الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / ومازال نجيب محفوظ يعلمنا (10) : لا تستبدلوا قهرا بقهر، “الله يديم دولة حسنك”!!

ومازال نجيب محفوظ يعلمنا (10) : لا تستبدلوا قهرا بقهر، “الله يديم دولة حسنك”!!

نشرت فى الوفد

23-05-2012

تعتعة الوفد

ومازال نجيب محفوظ يعلمنا (10)

لا تستبدلوا قهرا بقهر، “الله يديم دولة حسنك”!!

الدرس الأول:

 لا تستبدلوا احتلالا باحتلال

(من كتابى “فى شرف صحبة نجيب محفوظ” ذكريات وحوارات، نسخة إلكترونية)

اللقاء: يوم الأحد: 13/3/1995

…….

“…..وعاد الحديث مرة أخرى إلى‏ ‏حادث‏ 4 ‏فبراير، وأكمل شيخى شرح كيف قبل النحاس أن يضغط الانجليز على الملك وكأنهم يفرضونه عليه، وأوضح كيف أنهم فى الحقيقة كانوا يعملون لصالحهم، فى حين كان النحاس فى نفس الوقت يقبل لصالح بلده مع وعى كامل بمناورات المحتل وألاعيبه، وأعاد الأستاذ دفاعه ‏عن‏ ‏النحاس‏ ‏باشا‏ ‏دفاعا‏ ‏مجيدا، ‏وقال‏ ‏إنه‏ ‏أنقذ‏ ‏الشرعية، ‏وأنقذ‏ ‏البلد، ‏ورفض‏ ‏المساومة، ‏وتأكد لى من جديد كم كان شيخى يحب النحاس مثلما أحب سعد زغلول، وإن اختلف نوع الحب.

….. ولا يضجر الأستاذ من تكرار استنكار الحادث من أحد السائلين غيرى، ويعيد الأستاذ أن النحاس باشا حين قبل الوزارة، نجح‏ ‏أن‏ ‏يسد‏ ‏الباب‏ ‏أمام‏ ‏ذلك‏ ‏النداء‏ ‏الذى ‏صار‏ ‏يسرى ‏بين‏ ‏الناس‏ ‏يقول:‏ “‏إلى ‏الأمام‏ ‏يا روميل‏”، وكأن ‏ ‏النازى ‏هو القادر أن ينقذنا من الاحتلال، وهذا ضد الموقف الوطنى للوفد والنحاس، وربما كان الملك يؤازر هذا الحل الاستبدالى، احتلال مكان احتلال، وأنه كان يميل إلى أن ينتصر الألمان، ….، قلت‏ ‏للأستاذ‏ ‏إننى ‏فى ‏هذه‏ ‏الفترة‏ ‏كنت‏ ‏أسمع‏ ‏نداءات‏ ‏وأغان مضادة‏ ‏وكأنها‏ ‏معمولة‏ ‏قصدا‏ ‏لتوازن‏ ‏القوى،‏ ‏ففى ‏بلدنا‏ ‏كان‏ ‏الناس‏ ‏يرددون‏” ‏يا‏ ‏هتلر‏ ‏يا‏ ‏بن‏ ‏المرة‏ ‏خليت‏ ‏الجاز‏ ‏بالكسكارة‏ “(‏التذكرة‏)”، ‏يا‏ ‏هتلر‏ ‏يا‏ ا‏بن‏ ‏المجنون‏ ‏خليت‏ ‏الجاز‏ ‏بالكابون”، ‏وكأن‏ ‏هتلر‏ ‏هو‏ ‏الذى ‏ولع‏ ‏فى ‏الأسعار وليس‏ ‏الحرب‏.‏

 ‏ويذكر‏ ‏الأستاذ‏ ‏أغنية‏ ‏ظهرت‏ ‏أيام‏ ‏صدقى ‏باشا‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏أن‏ ‏صدقى ‏مسئول‏ ‏عن‏ ‏الغلاء، ‏وعن‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏للكبريت‏ ‏ثمن‏ ‏أصلا‏ ‏وليس‏ “على البيعة” ‏‏كما‏ ‏كان‏ ‏يُعطى ‏هكذا‏ ‏فوق‏ ‏كل‏ ‏علبة‏ ‏سجائر، ‏تقول‏ ‏الأغنية‏: (‏يدندنها ‏الأستاذ‏).‏

قالت‏ ‏تعالى ‏بـِيتْ،‏ … ‏وادّيك‏ ‏كاسين‏ ‏نبيتْ

صدقى ‏غلـَّى ‏الـكبريتْ،‏

‏يحيا‏ ‏النحاس‏ ‏باشا

وألاحظ نطق ” بـِيتْ ” وليس بيِّت” لضبط النغم والسجع، وأعقب على الحس الشعبى الجميل الذى نجح فى تحقيق هذه الحزمة الرائعة لتحضر فى وعى الأستاذ ‏بين‏ ‏الحب‏ ‏والمزاج‏ ‏والسياسة‏، ‏وكأن‏ ‏النحاس‏ ‏باشا‏ ‏هو‏ ‏المنقذ‏ ‏القادر أن يرحم‏ ‏الناس‏ ‏من‏ ‏الغلاء الذى سبّبه صدقى باشا، ‏وأشعر‏ ‏كم‏ ‏كان‏ ‏رائعا‏ ‏ألا‏ ‏تختزل‏ ‏الوطنية‏ ‏إلى ‏مواقف‏ ‏جادة‏ ‏متزمته‏ ‏فقط،(يحيا النحاس باشا).‏

الدرس الثانى:

إياكم والنكوص ولنتعلم من الخبرة:

(الحلم 73 من أحلام فترة النقاهة:(17/7/2008) “ونقده حلما)

اولا: اللحن (الحلم) الأصل:

“…وجدتنى ‏فى ‏البيت‏ ‏القديم‏ ‏بالعباسية‏، ‏ويبدو‏ ‏أننى ‏كنت‏ ‏متكدر‏ ‏المزاج‏ ‏فلم‏ ‏يسلم‏ ‏من‏ ‏نقدى ‏شئ‏ ‏مثل‏ ‏طلاء‏ ‏الجدران‏ ‏وخشب‏ ‏الأرضية‏ ‏والأثاث‏ ‏حتى ‏جاءنى ‏صوت‏ ‏أمى ‏من‏ ‏أقصى ‏الشقة‏ ‏وهو‏ ‏يقول‏ .. ‏بنبرة‏ ‏باسمة‏.. ‏لطيفة:‏ ‏إنه‏ ‏آن‏ ‏الأوان‏ ‏كى ‏أبحث‏ ‏بنفسى ‏عن‏ ‏شقة‏ ‏جديدة‏ ‏تعجبنى.‏

وانتقلت‏ ‏إلى ‏مكان‏ ‏وزمان‏ ‏آخرين‏ ‏فوجدتنى ‏فى ‏بهو‏ ‏متعدد‏ ‏الحجرات‏ ‏والأشخاص‏، ‏يوحى ‏منظره‏ ‏بأنه‏ ‏مصلحة‏ ‏حكومية‏. ‏وأكد‏ ‏ذلك‏ ‏مجئ‏ ‏زميلى ‏المرحوم‏ ‏ح‏ .‏أ‏ . ‏ليخبرنى ‏بأن‏ ‏الوزير‏ ‏أرسل‏ ‏فى ‏طلبى، ‏وذهبت‏ ‏من‏ ‏فورى ‏إلى ‏حجرة‏ ‏الوزير‏ واستأذنا‏ ‏ودخلت‏. ‏ورأيت‏ ‏الوزير‏ ‏على ‏غير‏ ‏عادته‏ ‏من‏ ‏البشاشة‏ ‏وقال‏ ‏لى ‏أنه‏ ‏علم‏ ‏بنقدى ‏للثورة‏ ‏وزعيمها‏ ‏فساءه‏ ‏ذلك‏ ‏فقلت‏ ‏له‏ ‏إنى ‏أعتبر‏ ‏نفسى ‏متيَّماً‏ ‏بمبادئ‏ ‏الثورة‏ ‏ولم‏ ‏أكن‏ ‏من‏ ‏رافضيها‏ ‏غير‏ ‏أنى ‏تمنيت‏ ‏دائما‏ ‏لها‏ ‏الكمال‏ ‏وتجنب‏ ‏العثرات‏ ‏والنكسات‏.‏

وانتقلت‏ ‏إلى ‏مكان‏ ‏وزمان‏ ‏آخرين‏ ‏فوجدتنى ‏صبيا‏ ‏يتجول‏ ‏فى ‏ميدان‏ ‏بيت‏ ‏القاضى، ‏وجاءنى ‏صديق‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنى ‏يدعونى ‏لحضور‏ ‏حفل‏ ‏زفاف‏ ‏شقيقه‏ ‏الأكبر‏، ‏وقال‏ ‏إن‏ ‏شقيقه‏ ‏دعا‏ ‏سعد‏ ‏زغلول‏ ليشرف الفرح ويباركه وأنه قبل الدعوة ووعد بالحضور. فدهشت دهشة كبرى وقلت له بأن سعد زغلول هو‏ ‏زعيم‏ ‏الأمة‏ ‏فضلا‏ ‏عن‏ ‏أنه‏ ‏اليوم‏ ‏رئيس‏ ‏وزرائها‏.‏ وأنتم ‏لستم‏ ‏من‏ ‏أقربائه‏ ‏ولا‏ ‏من‏ ‏زملائه‏ ‏فى ‏جهاده‏، ‏فقال‏ ‏إن‏ ‏سعد‏ ‏هو‏ ‏زعيم‏ ‏الأمة‏ ‏حقا‏ ‏ويخص‏ ‏البسطاء‏ ‏بوافر‏ ‏الحب‏ ‏وإننى ‏سوف‏ ‏أرى.‏

وفى ‏الميعاد‏ ‏ذهبت‏ ‏إلى ‏الحفل‏ ‏فى ‏درب‏ ‏قرمز‏ ‏ومضى ‏بى ‏صديقى ‏إلى ‏حجرة‏ ‏فرأيت‏ ‏فى ‏الصدر‏ ‏سعد‏ ‏زغلول‏ ‏فى ‏بدلة‏ ‏التشريفة‏ ‏يجلس‏ ‏معه‏ ‏ويتبسط‏ ‏معهما‏ ‏فى ‏الحديث‏ ‏ويشاركهما‏ ‏الضحك‏، ‏بهرت‏ ‏بما‏ ‏رأيت‏ ‏انبهارا‏ ‏استقر‏ ‏فى ‏أعماقى.‏

ثانيا: النقد: تقاسيم على اللحن الأساسى  (بقلم كاتب المقال فى كتابه: “عن طبيعة الحلم والإبداع”  (دار الشروق سنة 2010):

“… تقدمت إليه (إلى سعد زغلول) وأنا فى حال لا أكاد أصدق، قلبى يكاد يطير من صدرى، لا أتصور أن القدر سيسمح لى أن ألمس أطراف أصابعه. لا أعرف كيف لمحنى بين الحضور، والأغرب أننى لا أعرف كيف عرف اسمى حتى نادانى به، وهو يشير إلىّ أن أقدم. رحت أقفز بين الموائد وأنا أقرص نفسى لأتأكد أننى لست فى حلم، وحين وصلت إلى حيث يجلس فوجئت أنه اختفى وحل محله النحاس باشا؛ غمرتنى فرحة أخرى فأنا أحب الرجلين، لكن لكل حب طعم مغاير، وما كدت أمد يدى للسلام حتى وجدت يدا غير اليد، فرفعت رأسى فإذا به مكرم عبيد. ما غمرنى هذه المرة هو احترام أكثر منه حب. وهل هناك فرق؟

بعد أن وقف لى يصافحنى وقبل أن تلتقى يدى بيده أحسست بقبضة تطبق على كتفى، فالتفت ورائى وإذا بضابط على كتفه علامات لامعة كثيرة، ينظر إلىّ  باستعلاء قائلا:

“أنت متَّهم بقتل أمك”،

فزعت لموت أمى أكثر مما فزعت لاتهامى بقتلها.

فتح علىّ الشرطى الزنزانة وأخبرنى أن الرئيس يطلبنى شخصيا، وأنه حدث خطأ فى الأسماء. وأن اسمى من بين المرشحين للوزارة، فظننت بعقل الشرطى الظنون، لكنه أطلق سراحى فعلا، فانطلقت إلى الفضاء كأنى أطير، ولم يخطر على بالى إلا محاولة التمادى فى الخلاص، وكنت قد نسيت تماما رسالة الرئيس والوعد بالوزارة.

فى الشارع، فى بيت القاضى من جديد، وقد عدت صبيا مرة أخرى، عاد صديقى شقيق العريس يقول: أسرع فالزفة بدأت، وما كدنا نعدو بجوار بعضنا لنلحقها حتى سمعنا صفارة  إنذار، وأطفئت الأنوار جميعا، وانبطح بعض الصغار على الأرض، وجلست أنا القرفصاء وعملتها دون خجل.

وحين أطلقت صفارة الأمان، وعادت الأضواء، وجدت الشوارع كلها خالية، لكننى لمحت شبح أمى قادمة من بعيد،  وحين اقتربت منها قالت فى حنان متألم: ألم أقل لك؟! ….؟؟

الدرس الثالث:

الجمال يصنع دولة الحسن، ودولة الحكم

صفحة التدريب رقم 76 كتبها الاستاذ فى (16/4/1995) وهو يتدرب ليستعيد قدرته على الكتابة، وكتبت قراءتى لها فى موقعى من أسبوع واحد فى نشرة “الإنسان والتطور، بتاريخ 16 مايو 2012:

مفتى الديار يعلمنا: أن للحسن “دولة

(جاء ذكر هذه الأغنية بين أغان كثيرة كتبها شيخى لصالح عبد الحى منها : “بستان‏ ‏جمالك” “أمانة يا رايح يمُّـه”، “فيك‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏أرى ‏حسن”، “ليه‏ ‏يا‏ ‏بنفسج”…

القراءة:

هذا الموشح “الله يصون دولة حسنك على الدوام” هو أصلا موشح لـ عبده الحامولى وهو من كلمات مفتى الديار المصرية وقتها الشيخ عبد الرحمن قراعة، ثم غناه بعد ذلك صالح عبد الحى. توقفت طبعا عند المؤلف الشاعر مفتى الديار المصرية، وهو لا يتردد فى أن يكتب هذه الكلمات بكل هذه الحرارة والجمال، وفى نفس الوقت بكل هذه القوة الحنون  حيث يصور جفن الحبيب : “ماضى الحسام من غير قتال”، وتصورت أن ما وصلنا إليه مؤخرا من تصوير رجل الدين بالقسوة والجهامة ، وأحيانا بالتبلد ولا مؤاخذة، هو دخيل على الحس الإيمانى، والتناسق الهارمونى مع الطبيعة الطروب، والجمال الحى. تصورت أنه لو علم وُعاظ الترهيب والوعيد  هذه الأيام تاريخ هؤلاء الفقهاء الأئمة وهم ينظمون الأغانى، إذن لعرف أولادنا وبناتنا ربنا باسلوب أطيب وأقرب، وتعلموا علاقة الإبداع بالفرحة بالجمال بالسياسة

 يقول مفتى الديار (!!!)، ما غناه صالح عبد الحى:

الله يصون دولة حسنك

على الدوام من غير زوال

ويصون فؤادى من جفنك

ماضى الحسام من غير قتال

وهكذا جعل مفتى الديار المصرية .. للحسن دولة، وحين يكون للحسن دولة فمن السهل أن تتخلق الدولة التى تنظم حياة الناس وترعى شؤونهم فيستجيبون لها بالانتماء والعمل والفداء، الأمر الذى يبدو أننا عاجزون عن السير به قدما الآن لإتمام الثورة بما ينبغى كما ينبغي بدلا من التوقف العاجز عند مرحلة الفوضى والتحوصل الذاتى، هل يا ترى يمكن أن نـُرجع هذا العجز الذى نحن فيه الآن إلى أن القبح كان قد تغلغل داخل نفوسنا، نتيجة القهر فالتشويه، بما يفسر توقفنا عند التفكيك والتفسخ: الفردى، والفئوى.

 المأمول هو أن نربط الحسن بالجمال بالثورة بالحب فنكون بشرا، إن الثورة ليست عنفا وصراخا وتحطيما وقلب نظام فحسب، إنها قد تشمل كل هذا لكنها فى النهاية لا تكون ثورة إلا إذا أقامت “بستان جمال الحضارة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *