الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / وما زال نجيب محفوظ يعلمنا ؟؟(5) “الحركة القادمة و”الوظيفة المرموقة”

وما زال نجيب محفوظ يعلمنا ؟؟(5) “الحركة القادمة و”الوظيفة المرموقة”

الوفد

18-01-2012

وما زال نجيب محفوظ يعلمنا ؟؟(5)

“الحركة القادمة و”الوظيفة المرموقة”

أولاً: الفقرة (‏4) “‏الحركة‏ ‏القادمة”‏ ‏(من الأصداء 1994)

قال‏ ‏برجاء‏ ‏حار‏: ‏جئتك‏ ‏لأنك‏ ‏ملاذى ‏الأول‏ ‏والأخير‏.‏

‏ ‏فقال‏ ‏العجوز‏ ‏باسما‏: ‏هذا‏ ‏يعنى ‏أنك‏ ‏تحمل‏ ‏رجاء‏ ‏جديدا‏.‏

‏ – ‏تقرر‏ ‏نقلى ‏من‏ ‏المحافظة‏ ‏فى ‏الحركة‏ ‏القادمة‏،‏

‏-‏ ألم‏ ‏تقض‏ ‏مدتك‏ ‏القانونية‏ ‏بها؟‏ ‏هذه‏ ‏هى ‏تقاليد‏ ‏وظيفتك‏.‏

فقال‏ ‏بضراعة‏: ‏النقل‏ ‏ضار‏ ‏بى ‏وبأسرتى ‏

‏-‏ أخبرتك‏ ‏بطبيعة‏ ‏عملك‏ ‏منذ‏ ‏أول‏ ‏يوم

‏-‏ الحق‏ ‏أن‏ ‏المحافظة‏ ‏أصبحت‏ ‏وطنا‏ ‏لنا‏ ‏ولا‏ ‏غنى ‏عنه‏.‏

‏ – ‏هذا‏ ‏قول‏ ‏زملائك‏ ‏السابقين‏ ‏واللاحقين‏ ‏وأنت‏ ‏تعلم‏ ‏أن‏ ‏ميعاد‏ ‏النقل‏ ‏لا‏ ‏يتقدم‏ ‏ولا‏ ‏يتأخر‏ ‏

فقال‏ ‏بحسرة‏: ‏يالها‏ ‏من‏ ‏تجربة‏ ‏قاسية‏ ‏

‏- ‏لم‏ ‏لم‏ ‏تهييء‏ ‏نفسك‏ ‏لها‏ ‏وأنت‏ ‏تعلم‏ ‏أنه‏ ‏مصيرلا‏ ‏مفر‏ ‏منه‏!‏

* * *

النقد الباكر (1996)

مرة‏ ‏أخرى ‏يرقص‏ ‏البندول‏ ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الطفولة‏ ‏المتجددة‏ ‏إلى ‏الموت‏ ‏الذى ‏جاء‏ ‏موعده‏ (‏ميعاد‏ ‏النقل‏) ‏الذى ‏لا‏ ‏يتقدم‏ ‏ولا يتأخر‏ (‏‏”فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ” الآية 34 الأعراف) ‏ويندم‏ ‏صاحبنا‏ ‏أنه‏ ‏لم‏ ‏يستعد‏ ‏لهذه النقلة‏ ‏كما‏ ‏ينبغي‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏ندامة‏ ‏تلقائية‏، ‏بل‏ ‏هى ‏إثر لوم‏ ‏من‏ ‏العجوز‏، ‏وتذكـرته له.‏

ولم‏ ‏يظهر‏ ‏لنا‏ ‏أنه‏ ‏تلقى هذا‏ ‏اللوم‏ ‏مؤمنا‏ ‏عليه‏ ‏بلا‏ ‏تحفظ‏، ‏وإلا‏ ‏كانت‏ ‏نصيحة‏ ‏عادية‏ ‏خاوية‏.‏

وعموما‏ ‏فقد‏ ‏بدا‏ ‏لى ‏أن‏ ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الفقرات‏ ‏ليست‏ ‏قادرة‏ ‏على ‏ترجيع‏ ‏الصدى ‏مثل‏ ‏غيرها‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ ‏بدأت‏ ‏أرصد‏ ‏خفوت‏ ‏صوت‏ ‏بعض‏ ‏الفقرات‏، ‏فأحترم‏ ‏المد‏ ‏والجذر‏، ‏ولا‏ ‏أساوى ‏بين‏ ‏الأصوات‏.‏

التحديث (يناير 2012)

لماذا يا ترى ركزتُ فى نقدى الباكر على أن الوظيفة هى الحياة، وأن الحركة القادمة هى الموت؟

هذا المعنى الشائع عن التذكرة بالموت هو الذى وصلنى آنذاك من إعلان موعد النقل إلى دار أخرى (محافظة أخرى)، ربما دفعنى إلى هذا التعجل فى الحكم ما جاء بالمتن من أن ميعاد النقل “لا يتقدم ولا يتأخر”، بكل هذه المباشرة التى تتفق مع الآية الكريمة “…فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ”، وخاصة وقد لحق ذلك مباشرة إِشارة أخرى إلى ضرورة الإعداد لأمر النقل الحتمى هذا: “لم لم تهيىء نفسك لها…” (وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى).

بسبب توقف الناقد – أنا – عند هذا المعنى الظاهر تسطح منه النّص حتى وصفه (مثل الفقرة التالية) بالفتور، الآن اكتشف أنى مخطىء، وأن النقد قد يقزّم النص الواعد الذى قد يحمل أكثر من معنى على أكثر من مستوى قد لا يلتقط منها الناقد إلا مستوى واحد فقط، ثم إنى اكتشفت الآن أيضا أن حذرى الدائم من اختزال نصوص محفوظ بالذات إلى رموز سياسية جاهزة جعلنى أتمادى فى ذلك حتى وجدت نفسى أبالغ بالذهاب إلى الناحية الأخرى،

ماذا لو أن النص كان يعنى الموت كما كان يعنى – فى نفس الوقف- أى وهم بالاستمرار بلا نهاية؟ الخلود فى هذه الدنيا وهم ليس فقط لأنه “كل حى هالك وابن هالك وذو نسب فى الهالكين عظيم”، وإنما لأنه موت ساكن تحت اسم عكسه، حتم التغيير بدوام الحركة هو ضد وهم الثبات والإصرار على البقاء حيث نحن، وهو يكسر غباء محاولة إيقاف عجلة الزمن، هذه القضية كانت من أهم ما شغل نجيب محفوظ على مدى سنين إبداعه منذ “زقاق المدق”، والشيخ رضوان يتساءل فى آخر سطور الرواية “أليس لكل شىء نهاية؟ بلى لكل شىء نهاية، ومعناها بالانجليزية end وتهجيتها “e n d، ثم إن محفوظ ظل يتطور ويتطور حتى بلغ قمة نضجه فى ملحمة الحرافيش، التى تدور كلها، تقريبا حول فكرة “دورات الحياة وضلال الخلود” حول هذه الفكرة، وقد كتبت فى تلك الأطروحة عن “حتم الحركة” وإيقاع التغير فى مقابل وهم الخلود فى هذه الدنيا، وهو ما تجلى بوجه خاص فى فصل “جلال صاحب الجلالة” بنهايته البشعة قتلا بالسم وقد تدلت جثته فى مسقة البهائم بالقرب من التكية.

فى ملحمة “الحرافيش” كانت دورات الحياة النابضة: بمعنى إعادة الولادة من خلال الإيقاع الحيوى هى نبض الحياة، وهو ما عبر عنه محفوظ فى فقرة مستقلة “لو أن شيئا يمكن أن يدوم على حال فلم تتعاقب الفصول؟”ص 197(فقرة 45)

نرجع مرجوعنا إلى ما تجنبته طوال نقدى الباكر لمحفوظ عموما، فأجدنى مضطرا الآن ونحن نتعلم منه بعد حوالى عشرين عاما أن نقرأ من جديد: نفس النص فى إطار الحالة الراهنة.

هل يا ترى كان وهم الخلود عند مبارك وقد أعلنه بأساليب مختلفة فى مناسبات متعددة وارد فى وعى إبداع محفوظ بشكل أو بآخر حين كتب هذا الصدى؟ وهل كان فى قوله أن “النقل ضار بى وبأسرتى” إشارة أيضا إلى ما جرى بعد هذه النقلة الإجبارية الحالية له ولأسرته؟ وهل هناك ربط بين تصريح مبارك فى أول يوم تولى فيه السلطة مقارنا بما يستنتج من تصريحاته الكثيرة، خاصة الأخيرة بأن البقاء على الكرسى أصبح هو حياته؟ هل يا ترى كل هذا هو هو ما جاء فى نص محفوظ  هكذا؟ “لم لم تهيىء نفسك لها وانت تعلم أنه مصير لا مفر منه”، ثم الآن: هل يا ترى وصله فحوى هذا الختام حتى وهو فى محبسه؟

لا أظن

الأرجح أنه مازال أصما وإن تشجع فسمح لصبغة شعره أن تتوارى قليلا، لكنه راح يكرس عماه بالمنظار الشمسى المرآة، وقد وصلتنى الإهانة، ودعوت الله ألا تصل إلى هيئة المحكمة، ويكفيها ما وصلها من استهانة وهو مستلق على السرير دون حاجة طبية (أنا طبيب).

****

ثانيا: الفقرة (‏16 من الأصداء + 1993) “‏الوظيفة المرموقة‏”

أخيرا‏ ‏مثلت‏ ‏بين‏ ‏يدى ‏مدير‏ ‏مكتبه‏، ‏وصلت‏ ‏بفضل‏ ‏اجتهاد‏ ‏مضن‏ ‏وشفاعة‏ ‏الوجهاء‏ ‏المكرمين‏. ‏ألقى ‏نظرة‏ ‏أخيرة‏ ‏على ‏التوصيات‏ ‏التى ‏قدمتها‏ ‏ثم‏ ‏قال‏: ‏لشفاعتك‏ ‏تقدير‏ ‏وأى ‏تقدير‏ ‏ولكن‏ ‏الاختيار‏ ‏هنا‏ ‏يتم‏ ‏بناء‏ ‏على ‏الحق‏ ‏وحده  ‏فقلت‏ ‏برجاء‏:

– ‏إنى ‏على ‏أتم‏ ‏استعداد‏ ‏للاختبار‏،

‏- ‏أرجو‏ ‏لك‏ ‏التوفيق‏ ‏

فسألته‏ ‏بلهفة‏: ‏متى ‏ندعى ‏للامتحان‏‏؟

فتجاهل‏ ‏سؤالى ‏وسألنى: ‏ولماذا‏ ‏هذه‏ ‏الوظيفة‏ ‏بالذات‏ ‏على ‏ما‏ ‏تتطلبه‏ ‏من‏ ‏جهد‏ ‏خارق؟

‏ ‏فقلت‏ ‏باخلاص‏: ‏إنه‏ ‏الحب‏، ‏ولا‏ ‏شىء‏ ‏سواه‏، ‏

فابتسم‏ ‏ولم‏ ‏يعلق‏ ‏

ورجعت‏ ‏وأنا‏ ‏أتذكر‏ ‏قول‏ ‏صديقى ‏الحكيم‏ “‏من‏ ‏ملك‏ ‏الحياة‏ ‏والإرادة‏ ‏فقد‏ ‏ملك‏ ‏كل‏ ‏شىء‏، ‏وأفقر‏ ‏حى  ‏يملك‏ ‏الحياة‏ ‏والإرادة‏”.‏

*****

النقد الباكر (1996)

هل‏ ‏الحياة‏ ‏إرادة‏ ‏؟‏ ‏وكيف‏ ‏يقرر‏ ‏الواحد‏ ‏منا‏، ‏فقيرا‏ ‏أو‏ ‏غنيا‏، ‏أن‏ ‏يملك‏ ‏الحياة‏ ‏أو‏ ‏يمتلك‏ ‏الإرادة؟‏ ‏أو‏ ‏يملك‏ ‏إرادة‏ ‏الحياة؟‏ ‏بدت‏ ‏المسألة‏ ‏أنها‏ ‏ليست‏ “‏إرادة‏ “‏بالمعنى ‏السطحي ‏(‏أنا‏ ‏أريد‏، ‏أنا‏ ‏أقرر‏) ‏بل‏ ‏إنها‏ ‏امتحان‏، ‏يتطلب‏ ‏جهدا‏ ‏خارقا‏، ‏لايخفف‏ ‏منه‏ ‏إلا‏ ‏دافع‏ ‏قوى ‏هو‏ ‏حب‏ ‏الحياة‏، ‏التقدم هنا لنقلة أخرى لحياة أخرى قوامها ‏الحق‏ ‏والعدل‏ ‏وحده‏، ‏ثم‏ ‏خذ عندك هذا التعبير “‏إن‏ ‏أفقر‏ ‏حى ‏يملك‏ ‏الحياة‏ ‏والإرادة”‏، ‏راجع‏ ‏معى: “‏أفقر‏ ‏حى ‏يملك‏ ‏الحياة‏..!!” ‏وهل‏ ‏يوجد‏ ‏حى ‏لايملك‏ ‏الحياة؟‏ ‏‏إذا‏ ‏أمعنا‏ ‏مليا‏ ‏فى “‏يملك‏”، ‏فلربما‏ ‏وصلتنا‏ ‏إشارة‏ ‏ضمنية‏ ‏تقول‏: ‏إن‏ ‏الذى ‏يحيا‏ ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يملك‏ ‏الحياة‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يتنفس‏ ‏أو‏ ‏يتحرك‏ ‏لكنه‏ ‏لا‏ ‏يختار‏، ‏ولا‏ ‏يحب‏،‏

فلكى ‏تنقلب‏ ‏الحياة‏ ‏إلى ‏وظيفة‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏شفاعة‏ ‏حتى ‏يشغلها‏ ‏طالبها‏، ‏رغم‏ ‏ما‏ ‏بها‏ ‏من‏ ‏مشقة‏، ‏فإن‏ ‏ذلك‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏يحبها‏ ‏شاغلها‏، ‏هنا‏ ‏يتدخل‏ ‏عامل‏ ‏جديد‏، ‏حب‏ ‏الحياة‏، ‏الذى ‏يبدو‏ ‏أنه‏ ‏هو‏ ‏هو‏ ‏إرادة‏ ‏الحياة‏، ‏وقد‏ ‏يصل‏ ‏الأمر‏ ‏بنا‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏ذلك‏، ‏أن‏ ‏نتصور‏، ‏أو‏ ‏نصدق‏، ‏أن‏ ‏الاختيار‏ ‏يتم‏ ‏بناء‏ ‏على ‏الحق‏ ‏وحده‏، ‏فمن‏ ‏له‏ ‏حق‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏يحبها‏، ‏وكأنه‏ ‏يخلــقها‏ ‏هو‏، ‏ولا‏ ‏يستسلم‏ ‏لمجرد‏ ‏التواجد‏ ‏فيها‏، ‏فهى ‏الإرادة‏، ‏ولا‏ ‏مشقة‏ ‏بعد‏ ‏هذا‏ ‏الاختيار‏ ‏حتى ‏لو‏ ‏أن‏ ‏المختار‏ ‏هو‏ ‏أفقر‏ ‏حى، ‏لأنه‏ ‏أحبها‏، ‏فأرادها‏، ‏فمَلَكَها‏، ‏وهل‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏فرق‏ ‏بين‏ ‏غنى ‏وفقير‏؟‏ ‏

التحديث (2012)

أبدأ من الآخر

“من ملك الحياة والإرادة فقد ملك كل شىء”

و”أفقر حى يملك الحياة والإرادة”

تخليق الحياة من جديد هو إعادة الولادة  لحياة جديدة، هو الثورة!!، وعلى ذلك:

هل لو رفعنا كلمة “الحياة” من النقد الباكر ووضعنا كلمة “الثورة” يكون النقد مواكبا لما نحن فيه الآن؟ فيصبح هذا النص رساله من محفوظ لنا ينبهنا من خلالها إلى قدراتنا وأنه مهما بلغنا من فقر وحاجة، فإننا يمكن أن نملك الثورة والإرادة. لأن من يملك الثورة والإرادة (وليس الثورة فقط) فقد ملك كل شىء.

هل ننجح فى الاختبار ونملك الإرادة والحياة فتكتمل الثورة؟

حاضر ياعم محفوظ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *