الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / لم يكن نفاقا للرئيس

لم يكن نفاقا للرئيس

الوفد:30/4/2001

لم يكن نفاقا للرئيس

لماذا نكتب؟ ولمن؟ وكيف يقرؤنا الناس؟

الناس يقرؤون ما يريدون، وليس ما هو مكتوب. ناهيك عمّا أراده الكاتب أن يُـقرأ دون أن يكتبه.

خذ مثلا ما كتبه صاحب هذا القلم على هذه الصفحة تذكرة أن الرئيس مبارك -أطال الله عمره- بعد احترام أبوته وحقه فى إسداء النصح، ليس من حقه أن يعلن بحسم نهائى أن المواطن جمال مبارك لن يكون رئيس الجمهورية القادم، أو بعد القادم. أردت أن أوضح أننا إذا فرحنا بمثل هذا التصريح الذى أعفانا من أن نكون مثل سوريا أو اليمن أو حتى الولايات المتحدة (!!) ننسى أننا إذْ نعطيه حق المنع، إنما نعطيه ضمنا حق المنح، (كما علّمنا قديما عبد العزيز باشا فهمى فيما يتعلّق بالتعليق على أحكام القضاء) . وهذا مخالف للقانون والدستور الذى يحترمها الرئىس مبارك أشد الاحترام وأبلغه.

أغلب الذين قرأوا ما كتبت فى هذا الصدد، اعتبرونى منافقا وأنا أعلن أننى سوف أنتخب جمال مبارك ما لم يكن المرشح الوحيد، و ما لم أجد مرشحا أفضل منه. هؤلاء الذين اعترضوا هم من أهم الأصدقاء الذين يواصلون إعطائى دروسا فى الديمقراطية “على العمال على البطال”. وقد زعم بعضهم أننى -بذلك – أشجع الرئيس أن يرشح ابنه وأن يرجع فى كلامه تحت ضغط الشعب (الذى أمثله شخصيا !!. يا صلاة النبى) . وحين نبّهتم للشروط التى وضعتها قالوا لى أنه لا أحد سوف يهتم بقراءة هذه الشروط كما تتصور .

مسألة أخرى أثارها ما ذهبت إليه فى مقالات سابقة أيضا وهى تهوينى للمنهج العلمى سواء فى كتابة التاريخ، أو فى استطلاع الرأى العام حول حدث سياسى بذاته. فقد اعترض الكثير على دعوتى للسادة الوزراء أن يخصصوا يوما كل شهر للاحتكاك بالشارع مباشرة، دون وصاية إدارية، أو تقارير منمقة، واعتبروا ذلك من باب الانطباع الشخصى الذى لا يصح أن أروج له، وكذلك اعترض آخرون على التأكيد على أن أدب الأدباء، ورطان المجانين، ينبغى أن يؤخذ فى الاعتبار كمؤشر لما نحن فيه، وما يمكن أن ينتظرنا، مما ينبغى أن نستعد له

أضيف فى هذا المقال ما قد يزيد من اعتراضات هذا الفريق، وهو أن كثيرا مما يكتب حتى من الأفراد العاديين قد يكون له دلالات أهم بكثير مما يجد سبيله للنشر.

رجعت إلى بعض ما يفيد لتوضيح هذا الفرض، وسوف أكتفى بالإشارة إلى دلالة مقتطف واحد أثبته فى الجزء الثاني من الترحالات (والتى تفضلت هذه الصحيفة الكريمة بتقديمها للناس مع نقد كريم). وجدتنى قد كتبت يوم 29 يناير 1950 ما يلى ” ظهرت نتائج الانتخابات، وتولى النحاس الوزارة، عملت جيمع المدارس إضرابا، “يحيا النحاس باشا”عدا مدرستنا (مصر الجديدة) أثبتنا أننا راقيين مثقفين ولم نكتب فى أم الكتاب وفديون” (الترحال الثاني : الموت والحنين ص 507).

ما دلالة هذا الذي كتبه شاب فى السادسة عشرة من عمره. ؟ ألا يشير هذا إلى شعبية النحاس، وإلى طبقية مدرسة مصر الجديدة؟ مثلا . فإذا أضفنا إليه ما كتبه نفس الشاب فى 3 يوليو سنة 1950 وهو يسجل بالحرف الواحد (نفس صفحة 507) أنه : “معذرة، لقد نسيت أن أعلق على الحرب الكورية”.

ألا يشير هذا أيضا إلى مدى اهتمام شباب تلك الأيام، ليس فقط بتولى النحاس باشا الوزارة، ولكن باعتذاره لنفسه أنه لم يعلّق على الحرب الكورية :”

لولا أن هذين الحدثين نشرا فعلا فى كتاب منشور حديثا منذ أقل من عام، ما استشهدت بهما . حين أسأل هذه الأيام أى صديق من أى سن، يشككنى فى المنهج الذى أدعو إليه (وهو الاهتمام بواقع الحال، وليس بظاهر الأرقام) عمّا يكتب لنفسه، يستغرب ويعتبرني أمزح.، فإذا جاملنى فإنه يرد علىّ بأسئلة مضادة تقول: لماذا يكتب، ولمن يكتب، إذا كان لن ينشر، وحتى إذا نشر فمن يقرأ بعد أن أصبحت الصحف بالشىء الفلانى.

 لكن يظل الوعى الشعبى هو الوعى الشعبى، بالكتابة وبغير الكتابة، بالنشر وبدون النشر، الوعى الشعبى هو تكوين بيولوجى أساسى، يتمثل الأحداث، وقد يفرزها الآن فى صورة متاحة للنشر، لكن الأهم أنه يختزنها، ليتحوّر بها حتى تتفجّر منه آثارها فى حينها.

ما زلت أعتبر المسودات من أهم المراجع الدالّة على نبض الناس.

رجعت لأوراقى أيام الرئيس عبدالناصر، والرئيس السادات، رحمهما الله وجزاهما عنا خيرا، فوجدتنى قد كتبت بطريق مباشر وغير مباشر ما هو أهم مما نشرلى حتى الآن. ولولا أن النشر لمثلي هذه الأيام هو أكثر رحابة، ولا أن هذه الصحيفة هى أكثر ضيافة وكرما، لظل هذا أكتبه الآن مثل المسودات القديمة التى عثرت عليها وأنا أحاول أن أوضح منهجى للمعترضين.

سوف أكتفى باختيار مسودة واحدة تناولت موضوعين ما زلنا حتى الآن نعيش فى آثارهما، ونحن نحاول أن نتجاوز بعض مضاعفاتهما. الموضوع الأول هو التزييف الذى لحق بقيمة الاشتراكية الحقيقية بالتطبيق الذاتى لقشور ما فهم أهل السلطة منها حينذاك (الفترة الناصرية) . والموضوع الثانى هو مسألة السماح بالحرية بشروط تسحب من تحتها كل ما يجعلها حرية (الفترة الساداتية)، مع أن ما وجدته لا يعنى أن المسألة مقصورة على هاتين الفترتين فحسب.

ولا أظن قبل أن أستشهد بالمقتطف أن الأمر يحتاج إلى التذكرة بنوع الاشتراكية التى روجها لنا عبد الناصر، ولا بالحرية المشروطة زعمها السادات، حتى كدت أضحك وهو يعلن بطريقته المسرحية الجميلة خفيفة الظل “أن حرّية التفكير مكفولة للجميع ” ثم يضيف ما فهمته أنه “على شرط أن يفكّر كل واحد فى سره”. يومها لم أتمالك إلا أن أضحك، لكننى وأنا أفتش فى أوراقى وجدتنى قد ترجمت ضحكتى هذه إلى ما يمكن أن يكون شعرا عاميا، لم ينشر أبدا. ليس خوفا من نتائج نشره، ولكن شكا فى أحقيته بذلك.

 وعلى الرغم من أننى لا أحب الكتابة بالعامية، حتى الحوار فى محاولاتى القصصية أكتبه بالفصحى، إلا أننى لاحظت أننى حين يزداد انفعالى تتدفق منى العامّية كما تشاء، الأمر الذى جعلنى أعتذر للفصحى ذات مرّة مفسّرا هذا الدفق العامى قائل : “أصل المرّآدى العملية كان كلها حسّ، والحس طلعلى بالعامى بالبلدى الحلو، والقلم استعجل، ما لحقشى يترجم، لتفوته أيها همسة أو لمسة أو فتفوتة حس، معلشى النوبة، المرادى سماح، واهى لسّه حبيبتى، حتى لو ضرته غازية بتدق صاجات.

بنفس الاعتذار أتقدم لقارئ هذا المقال، وأنا أعرض هذا المقتطف “السرى” لأثبت له أن ما هو ثابت فى الأوراق، قد يكون أكثر دلالة عمّا نشر آنذاك، أو الآن. يقول المقتطف نقدا للموقفين السابق ذكرهما(دون فصل بينهما ) ما يلى:

إلعيال الشغالين هُمَّا اللِّى فيُهمْ،

 باسُمُهمْ نـِـْلَعْن أبو اللِّى خلّفوهمًْ

“باسُمُهمْ كل الحاجات تِبْقى أليسْطَا

والنسا تلبس باطيسطا

والرجال يتحجّـُبوا، عامِلْ وأُسْطَىَ”.

***

يعنى كل الناس، عُمُومْ الشعب يَعِْنى :

لمْ لا بد إنه بـيتغذّى لِحَدّ ما بَطْنُـه تِشْبَـْع.

وامّا يِشْبَعْ يِبْقى لازِمْ إنُّـــهْ يسْمَعْ.

 وان لَقَى سمَعُه ياعينىِ مِشْ تمامْ،

 يِبْقَى يِرْكَعْ.

بَسّ يلزَقْ ودْنُه عَا الأْرضِ كــوَيِّسْ،

 وانْ سِمِِْع حاجَةْ تِزَيَّـــقْ،

 تبقى جَزْمة حَضْرِةْ الأخ اللِّى عـيّنْ نَفُسُهْ ريّسْ،

لاجْلِ ما يْعَوَّض لنَِا حرمَانْ زمَانْ.

 إمّالِ ايِهْ ؟

واللِّى يشبْع مِنكُو أكل وْشُـوفْ، ركوعْ، سمَعَانْ كلامْ،

 يِقَدْر يَنامْ : مُطْمِئِنْ،

 أو ساعات يقدر يِفِنّ.

واللى ما يسمعشى يبقى مُخّه فوت،

 أو غراب على عشُّه زنْ.

***

والحاجات دى حلوة خالص بس إوعك تِـسْتَـمَنّـى إنك تقيسْها،

أَصْلَهَا خْصُوصِى، ومحطوطَةْ فى كيسها.

وانت بس تنفّذ الحتّة اللِّى بظّــتْ (يعنى بانت).

إنت حـُرّ ف كل حاجة، إلآ إنك تبقى حر.

(لأْْ، دى مش زَلّةْ قَلْم، ولا هِيّةْ هفوة،

مش ضرورى تتفَهـــمْ، لكن مفيَدةْ،

زى تفكيكةْ “داريدا”).

***

ما هو مولانا رأى الرأى اللى ينفعْ،

الحكومة تقول، يقوم الكل يسمعْ.

واللى عايز أمر تانى، ينتبه للأوّلانى .

 مش حا تفرقْ.

“قول يا باسط”.

 والمعانى فى الوثائق، والوثائق فى المبانى.

(برضه تفكيكه جديدة، تبقى هاصِط)ْ.

***

الدنيا دى طول عمرها تدّى اللى يغلب : سيف ومطوة

واللى مغلوب ينضرب فوق القفا فى كل خطوة

أصل باين إن “داروين” كان ناويلْــها:

إن أصحاب العروشْ. ويّا أصحاب الفضيلة، يعملولْــنا جنس تانى. جنس أحسن.

يعنى : “إنسانٌ مُحَسَّّن،

حاجة أشبه بالرغيف، من عالرصيف.

واللى يفضل منّا إحنا؟ مش مهم .

إحنا برضه لسّة من جنس البشرْ. إلقديم.

يعنى “حيوانٌ بِـيِــنٌطَـقْ”. مش كفاية ؟؟

هوّا إيه؟ هيه سايبة؟

يعنى إيه الكل يفهم ؟

مش ضرورى،

 يِكفى إنه يقرا “ميثاق” السعادة،

 واللى صَعْب عليه حايلقى شَرْحُهُ فِى خُطَبِ القيادة.

واللى لسّة برضه مش فاهم يُـحاكَـــم ْ

وانْ ثبت إنه برئْ. يتــْـَرَزْع نوط “العَبَطْ”

وانْ ثبت إنه بِيِفْهَمْ، يبقى من أَهْل الـلَّبَطْ .

“يعنى إيـــه ؟” زى واحد ناسى ساعتُه.

يعنىِ نِـــفسُــهْ فِـى حاجاتٍنْ مِشْ بِتَاْعتُه.

“زى إيه؟”

***

زى واحد جه فى مخه-لا مؤاخدة -يعيش كويّس.

“برضه عيب”، هوّا يعنى ناقْصُهْ حَاجَة ؟

قال يا أُمّى، والنبى تدعى لنا إحنا والرئيسْ،

ربنا يبارك فى مجهودنا يكتّــر فِى الفلوسْ.

بس لو نعرف معاهم قدّ إيه ؟!

 واحنا لينا كامْ فى إيه !؟

***

يانهارِ اسودْ، شوف صاحبنا راح لِـفِـين !!

“آدى أَخْرِةْ فَهْمِك اللِّى مالُوشْ مُنَاسْبَةْ.

 طبْ خُــدوه، وضّــبوه،

واحكموا بالعْدِل يعنى: “إعْدِلوهْ”.

تُـهمته ترويج “شفافـيَّه” مـُعَـاصْرةْ.

هذا ملعوبُ الخَواجةْ،

وان رمينا الكومى بدرى، تبقى بصرة.

“الكلام دا مش بتاعنا،

دَشْ ماْ لهُوْش أى معنى”

تهمته التانية “البجاحة”،

واحنا فى عـِزّ الصراحة،

واللى عايز غير ما يُنشرْ،

 هوّه حرّ انه “يفكر”، فى اللى عايزُهْ.

أو يشوفُهْ جــوّا حــلـمـه،

 وانْ حكاهْ يحكيه لأمه،

وانْ أخد باله وقالُهْ مـُوَطّى حسه،

 مستحيل حدّ يمِسُّــهْ.

***

قالّها يا مّهْ أنا شفت الليلادى:

إنى ماشى فى المعادى.

شفت نفسى باخترع نظرية موضَةْ،

زى ساكن فى المقابر يبنى قصر ألف أُوده :

“العواطف أصبحت ملك الحكومةْ،

والحكومة حلوة خالص.

عبّـت الحب الأمومى، والحنانْ،

جوّا أكياس المطالْبةَ بالسَّلاَمْ،

والطوابير اللى كانت طولها كيلو،

اختفت ما عادتشى نافعة

حطوا مطرحها خطب وكلام ملاوعة

***

واللِّى طَالُهْ من رضا الريّس نصيب :

فازْ، وقّــلعْ

واللى لسّا ما جاشِـى دوره. بات مولع.

 قام سعادة البيه قايــُّــله :”تعالى بكُرَه”

(درس مش عايز مذاكرة”)

ورحت صاحى

خلاصة القول :

إننا لسنا أوصياء على الوعي الشعبى، ولن نستطيع أن نحول بينه وبين تطوره، أو تدهوره بعدد من الكلمات، أو التعليمات، أو الأحزاب الصورية، أو الادعاءات شبه الإنسانية، محلية أو عالمية.

ثقتى بالناس أستمدها من ثقتى بالله وبالحياة، الله إلا إن كان الجنس البشرى قد قررالانتحار، أو كان القدر قد قرر لنا الانقراض.

وهذا بعيد عن خيالي حاليا رغم كل شىء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *