الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الوفد / أنواع العقول والديمقراطية المضروبة!

أنواع العقول والديمقراطية المضروبة!

نشرت فى الوفد

1-6-2011

أنواع العقول والديمقراطية المضروبة!

هل خطر على بالك من قبل – عزيزى القارئ- أن يكون لك أكثر من عقل؟ وهل لو كان للعقول أنواع فكيف تتخيل أن تكون؟ وما مفهومك عن العقل (وليس بالضرورة تعريفك له)؟

والآن: هل لهذا المفهوم المحتمل – تعدد القول: مستويات الوعى: علاقة بما يجرى فى العالم فى السياسة والاقتصاد والحروب والإعلام؟

فرضت علىّ ممارستى مهنتى أن أواجه هذه الأسئلة ومثلها، ثم فرضت علىّ مسئولية إبداء رأيى للناس فيما يجرى حولى أن أنتبه إلى مثل ذلك وأنا أحاول المتابعة أو المشاركة، ثم توَّج ممارساتى هذه كتاب رائع كتبه “دانيال دينيت” بعنوان: “أنواع العقول”، ينبهنا فيه أن للأحياء قبلنا عقولا ومستويات وهى التى حفظت بقاء من بقى منها بكفاءة رائعة قاومت الانقراض –مثلنا- وانتصرت عليه، وهى هى كامنة داخلنا حالا.

والآن: هل يعرف هذا السر أولئك الذين يملكون أدوات اللعب بعقولنا – الواحد تلو الآخر- هكذا؟

 وهل هم يرسمون سياساتهم نحونا من خلال ذلك؟

 وهل كل هذا له علاقة بالحوار الوطنى الجارى، وبالانتخابات، وبمآل ما يجرى حاليا: إما إلى ثورة وطنية، قومية علينا أن نتحمل مسئوليتها لتكون ثورة بالإبداع والبناء كما وعدت بدايتها، وإما إلى فوضى وخراب يضطرنا إلى تبعية مذلة ممتدة أو جديدة؟

لو صدقنا أن لكل واحد منا أكثر من عقل فأى عقل نستعمله ونحن ننتخب رئيس الدولة، وهل هو هو العقل الذى نقف به بين يدى رب العالمين؟ وهل هو هو العقل الذى نذهب به إلى صناديق الانتخاب، وهل هو هو العقل الذى تتلاعب به القوى المحلية والعالمية: مرة بالتلويح بالحرية، وأخرى بالوعد بالجنة المغلقة على أصحابها.

يبدو أننى أقررت فى مقال الأسبوع الماضى بضرورة قبولنا الديمقراطية المعروضة فى سوق السياسة حاليا، برغم آلياتها العاجزة، نعم رضيت أخيرا، وأمرى إلى الله بما حذرت منه سنين عددا، مع أننى ما زالت مصرا على أن المعروض فى السوق الحالية هو ديمقراطية مضروبة، ومؤقتة، وملتبسة، وأن العيب ليس فى أننا لم ننضج بعد لنحمل مسئولية هذه الديمقراطية، لأن الإشكالة هى إشكالة عامة عبر العالم، وعبر التاريخ، والتاريخ لم ينته كما زعم فوكوياما. حتى الشعوب التى تزعم أنها نضجت وتقدمت وأن لها الحق أن تعلمنا الديمقراطية ولو بالمنح والقروض، مازالت تتعاطى ديمقراطية مضروبة أيضا، لكن بطريقة أخرى، وبأسلوب أحدث واخبث.

 برغم كل ذلك، فإننى مازلت أصر (أو أحلم فأصر) أننا نحن البشر، والمصريون من أعرق تشكيلات هذا النوع من الأحياء المسمى “الإنسان”، فى طريقنا إلى أن نبدع نوعا أصيلا مما قد يسمى “ديمقراطية” أيضا، نوعا يليق بهذا الكائن الرائع، لهذا فقبولنا للمعروض فى السوق حاليا هو قبول اضطرارى مؤقت، تبعا للمثل القائل: “قال إيه رماك على الديمقراطية، قال غباء وقبح وظلم ما هو غير ذلك”، فليكن: دعونا نقبلها ولكن دون تقديس، مثلها مثل كل المبادئ والسلوكيات التى نتصبر بها حتى نلقى وجه الله بالحق الذى يتناسب مع تكريمه لنا – سبحانه، دعونا نتصبر بالديمقراطية حتى تأتينا الحرية التى لا تكتمل إلا عنده تعالى، دعونا نتصبر بالمعلومات الجزئيه حتى تأتينا المعرفة الأشمل، ونتصبر بالعبادة حتى يأتينا اليقيين، ونتصبر بالإسلام حتى يدخل الإيمان فى قلوبنا… (“حتى”-هنا – = “لكَىْ” و”ليس” “إلى أن”)….. الخ.

الذى ألزمنى للعودة لتوضيح بعض ما كتبت هو ما جاءنى مباشرة، أو فى “موقعى على النت”، تعليقا عما جاء فى مقالى الأسبوع الماضى، الذى ورد فيه ما يلى: “…. نتصور أن منهم – من المرشحين لدخول امتحان السلطة – من يستغل عواطف الناس البدائية وغير البدائية، ومن يدغدغ آمالهم وأحلامهم فى الدنيا وأيضا فى الآخرة، وأن من المحتمل ألا تكون كل جهوده خالصة لوجه الله أو الوطن”؟ إلخ

 سألنى بعض الأصدقاء عن ما أقصده بعواطف الناس البدائية وغير البدائية وكيف يمكن لفريق سياسى أو جماعة دينية لها جناح سياسى أن يدغدغ أحلام الناس وآمالهم، فى الدنيا وأيضا فى الآخرة؟ وكيف تكون دغدغة الآمال والأحلام حتى فى الآخرة هى من ضمن ألاعيب السياسة؟ وأنه: إيش أدخل العواطف والجنة فى مشاكل أنابيب البوتاجاز وتصدير الغاز؟  وما هى علاقة موقعة الجمل وانهيار البورصة بالعواطف أو بآمال وأحلام الدنيا والآخرة؟…إلخ

من البديهى أننى لا أستطيع أن أرد تفصيلا على كل ذلك فى كلمة بهذا القصر، وخاصة وأنا مضطر أن أتعامل مع الوعى البشرى على أنه عدة مستويات (أو كما يقول دانيال دينيت صاحب كتاب: أنواع العقول:، “عدة عقول”، لها ترتيب هيراركى تطورى دال).

وبما أن المساحة المسموح بها للمقال محدودة، فسوف أكتفى فى هذه المقدمة بعرض إشارات موجزه عن التساؤلات – التى تحمل الإجابات- التى خطرت لى ردّا على التعقيبات السالفة الذكر، وتحديدا فيما يتعلق بالانتخابات، لحين العودة إليها تفصيلا إذا لزم الأمر.

عدت أتساءل مع السائلين:

 أى عقل (مستوى وعى) من عقولنا هو الذى يختار المرشح الذى يمثلنا، وهو يعد بأن يحقق مصالحنا،

 وأى عقل من عقولنا يتحمل مسئولية اتخاذ قرارات انبعاث الثورات، أو تهدئتها؟

وأى عقل من عقولنا كان يغرينا أن نسستسلم لهذا الظلم طوال عشرات السنين هكذا؟

وهل هذا الذى يضحك علينا الآن وهو يرفع شعار أن “الديمقراطية هى الحل” وهو يصوِّر لنا أنه يبيعنا الحرية “التى هى”، وهو يحاول أن يجعلنا نصدق أنه يسوق العدل الذى عليه ختم مجلس الأمن صاحب الفيتوا إياه،  هل هذا السمسار الشاطر أو التأجر الخبيث يخاطب عقولنا الناضجة التى تحسب مصلحتننا على مستوى الاقتصاد، والإبداع، والحرية الحقيقية، والعدل الإلهى؟ أم أنه يخاطب العقل البدائى أو الطفلى الذى يتصور أن الحرية هى الانطلاق حتى الانفلات، وأن الثورة هى ما يحقق مصالحه وتبعيتنا له، وأننا سنفرح بمديحه لنا حتى نتوقف عندما يريد بنا (وليس “لنا”)؟

ثم هذا الذى يرفع شعار “الإسلام هو الحل” يقش به الأصوات فى صناديق الانتخاب، هل هو يخاطب جمّاع العقول التى تمثل معا الإيمان الإبداعى حامل الأمانة، أم هو يرشو العقل شبه الدينى البدائى الذى يركز أساسا على الانتماء لفصيله من نفس الدين، وعلى احتكار رحمة الله عز وجل وجناته، وعلى الدفاع عن شكل دينه الظاهرى على حساب الابتعاد عن رحمة رب العالمين، والذى يفرح بالنصر المبين حين ينمو إلى علمه زيادة أفراد دينه فردا واحداً أو واحدة، وكأن فى هذا إثبات أكيد أن دينه هو الأصح، خاصة لو كان هذا الواحد الذى دخل دينه هو مفكر أجنبى (خواجة) مهم أو حتى تافه؟ أو حتى لو كانت زوجة طيبة ناشز!!

هذه الإشكالة ليست قاصرة على شعوبنا ذات الموقع المتواضع على سلم التقدم، ذلك لأنه بإعادة النظر فى سوق ديمقراطية الشركات العملاقة المصدِّرة للانقراض الشامل المحرِّكة للإعلام الموجِّه، المسوِّقة لمقاعد الكونجرس والبرلمانات عبر العالم، تحت مسمى “النظام العالمى الجديد” بإعادة النظر فى كل ذلك لابد أن نكتشف أنهم يستعملون نوعا فاسدا أيضا من الديمقراطية، لكنها مضروبة بشكل آخر، لهدف أخر حيث يتم تشويهها بالمال والإعلام المغرض وغسيل المخ الجماعى، الذى يمتد بالإعلام والحروب الاستباقية والديون بشكل سرطانى إلى كل العالم،  حتى يروح الجميع يستعملون نفس الشعار – الديمقراطية – بتقديس أبله يجعلنا لا نتمكن من تعريتها إلا بعض الوقت بمناسبة فيتو لمجلس الأمن هنا أو توصية لصندوق النقد الإقراضى.. هناك…إلخ.

لكن دعونا نعترف أنه برغم الغش والمؤامرات التحتية والفوقية التى تتصف به ديمقراطيتهم، فإنها تسمح بالنقد المتمادى، الذى هو بداية تحقيق الأمل السالف الذكر فى ابتداع ديمقراطيه حقيقية. (انظر مثلا كتاب: الاغتيال الاقتصادى للأمم تأليف جون بركنز 2004 ترجم للعربية 2008)

خلاصة القول مؤقتا: اننا إذْ نضطر إلى تعاطى جرعة ضرورية من هذه الديمقراطية المعروضة، فذلك لا ينبغى أن يكون الفصل الختامى فى مسئوليتنا عن حمل أمانة الوعى والحرية، وعلينا أن نتجرع مرارتها وأن نتحمل مضاعفات غشها وتلوثها بوعى كافٍ  حتى يحفزنا إلى البحث طول الوقت، مع الشرفاء عبر العالم عن ما يحقق تكريم الإنسان إذْ يتمكن من إبداع وسيلة – وبنفس التكنولوجيا – تتيح لنا استعمال كل عقولنا ونحن نختار معا ما نحقق به وجودنا البشرى الخلاق.

المشكلة ليست فى إعادة تشكيل الشرق الأوسط بالتصدق ببضعة عشرات من المليارات لنشترى بها “سندوتشات” ديمقراطية، وإنما هى فى البحث عن إبداع جديد ينقذ البشر عبر العالم من غباء هذه الطغمة الباغية المهددة لوجودنا معا.

الحل هو الحل:

وسوف يحدث، إبداعاً رائعا فى السياسة وغيرها.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *