إلى أين …؟

الوفد:2/4/2001

إلى أين …؟

تأكد لى أن ما نسميه “هامش الديمقراطية” هو أوسع مما كنت أتصور، وأن اختبار مساحته الحقيقة لا ينبغى أن يكون بالخوف والتوجس، وإنما بالمغامرة والسير فيه، إن مجرد السير فيه دون رقابة ذاتية معوِّقة، يساهم فى توسيعه رويدا رويدا، حتى يصبح الهامش أوسع من المتن، وبديهى أنه إذا اتسع الهامش حتى يفوق المتن فإنه يصبح الأصل، ويصبح ما تبقى من الصفحة (الذى كان متنا) هو الهامش. الحرية لا تُعـطي، لكنّها تؤخذ، وهى تستمر وتنمو بقدر ما نمارسها، وليس بقدر ما تصوّر لنا مخاوفنا أننا محرومون منها.

خطرتْ لى كل هذه الأفكار وأنا أعيد قراءة آخر ما صدر لى فى هذه الصفحة استعدادا لكتابة ما أنا بصدده الآن استجابة لدعوة كريمة تجددت، كنت أتصوّر قبل هذه الفرصة أن ما يسمّى “هامش الديمقراطية” أضيق بكثير مما تبينتُـه من خلال صراحة وأمانة ومساحة ما نشر لى هنا، دون خوف، ودون حذف. تأكد لى نفس الشيء فى نفس الوقت من مُشاركتى فى برنامج تليفزيونى (رسمي) اسمه بدون رقابة، قلت فيه رأيا يفيد أن الأغانى التى انتشرت بمناسبة الظاهرة “الشعبانية”، هى قياس للرأى العام السياسي، هى تعويض سياسى وليست طربا شعبيا، ولا إسفافا لفظيا، ولا هى فن أصلا، كما أضفتُ- فى البرنامج-اقتراحا بأن تستغل الدولة رصد هذه الظواهر ومعنى انتشارها، لتستفيد منها فى التخيطط والمراجعة، ولأن البرنامج لم يكن على الهواء، فقد تصورتُ أن كثيرا مما قلت سوف يُحذف، لكن شجاعة مقدم البرنامج “سعيد علام” بموافقة المسؤولين طبعا خيّبت ظني، وأذيع البرنامج دون حذف.

الممارسة أصدق من التحسُّبات

ذكرتنى هذه الخبرة بمحاولة قديمة اختبرنا بها مساحة الحرية من خلال ممارسة انتخابية، قمنا بها ونحن بعد شباب نلعب فى ملعب السياسة، كان ذلك حول سنة 1955، (والعهدة على الذاكرة) كنا ثـلة طلبة جامعة نقيم فى مصر الجديدة، لنا حق الانتخاب، لأول مرة، ولم يكن حق التفكير فى السياسة قد ألغى بعد، وكنا ما زلنا متحمِّسين للحركة المباركة التى كانت فى سبيلها أن تكون ثورة، رغم أحداث 1954، وبدايات تشويه الرأى العام بقيادة النقل العام (صاوى أحمد صاوي)، كانت أول انتخابات لرئاسة الجمهورية، وكان من البديهي، ونحن شباب آمِل، أن ننتخب الفارس الواعد جمال عبد الناصر، ليقود المسيرة بحماسه ووعوده، ونظافته، ننتخبه ضد أى مرشح آخر، حتى لو كان هذا المرشح هو”حسن البنا” (مع أنه كان قد اغتيل) أو حتى النحاس باشا، إلا أننا فوجئنا بأمر لم نألفه، وهو أنه لا يوجد سوى مرشح واحد، وأن الانتخاب هو بـ”لا”، أو “نعم”، وأخذنا نتندر، شبابا مازلنا نلعب فى الخيال، ماذا لو لم يحصل المرشح الأوحد إلا على عشرة فى المائة من الأصوات (دعونا نخرّف كما نشاء)، هل يعيد ترشيح نفسه، أم يسمح لغيره بالمحاولة، فإذا حصل المنافس الأوحد البديل على عشرين بالمائة، هل يعدل الدستور لتتم المواجهة ..؟ ويسمح للمرشحين أن يتنافسا إلى آخر الشطح. لكن الخيال لا يحل شيئا، قلنا لا نذهب للانتخابات أصلا ما داموا حرمونا من انتخاب رجلنا – جمال عبد الناصر- أمام غيره، كنا نريد أن نبلغه بأصواتنا له أننا أنجحناه ضد فلان الفلاني، ولكن ما داموا قد حرمونا هذا الحق،فما فائدة ذهابنا ؟ لكننا عدنا وقررنا ألا ننسحب، وأن نذهب ونقول له “لا” رغم اقتناعنا بأحقيته، ثم إنها بدت لنا فرصة لنرى مدى اللعب بأصواتنا (بدأ الشك). أطلقنا إشاعة تقول: “إن من حق شباب مصر الجديدة بالذات أن يقول”لا”. وظهرت النتيجة، وفوجئنا أن من قال “لا” على مستوى الجمهورية كلها لم يزد عن بضعة آلاف صوت (ربما ألفان وكسر)، وأن الذين قالوا “لا” من دائرة مصر الجديدة وحدها كانو أكثر من سبعمائة. وفرحنا بأنفسنا أننا نمثل ثلث المعارضة، وفرحنا أيضا أن رجلنا الواعد-عبد الناصر- قد فاز رغم لعبتنا. وفرحنا أكثر وأكثر أنهم لم يغيّروا أوراقنا فهم لم يكونوا فى حاجة إلى ذلك، إذْ لا يوجد فرق بين 99.999 %، 99.998% مثلا.

تمنيتُ وأنا أتذكّر كل ذلك، أن يعاد النظر فى مبدأ الاستفتاءات، وفى مبدأ “نعم” و “لا”، وأن يطمئن الناس والحكام -من خلال الممارسة- إلى أن الهامش لا بد أن يتسع فى كل مجال ليصبح متنأ، ليس فقط على صفحات الصحف، وإنما على أرض الواقع.

إلى أين؟

قرأت اليوم (29 مارس) خبر نجاة أحمد أبو الفتح من حادت انقلاب سيارته هو وزوجته الكريمة، كما قرأت شكره الطيب للأطباء والمحافظ، والجميع، أنا لا أعرف الرجل معرفة شخصية، لكن من ذا الذى لا يعرفه من جيلي؟ ألم يكن هو فى “المصري”، وإحسان عبد القدوس فى روزاليوسف ، وأحمد حسين فى “الاشراكية” وحسن البنا فى الحلمية، وفتحى رضوان وزعلوك وسامى داود فى سراداقات الانتخابات فى مصر الجديدة، ألم يكن كل هؤلاء يساهمون فى تشكيل وعينا السياسى والقومى كل يوم. دعوت له ولزوجته بتمام الشفاء.لكننى توقفت عند الصفة التى نُشر بها الخبر، والتى نشر هو بها شكره للمحافظ والأطباء، صفة “الكاتب الصحفي”. لا أعرف ما الذى أدهشنى فى ذلك؟ لم أتصور أن أحمد أبو الفتح يحتاج إلى صفة لاحقة (بالنسبة لى على الأقل). هو أحمد أبو الفتح . نقطة.”. فجأة قفزت إلى ذهنى مقالاته التى كتبها سنة 1953 بعنوان “إلى أين..” تلك المقالات التى بدأت، ثم توقفت، أعنى أوقفت، ثم اختفى “المصري”ضمن ما اختفى آنذاك. كنا شبابا فى ذلك الحين متحمّسين أشد الحماس للحركة المباركة، كنا نعيش الأمل مع كل بيان، وكل قرار، وكل مشروع، لم تمض عدة شهور حتى بدأت ملامح السرية، والتعتيم، والمفاجآت، ويبدو أن أحمد أبو الفتح آنذاك قد التقط وعيَـنا بكل أمانة، فما وظيفة الصحفى إن لم يكن مترجما لنبض الشارع؟ فراح يترجم سؤالنا فى افتتاحيات “المصري” الغراء، وهو يتساءل “إلى أين ؟”. لم يقل الرجل أننا ذاهبون إلى سكة الندامة، أو سكة “اللى يروح ما يرجعشي”، ولم يشككنا أننا ذاهبون إلى “حيث ألقت”، ولكنّه كان يتساءل، مجرد تساؤل، له دلالته طبعا. لكن يبدو أن بوادر الذى جرى بعد ذلك كانت قد ظهرت بدرجة تكفى أن تُسكته، ثم تُسكت الصحيفة التى يرأس تحريها، ثم تسكت الجميع بعد ذلك بالطول والعرض.

من يومها، صار محرما أن يسأل أى واحد، حتى بينه وبينه نفسه “إلى أين. ويبدو أننا ما زلنا نشكو من هذه الظاهرة حتى الآن، ظاهرة “ممنوع التساؤل”، وهو ما ظهر لى بشكل ساخر فى مقالى قبل الأخير، بل إننى اكتشفت أثناء المراجعة أن سؤال أحمد أبو الفتح منذ نصف قرن “إلى أين” قد ورد فى مقالى قبل الأخير-دون أن أدري- حين قلت بالحرف الواحد (الوفد 19 مارس)”..إن حدس الناس العاديين والأدباء والمجانين قد يدلنا أكثر إلى أين نسير”، ولكن لماذا نريد أن نعرف إلى أين نسير، وماذا بعد أن نعرف إنْ لم نشارك؟” منذ مقالات أبو الفتح هذه، وأنا أحمل له دينا فى عنقى هو وإحسان عبد القدوس (الكاتب السياسى لا الروائي). ومع أننى شديد التقصير فى تتبع ما يكتب أستاذنا أبو الفتح حديثا، ربما لعجزى عن متابعة الأسلوب التلغرافى المقطع، إلا هذا لم يمنعنى أن أعتز بشهادته لما أكتب خارج تخصصي، وهى شهادة من أهم ما شجعنى على الاستمرار فى إبداء رأيى أينما أتيحت لى الفرصة، فقد لاحظ سيادته أننى أبدى رأيى بالصفة التى أعتز بها كـ “مواطن مشارك” وليس كطبيب نفسي. فعلّق على مقالٍ ظهر لى فى الوفد منذ أكثر من عشر سنوات بما نقله لى الأخ الزميل الأستاذ الدكتورأحمد عكاشة (بما له من صلة رحم به). قال لى د. أحمد أن الأستاذ أبو الفتح معجب بما أكتب، وأنه يتساءل عن علاقة ذلك بتخصصنا، ويكمل د. عكاشة أنه رد عليه-مازحا أو لامِزا- تفسيرا لذلك بما معناه : أننى إنما أشتغل بالطب النفسى فى وقت فراغي!!!.أدعو الله سبحانه وتعالى أن يتم على أبى الفتح وزوجته الكريمة نعمة الشفاء.

…وعن الوثائق

تفضل الأستاذ سمير غريب رئيس مجلس إدارة دار الكتب والوثائق القومية بأن أرسل لى خطابا رقيقا فيه توضيح وترشيد بشأن ما أشرت إليه فى مقال سابق على هذه الصفحة عن مشروع قانون الوثائق، وإنى إذْ أشكره على تفضله بـإرساله، أفيده أن مقالى هذا بالرغم من العنوان (تسمح لى أشوف وثائق سيادتك) لم يكن خاصا بالوثائق أصلا، ولعله اعتبر الدعابة الساخرة التى وردت فى آخر المقال بمثابة رأى يحتاج للرد والتوضيح فتفضل بإرسال خطابه.

لقد كان العنوان الذى أرسلت به المقال هو”السياسة والقضاء والقدر”، وما أوردت موضوع الوثائق هذا إلا تنبيها إلى أنه كلما زادت السرية، زاد احتمال أن ينقلب القرار السياسي، إلى مفاجأة غير مفهومة، فيصبح قَدَراً غامضا وهو يخرج من موقع تعتيم إلى موقع إلزام، ودمتم. إذن لم تكن إشارتى للوثائق إلا خاتمة عابرة، لكنّ أهل الخبرة غيّروا العنوان، هم أدري، ثم إنى تحفظت ضد الوثقانية حين قلت بالحرف الواحد:”قانون الوثائق الجديد، رغم التأجيل والتردد، إذا تم تمريره، سوف يزيد من مساحة السرية… إلخ”.

 خطاب الأستاذ سمير غريب-رغم كل هذا-له فضل كبير، فهو قد نبّهنى أنه لا يصح أن أتناول، ولو بالإشارة، أمرا إلا بعد دراسته، وقد تفضل سيادته بإرسال كتاب ضخم صدر عن دار الكتب والوثائق، عن تطور التشريع المصرى فى مجال الأرشيف، تأليف يحيى عبد العزيز عمر، وهو يقع فى 661 (بالمراجع والملاحق)، وبديهى أننى لم أتمكن من إتمام قراءته، فاكتفيتُ بأن أبحث فى الفصل الثالث والرابع (بناء على توصية الراسل)، ورجّحت أن المشروع المعنى هو المنشور من صفحة 200 والذى تم إعداه منذ سنة 1996، فإن صحّ ظني، فإن ما قرأته، يبرر خوف المتخوفين. نقرأ معا ما يلى : (ص 200)….تم تعريف الأرشيف العام بأنه “جميع الوثائق التى تنتجها، أو تتلقاها الأشخاص الطبيعية أو المعنوية العامة ” “وتعريف الأرشيف الخاص بأنه “جميع الوثائق التى تنتجها أو تتلقاها الأشخاص الطبيعة أو المعنوية التى تندرج ضمن الأشخاص المعنوية العامة”-وأيضا ص (201) يعرف المشروع الوثيقة بأنها “..أى دعامة أيا كان شكلها أو مادة صنعها ومسجلا عليها بيانات أو معلومات”. بالله عليك يا أستاذ سمير: ألا تعذر الناس (وخاصة الذين يدهم فى النار من الصحفيين الأفاضل) حين يتوقف كثير منهم طويلا وهو يملى النظرفى ألفاظ مثل “جميع”، و:تنتجها أو تتلقاها” و” أى دعامة أيا كان شكلها”ثم” الأشخاص الطبيعية والمعنوية” ثم تقسيم الأشخاص الطبيعية إلى الأشخاص التى هى معنوية عامة، والتى هى ليست معنوية عامة !

 لا أحد يا سيدى يمكن أن يطمئن لمثل هذه التهويمات. لا بد من تعريف إجرائى يفصل بين الوثيقة التاريخية والقرار السياسى أو المالى أو الإداري، بين الأمن القومى والقهر القومي، بين الأشخاص المعنوية العامة، والأشخاص المنزهة عن الخطأ، وليعذرنا الأستاذ سميرحين نتذكر معا هذه النكتة المسماة “سيد قراره”. أليس سببها هو لفظ قانونى ملتبس سمح أن يكون الخصم هو الحكم؟ أليست ألفاظ أخري-قانونية أيضا-هى التى سمحت لهيئة قضايا الحكومة أن توقف نشاط حزب لا شك فى شعبيته، وتغلق صحيفة لا جدال فى رواجها وتعبيرها عن وجهة نظر من تمثله وتصدر له؟. شكرا يا أستاذ سمير ولكن لـتعــذرنى وأنا أحترم مَثَــلنـَا الذى يفسر تخوفنا وهو يقول : “إللى يتلسع من الشوربة ينفخ فى الزبادي”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *