الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / وما زال نجيب محفوظ يعلمنا؟؟ (4)”لا بد من إنجاز المهمة”: نخب الضوء والظلام

وما زال نجيب محفوظ يعلمنا؟؟ (4)”لا بد من إنجاز المهمة”: نخب الضوء والظلام

الوفد

11-01-2012

وما زال نجيب محفوظ يعلمنا؟؟ (4)

“لا بد من إنجاز المهمة”: نخب الضوء والظلام

مقدمة:

ليعذرنى القارئ وأنا أعيد الإشارة كل مرة للتأكيد على مصدر متن هذا الإبداع الرائع لنجيب محفوظ، لأن عندى ثلاث متون هى مصدر هذا الاستلهام ونحن نتعلم من شيخنا، وقد انتهيت من قراءتى النقدية الباكرة لمتنين هما “أصداء السيرة الذاتية”، (أصداء الأصداء: المجلس الأعلى للثقافة 2006)  ثم “أحلام فترة النقاهة” (الشروق: 2010)، أما المتن الثالث، فهو تدريبات شيخى لاستعادة قدرته على الكتابة، وهى التى أواصل قراءتها صفحة صفحة حاليا كل خميس فى موقعي، ولا أعرف متى تنتهى، فهى تربوا على الألف صفحة.

المهم:  بعد المحاولات الأولى التى تم نشرها هنا فى الوفد أساسا، فضلت تثبيت المنهج الذى يمكن أن ألتزم به لمن يريد أن يحسن تتبع هذه السلسلة التى يمكن أن تطول على مدى أشهر مئوية شيخنا الغالى، ذلك أننى:

أولا: سوف أبدأ بالإشارة إلى المصدر فيما بين هذه المصادر الثلاثة حتى لا تختلط الأمور، فبالرغم – مثلا- من أن النص اليوم هو “حلم” إلا أنه ليس من “أحلام فترة النقاهة” وإنما من “أصداء السيرة الذاتية”.

ثانيا: ثم إنى سوف أتبع ذلك بإثبات نص الفقرة (أو أكثر) التى اخترتها لنتعلم منها الآن ما كتبه شيخنا من سنين،

ثالثا: وبعد ذلك سوف أثبت قراءتى النقدية الباكرة منذ سنوات، بأقل قدر من التعديل والتصحيح.

وأخيرا: سوف أختم بما تيسر لى من تحديث نقدى مناسب للأحوال الجارية يعلن حدس النص أو النص والنقد أحيانا، وكيف يمكن أن يقرأ المبدع أحوالنا قبل حدوثها، كما قال لى يوسف إدريس يوما، إن المبدع مثل “الناضورجى” الذى يجلس أعلى سارى الباخرة، وهو يمسك بمنظاره أو لا يمسك، ليرقب حركة البحر من حوله، ليخطر رئيس المركب عن أى اقتراب لقرصان، أو تغير فى الجو أو غير ذلك، وهكذا أختم بأن ألحق هذا وذاك بالتحديث الممكن وهو يرتبط أكثر بعنوان هذه السلسلة، “ومازال نجيب محفوظ يعلمنا”، وكيف أن الإبداع ونقده يظل باقيا متجددا يمكن أن نستلهم منه باستمرار ما نحتاجه من كشف ورؤى وإشارات وتوجيهات، تعيننا على المضى قدما لما ينبغى كما ينبغى مستهدين بما  ظهر باكرا فى وعى هذا الناضورجى الرائع.

نص اليوم – كما ذكرت – هو من “أصداء السيرة” وليس من “أحلام النقاهة” برغم أنه “حلم”:

***

الفقرة رقم 64

العنوان “فى ‏الحجرة‏ ‏الواسعة” (1998)

‏””‏فى ‏المنام‏ ‏رأيتنى ‏فى ‏حجرة‏ ‏واسعة‏ ‏عالية‏ ‏السقف‏، ‏خالية‏ ‏من‏ ‏الأثاث‏ ‏عدا‏ ‏مائدة‏ ‏مستديرة‏ ‏فى ‏الوسط‏ ‏حولها‏ ‏كرسيان‏ ‏متقابلان‏، ‏جلست‏ ‏على ‏كرسى ‏وجلس‏ ‏على ‏الآخر‏ ‏صديق‏ ‏حميم‏، ‏وأمام‏ ‏كل‏ ‏منا‏ ‏فنجان‏ ‏قهوة‏، ‏وثمة‏ ‏باب‏ ‏يفضى ‏إلى ‏حجرة‏ ‏أخرى ‏مظلمة‏ ‏جدا‏ ‏لا‏ ‏أدرى ‏شيئا‏ ‏عما‏ ‏بداخلها‏. ‏وقال‏ ‏صديقى: ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏ننجز‏ ‏المهمة‏. ‏فقلت‏ ‏موافقا‏. ‏لابد‏ ‏من‏ ‏إنجازها‏. ‏وفجأة‏ ‏قام‏ ‏صديقى ‏فمضى ‏نحو‏ ‏الحجرة‏ ‏المظلمة‏ ‏واختفى، ‏وتبين‏ ‏لى ‏بعد‏ ‏ذهابه‏ ‏أن‏ ‏القهوة‏ ‏اختفت‏ ‏من‏ ‏فوق‏ ‏المائدة‏ ‏فناديت‏ ‏عليه‏، ‏لم‏ ‏أسمع‏ ‏ردا‏ ‏ولكن‏ ‏ظهر‏ ‏شخص‏ ‏غريب‏ ‏فجلس‏ ‏مكانه‏ ‏وقد‏ ‏لفت‏ ‏انتباهى ‏بعباءته‏ ‏البيضاء‏. ‏ورغم‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أكن‏ ‏أعرفه‏ ‏إلا‏ ‏أننى ‏قلت‏ ‏لنفسى ‏إن‏ ‏وجوده‏ ‏خير‏ ‏من‏ ‏عدمه‏ ‏أما‏ ‏هو‏ ‏فقد‏ ‏وضع‏ ‏أمامه‏ ‏كأسا‏ ‏وكأسا‏ ‏أمامى ‏وقال‏: ‏لنشرب‏ ‏”نخب‏ ‏الضوء‏ ‏والظلام”، ‏فرفعت‏ ‏الكأس‏ ‏لأشرب‏ ‏ولاحت‏ ‏منى ‏التفاتة‏ ‏إلى ‏داخلها‏ ‏فرأيت‏ ‏وجه‏ ‏صديقى ‏الغائب‏ ‏يرنو‏ ‏إلىّ، ‏فارتعشت‏ ‏يدى ‏وقلت‏ ‏للجالس‏ ‏أمامى. “‏لابد‏ ‏من‏ ‏إنجاز‏ ‏المهمة‏.“‏

***

ثانيا: القراءة (النقد الباكر 2006)

….. ‏أفرح‏ ‏لمجرد‏ ‏قراءة‏ ‏البداية‏ “‏فى ‏المنام‏”، ‏ربما‏ ‏لعلاقتى ‏الخاصة‏ ‏بإبداع‏ ‏محفوظ‏ ‏حين‏ ‏يدخل‏ ‏من‏ ‏باب‏ ‏الحلم‏، ‏كما‏ ‏تعلمت‏‏ ‏أثناء‏ ‏قراءتى ‏عمل‏ ‏محفوظ‏ ‏السابق‏ “‏رأيت‏ ‏فيما‏ ‏يرى ‏النائم‏”، بمجرد‏ ‏أن‏ ‏يبدأ‏ ‏الحلم‏ ‏أجد‏ ‏نفسى ‏بين‏ ‏شخوص‏ ‏الداخل‏، فى رحاب ‏الواقع‏ ‏الداخلى أكثر: ‏فى الحلم تنفرط‏ ‏الذات‏ ‏إلى ‏ذواتها‏، ‏وتبدأ‏ ‏الحوارات‏: ‏

هنا‏ ‏نجد‏ ‏أنفسنا‏ ‏أمام‏ “‏حوار‏ ‏المواجهة‏”، الذى يجرى ‏بيقظة‏ ‏متبادلة‏ ‏بين‏ ‏الذوات‏ ‏وبعضها‏، ‏وفنجان‏ ‏القهوة‏ ‏أمام‏ ‏كلٍّ‏، ‏لكن‏- ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏محاولة‏ ‏الاتفاق‏ ‏على ‏المهمة‏ (‏رحلة‏ ‏العمر‏) ‏يختفى ‏أحد‏ ‏المواجهين‏، ‏وأتصور‏ ‏ذلك‏ ‏ترجمة‏ ‏لرحلة‏ ‏الإزاحة‏ ‏الضرورية‏ – مرحليا- ‏لاستمرار‏ ‏مسيرة‏ ‏النمو‏ ‏على ‏مراحل‏، ‏لكن‏ ‏الاستمرار‏ ‏الأحادى ‏بلا‏ ‏مواجهة‏ ‏وبلا‏ ‏حوار‏- ‏بعد‏ ‏إزاحة تبدو هادئة للذات‏ ‏الأخرى – ‏هو‏ ‏وهم‏ ‏ضد‏ ‏طبيعة‏ ‏نمو النفس البشرية‏، ‏إذ لا بد من التعدد للتشكل والجدل، وهنا يحضر المبدع ذاتا أخرى تمثل محورا آخر مختلفا نوعيا كما فد يشير إلى ذلك استبدال ‏فنجانىْ ‏القهوة‏، ‏بكأسين‏، ‏ويتعمق‏ ‏الحوار‏ ‏ويتحدد‏ ‏لتصبح‏ ‏”المهمة”‏ ‏أقل‏ ‏غموضا‏ ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏أصرح‏ ‏نوابية‏، “‏نخب‏ ‏الضوء‏ ‏والظلام‏”.‏

هكذا أصبحت‏ ‏المواجهة‏ ‏جدلا‏ ‏خلاقا‏ ‏يعترف‏ ‏بحق‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏المتحاورين‏ ‏بنصيبه‏ ‏من‏ ‏الظلام‏ ‏والضوء‏ ‏معا، لا يختص أحدهما بالضوء، والآخر بالظلام، فيشربان ‏ ‏نخبهما‏ ‏معا‏، ‏وإذ‏ ‏يتمادى ‏الجدل‏، تزداد الحاجة إلى استمرار الحوار.

 ‏هذا‏ ‏الجدل‏ ‏الحيوى ‏الداخلى ‏هو‏ ‏الذى ‏يحقق‏ ‏التكامل‏، فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏الصراع‏ ‏التناقضى الاستقطابى ‏لايحل‏ ‏إلا‏ ‏بإلغاء‏ ‏أحد‏ ‏شقيه‏، ‏أو‏ ‏اللجوء‏ ‏إلى ‏تسوية‏ ‏ساكنة‏، ‏توقف‏ ‏النمو‏ ‏والحركة‏ ‏معا‏، وهو جدل لا ينفصل عن جدل الواقع الخارجى بشكل أو بآخر.

هكذا ‏قرأت‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الحلم‏ ‏أن‏ ‏نجاح‏ ‏طرفى ‏المواجهة‏ ‏فى ‏مواصلة‏ ‏الجدل‏ ‏دون‏ ‏إلغاء‏ ‏أحد‏ ‏الشقين‏ ‏أو‏ ‏الرضا‏ ‏بالتسوية‏ ‏لم‏ ‏يحقق‏ ‏فقط‏ ‏تحمل‏ ‏التناقض‏ ‏بل‏ ‏سمح‏ ‏بالاعتراف‏ ‏بالذوات‏ ‏الأخرى ‏التى ‏كانت‏ ‏قد‏ ‏اختفت‏، ‏فهذا‏ ‏هو‏ ‏الصديق‏ ‏الغائب‏ ‏يظهر‏ ‏فى قاع ‏الوعى (الكأس) ‏من‏ ‏جديد‏،‏ ‏أقرب‏ ‏وأكثر يقظة وحفزا ورقابة،‏ ‏ويصبح‏ ‏إنجاز‏ ‏المهمة‏ ‏واستمرار‏ ‏الحياة‏ ‏إلى ‏غايتها‏ ‏التكاملية‏ ‏أقرب‏ ‏وألزم‏ ‏وأروع‏‏، ‏وكأنه‏ ‏يقول‏ لهما ‏إن‏ ‏إنجاز‏ ‏المهة‏ “‏رحلة‏ ‏الحياة‏”، ‏لايكون‏ ‏بالغاء‏ ‏بعض ذواتنا لصالح الأخرى، ‏وإنما‏ ‏بالجدل معها وبها ‏نحو‏ ‏تكامل‏ ما ـ خاصة وأن ذلك يتم “يتم فى الحجرة الواسعة”، التى تسعنا جميعا لو عرفنا كيف نشرب معا نخب الضوء والظلام.

***

التحديث (2012)

هذا ما كان من نقدى الأول، وقد  لا حظت عموما  أننى فى نقدى لكل من أصداء السيرة، وإلى درجة أكبر لأحلام النقاهة، أننى كنت أقرأ الواقع الداخلى أكثر من الواقع الخارجى، وبالذات فيما يسميه المبدع حلما سواء فى الأصداء أم فى أحلام النقاهة، وذلك باعتبار أن الحلم هوكشف لهذا الواقع الداخلى أكثر، لكن بإعادة النظر الآن يمكن أن ينقلنا التحديث إلى تفسير “إنجاز المهمة” بما هو أقرب إلى المرحلة التى نمر بها اليوم، وليس امتدادا عبر رحلة الحياة نماءً بطولها كلها.

الذى خطر لى حاليا وأنا أستلهم النص من جديد هو أن أقرأ  تعبير “لا بد من إنجاز المهمة”  بتحديد أكثر واقعية، وأقرب حضورا، ولتكن هى مهمة استكمال الانتفاضة إلى ثورة قادرة، وذلك بتحمل مسئولية التفكيك، فالاستمرار لإنجاز الثورة الحقيقية بما يليق باسمها. بذلك نكون قد انتقلنا من الواقع الداخلى الذى يتجلى فى الحلم أساسا، إلى الواقع الخارجى الذى نعيشه حالا بكل مضاعفاته وتحدياته وآلامه وآماله،  فتكون ثورة تؤسس دولة، وهى التى يمكن أن تمهد لحضارة نحن أهلها، إذا أعدنا قراءة الحلم على أنه حدس يعلمنا عمق الحوار الحقيقى، وليس مجرد تبادل الآراء، أو كذب الأحضان، أو جمود التسويات التى قد يخفى تحته اختلافا أعمق وأخبث.

إنجاز المهمة، لتكون ثورة، ليس أمرا سهلا مثاليا خطـّيا، مهما كانت الخطوات الأولى رائعة وضرورية ومتلاحقة تعلن عن القدرة الحاسمة المنطلقة من القوة المخزونة، أما مواصلة هذا الإنجاز فهو يحتاج إلى إعادة النظر وتحمل اختلاف الشركاء، وفهم حركات الدخول والخروج، وإتقان اختلاف استعمال الأدوات، وتحمل الغموض تجنبا للوقوع فى سخف أحلام الطور الواحد، أو الرأى الواحد. إنه جدل “نخب الضوء والظلام”، لا هو ضوء ثابت يمكن السير فيه بخطى ناعمة، ولا هو ظلام دامس دائم نتخبط فيه إلى المجهول،

هل نستطيع؟

حاضر يا شيخنا، سوف نفعلها وسوف يظل وجه الشباب يطل علينا من قاع الوعى يراقبنا ويدفعنا ويحاسبنا ما دمت قد نبهتنا منذ زمن بعيد هكذا أنه : “‏لابد‏ ‏من‏ ‏إنجاز‏ ‏المهمة‏.”‏، ” ونحن نشرب (معا)‏ ‏”نخب‏ ‏الضوء‏ ‏والظلام”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *