الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / العنف‏ ‏الخفى، وهجاء البراءة

العنف‏ ‏الخفى، وهجاء البراءة

نشرت فى الوفد

13-10-2010

 العنف‏ ‏الخفى،  وهجاء البراءة

بين الحين والحين يحضر إلى أحد الصحفيين الشبان، أو تحاورنى إحدى المذيعات الجميلات عن العنف وكيف انتشر بين المصريين مؤخرا، وماذا حدث للمصريين وكلام من هذا، وأرد محذرا من التعميم ومن الاقتصار على العنف الفردى الظاهر دون أنواع أخطر واقسى مما اسميه العنف الخفى، والعنف الجماعى، والعنف المشروع الموثق بقرارات مجلس الأمن، أو المُجاز على الأقل بالفيتو فى مجلس الأمن، وأحول بينى وبين نفسى وأنا أجيب أن “أوسّع القعدة” لأننى أعرف أن الشاب المحرر مطالب بملء أوراقه فى موضوع معين مكلف به من قبل رئيس أو سكرتير التحرير، فألملم نفسى، وأنبهه إلى موقفى وتحذيرى، وأود لو أعتذر،  لكنه يواصل متقبلا أية استجابة تبدأ بالرد على سؤاله، وتسمح لى بإضافة ما أريد، فاستجيب وأنا فى حرج متوسط أمِلاً أن أعينه على تحقيق مهمته.

ألتفت إلى الصحيفة التى يمسك بها الشاب، فتطل علىّ وجوه الرؤساء والملوك والعظماء والقادة وهم يبتسمون ابتسامات كنت أعدها من قبل من باب قلْ “تشيز” (جبن cheese ) حتى تظهر أسنانك فى ضحكة دبلوماسية تقوم باللازم (لا أعرف تحديدا ما هو اللازم) لكننى أكتشف هذه المرة أنها ابتسامات ليست بالضرورة دبلوماسية، ابتسامات فيها براءة تبدوا مسالمة (ولا أقول الكلمة التى خطرت لى)، وأتذكر موقفى من رفض أية براءة  قاتلة سامة، حتى كتبت فى البراءة قصيدة هجاء رفضها كل من استمع لها، وأشير إليها فى الحديث التمهيدى مع الشاب المحرر وأنا أعلق على الصورة فى الصحيفة التى يحملها، هذه القصيدة لم أنشرها لأن كل من أسمعتها له ممن يتغزلون فى براءة الأطفال رفضها ورفضى. تحضرنى تلك البراءة السامة من ابتسامة السيدة كلينتون التى يظهر مثلها على وجوه بعض رجال السلطة الفلسطينية وغيرهم مع الفارق، أنا بصراحة أحذر ابتسامة هذه السيدة أكثر مما كنت أرفض خبث ضحكة الست كوندى (كوندا ليزا رايس) وأتحمل فشخ ضب السيد دبليو بشو البلهاء، أكثر من ترحيبى بخيث استظراف السيد أوباما الأخبث، وأسأل الشاب إن كان قد تابع نقد الفيلم الذى عرى الست كوندى فى مهرجان الاسماعيلية منذ أيام، ويعتذر خجلا وكأنه لا يعرف بلدا اسمها الاسماعيلية ناهيك عن أن هناك مهرجان، فما بالك بفيلم تعرية الست كوندى، فكيف لى بالله عليكم أن أوصل له رفضى لابتسامة السيدة كلينتون وما يصلنى منها هى ورجل السلطة، أعود للشاب أبسط له الموضوع فأسأله ماذا يقرأ فى وجه السيدة كلينتون، فيجيب “الجمال والبراءة”، فأتكد من حدسى، ويزاداد غيظى ولا أبديه، ويصر الشاب أن أعدد له بعض ما أعنى “بالعنف الخفى”، فأذكر له بعض ذلك مجاملا مضطرا، لكننى أعرج به إلى ما أريد من جديد.

أبدأ أشرح نوعا من العنف الخفى بالإغفال فالإنكار، وهو نوع  ‏هو‏ ‏من أخفى ‏أنواع‏ ‏العنف‏، ‏وقد‏ ‏تمارسه الأم دون قصد بعيد الولادة مباشرة، حين ‏لا‏ ‏تستقبل‏ ‏وليدها‏ ‏بما‏ ‏ينبغى ‏من‏ ‏إقرار‏ ‏واعتراف فرعاية‏، ‏فتظل‏ ‏تراه‏ ‏بما‏ ‏تسقطه‏ ‏عليه‏ “‏موضوعا‏ ‏ذاتيا‏ ‏صرفا”، ‏فهى بذلك ‏ ‏تحرم‏ ‏طفلها‏ ‏ ‏ ‏من‏ ‏نمو‏ ‏سليم‏، ‏بما‏ ‏يُـلحق‏ ‏به‏ ‏أسوأ‏ ‏أنواع‏ ‏الإيذاء‏، إذ تحسب أنه ما زال فى رحمها جزءا منها لا يحتاج إلى الاعتراف بالاستقلال، ولعل احتفالية “السبوع” هى حدس شعبى يوطـَّف أساسا لإبلاغ الأم أن من كان بداخلها أصبح بخارجها كيانا مستقلا، وهم يوصلون لها الرسالة من خلال كل حواسها ، وحركتها فى كل أرجاء البيت، ولا يفهم الشاب، فأشرح له كيف  أن بعض البلاد التى استقلت عسكريا، ولم تستقل ثقافيا، ولا اقتصاديا ما زالت فى رحم الوطن المستعمر يمارس معها عنفا أخفى من الاستعمار الصريح ، وأن هذا أخطر لأن الاستعمار العسكرى الصريح، أما الاستعمار الخفى، فهو عنف أخبث، ويبدو على الشاب أن الأمر أصبح أوضح، فأتشجع وأوضح له كيف أن ثم ‏عنفا  بالإنكار‏ الأكثر تبجحا ووقاحة وغطرسة، حين تنكر القوى الطاغية على شعب بأكمله، له تاريخ وأرض وثقافة وعرض ودين ودين، تنكر عليه رسميا وبموافقة ومباركة الشريك والشركاء الأنذل، تنكر حقه فى كل ذلك تحت عناوين أخبث من الاستعمار الصريح، ومن الاحتلال العسكرى، وهى تسمى هذا العنف الاستعمارى المستقر بأسماء رقيقة ملتبسة مثل:  “الاستيطان”، وأحيانا “حل الدولتين”، وأحيانا “تفويت المعونات الإنسانية” أو “قوافل الرحمة”، وخلاص، وكل ذلك يأخذ تشكيلات رومانسية أرفضها ضد كل المتعاطفين معها، تماما مثل رفضى الذى تجلى غصبا عنى فى قصيدة “هجاء البراءة”

أنظر فى وجه الشاب وهو ينتظر أن أشفى غليله ردا على هذه الحادثة أو تلك التى جاء يسأل عنها، لكننى ألمح فيه حب استطلاع  تسحَّب منه غصبا عنه، فأتمادى احتراما له إنسانا طيبا أكثر منه موظفا مطيعا، وأحكى له كيف أنه حتى لو اعترافت الأم بخروج هذا الكائن الجميل من جسدها وانفصالها عنها، فإن ذلك لا يعنى الاستمرار فى إعطائه حقوقه كيانا مستقلا،  وبسرعة أعود للتعليق  على براءة بعض المفاوضين المبتسمين جدا طول الوقت حين تتسع ابتسامتهم إذا ما ذكر تعبير “حل الدولتين”، مع اختلاف يجعل المنظر لمن يعرف علم الطفيليات بمثابة منظر كيانين متعايشين أحدهما هو الكائن الحى الرئيس، وقد علق به كائن طفيلى سمح له بالعيش على فضلات هذا الكائن الأساسى، المصيبة أن الكائن الطفيلى المسمى دولة (إحدى الدولتين) ، يبدو راضيا بهذا الحل منتظرا تحقيقه بفروغ صبر وببرائة طفل ينتظر الرضعة، وهى ليست إلا فضلات الدولة الثانية المتغطرسة المستعبطة معا، وفى نفس الوقت المبتسمة فى براءة ليست فقط لزوم التصوير

وافيق على الشاب وهو يجمع أوراقه ليستأذن يائسا منى، لكننى ألمحه وهو يغادر ويطوى صحيفته تحت إبطه، وقد نظر فى صورة الزعماء فى الصفحة الأولى، وصور المفاوضين فى الصفحة الأخيرة، وأعده أن أرسل له ردا كتابيا بما أراد فى حدود ما أستطيع،  لكنه قبل أن يغادر يعود ويستأذننى أن أرسل له أيضا صورة لقصيدة هجاء البراءة ، فأعده خيرا، ,وأرسلها فعلا، ثم هأنذا أرفقها أيضا بهذا المقال

فعذرا:

-1-

براء‏ ‏ة‏ ‏ممتهنة‏، ‏تنازلت‏ ‏عن‏ ‏حولها‏ ‏والقوة‏ ‏

‏-2-‏

براءة‏  ‏باهتة‏ ‏

قد‏  ‏حال‏ ‏لونها‏ ‏وظلـلت‏ ‏

‏   ‏بالسهو‏ ‏والعمى ‏

‏   ‏أحمالىَ ‏الثقالْ

‏-3 -‏

براءة‏  ‏قاسية‏ ‏

‏  ‏تقتل‏ ‏بالإغفالِ‏ ‏والمسالمهْ‏ْ ‏

‏      ‏وتلصق‏ ‏الجريمه‏ْ ْ‏

‏      ‏بموتىِ ‏اليقظ‏ ‏

‏- 4 -‏

براءة‏  ‏ساكنة‏ ‏

‏  ‏تقطعت‏ ‏أطرافها‏، ‏فساحت‏ ‏الحدود‏ْْ ‏

‏        ‏مائعة‏ٌ ‏مرتجهْ

‏- 5 -‏

براءة‏  ‏زاحفة‏ ‏مبتلة

قد‏ ‏سيبت‏ ‏مقابض‏ ‏الأفكار‏ ‏

براءة‏  ‏سارقة‏ ‏

‏   ‏من‏ ‏فطرتى ‏عبيرها‏ ‏وبعثها‏ ‏

‏- 6 -‏

براءة‏  ‏جبانة‏ ‏غبية‏،…‏وكاذبة‏ ‏

قد‏ ‏لوحت‏ ‏لمثــــلنا‏ ‏

‏  ‏بالجنة‏ ‏الموات‏ ‏والسكينة‏ ‏

‏  ‏فناء‏ ‏ظهرنا‏ ‏بكدحـنا‏ ‏

‏    ‏ومادت‏ ‏السفينة‏ ‏

‏- 7 -‏

‏ ‏براءة‏  ‏مخاتلة‏،‏

‏  ‏وتاجرة

تطل‏ ‏من‏ ‏بسمتها‏ ‏المسطحة‏، ‏

معالم‏ ‏المؤامرة‏ ‏

‏ ‏والصفقة‏ ‏الخفية‏ ‏

‏- 8 -‏

براءة‏  ‏مشلولة‏ ‏

تنتف‏ ‏ريش‏ ‏نورس‏ ‏محلـق‏ ‏معاند‏ ‏

‏ ‏تحشى ‏به‏ ‏الوسادة‏ ‏

‏ ‏تزين‏ ‏القلادة‏ ‏

‏-9‏-

تكاثـر‏ ‏الجراد‏ ‏

جــحـافل‏ ‏البــشـر

‏ ‏كـالــدود‏ ‏والجـــــذور‏ ‏

تغوص‏ ‏فى ‏اشتياق‏ ‏

‏ ‏فى ‏الطين‏ ‏والعفن‏ ‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *