الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / عن جمال مبارك وآخرين.. أتحدث

عن جمال مبارك وآخرين.. أتحدث

الوفد: 16/4/2001                     

عن جمال مبارك وآخرين.. أتحدث

عن الوفد، والنقد، وامرؤ القيس، وجَهِيزَة

 إذا ذُكر لفظ “الوفد” قفز إلى ظاهر الوعى مصاحبات فورية بعضها أسماء أعلام (سعد زغلول، النحاس، سراج الدين، طه حسين، السيد أحمد عبد الجواد)، وبعضها صفات مواقف، وبعضها سمات ممارسات، وتظل هذه الترابطات قائمة حتى لو لم يعد الشخص وفديا حزبيا، من ذا الذى يعتبرُ مكرم عبيد ليس وفديا حتى بعد انشقاقه عن الوفد، إذا قلتَ “الوفد”-وكنتَ من جيلى- قفزت إلى وعيك فورا كلمات مثل “الدستور”-“الوحدة الوطنية”-“الحرية”- “الديمقراطية”، “الحوار”، وهذا لا يعنى أنه قد لا تقفز إلى وعيك أو وعى غيرك كلمات سلبية، أو ذكريات ملتبسة. أكتب كل ذلك فى محاولة رؤية من بعيد، علما بأننى لست وفديا، ولم أكن أبدا كذلك، ولا أعتقد أن فى العمر بقية تسمح بذلك، ولا أن فى الوقت متسع لغير أن أكون ضيفا على هذه الصفحة، أمارس فيها ما تيسر من قيم وفدية.

إن عدم انتمائى للوفد قديما إنما يرتبط بسمة شخصية، وليس بموقف خاص من حزب بذاته، ذلك أنه يتملكنى رعب خاص (مثل بعض مرضاى) من أن أجد نفسى “رقما فى مجموع”، وكلما كان المجموع أضخم وأكثر عددا مثل جماهير الوفد آنذاك، زاد خوفى أكثر فأبتعد أكثر، بل إننى قد آخذ موقفا دفاعيا مضادا، وربما لنفس السبب أجدنى-ولا مؤاخذة- لست أهلاويا أيضا، أضف إلى ذلك أن وعيى السياسى الطفلى حين تفتّح فى أوائل الأربعينات كان مواكبا لصدور “أخبار اليوم”، وكانت تحمل فيروسات القصر، فأصابتني بتلوّث إعلامى وصلنى من خلال كاريكاتير رسمه رخا -سامحه الله- شوَّهَ فيه، وبه، صورة النحاس باشا بشكل مفزع، كان الكاريكاتير يرسم تاريخ 4 فبراير حرفا حرفا بصورة المرحوم النحاس باشا. جزعت من هذا الرسم ، وخصوصا حرف الراء فى نهاية “فبراير”، وهكذا نجح رسم واحد أن يشوه وعى صبى -فى الحادية عشر، لكن بمرور الأيام رحت أتبين النحاس باشا كواحد من أنقى وأطيب من عرفتْ مصر. وتصوّرت أننى تصالحت معه، فرحت أعتذر له فى نفسي وكأنى أنا الرسام، وتصورت أنه قبِلَ عذرى وأن المسألة انتهت. إلا أننى حين اقتربت شخصيا من نجيب محفوظ مؤخرا، راح يكلمنى عنه بنفس الحب الذى يكلمنى به عن سعد زغلول. تعجّبت وأنا أكتشف أن آثار تلوث وعيى برسم رخا ما زال كامنا داخلى، فتجرأت وسألت شيخى محفوظ مباشرة عن حقيقة حكاية 4 فبراير، فإذا به يفسره لى تفسيرا موضوعيا أتبيّن منه كيف أنقذ النحاس باشا مصر من أزمة طاحنة بموقفه النبيل آنذاك، مما لا مجال لتفصيله الآن.

 هل رأيتَ-عزيزى القارئ- كيف يتشوه وعى الأطفال نتيجة رسم كاريكاتيرى واحد، ويظل هذا التلوث كامنا، ثم يقفز بعد أكثر من نصف قرن، وقد شارف صاحبه على السبعين، وهو يتصور أنه تخلص مما تلوث به باعتباره مجرد تزييف، لكنّه يجده داخله يفسد حكمه.

 فانظُرْ-أيها القارئ الكريم، فقّهك الله-فيما نلوث به وعى أطفالنا اليوم، وانتظرْ ما يكون.

طالت منى المقدمة ، فآن الأوان أن أمارس إحدى القيم الدالة على ما هو “وفد” (مرة أخرى: بالمعنى الأخلاقى والتاريخى) ، وسوف أختار قيمة “الحوار” فهى أكثر تحديدا من قيم أغمَضَ مثل الحرية أو الديمقراطية، وسوف أغامر فأحاور أعلى ضيوف هذه الصفحة صوتا، وأكثرهم حماسا، الناقدة الرائدة صافيناز كاظم، والمبدع أسامة أنور عكاشة. ربنا يستر.

النقد والنص

فرحت منذ البداية، باستضافة السيدة صافيناز كاظم فى هذه الصفحة، هذه المسلمة المصرية الشديدة الحضور، المخلصة السعى، ربما لأننى عاشرت تلك النافذة التى فُتحت لها فى جريدة “الدستور” يوما ما ، والتى عبّرت من خلالها عن كيف مُنعت من الكتابة فى مكانها الطبيعى ردْحا من الزمان، ثم إنه وصلنى ألمها – لست أدرى كيف- حين منعت الدستور من الصدور، وتصورت أنه قد عاودتها مرارة قصف القلم القديمة. ثم ها هى تطل علينا فى هذه الصفحة بكل الحماس، والإبداع ، و”الإخلاص، والغلواء، فتثير حولها ومعها ما تثير، فأوافقها، وأرفضها، وأتحمّلها، وأتعلّم منها، وأحنو عليها، وأحاورها، ولا أتمادى مع شطحها (أو ما أعتبره كذلك). من ذلك ما نشرته يوم الأربعاء 4 إبريل الجارى تعقيبا على مقال محمد عبد الواحد فى جريدة القاهرة بتاريخ 27/3/2001 بعنوان “أغانى طالبان”، فينبرى لها الأستاذ أسامة أنور عكاشة يوم السبت 7 إبريل بـ”سؤال للمشاغبة”، وبعد تقديم فروض التحفظ الوقائى، والصادق، بإعلان التقدير والاحترام الواجبين، يعاتبها على ما فهمه من موافقتها وحماسها لتغيير نص مبدع بحجة أن ما جاء به لا يتفق مع معتقد، أو موقف أخلاقى، أو أيديولوجى معين ، ناهيك عن تفسير دينىّ معلوم. اعتبرتُ عتابه فى موقعه، وأنها أهل له، خاصة وهى الناقدة المتميزة (أقرّ وأعترف أنها إذا تكلمت فى نقد المسرح فعلى الكل أن يصغى ويتعلّم، حتى لو لم يوافق) ، لكنى فى نفس الوقت تفهمت موقفها، وعذرتها حتى لو قالت “..لا يجوز سب الدهر ، ولا سب القدر، وكامل الشناوى مخطئ، … (حين قال: قدر أحمق الخطى،سحقت هامتى خطاه”) و (أنه) لا يحتاج لحية لكى تعود قصيدته إلى الصواب (فسمحتْ بالتصويب إلى :”قدر واثق الخطى،سحقت هامتى خطاه)، ثم أضافت الناقدة الجليلة: “أما من الناحية الفنية فالحقيقة أن الأحمق لا يتمكن من سحق هامة الشاعر، المنطقى أن القدر الواثق الخطى هو الذى يعرف كيف يسحق الهامات، والغرور والابتزاز”

كيف يا سيدتى الناقدة العظيمة يدفعك حماسك المشروع إلى أن تسمحى أن يعامَل الشعر بهذا المقياس (المنطقى)؟ وحتى إذا رضينا بمقياسك، فإن الأحمق وليس الواثق هو الذى يسحق الهامة، (ضعى جانبا القدَر الآن). من الذى يمكن أن يدهس طفلا فى الطريق ؟ قائد سيارة أحمق، أم قائد سيارة واثق، ثم كيف-أصلا- يمكن أن يكون ثَـمَّ إبداع وهو يتحرك موصى عليه داخل دائرة اللفظ المعجمية، أو التاريخية. إن الألفاظ عامة، وفى الإبداع خاصة، وفى الشعر بالذات، لا تكتسب معناها الخاص المتجدد إلا فى سياقها فى إطار كلية النص المتخلّق؟ إن الإسلام الذى أشرُف بالإنتماء -مثلك- إليه، لا يحتكر كلمة القدر أو الدهر بما ذهب إليه مفسرون مجتهدون فى وقت بذاته لغرض بذاته، إن لفظ “القدر”، إذا اقترن بقدرة الله سبحانه وتعالى، وبالغيب الذى نؤمن به نهاية مفتوحة لاجتهاد بلا نهاية، غير لفظ القدر الذى كتبه كامل الشناوى. تصادف أننى قرأت مقالك، ثم مشاغبة الأخ أسامة، وأنا أعيد صياغة بعض ماكتبتُ قديما بالعامية (ولا مؤاخذة) .فإذا بى أضبط نفسى متلبسا باستعمال كلمة القدر، حتى فى سياق العامية، بشكل آخر، حيث بدأت ديوانى المجهول هذا قائلا :

 ” كلِّ القلمْ ما اتقصفْ يطلعْ لُهْ سِنّ جديدْ، “وايشْ تعمل الكِــْلمـَةْ يابــَا، والقدَرْ مواعِيدْ”،

 أين تقع كلمة القدر عند كامل الشناوى، من كلمة القدر فىما ضبطتُ نفسى وأنا “أقترفها”، من كلمة “القدر” الأخرى التى تعنينها، والتى ينبغى أن تحاط بكل التقديس الواجب.

 أنتِ سيدة العارفين أن الإبداع هو المصهر المستعد لإعادة صياغة كل ألفاظ المعاجم، وهو لا يستعمل الألفاظ كقوالب خرسانية سابقة التجهيز. إبداع اللغة وتجديد الوعى، هما السبيل الأول لثورتنا الإسلامية الإنسانية ، وسامحينى يا سيدتى: ليس أمامنا لنكون أهلا لحمل الأمانة إلا باستلهام النص الذى لا ينبغى أن تمس أصوله بأى حال، إن الإسلام الذى يمثل البساطة، والمباشرة، واللاكهنوت والفطرة المتخلقة الموحّدة أبدا، هو الرد الطبيعى على الأصولية الـَعلمانية، وعلى الأصولية اليهومسيحية (الأنجليكانية التوراتية) ، وعلى الأصولية الطالبانية. أما إذا رضينا مثلهم أن نقبع فى سجن الحرْفية فنحن نتنازل عن أعظم سلاح لتطوير فطرتنا (وفطرة البشر)، لأننا نحرم أنفسنا من استمرار أن تتنزّل علينا النصوص، بإذن ربنا من كل أمر.

امرؤ القيس. وجهيزة.

نرجع مرجوعنا إلى المبدع المتدفق أسامة عكاشة، فأتفق معه، وأختلف، تحت عباءة الوفد، أتفق معه وهو يقترح تعبيرا يبدو وكأنه يحمل تناقضا ما، وهو يستأذننى فى صك ما أسماه “سكيزوفرينيا موضوعية”، والحقيقة أننى أنا الذى ينبغى أن أستأذنه فى أن أستشهد به وأنا أحاول أن أشرح ذلك لطلبتى، وزملائى لأبين لهم، من واقع حدْسه هذا، كيف أن انشقاق الذات المغترب (= الفصام) يبرره أحيانا انشقاق الواقع الأشد اغترابا، إن التعارض الظاهر بين كلمة الفصام (سكيزوفرانيا) وبين لفظ “الموضوعى”، يذكرنا بالنكتة السورية (بعد التحوير) : تعهّد أحدهم ألا يسب “الأهل” مهما غضب، لكن حدث ما تجاوز احتماله، فأحل نفسه من عهدها قائلا “سب الأهل (…) إِلـُـهْ عازَه”، إنك يا أخ أسامة إذ تصك هذا المصطلح، إنما تقول لنا : “إن السيكزوفرانيا إلْـهَا عَـازَه”، ، يذكرنى حدسك هذا بحقيقة أن المبدع ينبغى أن يوضع فى مكان الريادة وهو يكشف طبقات النفس، وليس عليه أن يستأذن أمثالى. هذا ما علّمًـنَا إياه أفلاطون فى “كتاب الفن”، وهو يورد حوارا بين سقراط وأيون، إذ يرُدُّ سقراط على إيون حين يستفتيه فى الفن، قائلا: “أنتم هم الحكماء معشر المنشدين، والممثلين والشعراء..وأنا إنما أذكر مجرد الحق كما يجدر بشخص غريب عن الصناعة”. كذلك أوافقه على صك ما أسماه “الاكتئاب القومى”وهو ليس مرضا، وهو أفضل حتما من الطنبلة الشعبىة، والرسمىة(الطنبلة = الطناش)

لكننى أختلف معه أشد الاختلاف بعد ذلك : حين يعتبر امرؤ القيس “حنجوريا” وهو يصف الليل إذ يرخى سدوله “ليبتلى”. إننى أستشهد بهذا البيت وأنا أحاول أن أعلّم طلبتى وزملائى الأصغر كيف أن الهموم تلتحف باللليل ، وهى تختبر صلابتنا .وأن الهم ليس دائما استسلاما لليأس . بل إننى أعلمهم فكرة “تعدد الذوات” فينا من امرؤ القيس أيضا وهو يقول:

ولوأنها نفسٌ تموت جميعها ولكنها نفسْ تساقطُ أنفسا.

أما اختلافى الأخطر معك ، يا أخ أسامة، فهو بشأن فقرة “3”، (من نفس المقال) بعنوان: “وقطعت جهيزة”. كيف تفرح يا سيدى بتصريح الرئىس الذى أوردتَـه بالحرف (والعهدة عليك) الذى يقول فيه :”جمال لن يكون الرئىس القادم، وعليكم أن تنسوا هذا الأمر”. إن من أهم بنود الإصلاح الدستورى الذى ينادى به الوفد، هو ألا يُسمح لأحد أن يعترض على ترشيح جمال مبارك، أو غير جمال مبارك. إن الإصلاح الدستورى الحقيقى إذا تم كما أتصور، يبيح لجمال مبارك، ووليد أسامة أنور عكاشة، وأمانى صليب بطرس، ومحمد يحيى الرخاوى، وخالد نعمان جمعة، وعادل أبو غزالة، وعبدالرحمن أبوسليم الهنداوى، أن يرشحوا أنفسهم كيفما شاؤوا، وأنا أقر وأعترف أنه لو رشح هؤلاء أنفسهم غدا (لا قدّر الله) فسوف أنتخب -شخصيا -جمال مبارك دونهم، (مع أننى لم أنتخب والده الفاضل إلا فى المرة الأولى، ثم اطمأننت إلى عدم حاجته لصوتى بعد ذلك)، سوف أنتخب جمال ليس لأنه ابن حسني مبارك، ولكن لاهتماماته الاقتصادية، ولشبابه، وذكائه، ودماثة خلقه، وموقفه من المستقبل. ولن يحول بينى وبين اختياره إلا أن يكون هو المشرح الأوحد، أو إذا قدّم أحدٌ من سبق ذكرهم، أو غيرهم، برنامجا أفضل، وسيرة ذاتية أكثر ثراء، وأداء سابقا أكثر وعدا ..إلخ.

 أحسب يا أخ أسامة أن الديمقراطية التى يروج لها الوفد، والتى هى أساس كل إصلاح (كما تزعمون، حيث أننى متحفظ عليها تماما، إلا بشروطى) هى التى تحول دون أن يتدخل الرئىس، فى ترشيح أى شخص بما فى ذلك جمال مبارك. كل ما يسمح به الدستور الجديد هو أن ينصح حسنى مبارك الوالد ابنه -رحمةً َبه وحبا له من خلال خبرة الوالد- ألا يعرض نفسه لتجربة حمل همّ خمس وستين مليونا من البشر لهم هذا التاريخ، ويمارسون هذا الصبر، فضلا عن حمل هم “إعادة فرز”من يحيط به باستمرار، وهو فى أشد الحاجة إلى من يساعده.

لكل ذلك يا أخ أسامة ، لم يعد من حق جهيزة أن تقطع قول كل خطيب. (إن شاء الله).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *