الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / دليل الحاكم الذكى لِحُكـمِ شعبٍ صبور

دليل الحاكم الذكى لِحُكـمِ شعبٍ صبور

الوفد:9-4-2001

دليل الحاكم الذكى لِحُكـمِ شعبٍ صبور

منذ قرأت برنارد شو فى كتابه الجميل عن الاشتراكية بعنوان “دليل المرأة الذكية”، وأنا معجب بهذا الاسم. إنه نوع من الدعوة الماكرة ليشحذ القارئ ذكاءه فيتجاوز ظاهر الكلمات، وفى نفس الوقت هو افتراض ضمنى أن من لا يصله ما أراد الكاتب فقد يكون غير متمتع بالصفة التى عنون بها الكاتب كتابه. ثم قرأت بعد ذلك كتاب حسين أحمد أمين “دليل المسلم الحزين إلى مقتضى سلوك القرن العشرين” (1983)، وما زلت أذكر استشهاده بحديث شريف (ص 19) يقول ” لا تُـطْرُونى كما أطـرَتِ النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبد، فقولوا عبد الله ورسوله”، وكنت وما زلت أرجو أن يكون لحكامنا الأفاضل فى رسول الله صلى الله عيه وسلم قدوة حسنة، إذن لتبيّنوا خطورة المبالغة فى الإطراء حتى التنزيه عن الخطأ العفوى والنسيان.  أتذكر أىضا قول ورد على لسان الفتى مهران، سمعته من عبد الله غيث ، وهو يردد شعر عبد الرحمن الشرقاوى على المسرح : “فاعتراض واحد ممن يحبّك، لهو خير ألف مرّة ،من رضا كاظم غيظ يبغضك” . لم تُـتـح لي الفرصة أن أقرأ المسرحية بعد ذلك، وحمدت الله أنى شاهدتها قبل أن توقف بأمر عبد الناصر أو رجاله، إذ يبدو أنهم خافوا أن يكتشف الزعيم الخالد نوع رضاهم، أو أن يلتقط الفرق، فيبحث بين الناقدين عمّن يحبه، ويحب البلد فيتقرطس المنافقــون. (تقرطس= هلك. الوسيط) لهذا ومثله، ومع توالى نشر ما لم نكن نتصور إمكان نشره من فوق هذا المنبر وأمثاله، جاءنى  عنوان وموضوع هذا المقال.

إن مِـن أنسب الـمُناسب فى وقتنا هذا فى زمننا هذا أن نمارس الاعتراض والتنبيه، ونحن على ثقة أن المسرحية لن توقَـف مرة ثانية. فالحاكم، وهو كل راع مسؤول عن رعيته، هو أحوج ما يكون إلى أن يعرف أحوال ناسه.  يحكى لنا التاريخ ، سواء فى ألف ليله وليلة أو غيرها، كيف كان أمير المؤمنين يتخفى فى زى حمّال أو شيخ طيّب، أو بائع متجوّل ، وينزل هو و وزيره، يتفقدان أحوال الرعية . إن دلالة ذلك -حقيقة كان أم أدبا مصنوعا- هو الإعلان عن حاجة الناس أن تصل أصواتهم إلى حكامهم، شكرا، أو تنبيها، أو نقدا ، أو نذيرا،، ناهيك عن الإشارة إلى حاجة الحاكم أن يعرف أحوال رعيته دون وسيط.

عالمنا المعاصر، وخاصة من أسمى نفسه العالم الحر ، اخترع وسائل حديثة “لتفقد أحوال الرعية” أشهرها  الانتخابات سواء على مستوى عموم الدولة ، أو المحليات أو النقابات،  ثم إنه اخترع طريقة أسرع ، وأقرب  تسمّى “قياس الرأى العام” ،  وعلى الرغم من الزعم بكفاءة هذا وذاك، إلا أن نقدا لاذعا يوجّه إلىهما ، من أهلهما أنفسهم.  من ذلك ما اقتطفه  د. نبيل على  فى صرخته الأخيرة الثقافة العربية وعصر المعلومات (عالم المعرفة يناير 2001)  “ص 196” وهو يعلن الحاجة إلى فكر سياسى جديد “… يكشف عن وهم الديمقراطية الزائف، ويحرر”سجناء الهواء الطلق” على تعبير أدورنو- الذين يعتقدون أنهم أحرار، وما هم بأحرار، يساقون إلى صناديق الانتخابات كالقطيع، وَتحصُد آراءهم ومواقفَهم إحصاءات قياس الرأى العام ..، وتتغذى على معاناتهم إدارات تلقى الشكاوى، ونظم الرد الآلية على رسائل المواطنين” (انتهي المقتطف).  فإذا كانت الديمقراطية عندهم يشار إليها  بأنهم يساقون إلى صناديق الانتخابات كالقطيع، فبماذا نشبه أنفسنا ونحن  نساق إلى أىن كيف ؟ ، وإذا كانت إحصاءات قياس الرأى العام عندهم  ليست كافية  للدلالة على الرأى العام ، فكيف الحال عندنا، وكثير من الإحصاءات-حتى فى البحث العلمى- تُفَصـّل لتقول ما يريد االحاكم (أو الباحث) بانتقاء المعادلة التى تطمئنه إلى”ما هو عليه”، وإلى ما يريد سماعه أو تحقيقه، وليس إلى ما هو واقع. وإذا كانت نظم الرد عندهم على رسائل الناس وشكاواهم هى نظم آلية ، فما هو الحال عندنا؟

إن الحكام عندنا فى موقف أصعب، لأن النفاق والتزييف المباشر وغير المباشر، المُبَْرمَج وغير المُبَْرمَج، اُلمجَدْول وغير اُلمجَدْول، وصل إلى درجة لا يمكن الاعتماد علىها فى تقييم  الأداء الذى يُطَمِئُن كل راع على مدى  قيامه بمسؤوليته عن رعيته.  ومن هنا وجب البحث عن مناهج  أخرى ، ومنابر أخرى،  ومصادر أخرى ، تساعد الراعى  فى تفقد أحوال الرعية. قلت فى مقال سابق فى هذه الصفحة إننا  قد نجد ذلك فى ” ….حدْس الأدباء، وفى رطان المجانين، وفىما هو بين السطور…إلخ” ، إلا أن هذا كلام مرسل ، قد لا يفيد حكامنا الحريصين على معرفة أحوالنا حتى يقوموا بواجبهم، ثم إنه ليس عندهم لا الوقت، ولا الوسيلة التى تمكنهم من قراءة ما بين السطور، والتنصت على مكالمات المحمول ، وتحليل محتوى الإعلانات، فهل هناك وسيلة أكثر تحديدا وفائدة،  نضعها بين أيديهم ليسترشدوا بها لمعرفة أحوال الرعية؟

هذا ما يحاوله هذا المقال بشكل مباشر ، وبترقيم محدد ، لعل وعسى.

أولا : أن يحسنوا قراءة المعارضة، (سواء ما ينشر منها فى صحف المعارضة، أو فى الصحف مثل: نصف كلمة، وفلاح كفر الهنادوة، وكلمات أنور وجدى، وصفحات الرأى فى الأهرام. إن حسن القراءة لا يعنى “المبادرة بالرد الرسمى”، ولكنه يتطلب أخذ الصور، والتلميح، والصرخات مأخذ الجد، للاستفادة منها فى فهم، ثم تقييم الجارى حقيقة وفعلا. (هل حاولنا أن نجمع أقوال “الواد أبو سليم أبولسان زالف”، أو أن نمعن النظر فى دعوة بلدياتنا أنه” ويجعله عامر”؟)

ثانيا: أن ينصتوا جيدا للمصادر الأحدث للوعى الشعبى. إن الناس لم يعودوا يرددوا الأمثال الشعبية القديمة، لكنهم يخترعون لغة جديدة، ويخلّقون حكما جديدة، وبدلا من أن تقف الحكومة، والصفوة المثقفة المنفصلة عن الناس  من هذه اللغة موقف الشجب والترفع، واصفين إياها مرة بأنها “بيئة”،وأخرى بأنها “إسفاف”، وثالثة بأنها “تدهور لغوى” يمكنهم أن يقوموا بما يسمّى تحليل المحتوى، بوضع فرض بسيط يقول “إن كثيرا من الالفاظ والتعبيرات الجديدة هى تعبير عن موقف سياسى جدير بالنظر، وأن الناس (والشباب خاصة)  حين لم يجدوا سبيلا للمشاركة والتعبيرالمسموع، لم يجدوا غير هذه الوسيلة للإعلان عن رأيهم. خذ أمثلة محددة   (من كتاب الهلال .عزة عزت، تحولات فى الشخصية المصرية. أكتوبر 2000) صفحة “المسلّكاتى”، أو الـمهلّباتى،(ص 378) أو خذ القول الجديد:  “ما يْنُولْ ويطولْ إلا اللى فى البلد مسؤول” (ص 380) ، أوتعبير: “ركب الموجة”، أو “دولْ عصابه يا بَا”،  (ص 381) ثم خذ “كارْت إرهاب” وهو تحديث للمثل القديم “إضرب المضروب يخاف السايب” (رأى المؤلفة ص 382)

أنهى هذه الفقرة بإشارة محدودة لأقوال شديدة  الدلالة قد تفسّر توجّه الانسحاب  من الهم العام (أسميه:العصيان السياسى) :  تبدأ الدعوة للتخلى عن المشاركة  بالنصائح التالية ” كبّر مخّك، أو كبّر الجمجمة، ثـم “إنسَ (وقد تزيد إلى:”إنسَ وخد البنسة”لأنها “مش مستاهلة”، أو لأن “كل واحد مع نفسه”ليتركز كل هذا فى “طنّش، عشْ، تِنْتـعِـش”.

إن الراعى الذى يتفقد أحوال رعيته يمكنه أن يسأل نفسه، (دون الرجوع إلى المستشارين من حوله) :  ما معنى ظهور هذه التعبيرات بالذات، فى هذا الوقت بالذات، وما معنى انتشارها بين الشباب بالذات، بهذه السرعة بالذات، وأنا على يقين من ذكائه (راجع العنوان) الذى سوف يجعله يتعرف من خلال ذلك  على الدلالات السياسية لهذه اللغة الجديدة دون أن يحيلها إلى مركز للأبحاث، أو مجلس للمثقفين. إن الإسراع بالحكم على هذه اللغة بأنها انحطاط وإسفاف، أو بأنها لا تعني شيئا، أو بأنها مجرد دليل على هبوط مستوى الشباب، دون الالتفات إلى  أى مغزى سياسى، هو خطر على الحاكم ، وعلى الباحث، وعلى الناس ، وعلى المستقبل.

اللغة لا تنشأ من فراغ،  اللغة كائن حى لا يَفْرِضُ مضمونه على الواقع ، وإنما يستلهم حركة تطوره من الواقع، فى نفس الوقت فإن اللغة (خصوصاالجديدة) تساهم فى الإشارة إلى المستقبل.

إن الحاكم الذكى يمكنه قراءة  هذه العينة المحدودة فى الفقرة قبل  السابقة، وسوف يعرف فورا سبب عزوف الشباب عن الذهاب إلى صناديق الانتخاب،  وسبب انتشار الدروس الخصوصية،  وسبب الغش الجماعى، وسبب ما حدث في طب قصر العينى (إن ثبت بعد التحقيق، فالإدانة)، أما الذى لا يهتم فقد لا يعرف أبدا  ولا حتي سبب سوء الأحوال الجوية!!.

ثالثا: النظر فى المواويل الجديدة ، مع الأغانى الشبابية ، وكذا ما يسمّى الأغانى الشعبية. إن أغلبها يخاطب الغرائز السياسية متجاوزا الحس الفني أو حتى الطرب الشعبى. ولن أستطيع أن أفصّل فى هذا المقال ما أعنيه بـ”الغرائزالسياسية” ، إن انتشار أغنية  “أنا باكره إسرائيل ليس له علاقة بالفن، ومع أنى رأيت فيها إجهاضا لموقف الناس المتألم تجاه الانتفاضة، إلا أنها حتى فى دلالتها السلبية تعنى أمرا سياسيا خطيرا. إن دلالات ما يجرى فى طرب الشارع الشعبى  أبعد من مجرد إعلان كراهية إسرائيل. نستمع  إلى “شعبولة” وهو يقول : باقول سلاموا عليكو، مااعرفشى اقول “ألو”، لنعرف كيف يتناول الشعب علاقة الدين بالسياسة وهو يخاطب حاجة الناس إلى هوية ، على حساب الفن والجمال .

رابعا: من نفس المنطلق، يمكن للحاكم الذكى أن يقرأ ظاهرة الحجاب، خصوصا عند الصغيرات، خصوصا فى الأقاليم ، ليس باعتبارها  ظاهرة دينية ، (وبالتالى لا داعى أن يربطها -مثلا- بالتزام المحجبات بالصلاة)  بل كظاهرة سياسية لا مجال لتفصيل الحديث عنها فى حدود ما يقدّمه هذا المقال هو مجرد “فهرست للدليل ” !!

رابعا: النظر فى نتائج انتخابات النقابات وما شابهها من تجمعات، أشرت إلى انتخابات نقابة المحامين  إشارة عابرة فى مقال سابق ، لكن يبدو أنها كانت إشارة ذات دلالة خاصة ، فى هذا الوقت بالذات، حتى أن المسؤولين عن التحرير جعلوهاعنوانا للمقال برمّته.

وبعد، فإننى أكتفى بهذا القدر الذى يمكن أن يمتد ليشمل ممارسات، وأرقام، وظواهر، يمارسها الناس، ويلاحظونها، وهم لا يتفهمون عمق مغزاها السياسى أو الاقتصادى أو الأكاديمى، لكنهم يعيشونها بكل الجدية، لأنهم  يدفعون ثمنها كاملا غير منقوص.  خذ هذه ال أمثلة  الإضافية :   دهشة المواطن العادى من ارتفاع سعر فائدة الجنية المصرى عن فائدة العملات المحترمة،  أو معنى الدرجات النهائىة وفوق النهائية فى الامتحانات، أو مقارنة مصاريف ومقررات الجامعة الأمريكية بالجامعات المصرية(حتى الخاصة منها)، أو معنى ودلالات انتشار التليفون المحمول،  كأداة استهلاكية، ترفيهية، لا معلوماتية، ولا اقتـصادية .

بل إن ظواهر أخرى ذات دلالة كانت الأجهزة فى وقت سابق  تقوم بجمعها لتصنيف قائليها، أو لمتابعتهم، أو لعقابهم، مثل النكت السسياسة. نفس هذه الظاهرة (النكت السياسية) ، بعد أن تغيّر المناخ، وزاد السماح،  يمكن أن تعتبر من حيث زيادتها أو نقصها، ومن حيث توقيت ظهورها وتحليل محتواها، من أهم أدوات دليل الحاكم الذكى لتقييم أدائه، وليس لعقاب قائلها

أختم هذا المقال بما بدأته به، وهو خيال غير مستحيل أقترحه على أى  وزير عنده بعض من الخيال، وقليل من حب الاستطلاع، وقدر من  المغامرة، وذلك بصفته راع  مسؤول عن رعيته فيما يخص وزارته: وهو أن يخصص يوما واحدا كل شهر،(أى إثني عشر يوم فى السنة كلها، ليست كثيرة على شعب صبور مثلنا) لتفقد أحوال الرعية، يوما ليس ثابتا لا يعرفه غيره، يمضيه وقد تخفّى فى زى إبن بلد، صاحب مصلحة، أو صاحب مزاج، ، وأقترح عليه أول جولة على الوجه التالى: يركب ميكروباس إلى الأباجية، ويجلس في قهوة بلدى، وينصت إلى حديث لاعبين للدومينو يجلسون خلفه، ثم يأخذ تاكسى إلى ميدان الجيزة، ويناقش سائقه فى أى مشكلة،  ثم يحشر نفسه فى الدرجة الثانية فى أتوبيس عام  يعبر به شارع الملك فيصل، ثم يتناول غداءه فى الحسين، يعود بعدها راجلا إلى ميدان العتبة  ليأخذ آخر ما يوصلّه إلى الأميرية. يفعل كل ذلك وليس معه إلا ذكر الله وشعوره بمسؤولية منصبه، ولثقتى أنه شديد الذكاء، فسوف يوافقنى على عنوان هذا المقال وهو يتعرف على أحوال الرعية مباشرة بطريقة أصدق وأعمق  ألف مرّة من التقارير التى ترفع إليه، موجزة، أو ناقصة، أو مردود عليها مسبقا  برد رسمى دفاعى باهت ماسخ.  ثم إنى على يقين من  أن الله سوف يبارك فى عمله ويزيده إحسانا بعد هذه الجولة. الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *