حتى يكتمل نموه، فتضع الشعوب حملها. لكن الثورات حين تولد ، تنتسب إلى غير أمها، خاطفو الثورات يعتبرون الشعب رحِما للتأجير. تُضطر الأم الحقيقية أن تتنازل للأم المدعية (مثل قصة سيدنا سليمان)، حرصا على سلامة الطفل حتى لا يتمزق الوطن بين الأم الحقيقية و المدعين. إذا كان هذا هو حال الثورات قديما، فقد أصبح الحل الثورى التقليدى مقولٌ بالتشكيك هذه الأيام أكثر من أى وقت مضى.

خطابٌ…وخطابْ.

حتى نجيب محفوظ فى هذه السن الرائعة، وبهذا الإصرار المنتمى اللامتناهى الإخلاص، يكتب فى السياسة من خلال أحلام فترة النقاهة، أنظر مثلا حلم 33: (نصف الدنيا العدد587. 13 مايو الجارى). يقول فيه :

” ماذا حدث بالشارع، بل بالحى كله؟ ..الحى كله كأنما هرم به العمر فذهب رونقه تناثرت القمامة هنا وهناك”

 ثم ينتقل نجيب محفوظ – فى الحلم- إلى صديقه (ممثل السلطة التحتية الحقيقية) يصف محفوظ نوع “وصول” سلطة صديقه هذا قائلا: “حيث كانت مكالمة تليفونية منه تحل أعصى المشكلات”. فيقول هذا الصديق – فى الحلم- لنجيب محفوظ :

 “ستُـثبت لك الأيام أننا لسنا أسوأ من غيرنا”

ويمضى نجيب محفوظ فى حلمه متسائلا: “هل يوجد حقا ما هو أسوأ”؟

 ثم يشير إلى اكتشافه نوع العمل الذى كان يقوم به صديقه هذا حين يحضر الشبان ليجمعوا: ” الملابس الداخلية والقمصان النسائية الفاتنة، وأدهنة وروائح عطرية”، ويعقّب محفوظ قرب نهاية الحلم:”نطق كل شىء بما كانت تؤديه شقته” (شقة صديقه).

هل هناك كلام فى السياسة أوضح من ذلك؟ نقرأ كل هذا لنجيب محفوظ المبدع ، لكننا لا نقرأه لنجيب محفوظ “الكاتب المشارِك” فى “وجهة نظر” الأهرام.

 على نفس القياس: نرى أسامة أنور عكاشة فى “الناس اللى فى التالت”، وقد اخترق بشجاعة عددا من الحواجز الواحد تلو الآخر دون أن يسقط فى خطابة سمجة، كما لا يمكن إنكار فضل النظام الذى سمح أخيرا بالعرض. ولكن نفس أسامة كاتب المقال – حتى فى الوفد – يتجنّب الرد على تنبيهى له ورفضى فرحته حين “قطعتْ جهيزة قول كل خطيب” ، ويتركنى للناس الطيبين الذين لم يلتقطوا من كل ما كتبتُ إلا هذه الفقرة العابرة. كأنى بتصريحى هذا قد عيّنتُ (لا انتخبتُ) جمال مبارك رئيسا للجمهورية حالا. لماذا كل هذا الانزعاج؟ لم أكن أتصوّر أن كراهية بعض الناس، وتألمهم من الجارى، قد بلغت هذه الدرجة التى تفزعهم هكذا من مجرد إشارة صدرت من مواطن يمارس حقه الديمقراطى ،بشروطه.

 هل أخذتَ على خاطرك ياأستاذ أسامة أننى لم أنتخب وليد أنور عكاشة وفضلت عليه جمال مبارك (يا ترى هل لك ابن اسمه وليد؟) !! هل يرضيك أن تدعنى لفزع الأستاذ الفاضل “صبرى سعيد” (الوفد 13 مايو الجارى) وهو الذى اعتبر أن لتصريح الرئيس وهو يقول “جمال لن يكون الرئيس القادم، وعليكم أن تنسوا هذا الأمر “مفعولا كالصاعقة على كافة التيارات السياسية فى مصر والعالم العربى..” . كالصاعقة يا أستاذ صبري؟ هل تؤاخذنى أننى لم أنصعق حين أمرتُ بـ”نسيان هذا الأمر”. ثم ماذا لو كان التصريح قد صدر “الناحية الثانية؟ هل كان علينا أن ننصعق أيضا الناحية الثانية” ؟!

ثم يمضى الأستاذ صبرى يقتطف من مقالى فقرة لا يكملها، قائلا: مثل الدكتور يحيى الرخاوى الذى كتب بالحرف الواحد “.. أنا أقر وأعترف أنه لو رشح هؤلاء أنفسهم غدا (لا قدّر الله) فسوف أنتخب -شخصيا -جمال مبارك دونهم، … ليس لأنه ابن حسنى مبارك، ولكن لاهتماماته الاقتصادية، ولشبابه، وذكائه، ودماثة خلقه، وموقفه من المستقبل.” ثم يتوقف الأستاذ صبرى فجأة مع أن الكلام لم يكتمل، ذلك لأنه ورد بعد لفظ “المستقبل” ما نصّه (أيضا بالحرف الواحد): “… ولن يحول بينى وبين اختياره إلا أن يكون هو المرشح الأوحد، أو إذا قدّم أحدٌٌ من سبق ذكرهم، أو غيرهم، برنامجا أفضل، وسيرة ذاتية أكثر ثراء، وأداء سابقا أكثر وعدا ..”

لماذا توقف الأستاذ صبري-مثل غيره- هكذا فجأة، ولم يكمل الجملة، وقد حذف جملة أخرى من السياق الذى اقتطفه، ومع ذلك احترمتُ كل كلمة كتبها فقد كانت مقدمته موضوعية ومخلصة.

 كما أشفقت على قارئ آخر كتب يعاتبنى أيضا أننى “أشجع الريّس على ترشيح ابنه”، وكأن الأمر بات مسألة مزاج، تخضع لتوصية واحد “غلباااان” (يا عادل يا إمام) مثلى. يشترِط هذا القارئ الطيب علىّ إن أنا أصررت على ترشيح جمال أن يتخلّى الرئيس عن الرئاسة أثناء انتخاب ابنه ، “حتى لا يطبخوا الانتخابات لصالحه” (هذا نص كلامه) !! ونسى القارئ الطيب أن مثل هذا الترشيح لن يكون إلا بعد عمر طويل (لا قدر الله).

هأنذا يا أستاذ صبرى أقر وأعترف أنك-شخصيا- لو تقدمتَ للترشيح لمنصب رئيس الجمهورية بعد تعديل الدستور، وكان برنامجك أفضل، وعلمتُ عن تاريخك أوفى، وعن أدائك سياسيا ما هو أكثر وعدا”(وهذا ما اشترطه فيمن سوف أنتخبه) فإننى سوف انتخبك والله العظيم ثلاثا دون جمال مبارك. هذا حقى ديمقراطيا يا أخى. أليس كذلك؟

ثم إنهم لو لم يعدّلوا الدستور ليسمح لك بترشيح نفسك، فاطمئن، فأنا لن أذهب أصلا لصندوق الانتخاب، وبالتالى لن أنتخبك، لا أنت ولا جمال مبارك(كما سبق وقلت بالحرف).

خلاصة القول

إن الناس استسلمت للقضاء السياسى، وللقدرالتصريحاتى بشكل خطير. لم يعد الكلام يصل إليهم إلا من خلال مخاوفهم، ولهم حق.

إن هذا يعنى أنه: لم تعد الإشارة تغنى، لم يعد التلميح يكفى، لم يعد الفن هو الحل، الفن قد يمهد، لكنه لا ينجز فعلا أو يحقق تغييرا. قد يكون دوره فى التحضير رائعا، لكن شتان بين “التحضير”و”التفريغ، وبين “الفعل والتغيير”.لا ينبغى أن تكون الأغنية القبيحة “أنا باكره إسرائيل” بديلا عن العمل لقبول تحدى إسرائيل، وممارسة كرهها فعلا وعملا وإبداعا يفوقها ويتجاوزها، ويلقنها الدرس تلو الآخر. كما لا ينبغى أن ينتهى عرض “مسرحية الناس اللى فى التالت” بفرحتنا بسماح الدولة وتصفيق الناس.

لا بد أن ينتقل الخطاب السياسى الحقيقى من خشبة المسرح إلى حركة الشارع، ومن أحلام الورق إلى صناديق الانتخاب.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *