الرئيسية / مقالات صحفية / مجلة وجهات نظر / الإدمـان … قراءات ومراجعات

الإدمـان … قراءات ومراجعات

نشرت فى وجهات نظر

عدد يوليو 2004

الإدمـان

 … قراءات ومراجعات

قبل المقدمة:

ظاهرة الإدمان هى ظاهرة بيولوجية، نفس اجتماعية، مرتبطة بحركية الوعى (الفردى والجماعى)، وهى مرتبطة  أيضا بالفترة التاريخية التى تظهر فيها، وبالظروف الاجتماعية والاقتصادية التى تميز تلك الفترة، كما أن لها علاقة مباشرة وغير مباشرة بالاستعداد الوراثى (ليس قاصرا على الاستعداد للإدمان بالذات)، ولها دلالات ومعان مختلفة باختلاف الأفراد والثقافات.

 أصبحت الظاهرة تمثل ”ثقافة فرعية“ احتجاجية فى ظاهرها، وإن كانت محصلتها سلبية،  احتجاجية ربما فى مواجهة الاغتراب المتمادى فى الحياة الكمّية التى تروج لها الشركات العملاقة العابرة فوق- المركزية الأعلى، المتجاوزة  للسلطات التقليدية.

الإدمان هو لعب ضار بالوعى البشرى، لعب مُقحَم مصطَنع، يحقق تغيرا نوعيا، مؤقتا، سرعان ما ينقلب إلى احتياج لحوح للتكرار، ومن ثَمَ التمادى فيه على حساب مستويات  الوعى المتخلّق المِنتجْ المتكامل .

ظاهرة الإدمان ليست مرادفة لتعاطى المخدرات، حيث أنها مرتبطة بتعاطى أى مادة تؤثر فى الدماغ فتغير الوعى سواء كانت مخدرة أم مثيرة.

مقدمة‏:‏

ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏تحتاج‏ ‏لأكثر‏ ‏من‏ ‏قراءة‏، وهو أمر يختلف عن تقديمها كميا أو رقميا. ‏قراءة‏ ‏ظاهرة ما‏ ‏ليست‏ ‏بالضرورة‏ ‏مرادفة‏ ‏للبحث‏ ‏فيها‏ ‏بالمناهج‏ ‏العلمية‏ ‏

التقليدية‏ ‏الشائعة‏، ‏فالظواهر‏ ‏حقائق‏ ‏قد تحضر فى الواقع كما تحضر فى وعى الناس بصفتها حقائق تاريخية‏ ‏أو آنية، مما تحتاج معه إلى قراءة موضوعية لها منهجها الخاص.

الممارس الإكلينيكى‏ ‏المتأنى، ‏الذى ‏يهتم‏ ‏بالمتابعة‏ ‏والمعنى ‏مثل‏ ‏اهتمامه‏ ‏بالرصد‏ ‏المستعرض‏، ‏وتحديد‏ ‏نسب‏  ‏التواتر‏، ‏قد‏ ‏يصل‏ ‏إلى ‏حقائق‏ ‏وملاحظات‏،‏من‏ ‏خلال‏ ‏قراءة‏ ‏إكلينيكية‏ ‏مباشرة‏ ‏تكمل‏ (‏ولكنها‏ ‏لا‏ ‏تغنى ‏عن‏) ‏الحقائق‏ ‏الكمية‏ ‏المستعرضة‏.

هذا ولا يبدو للمتابع لظاهرة الإدمان مؤخرا، أن ‏الأبحاث‏ ‏المتعددة‏ ‏والجادة‏، ‏الكمية‏ ‏والوصفية،‏ ‏قد‏ ‏أعانت‏ ‏فى ‏مقاومة‏ ‏الظاهرة‏، ‏أو‏ ‏هدت‏ ‏المسئولين‏ ‏إلى ‏طريق‏ ‏أفضل‏ ‏للحيلولة‏ ‏دون‏ ‏مزيد‏ ‏من‏ ‏انتشار الظاهرة‏.

تعدد معانى الإدمان ودلالاته

ظاهرة الإدمان ليست إشكالا طبيا خالصا. لاينبغى أن يعامل الإدمان كما يعامل مرض طارئ مثل الملاريا أو مرض قائم مثل تليف الكبد ، ولا باعتباره مخالفة للأخلاق ينبغى أن تقوّم لا أكثر،  أو مخالفة للقانون ينبغى أن تجرم، مثل أى جريمة.

للادمان قراءات كثيره منها:

أولا: قراءات مبدئية

سوف‏ ‏أبدأ‏ ‏بعرض‏ ‏بعض‏ ‏الفروض‏ ‏التى ‏تكونت‏ ‏لدينا ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏ (‏خاصة‏ ‏فى ‏السنوات‏ ‏العشرين‏ ‏الأخيرة‏) ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:

‏1- ‏إن‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏ظاهرة‏ ‏مرتبطة‏ ‏بحركية‏ ‏الوعى ‏بقدر‏ ‏ارتباطها‏ ‏بالأوضاع‏ ‏الاجتماعية‏. ‏

‏2- ‏وهى ‏ظاهرة‏ ‏نفسية‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تصاغ‏ ‏باستعمال‏ ‏أبجدية‏ ‏الصحة‏ ‏والمرض‏.

‏3- ‏وهى ‏ظاهرة‏ ‏فيها‏ ‏إشارات‏ ‏يمكن أن تقرأ بما يشير إلى مسار‏ ‏تطور الجنس‏ ‏البشرى (مع تطور حضارته) أو ‏تهديدات‏ ‏انقراضه‏.

‏4- ‏وهى ‏تعلن‏  ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏طبيعة‏ ‏مجتمع‏ ‏بذاته‏‏،‏ وإن كان الإعلان يختلف فى تفاصيله من مجتمع إلى آخر

‏5-‏ كما‏ ‏أنها‏ ‏تشير‏ ‏إلى ‏ماهية‏ ‏الاحتياجات‏ ‏غيرالمشبعة‏ ‏وبعض‏ ‏طرق‏ ‏إشباعها‏ ‏السلبية‏، ‏مع‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى ‏إشباع‏ ‏إيجابى ‏بديل‏.

‏6- ‏وهى أيضا تلزمنا  ‏بضرورة‏ ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏بديل‏ ‏لها‏، ‏بقدر‏ ‏حرصنا‏ ‏على  ‏التخلص‏ ‏منها‏.

ترجمة‏ ‏ما‏ ‏تقوله‏ ‏الظاهرة‏:‏

‏  ‏استطعنا‏ ‏ونحن‏ ‏نحاول‏ ‏الإنصات‏ ‏لما‏ ‏تقوله‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة،‏ ‏أثناء‏ ‏العلاج‏ ‏الممتد‏، ‏والتتبع‏ ‏الطويل،‏ ‏أن‏ ‏نقوم‏ ‏بترجمة‏ ‏مبدئية‏ ‏لبعض‏ ‏المعانى ‏التى ‏بدا‏ ‏لنا‏ ‏أن‏  ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏تعلنها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏انتشارها‏ ‏بهذا‏ ‏التواتر‏، ‏وأنها‏ ‏تؤكدها‏ ‏من‏ ‏خلال‏  ‏إظهارها‏ ‏لكل‏ ‏هذه‏ ‏المقاومة‏ ‏أثناء العلاج، ومن ذلك ‏

‏1- ‏إن‏ ‏الإدمان‏ ‏يعلن‏ ‏الحاجة‏ ‏إلى “‏المعنى”:

ففى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يبدو‏ ‏فيه‏ ‏المدمن‏ “‏هاربا‏ ‏من‏ ….”  ‏نتبين‏ ‏أنه‏ “‏هارب‏ ‏إلى …”…..

(أ) هارب‏ “من” التهميش فى الاغتراب “إلى” غموض الضياع‏ (‏مثلا‏)‏.

(ب) هارب‏ “من” الإهمال والإنكار، “إلى” الكذب الكيمائى المغلف باللذة.

(جـ) هارب “من” “اللامعنى” ‏”إلى” ‏حذف‏ ‏أو‏  ‏إنكار‏ الجدوى،  ‏أو ‏نفى ‏احتمال وجود معنى من الأساس.

‏ (ء) ‏هارب من تشتت الوعى وتعدد الأسياد والسلطات المتناوبة عليه،  إلى أوهام‏ ‏التماسك‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏تعتيمه‏ ‏لمستويات الوعى معا، ‏حتى تبدو واحدا وهى لا شئ.

‏2- ‏كما‏ ‏يعلن‏ ‏الإفتقار‏ ‏إلى ‏الفكرة‏ ‏المحورية‏ الشخصية. ‏(المشروع الذاتى الوجودى – اللاشعورى عادة)‏:‏

‏ ‏ومع‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏القضية‏ ‏ليست‏ ‏خاصة‏ ‏بالمدمن وحده‏، ‏بل‏ ‏هى ‏متضمنه‏ ‏فى ‏نوع‏ ‏سائد‏ ‏من‏ ‏الحياة‏ ‏المعاصرة‏، ‏المجزأة‏ ‏والمغتربة‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏المدمن‏:‏

ا‏-  ‏يكاد‏ ‏يدرك‏ ‏هذا‏ ‏النقص‏  ‏ويرفضه‏،‏ (تحت الشعور وليس مثل الشخص العادى فى “اللاشعور”)

ب‏-  ‏ثم‏ ‏هو:‏ ‏ما‏ ‏يكاد‏ ‏يهم‏ ‏بالبحث‏ ‏عنه، حتى ‏يجهض احتمال العثور عليه أو تخليقه أصلا، فيرفضه قبل أن يبدأ تشكيله.

جـ‏ – ‏فهو يرتد‏ ‏أكثر‏ ‏خواء‏ ‏وأبعد‏ ‏عن‏ ‏الغائية‏ ‏المحورية‏ ‏الضامة‏، ‏فى ‏وجود‏ ‏متصلب‏ ‏بارد.

ء‏- ‏فيلجأ‏ ‏إلى ‏ملًء‏ ‏خوائه‏  ‏بهذه‏ ‏الكيمياء‏ ‏الطبيعية‏ ‏أو‏ ‏المصنَّعة‏.

هـ‏ – ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏: ‏هو‏ ‏يحرك‏ ‏جموده‏ ‏بهذه‏ ‏القلقلة‏  ‏الكيميائية‏ ‏المباشرة‏.

و‏- ‏وهو‏ ‏بلجوئه‏ ‏إلى ‏هذا‏ ‏الملء‏ ‏الزائف‏، ‏وإلى ‏التحريك‏  ‏المفتعل‏ ‏يحقق‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التقارب‏ ‏بين‏ ‏بعضه‏ ‏وبعضه‏،  ‏وبالتالى ‏يحقق‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التقارب‏ ‏بين‏ ‏بعض‏ ‏ذاته‏، ‏وبين‏ ‏ذوات‏ ‏من‏ ‏حوله‏ ‏الذين‏ ‏أسقطُ‏ ‏بُعوضه‏ ‏عليها‏، ‏فالتقارب‏ ‏فى ‏الداخل‏  ‏له‏ ‏ما‏ ‏يقابله‏ ‏من‏ ‏شبه‏ ‏تقارب‏ ‏فى ‏الخارج‏ ( ‏مع‏ ‏ملاحظة‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يقترب فعلاً من أخرين، إنه لا يقترب‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏نفسه‏ ‏ومن أبعاضها‏، ‏أو‏ ‏تعددها‏، ‏فى ‏إسقاط‏ ‏خفى‏)‏.

ز‏- ‏لكنه‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يفقد‏ ‏التوجه‏ ‏المحورى نحو ذاته المفروض أنها تتشكل بتوجهه الخلاّق، وذلك  ‏نظرا‏ ‏لعجزه‏ ‏عن‏ ‏المثابرة‏، ‏ونتيجة‏ ‏لطبيعة‏ ‏التصنع‏ ‏والافتعال‏ ‏بالكيمياء المثيرة والمفسدة والخادعة فى آن.

المدمن‏ ‏يعلن‏ ‏الافتقار‏ ‏إلى ‏الفكرةالمحورية‏،  ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏يهم‏ ‏بتعويض‏ ‏ذلك‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏يقع‏ ‏فى ‏اتباع‏ ‏أسلوب‏ ‏كيميائى ‏متعجل،‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يقوضها‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏.‏

‏3-‏ والمدمن‏ ‏يعلن الحاجة إلى المخاطرة‏ ‏بالكشف‏:

‏المدمن وهو يعيش فى وعيه الملوث بالكيمياء المقحمة  ينتقل من حالة وعى إلى أخرى بما يسمح له – خصوصا فى البداية – أن يستعيد قدرته على الدهشة، واستقبال العالم، ونفسه، بطزاجة جديدة، الأمر الذى لا يجده فى حالة الوعى العادى إلا أن هذه الطزاجة سرعان ما يثبت أنها أقرب إلى لسعة النار منها إلى نور البهر، لكن يظل الاغراء يتكرر لعل عسى.

( ‏ثم‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يحدث‏ ‏التورط ويتمادى‏):

‏4-‏ والتعاطى (فالإدمان)  يلوّح بإبداع ما:‏‏

فمن‏ ‏خلال‏ ‏الافتقار‏ ‏إلى ‏المعنى، ‏والبدايات‏ ‏المتجهة‏ ‏إلى ‏الفكرة‏ ‏المحورية‏، ‏يلوح‏  ‏له‏ ‏فى ‏مساحة‏ ‏ما‏ ‏من‏ ‏وعى ‏غائر‏ ‏أنه‏ “‏باللعب‏ ‏الكيميائى” ‏فى ‏مساحات‏ ‏الوعى ‏المتبادلة‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تجرى ‏محاولة‏ ‏إعادة‏ ‏تنظيم‏ ‏على ‏مستوى ‏أعلى (‏إبداع‏)،  ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحيان‏ ‏يتكشف‏ ‏عن‏ ‏وعد‏ ‏كاذب‏. ‏وإن‏ ‏كان‏ ‏فى ‏قليل‏ ‏من‏ ‏الأحيان‏  ‏يصدر‏ ‏عنه‏ ‏إبداع‏ ‏حقيقى ‏فى ‏ظروف‏ ‏خاصة‏ ‏كما‏ ‏يشاع‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏المبدعين‏ ‏أحياناً‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏يندر‏ – ‏إن‏ ‏لم‏ ‏يمتنع‏ ‏نهائيا‏- ‏فى ‏أنواع‏ ‏الإبداع‏ ‏العلمى، ‏والفكرى ‏الممتد‏، ‏الذى ‏يحتاج‏- ‏فى ‏مرحلة‏ ‏الصياغة‏ ‏الختامية‏ – ‏إلى ‏ترابط‏ ‏شديد‏ ‏الإحكا‏م،  ‏ومثابرة‏ ‏طويلة‏ ‏المدى، ‏لا‏ ‏يصلح‏ ‏معها‏ – بل‏  ‏يفسدها‏- أى ‏تحريك‏ ‏صناعى ‏مفتعل‏.

‏5-‏ كما‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏الإدمان‏ ‏قد‏ ‏يخمد‏ ‏الحاجة‏ (‏الحقيقية‏) ‏إلى ‏الآخر‏، ‏مع‏ ‏إحياء‏ ‏تواصل‏ ‏سطحى ‏بديل‏:

ففى ‏الوقت‏ ‏الذى ‏لاحظنا‏ ‏فيه‏ ما يبدو أنه ‏دفء‏ ‏التواصل‏ ‏بين‏ ‏أفراد‏ ‏هذه‏ ‏الفئة‏ ‏بعضهم‏ ‏ببعض‏، ‏وبينهم‏ ‏وبين‏ ‏غيرهم‏ ‏من‏ ‏المرضى، ‏تبينا‏ ‏قصر‏ ‏عمر‏ ‏هذا‏ ‏الدفء‏ ‏ولا‏‏جدواه‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏النهاية‏، ‏اللهم‏ ‏إلا‏ ‏فى ‏تسهيل‏ ‏التقمص‏ ‏والاعتماد‏ ‏على ‏منطق‏ ‏جماعى ‏يبرر‏ ‏هذا‏ ‏الحل‏ (‏الإدمان‏) ‏على ‏مستوى ‏ما‏ ‏من‏ ‏مستويات‏ ‏الشعور‏.

‏ ‏الحاجة‏ ‏للآخر‏ ‏عند‏ ‏المدمن‏ ‏تتحرك‏ ‏فى ‏إلحاح‏  (‏ربما‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏الشخص‏ ‏العادى‏)، ‏لكنها‏ ‏حركة‏ ‏بدئية‏ ‏على ‏مستوى ‏غير‏ ‏ظاهر‏، ‏وهى ‏حاجة‏ ‏حقيقية‏ ‏عارية‏ ‏ملحة‏ ‏عادة‏، ‏ثم‏ ‏إنها‏ ‏تعلن‏ ‏أهم‏ ‏شروطها‏ ‏وهى ‏أن‏ ‏يكون‏  ‏التواصل‏ ‏حقيقيا‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏ (!!!).‏

ورغم‏ ‏ظاهر‏ ‏الصدق‏ ‏الفطرى ‏فى ‏هذا‏ ‏الإعلان‏ ‏الذى ‏لمحناه‏ ‏وراء‏ ‏الظاهرة‏، ‏إلا‏ ‏أنه‏ ‏مصاحَبُ‏  ‏بما‏ ‏يشكك‏ ‏فى ‏حقيقة‏ ‏أصالته‏، ‏فالمدمن‏ – ‏مع‏ ‏ذلك‏- ‏لا‏  ‏يتحمل‏ ‏دفع‏ ‏متطلبات‏  ‏هذا‏ ‏النوع‏ ‏من‏ ‏التواصل‏،  ‏وكأنه‏ ‏يريده‏ ‏من‏ ‏الخارج‏ ‏إليه،‏  ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏يسعى ‏هو‏ ‏إلى ‏ذلك‏‏، ‏وهو‏ ‏فى  ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏لا‏ ‏يتراجع‏ ‏أمام‏  ‏الوعى ‏بالصعوبة‏، ‏فيظل‏ ‏الإلحاح‏ ‏يتمادى، ثم يتطور الأمر:

أ‏- ‏فيلجأ‏ ‏إلى ‏هذا‏ “التسهيل‏ ‏الكيميائي‏” ‏الذى ‏يحقق‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏التغافل‏  ‏عن‏ ‏شروط‏ ‏التواصل‏، ‏وبالتالى ‏هو‏  ‏يحقق‏ ‏تسهيلا‏  ‏للإندفاعة‏ ‏نحو‏ ‏الآخر‏، ‏وبذلك‏ ‏هو‏ ‏يكسر‏ ‏الوحدة‏ (‏ظاهريا‏) ‏فى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏الذى ‏يخفف‏ ‏من‏ ‏غلواء‏ ‏الحقيقة‏.

‏‏لكن‏ ‏ذلك‏ ‏كله‏ ‏أو‏ ‏أغلبه‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏يكشف‏ ‏خواءَه‏ ‏باختبار‏ ‏الواقع‏، ‏وتحديات‏ ‏المثابرة‏،  ‏بمعنى ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏العلاقات‏ ‏الحميمة‏ ‏تظل‏ ‏كذلك‏ ‏وهى ‏تورى  ‏انتماء‏  ‏سهلا‏ ‏غير‏ ‏مكلف‏، ‏ولكنها ‏تتساقط‏ ‏بسرعة‏ ‏هائلة‏ ‏تحت‏ ‏اختبارات‏ ‏الواقع‏، ‏وتصاعد‏ ‏المسئولية‏.

ب- ثم‏ ‏إن‏ ‏نوعا‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الحل‏ ‏يطرحه‏ ‏المخدر‏ ‏على ‏من‏ ‏تلح‏ ‏عليه‏ ‏حاجة‏ ‏التواصل‏ ‏هذه‏، ‏وهو‏ ‏حل‏ ‏الاستغناء‏، ‏وتفسير‏ ‏ذلك‏ ‏المحتمل ‏هو‏ ‏أنه‏  ‏بعد‏ ‏تعتعة‏ ‏ذوات‏  ‏الداخل،‏ ‏تتاح‏ ‏فرصة الرى ‏الذاتى‏ (‏كله‏ ‏يدلع‏ ‏نفسه‏ !!!) ‏دون‏  ‏حاجة‏ ‏إلى ‏آخر‏ ‏خارجى‏!!! ‏

‏6- ‏والإدمان‏ ‏يلوح‏ ‏بتدين‏ ‏كيميائى، ‏ويعد‏ ‏بجنة‏ ‏أقرب‏:  ‏

‏ ‏لاحظنا‏ ‏أن‏ ‏المدمن‏ ‏قد‏ ‏يظهر‏ ‏من‏ ‏الطقوس‏  ‏والولاء‏ ‏العقائدى ‏لموقفه‏ ‏من‏ ‏الإدمان‏ ( ‏وثلة‏ ‏الإدمان‏) ‏ما‏ ‏أثار‏ ‏عندنا‏ ‏فكرة‏ ‏أن‏ ‏الإدمان‏ ‏قد‏ ‏يقوم‏ ‏بدور‏ ‏المكافئ‏ ‏لما‏ ‏هو تدين‏ ‏سلبى ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏أسميناه‏ ‏بالتدين‏ ‏الكيميائى، ‏وتكملة‏ ‏لهذا‏ ‏الفرض‏ ‏وجدنا‏ ‏أن‏ ‏الجنة‏ ‏التى ‏يعد‏ ‏بها‏ ‏هذا‏ ‏التدين‏ ‏الكيميائى -‏إن‏ ‏صح‏ ‏التعبير‏- ‏هى ‏جنة‏ ‏أقرب‏، ‏تحقق‏ ‏له‏ ‏فورا‏ ‏وعيانيا‏ ‏ما‏ ‏تعد‏ ‏به‏، ‏والمدمن‏ ‏لا‏ ‏يستطيع‏ ‏الانتظار‏ ‏إذ‏ ‏هوعاجز‏ ‏عن‏ ‏التأجيل‏ ‏وبعد‏ ‏النظر‏ ‏عادة‏، ‏وبالتالى: ‏فالآن‏ ‏الجاهز‏ ‏عنده‏ ‏حالا‏  ‏هو‏ ‏القابل‏ ‏للتصديق‏ ‏فورا‏.

‏7- ‏وبعض‏ ‏الإدمان‏ ‏يبدو‏ ‏نوعا‏ ‏من‏ ‏العلاج‏ ‏الذاتى:‏

والعلاج‏ ‏هنا‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏علاجا‏ ‏حقيقيا‏، ‏ولكنه‏ ‏يعنى ‏أساسا‏ ‏تخفيف‏ ‏أو‏ ‏إزالة‏ ‏الألم‏، ‏بما‏ ‏يشمل‏ ‏تحوير‏ ‏الأعراض‏، ‏أو‏ ‏تأكيد‏ ‏التدهور‏، ‏والأبحاث‏ ‏التى ‏أجريت‏ ‏لتحقيق‏ ‏هذا‏ ‏الفرض‏ ‏أظهرت كيف‏ ‏تتميز‏ ‏بعض‏ ‏العقاقير‏ ‏الإدمانية‏ ‏فى ‏التخفيف‏ ‏عن‏ ‏مظاهر‏ ‏أمراض بذاتهاً‏ ، ‏وإن‏ ‏كانت‏ ‏خبرتنا‏ ‏لا‏ ‏تحدد‏ ‏الأمربهذه‏ ‏الصوة‏ ، ‏وإنما‏ ‏وجدنا‏ ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏المواد‏ ‏تعمل‏ ‏كعلاج‏ (‏بالمعنى ‏السابق‏) ‏فى ‏المراحل‏ ‏الإرهاصية‏ ‏المنذرة‏ ‏لمرض‏ ‏بذاته‏، ‏مثل‏ ‏الوعى ‏بالألم‏ ‏النفسى ‏قبيل‏ ‏الاكتئاب‏، ‏أو‏ ‏إدراك‏ ‏التهديد‏ ‏بالتناثر‏ ‏قبيل‏ ‏الفصام‏، ‏وهذه‏ ‏العقاقير‏ ‏تؤجل‏ ‏ظهور‏ ‏المرض‏ ‏القادم‏، ‏بل‏ ‏وقد تحِّول‏ ‏مساره‏ ‏من‏ ‏مشكلة‏ ‏مواجهة‏ ‏مرضية‏ ‏صريحة‏ ‏إلى ‏مشكلة‏ ‏سلوكية‏ ‏سماتية‏ (‏وأحيانا‏ ‏مشكلة‏ ‏قانونية‏ ‏وأخلاقية‏)،  ‏ويثبت‏ ‏هذا‏ ‏الزعم‏ ‏بدراسة‏ ‏التاريخ‏ ‏الأسرى ‏ونوع‏ ‏الاستهداف‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏يثبت‏ ‏بتحديد‏ ‏نوع‏ ‏المعاناة‏ ‏والمرض‏ ‏اللذان‏ ‏يظهران‏ ‏بعد‏ ‏الانقطاع‏،‏ من ناحية أخرى.

‏8- ‏وأحيانا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الإدمان‏ ‏مكافئا‏ ‏للثورة‏ ‏وبديلا‏ ‏عنها‏: ‏

وهو‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏لا‏ ‏يختلف‏ ‏إلا‏ ‏قليلا‏  ‏عن‏ ‏كثير‏ ‏من‏ ‏غائية‏ ‏بعض‏ ‏الذهانات‏ ‏فى ‏بداياتها‏، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الحال‏ ‏هنا‏ ‏يبدو‏ ‏أكثر‏ ‏دلالة‏، ‏وأخطر‏ ‏قياسا‏:‏

ذلك‏ ‏لأن‏ ‏الثورة‏ ‏الزائفة‏ جميعا، ‏التى ‏تتمثل‏ ‏فى ‏الإدمان‏ ‏تتحقق‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏، ‏ليُعلن‏ ‏فشلها‏ ‏المرة‏ ‏تلو‏ ‏المرة‏،  ‏فهى ‏تتحق‏ ‏بشمة‏‏، ‏أو‏ ‏شكة‏‏، ‏يعلن‏ ‏المدمن‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏الرفض‏ ‏والاحتجاج‏ ‏والرغبة‏ ‏فى ‏التغيير‏ ‏والوعد‏ ‏بالتطوير‏ وربما الاستيلاء على السلطة ‏إلى ‏آخر‏ ‏أبجدية‏ ‏أغلب‏ ‏الثورات الحقيقية والزائفة ‏لكن‏ ‏المدمن‏ ‏للأسف‏ – ‏من‏ ‏واقع‏ ‏ما‏ ‏لاحظناه‏ – ‏لا‏ ‏يتعلم‏ ‏من‏ ‏فشله‏ ‏بعد‏ ‏كل‏ ‏شكة‏/ ‏شمة‏ (‏ثورة‏!!)  ‏فهو يتصور‏- ‏فى ‏مستوى ‏ما‏ ‏من‏ ‏شعوره  ‏أن‏ ‏الثورة‏ ‏فشلت‏ ‏لأسباب‏ ‏خارجة‏ ‏عنه‏، ‏وأنها‏ -‏فقط‏- ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏جرعة‏ ‏أكبر‏، ‏أو‏ ‏محاولة‏ ‏متكررة‏ ‏أكثر‏، ‏وهكذا‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏نهاية‏.

‏‏ يجدر بنا هنا أن نميز هذا الزيف الثورى عن ثورة-‏‏المريض‏ ‏النفسى (‏الذهانى ‏خاصة) المحكوم بفشلها منذ البداية. المريض الذهانى  ‏إذ‏ ‏يهم‏ ‏بثورته‏ ‏الزائفة‏، ‏يتمادى – ‏بالأعراض‏ – ‏فى ‏طريقها‏، ‏ويدفع‏ ‏ثمنها‏: ‏عزلةً‏ ‏وألماً‏ ‏وتمزقاً‏ ‏ونفياً‏،  ‏وهو ‏إذ‏ ‏يتبين‏ ‏زيفها‏ ‏بعد‏ ‏حين‏ ‏يكون‏ ‏الظلام‏ ‏قد‏ ‏عم‏ ‏حتى ‏لا‏ ‏يعود‏ ‏يميز‏ ‏ ‏بين‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏ثورة‏ ‏وما‏ ‏هو‏ ‏انقلاب‏ ‏إلى ‏أدنى‏، أما المدمن فهو الثائر المتكرر بلا جدوى، وبلا توقف .‏

‏9- ‏وكثيرا‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏الإدمان‏ ‏توقيفا‏ ‏للزمن‏، ‏وتعميقا‏ ‏للحظة‏، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يكون‏ ‏إلغاء‏ ‏لها‏: ‏

فبقدر‏ ‏ما‏ ‏لاحظنا‏ ‏موقف المدمن‏ ‏العدمى ‏من‏ ‏الزمن‏ ‏كمتغير‏ ‏واعد‏، ‏لاحظنا‏ ‏سهولة‏ ‏معايشته‏ ‏للـ”هنا‏ ‏والآن”‏ ‏فى ‏العلاج‏ ‏الجمعى.

‏  ‏وقد‏ ‏عرفنا من‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏ ‏أن‏ ‏معايشة‏ ‏الهنا‏ ‏والآن‏ ‏عند‏ ‏المدمن‏ ‏ليست‏ ‏مبادرة‏ ‏لاختراق‏ ‏الاغتراب‏ ‏العادى (‏فى ‏الماضى ‏والمستقبل‏) ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏هى‏ ‏إلغاء‏  ‏للخبرة‏ ‏السابقة‏ ‏من‏ ‏ناحية‏، ‏وتهرب‏ ‏من‏ ‏رؤية‏ ‏العواقب‏ ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى‏.

إن هذا‏ ‏يتناقض‏ (‏لدرجة‏ ‏العكس‏) ‏مع‏ ‏المعنى ‏الإيجابى ‏المؤكِّد‏ ‏على ‏ضرورة‏ ‏مواجهة‏ ‏الواقع‏ ‏”الآنى” ‏كما‏ ‏هو‏، ‏وضرورة‏ ‏البدء‏ ‏فى ‏الحركة‏ ‏هنا‏ ‏حالا‏، ‏شريطة‏ ‏أن‏  ‏تكون‏ ‏اللحظة‏ ‏الراهنة‏ ‏هى ‏حلقة‏ ‏واضحة‏ ‏فى ‏التواصل‏ ‏التتابعى ‏الذى ‏يُدْخلها‏ ‏فى ‏كلية‏ ‏المسار‏ ‏الزمنى ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تنسلخ‏ ‏عن‏  ‏نفسها‏ (‏اجترارا‏ ‏أو‏ ‏تأجيلا‏) .

وبألفاظ‏ ‏أخرى: ‏فى ‏حين‏ ‏أن‏ ‏المدمن‏ ‏يعمق‏ “‏الهنا‏ ‏والآن”‏ ‏هربا‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏ببعد‏ ‏الزمن‏، ‏فإن‏ ‏العلاج‏ ‏الجمعى ‏الإيجابى ‏يسعى ‏إلى ‏توليد‏ ‏الماضى ‏والمستقبل‏ ‏معا‏ ‏فى ‏عمق‏ ‏المواجهة‏ ‏الآنية بتعميق “هنا والآن” ثم تفعيل ما يتولد منه حالا.‏

‏10-‏ والمدمن‏ ‏يختصر‏ – ‏بإدمانه‏- رحلة نموّه، إذْ هو  يسير ‏خطى ‏النمو‏ المزعومة من أقصر السبل وبأسرع إيقاع، فإذا به يضل عنها وهو يصر أنها هى ، فلا نضج ولا نمو أصلا. ‏

ذلك‏ ‏أننا‏ ‏لا‏ ‏حظنا‏ ‏أن‏ ‏المدمن‏ ‏لا‏ ‏يستسلم‏ ‏بسهولة‏ ‏لتجمد‏ ‏النمو‏ (‏كما‏ ‏قد‏ ‏يحدث‏ ‏حتى ‏فى ‏الحياة‏ ‏الراتبة‏ ‏العادية‏)، ‏لكنه‏ ‏بدلا‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏يمضى ‏قـُدما‏ ‏فى “‏جدل‏ ‏الاستمرار”‏، ‏يروح‏ ‏يختصر الطريق‏ ‏بتحريك‏ ‏زائف‏ ‏نحو‏ ‏مطلق‏ ‏جاهز‏، ‏فيشعر‏- ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏التحوير‏ ‏الكيميائى، ‏ومع‏ ‏إلغاء‏ ‏الزمن‏ – ‏أنه‏ ‏حقق‏ ‏التكامل‏ ‏فى ‏اللانهائى (‏غاية‏ ‏غايات‏ ‏النمو‏) ‏بهذه‏ ‏القفزة‏ ‏العملاقة‏ ‏الخادعة‏،‏ وهو ساكن فى المحل.

خلاصة الملاحظات الإكلينيكية

‏خلصنا‏ ‏من‏ ‏ ‏الممارسة‏ ‏الاكلينيكية‏، ‏ومحاولات‏ ‏القراءة‏ ‏فيها‏  ‏لمدة‏ ‏سنوات‏، ‏ثم‏ ‏التتبع‏ ‏المثابر، للتأكد من رجاحة الفروض، خلُصْنا‏ ‏إلى ‏ضرورة‏ ‏إعادة‏ ‏النظر‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏برمتها‏، ‏ليس‏ ‏من‏ ‏المنظور‏ ‏الطبى  ‏أساسا‏، ‏إذ‏ ‏ثبت‏ ‏لدينا ‏أنه‏ ‏يأتى ‏فى ‏مقام‏ ‏متأخر‏ ‏حسب‏ ‏ترتيب‏ ‏الدلالات‏، ‏وإنما‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏تطورى ‏وحضارى ‏أشمل‏. ‏ من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏رحنا نراجع ونرتب ‏المواقف‏ ‏المتصلة‏ ‏بالظاهرة‏ ‏حسب‏ ‏شيوع‏ ‏قيمتها‏، ‏ومنطق‏ ‏دلالاتها‏، ‏وحقيقة‏ ‏دورها‏، ‏فكان‏ ‏الجزء‏ ‏التالى  ‏:  ‏

ثانيا‏: ‏مراجعات‏ ‏ومواقف‏ ‏مترتبة‏ ‏

من‏ ‏البديهى ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏تصح‏ ‏هذه‏ ‏الانطباعات‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏فى ‏ذاتها‏، ‏إلا‏ ‏إذا‏ ‏كانت‏ ‏بداية‏ ‏لنشاطات علمية‏ ‏متعددة‏ ‏فى ‏اتجاهات‏ ‏مختلفة‏، ‏وقد‏ ‏تعمدت‏ ‏أن‏ ‏أورد‏ ‏كلا‏ ‏من‏ ‏الملاحظات‏ ‏والانطباعات‏ ‏كرؤوس‏ ‏مواضيع‏ ‏دون‏ ‏تفصيل‏ ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏يتيح‏ ‏المقام‏، ‏بل‏ ‏دون‏ ‏ربط‏ ‏مباشر‏ ‏بالأجزاء‏ ‏التالية‏.

وهذا‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏أطل‏ ‏علينا ‏من‏ ‏خلال‏ ‏الممارسة‏ ‏فيما‏ ‏أسميته‏  “مواقف‏ ” أو‏ ‏مراجعات‏  ‏مواقف‏، ‏أحاول‏ ‏أن‏ ‏أدرج‏ ‏أهمها‏ ‏فيما يلى‏ :‏

‏1- ‏الموقف‏ ‏الطبى

تبدو‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان ‏- برغم النفى المتكرر‏- ‏وكأنها‏ ‏ظاهرة‏ ‏طبية‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏، ‏وبالتالى ‏فهم يزعمون أنها لا ‏تحتاج‏ إلا ‏إلى ‏علاج‏ ‏بواسطة‏ ‏طبيب‏، ‏فى ‏مستشفى ‏عادة‏، ‏يا‏ ‏حبذا‏ ‏لو‏ ‏كان‏ ‏مغلقا‏، ‏وبواسطة‏ ‏عقاقير‏ ‏بديلة‏، ‏أو‏ ‏شافية‏ ..‏الخ‏،‏  ‏وللأسف‏- ‏فقد‏ ‏تبين‏ ‏لنا ‏بالممارسة‏ – ‏أن‏ ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏وقفة‏ ‏مراجعة‏ ‏فى ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏اتجاه‏، ‏ومن‏ ‏بعض‏ ‏ذلك‏: ‏

‏1- ‏إن‏ ‏المدمن‏ ‏عادة‏ ‏ما‏ ‏يقبل‏ ‏على ‏الإدمان‏ ‏توقيا‏ ‏للمرض‏ ‏النفسى ‏القادم‏، ‏أو‏ ‏المهدد‏، ‏أو‏ ‏المنذر‏، ‏بمعنى:‏

‏ ‏إن‏ ‏الإدمان‏ ‏هو‏ ‏إجهاض‏ ‏للمرض‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏إعلانا‏ ‏لمرض‏ ‏بديل‏، ‏فكأن‏ ‏الإدمان‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏ ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏المرض‏ ‏النفسى، ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏مرضا‏ ‏فى ‏ذاته‏  ‏مما‏  ‏ينبغى ‏معه‏ ‏أن‏ ‏يقل‏  ‏الحماس‏ ‏للمبادرة‏ ‏باعتباره‏ ‏مشكلة‏ ‏طبية‏ ‏أساسا؟

‏2- ‏إن‏ ‏الاضطراب‏ ‏الغالب‏  ‏مع‏، ‏وخلف‏، ‏الإدمان‏، ‏هو‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏اضطراب‏ ‏الشخصية‏ (‏دون‏ ‏العصاب‏ ‏أو‏ ‏الذهان‏)، ‏وهذا‏ ‏النوع‏ ‏فى ‏عمقه‏ ‏يعتبر‏ ‏مشكلة‏ ‏اجتماعية‏ (‏وقانونية‏ ‏أحيانا‏) ‏أكثرمنه‏ ‏مشكلة‏ ‏طبية‏، ‏ولا‏ ‏يوجد‏ – ‏إذن‏ – ‏مايبرر‏ ‏غلبة‏ ‏التطبيب‏ ‏على ‏غيره‏ ‏من‏ ‏سبل‏ ‏المعالجة والعلاج.

‏3- ‏إن‏ ‏الإدمان‏ ‏قد‏ ‏يأخذ‏ ‏شكل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏بديل‏ ‏التطبيب‏ ‏مما‏ ‏سمى “‏التداوى‏ ‏الذاتى”، ‏وقد‏ ‏أشرنا‏ ‏حالا‏ ‏إلى  ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏عملية‏ ‏انتقائية‏ ‏يمكن‏ ‏رصدها‏ ‏بالنسبة‏ ‏لاختيارات‏ ‏المدمنين‏ ‏على ‏اختلاف‏ ‏أمراضهم‏ ‏النفسية‏ ‏الكامنة‏ ‏أو‏ ‏الظاهرة‏ ‏على ‏سبيل‏ ‏العلاج‏ ‏الذاتى ‏الانتقائى (‏مثل‏ ‏الهيروين‏ ‏للإكتئاب‏ ‏مثلا‏). ‏إذا‏ ‏بالغنا‏ ‏فى ‏قبول‏ ‏هذا‏ ‏الاحتمال‏ ‏على ‏علاته‏  ‏فإنه‏ ‏يجرنا إلى احتمال اعتبار ‏الإدمان‏ ‏طبا‏ ‏بديلا‏ ‏أكثر‏ ‏منه‏ ‏مرضا‏ ‏بديلا‏.‏

‏4- ‏إن‏ ‏اندفاعات‏ ‏الطب‏ ‏النفسى  ‏المعاصر  ‏نحو‏ ‏ما‏ ‏يسمى ‏بالنموذج‏ ‏الطبى (‏وهو‏ ‏فى ‏الحقيقة‏: ‏النموذج‏ ‏الكيميائى ‏الكمي‏) ‏هو‏ ‏موقف‏ ‏قد‏ ‏يساهم‏ ‏فى ‏نشر‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏، ‏لا‏ ‏فى ‏التقليل‏ ‏منها‏، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏هذا‏ ‏النموذج‏ ‏الطبى ‏المزعموم‏ ‏يؤكد‏ – ‏بشكل‏ ‏مباشر‏ ‏وغير‏ ‏مباشر‏- ‏على ‏ضرورة‏ ‏الإدمان‏ ‏الكيميائى (‏الطبى‏) ‏بوجه‏ ‏خاص‏، ‏وإن‏ ‏اختلفت‏ ‏المسميات‏، ‏وتفاوتت‏ ‏المضاعفات‏‏، ‏يفعل‏ ‏ذلك‏ ‏تحت‏ ‏عناوين‏ ‏العلاجات‏ ‏الطويلة‏ ‏المدى، ‏أو‏ ‏حتى ‏مدى ‏الحياة‏.

وبألفاظ‏ ‏أخرى ‏يمكن‏  ‏القول‏ ‏بأن‏  ‏أكبر‏ ‏مروجى ‏المفاهيم‏ ‏المباشرة‏ ‏الكامنة‏ ‏وراء‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏هوما‏ ‏يسمى ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الدوائى ‏الحديث‏، ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏بما‏ ‏يعطى ‏للناس‏ (‏المرضى !!) ‏من‏ ‏أطنان‏ ‏المؤثرات‏ ‏الكيميائة‏ ‏الطبية‏  ‏على ‏الوعى، ‏أو‏ ‏بما‏ ‏ينفق‏ ‏من‏ ‏مليارات‏ ‏العملة‏ ‏على  ‏التداوى ‏الكيميائى، ‏وإنما‏ ‏أساسا‏ ‏بإشاعة‏ ‏وتأكيد‏ ‏المفهوم‏ ‏الكمى ‏الكيميائى ‏للوجود‏ ‏البشرى (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏للمرض‏ ‏النفسى‏)،‏ مفهوم التسكين والرفاهية حتى ولو سمِّىَ بالاسم الجديد الأكثر التباسا تحسين “نوعية الحياة”.

المواجهة

 ‏فى  ‏مواجهتنا‏ ‏لظاهرة‏ ‏الإدمان‏: نحننحتاج‏  ‏إلى ‏تعديل‏ ‏جذرى ‏لهذا‏ ‏الموقف‏ ‏الطبى، ‏ومن‏ ‏ذلك‏ :‏

‏1- ‏ينبغى ‏تحديد‏ ‏وضع‏ ‏مشكلة‏ ‏الإدمان‏ ‏بالنسبة‏ ‏للممارسة‏ ‏الطبية‏، ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏الطب‏ ‏الدوائى ‏يتناول‏ ‏بعض‏ ‏مضاعفات‏ ‏الإدمان‏ ‏العاجلة‏ ‏دون‏ ‏جوهرها‏ ‏الراسخ‏،‏

‏ ‏2- ينبغى ‏أن‏ ‏نقف‏ ‏موقفا‏ ‏نقديا‏ ‏شاملا‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏الشائعات‏ ‏شبه‏ ‏العلمية‏ ‏التى ‏تقول‏ ‏بأن‏ ‏الحياة‏ ‏العصرية‏، ‏تحتاج‏ ‏أول‏ ما‏ ‏تحتاج‏ ‏إلى ‏مهدئات‏ ‏كيميائية‏ ‏عصرية‏!! ‏

‏3- ومن ثَمَّ على ‏الطبيب‏ ‏ألا‏ ‏يُستدرج‏ ‏إلى ‏مهرجانات‏ ‏الترهيب‏ ‏والترغيب‏ ‏الإعلامية‏ ‏بما‏ ‏تشمل‏ ‏من‏ ‏دعاية‏ ‏ضمنية‏ ‏لمن‏ ‏لم‏ ‏يختبر‏ ‏من‏ ‏المواطنين‏، ‏وبما‏ ‏تقوم‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏تخويف‏ ‏فاشل‏ ‏لمن‏ ‏وقع‏ ‏فى ‏ المستنقع‏ (‏الإدمان)‏ ‏فلم‏ ‏يعد‏ ‏يخيفه‏ ‏شىءأصلاً.‏

4- ‏‏وأخيرا‏، ‏فعلى ‏الطبيب‏ ‏ألا‏ ‏يكتم‏ ‏مشاهداته‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏منتظرا‏ ‏تقييمها‏ ‏كميا‏ ‏بمنهج‏ ‏علمى ‏محدد‏، ‏منهج‏ ‏قد‏ ‏يختزلها‏ ‏أو‏ ‏يشوهها‏، ‏بل‏ ‏إن‏ ‏واجبه‏ ‏الأول‏ ‏أن‏ ‏يقدمها‏ ‏إلى ‏الباحثين‏ ‏المنهجيين‏ – ‏فى ‏صورة‏ ‏فروض‏ ‏عاملة‏، ‏كما‏ ‏يقدمها‏ ‏إلى ‏التربويين‏ ‏والسياسيين‏ ‏فى ‏صورة‏ ‏شهادة‏ ‏من‏ ‏جوف‏ ‏المعمعة‏ ‏ليس‏ ‏له‏ ‏حق‏ ‏كتمانها‏، ‏ولو‏ ‏فى ‏صورتها‏ ‏الفجة‏.‏

‏2-‏ الموقف ‏”البحث‏ ‏علمى‏”

تكاد‏ ‏تكون‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ – ‏مثل‏ ‏الكثير‏ ‏من‏ ‏الظواهر‏  ‏النفسية‏ – ‏غير‏ ‏قابلة‏ ‏للبحث‏ ‏بالطرق‏ ‏التقليدية‏، ‏ولعل‏ ‏هذا‏ ‏من‏ ‏أهم‏ ‏الأسباب‏ ‏التى ‏جعلت‏ ‏نتائج‏ ‏الأبحاث‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏الإسهام‏ ‏الحقيقى ‏فى ‏مواجهة‏ ‏الظاهرة‏، ‏لدرجة‏ ‏ ‏أنها‏ ‏تكاد‏ ‏تصبح‏ ‏سببا‏ ‏فى ‏الانتشار‏، ‏لا‏ ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏محدثة‏ ‏للإدمان‏، ‏ولكن‏ ‏بمعنى ‏أنها‏ ‏خدعت‏ ‏المهتمين‏ ‏بالظاهرة‏ ‏حين‏ ‏وجهت‏ ‏نتائج‏ ‏الأبحاث‏ ‏اهتمام‏ “من‏ ‏يهمه‏ ‏الأمر‏” ‏نحو‏ ‏التركيز‏  ‏على ‏جوانب‏ ‏ثانوية‏، ‏أو‏ ‏القياس‏ ‏بمقاييس‏ ‏ظاهرة‏، ‏لم‏ ‏تسبرغور‏ ‏الظاهرة‏ ، ‏ولا‏ ‏فهمت‏ ‏لغتها‏ ‏أصلا‏.

وأهم‏ ‏ما‏  ‏يوقعنا‏ ‏فيه‏ ‏المنهج‏ ‏البحثى السائد‏ ‏هو‏ ‏ما‏ ‏يلى:‏

‏1- ‏إننا‏ ‏نعتمد‏ ‏على ‏تقييم‏ ‏لفظى ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحوال‏ ‏

‏2- ‏إننا‏ ‏نهتم‏ ‏بالنتائج‏ ‏العاجلة‏، ‏وأحيانا ما‏ ‏نرضى ‏بها طويلا.

‏3- ‏إننا‏ ‏نهتم‏ ‏بالتغيرات‏ ‏والآثار‏ ‏الكمية‏ (‏دون‏، ‏أو‏ ‏لدرجة‏ ‏أقل‏ ‏من‏، ‏النتائج‏ ‏الكيفية‏)‏.

‏4- ‏إننا‏ ‏نركز‏ ‏على ‏اختفاء‏ ‏ظاهرة‏ ‏ما‏ (‏أو‏ ‏أعراض‏ ‏ما‏) ‏دون‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏- ‏فى ‏نفس‏ ‏اللحظة‏- ‏عن‏ ‏مواكبة‏ ‏هذا‏ ‏الاختفاء‏ ‏مع‏ ‏تحريك‏ ‏أعراض‏ ‏وسمات‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏أخفى ‏وأخطر.‏

‏5- ‏إننا‏ ‏نركز‏ ‏تركيزا‏ ‏مبالغا‏ ‏فيه‏  ‏ونحن نبحث‏ ‏عن‏ ‏أسباب‏ ‏الظاهرة‏، (‏السببية‏ ‏الحتمية‏)  ‏وهو‏ ‏أمر‏  ‏ليس‏ ‏هينا‏ ‏مهما‏ ‏بدا‏ ‏الترابط‏ ‏ظاهرا‏ ‏ومؤكدا‏ ‏بين‏ ‏متغير‏ ‏وآخر‏، ‏لأنه‏ ‏مع‏ ‏التعقيد‏  ‏التكثيفى ‏للظاهرة‏ ‏البشرية‏ ‏يكاد‏ ‏يستحيل‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏الشخصية‏ ‏واضطرابها‏ ‏تحديد‏ ‏السبب‏ ‏أوالأسباب‏ ‏التى ‏أدت‏ ‏إلى ‏هذا‏  ‏الانحراف‏ ‏أوذاك‏ ‏السلوك‏، ‏وكل‏ ‏ما‏ ‏يمكن‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏  دون‏ ‏يقين‏ ‏فى ‏أغلب‏ ‏الأحيان‏- ‏هو‏ ‏تزامن‏ ‏أو‏ ‏تتابع‏ ‏أ‏‏و‏ ‏ترابط‏ ‏متغيرين‏ ‏بدرجة‏ ‏ما.‏‏

‏ ‏وحتى ‏يقوم‏  ‏نشاط‏ ‏البحث‏ ‏العلمى، ‏فى ‏بلدنا‏ ‏هذا‏، ‏فى ‏وقتنا‏ ‏هذا‏، ‏بما‏ ‏نتوقع‏ ‏منه‏ ‏فى ‏الإسهام‏ ‏فى ‏توجيه‏ ‏مسارنا‏ ‏ومعالجة‏ ‏صعوباتنا‏  ‏بالنسبة‏ ‏لظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏خاصة‏، ‏لا‏ ‏بد‏ ‏وأن‏ ‏نراعى ‏الاختلاف‏ ‏الجوهرى ‏بين‏ ‏ظهور‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏فى ‏مجتمعاتنا‏، ‏وبين‏ ‏ظهورها‏ ‏فى ‏مجتمعات‏ ‏أخرى ‏مختلفة‏، ‏وأشير‏ ‏هنا‏ ‏إلى ‏بعض‏ ‏التنبيهات‏ ‏الواجب‏ ‏الالتفات‏ ‏إليها‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏الصدد‏:‏

‏1) ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏يقتصر ‏النشاط‏ ‏البحثى ‏على ‏نسخ‏ ‏المنهج‏ ‏الشائع‏ ‏والمتاح‏، ‏لمجرد‏ ‏أنه‏ ‏محكم‏  ‏أو‏ ‏ممكن‏،‏

‏2) ‏كما‏ ‏لا‏ ‏ينبغى ‏أن‏ ‏تقرأ‏ ‏النتائج‏ ‏قراءة‏ ‏تعلن‏  ‏ترابطا‏  ‏ما‏ ‏بين‏ ‏متغير‏ ‏ومتغير‏، ‏فهذه‏ ‏هى ‏أبجدية‏ ‏المعلومات‏ ‏الأساسية‏ ‏للظاهرة‏ ‏المعنية‏، ‏المطلوب هو‏ ‏أن‏ ‏نحسن‏ ‏صياغة‏“جملة‏ ‏مفيدة‏” ‏من‏ ‏هذه‏ ‏الأبجدية‏، ‏وهذه‏ ‏الجملة‏ ‏المفيدة‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تتكون‏ ‏إلا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏وعى ‏بشرى ‏موضوعى ‏أمين‏ ‏مبدع‏ ‏مهتم.

‏3) ‏البحث‏ ‏العلمى ‏عامة‏، ‏وفى ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏خاصة‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏باحثين‏ ‏أخلاقيين‏ ‏سياسيين‏ ‏فى ‏المقام‏ ‏الأول‏، ‏وهذا‏ ‏لا‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏الإشاعة‏  ‏شبه‏ ‏المنهجية‏ ‏التى ‏تؤكد‏ ‏على “‏حياد‏ ‏الباحث”‏، ‏وانفصال‏ ‏ذاته‏ ‏وتحيزاته‏ ‏عن‏ ‏موضوع‏ ‏البحث‏،  ‏فالمطلوب‏ ‏من‏ ‏الباحث‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏صاحب‏ ‏موقف‏ ‏يرصد‏ ‏به‏ ‏تحيزاته‏ ‏ويخفف‏ ‏منها‏، ‏لا‏ينكرها ‏أو‏ ‏يتنكر‏ ‏لها.

‏4) ‏لا‏بد‏ ‏إذن‏ ‏من‏  ‏تنشئة‏ ‏باحثين‏ ‏على ‏وعى ‏سياسى (‏بالمعنى ‏الأشمل‏ ‏للكلمة‏)، ‏وبالتزام‏ ‏أخلاقى ‏يجعلهم‏ ‏مؤرقين‏ ‏شخصيا‏ – ‏إذ‏ ‏يواجهون‏ ‏الظاهرة‏- ‏تقشفا‏ ‏حضاريا‏، ‏وبانتماء‏ ‏إيمانى ‏يسمح‏ ‏بالإبداع‏ ‏ويحدد‏ ‏أولويات‏  ‏ومستويات‏ ‏التوافق‏ ‏بحركية‏ ‏دائبة‏.

‏5) من‏ ‏خلال‏ ‏مثل‏ ‏هؤلاء‏ ‏الباحثين‏ ‏سوف‏ ‏تتخلق‏ ‏مناهج‏ ‏جديدة‏ ‏للبحث‏ ‏العلمى، ‏لا‏ ‏تستبعد‏ ‏الانطباعات‏ ‏الذاتية‏ (‏ومنها‏ ‏الإكلينيكية‏) ‏ولكنها‏ ‏تضعها‏ ‏فى ‏موضعها‏ ‏المناسب‏ ‏فى ‏سياق‏ ‏الجهاد‏ ‏المعرفى ‏الأكبر‏، ‏ويتم‏ ‏تقييم‏ ‏المصداقية‏  ‏من‏ ‏خلال‏ ‏مصداقية‏ ‏الباحث‏ ‏والأداة،‏ ‏ليس‏ ‏فقط‏ ‏فى ‏مجال‏ ‏البحث‏ ‏المحدود‏، ‏وإنما‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏أنواع‏ ‏وجودهم‏ ‏الإنسانى.‏

‏6) ‏كل‏ ‏ذلك‏ ‏يمكن‏ ‏أن يسمح‏ ‏لنا‏ ‏باستلهام‏ ‏فروض‏ ‏جديدة‏، ‏نابعة‏ ‏عادة‏ من ‏الممارسة‏ ‏الإكلينيكية‏، ‏ومن‏ ‏الظواهر‏ ‏الاجتماعية‏ ‏والسياسية‏ ‏والدينية‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏فروض‏ ‏تنبع‏ ‏من‏ ‏ظروفنا‏ ‏شديدة‏ ‏الخصوصية‏، ‏فلا‏ ‏يقتصر‏ ‏البحث‏ ‏العلمى ‏على  ‏مجرد‏ ‏محاولة‏ ‏إعادة‏ ‏تحقيق‏  ‏فروض‏ ‏واردة‏ ‏من‏ ‏مجتمع‏ ‏آخر‏ ‏له‏ ‏ظروف‏ ‏أخرى ‏فى ‏مرحلة‏ ‏مختلفة‏.

‏ 7) ‏كما‏ ‏ينبغى ‏تقييم‏ ‏النتائج‏  ‏المجردة‏ ‏للأبحاث‏  ‏بفائدتها‏ ‏الحقيقية‏ ‏متى ‏وضعت‏ ‏توصياتها‏ ‏موضع‏ ‏التنفيذ‏،  ‏مع‏ ‏التتبع‏  ‏والتعديل‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الممارسة‏، ‏وإلا‏ ‏فما‏ ‏جدوى ‏البحث‏ ‏العلمى ‏أصلا؟

‏3- ‏الموقف‏ ‏السياسى

لا‏ ‏تستعمل‏ ‏كلمة‏ ‏السياسة‏ ‏هنا‏ ‏بالمعنى ‏الشائع‏ ‏المتعلق‏ ‏بنظام‏ ‏حكم‏ ‏معين‏ ‏أو‏ ‏بنوع‏ ‏إدارة‏ ‏سلطة‏ ‏بذاتها‏، ‏وإنما‏ ‏تستعمل‏ ‏بالمعنى ‏الأعمق‏ ‏والأدق‏ ‏الذى ‏يؤكد‏ ‏على ‏أن‏ ‏كل‏ ‏وجود‏ ‏إنسانى ‏يندرج‏ ‏فى ‏نظام‏ ‏عام‏ ‏له‏ ‏حقوق‏ ‏وعليه‏ ‏واجبات‏  ‏يتم‏ ‏تنفيذها‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏حركة‏ ‏مجاميع‏ ‏الناس‏ ‏وحوارهم،‏ ‏هو‏ ‏وجود‏ ‏سياسى ‏فى ‏المقام‏  ‏الأول‏ ‏مهما‏ ‏كانت‏ ‏تسميته‏ ‏الشائعة‏.

من‏ ‏هذا‏ ‏المنطلق‏، ‏وبكل‏ ‏المسئولية‏، ‏فإن‏ ‏مشكلة‏ ‏الإدمان‏ ‏هى ‏مشكلة‏ ‏سياسية‏ ‏أساسا‏، ‏ولن‏ ‏يكون‏ ‏لهذه‏ ‏المشكلة‏ ‏حل‏ ‏حقيقى ‏إلا‏ ‏بتغيير‏ ‏جوهرى -‏ على ‏مستوى ‏الوطن‏، ‏وعلى ‏مستوى ‏العالم‏، ‏تغيير‏ ‏يقع‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏تحت‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏مسئولية‏ ‏سياسية‏، ‏تصب‏ -‏إن‏ ‏آجلا‏ ‏أو‏ ‏عاجلا‏ – ‏فى ‏مسيرة‏ ‏تطور‏ ‏الإنسان‏  ‏مهما‏ ‏اختلفت‏ ‏التسميات‏.

معنى ‏ذلك‏ ‏أن‏  ‏مهمة‏  ‏التصدى  ‏لمشكلة‏ ‏الإدمان‏  ‏هى ‏مشكلة‏ ‏الدولة‏ ‏والناس‏ ‏كافة‏، ‏قبل‏ وبعد ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏مشكلة‏  ‏طبية‏ ‏أو‏ ‏اجتماعية‏ ‏أو‏ ‏طبية‏.  ‏إن إحالتها‏ برمّتها ‏إلى ‏رجال‏ ‏الطب‏، ‏أو‏ ‏مختصى ‏النفس‏، ‏أو‏ ‏متحمسى ‏الوعظ‏،‏ ‏هو‏ ‏اختزال‏ ‏للمشكلة‏ ‏وتغافل‏ ‏عن‏ ‏حقيقة‏ ‏معناها‏.

بناء على ‏ذلك‏  ‏فإن‏ ‏كفاءة‏ ‏نظام‏ ‏سياسى ‏معين‏، ‏قد‏  ‏تقاس‏ ‏ضمنا‏ ‏بمدى ‏كفاءته‏ ‏فى ‏القضاء‏ ‏على ‏مثل‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏، ‏سواء‏ ‏كدليل‏ ‏على  ‏قوته‏ ‏وإحكام‏ ‏قبضته‏، ‏أو‏ ‏كدليل‏ ‏على نجاحه‏ ‏فى ‏تحريك‏ ‏الانتماء‏ ‏وتنمية‏ ‏المسئولية‏ ‏الجماعية‏ (‏والفردية‏ ‏ضمنا‏)، ‏فعلا‏ ‏يوميا‏ ‏وناتجا‏ ‏حضاريا‏. ‏

ثم‏ ‏أكتفى ‏بالتنبيه‏ ‏على ‏ما‏ ‏أوحته‏ ‏إلينا ‏انطباعاتنا ‏الإكلينيكية‏ ‏السالفة‏ ‏الذكر‏  ‏فى ‏هذا‏ ‏الموقف‏ ‏الأشمل‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى : ‏

‏1- على ‏الموقف‏ ‏السياسى ‏أن‏ ‏يقود فعلا، لا أن تكون مهمته مزيدا من الاغتراب‏، يقود ‏مستلهما‏ ‏كل‏ ‏المواقف‏ ‏الأخرى (‏الطبية‏، ‏والبحث‏ ‏علمية‏، ‏والدينية‏، ‏إلى ‏آخره‏).

‏2- ‏تتوقف‏ ‏تفاصيل‏ ‏مهمة‏ ‏القيادة‏ ‏السياسية‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الحرب‏ ‏الحضارية‏ ‏والتطورية‏ ‏على ‏متغيرات‏ ‏كثيرة‏، ‏ليس‏ ‏هذا‏ ‏مجال‏ ‏شرحها‏ ‏هنا‏، ‏ولكنها‏ ‏تأخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏سلطة‏ ‏الحكم‏، ‏ودرجة‏ ‏النضج‏، ‏وقبضة‏ ‏القانون‏،  وهيبة الدولة، ‏مما‏ ‏يختلف‏ ‏من‏ ‏بلد‏ ‏لبلد‏، ‏ومن‏ ‏مرحلة‏ ‏إلى ‏مرحلة‏.‏

‏وبصفة‏ ‏عامة‏، ‏على ‏من‏ ‏يريد‏  ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏مسئوليته‏ ‏فى مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏من‏ ‏ساسة‏ ‏وحكام‏ ‏ومسئولين‏ ‏مختصين‏، ‏أن‏ ‏يعامل‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة ‏-‏ على ‏المدى ‏القصير‏-‏ معاملة‏ “حالة‏ ‏الحرب‏” (‏على ‏المستوى ‏الإجرائى ‏الآنى‏)، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏الوسائل‏ ‏والغايات‏ ‏جميعا‏.

أما‏ ‏على  ‏المدى ‏الطويل‏ ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تعامل‏ ‏معاملة‏  ‏مواجهة‏ ‏التهديد‏ ‏بالانقراض‏، ‏انقراض‏ ‏النوع‏ ‏البشرى ‏ككل‏، (الانقراض ‏على ‏المستوى ‏الحضارى والتطورى ‏معا‏).‏

‏3- ‏ثم‏ ‏لا‏ ‏أترك‏ ‏هذه‏ ‏النقطة‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏أذكر‏ ‏أن‏ ‏العمل‏ ‏السياسى- ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏له‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مسئولية‏ ‏حضارية‏ – ‏هو‏ ‏ليس‏ ‏من‏ ‏اختصاص‏ ‏السلطة‏ ‏دون‏ ‏الناس‏. ‏كل‏ ‏نظام‏ ‏له‏ ‏موقف ‏ ‏خاص‏ ‏فى ‏نفى أو تنظيم ‏وسائل‏ ‏وأشكال‏ ‏تنظيم‏ ‏هذه‏ ‏الحركة‏ ‏بين‏ ‏السلطة‏ ‏والناس‏، ‏وطبيعة‏ ‏التمثيل‏ ‏بينهما‏، ‏وكل‏ ‏ذلك‏ هو الذى يعطى للنظام مشروعيته، و فى نفس الوقت لا يخلى الناس من مسئوليتهم‏.

‏4- ‏الموقف‏ ‏الدينى ‏

لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏ابتداء‏  ‏بين‏ ‏الاستخدام‏ ‏السطحى ‏للدين‏  ‏وبين‏ ‏التدين‏ ‏الحقيقى ‏الذى ‏يمشى ‏على ‏أرجل‏: ‏عبادات‏، ‏و‏خلقا‏، ‏ومعاملات‏، ‏وجهادا‏ ‏داخليا‏ ‏وخارجيا‏ ‏فى ‏حوار‏ ‏متصل‏، ‏فى ‏ظل‏ ‏اجتهاد‏ ‏لا‏ ‏يفتر‏، نحو إبداع الذات والحوار المفتوح النهاية مع الوعى الكونى بلا حدود أو تحديد، ‏بمعنى ‏أنه‏ ‏لا‏‏بد‏ ‏أن‏ ‏نفرق‏ ‏بين‏ ‏استعمال‏ ‏اللغة‏ ‏الدينية فى ألفاظها المعجمية على ناحية واتباع تعليمات السلطة الدينية، وبين حركية الإيمان الإبداعى على الناحية الأخرى، ‏ففى ‏الحالة‏ ‏الأولى ‏تكثر‏ ‏الأصوات‏ ‏وتقل‏ ‏الممارسة‏ إلا ممارسات القمع والتلقين، ‏وفى ‏الحالة‏ ‏الثانية‏ ‏تزيد‏ ‏الممارسة‏ الإبداعية  ‏ويصبح الإيمان فعلا متجددا مغيراً للشخص والناس فى اتجاه التطور.

على ‏أن‏ ‏هذه‏ ‏التفرقة‏ ‏ليست‏ ‏دعوة لإلغاء الشكل لحساب جوهر غامض بقدر ما هى‏ دعوة لتتكامل الصورة ‏السلوكية‏ ‏والتنظيمية‏ ‏العباداتية‏، ‏مع‏  ‏الموقف‏  ‏الإيمانى ‏الحياتى ‏الأعمق‏  ‏فى ‏دوره‏ ‏الإبداعى ‏الخلاق‏.

إن أهمية‏ ‏هذا‏ ‏التوضيح‏ ‏هو‏ ‏التأكيد‏ ‏على ‏الاستفادة‏ ‏مما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏وتدين‏ ‏وإيمان‏ ‏على ‏مستويات‏  ‏متعددة‏، ‏حرصا‏ ‏على ‏النفع‏  ‏الحقيقى ‏من‏ ‏كل‏ ‏ما‏ ‏هو‏ ‏دين‏ ‏حقيقى.

نلاحظ فى هذا الصدد كيف‏ ‏تشيع‏ ‏صورة‏ ‏تسكينية‏ ‏للتدين،‏ ‏قد‏ ‏تأتى ‏بنتيجة‏ ‏عاجلة‏ ‏حسنة‏ ‏الشكل‏، ‏ولكن‏ ‏ينبغى ‏النظر‏ ‏فى ‏حقيقة‏ ‏مدى ‏فاعليتها‏، ‏وطول‏ ‏بقائها‏، ‏إذا‏ ‏ما‏ ‏تذكرنا‏ ‏مستويات‏ ‏حاجات‏  ‏من‏ ‏يلجأ‏ ‏إلى ‏الإدمان‏ ‏وهو‏ ‏يبحث‏ ‏عن‏ ‏تغيير‏ ‏فى ‏الوعى ‏وتحريك‏ ‏له‏0 ‏لا‏ ‏مجرد‏ ‏تسكين عابر‏، ‏كما‏ ‏أنه يبحث‏ ‏عن‏ ‏المعنى، ‏وعن‏ ‏الامتداد‏، ‏وعن‏ ‏الحق‏ ‏بما‏ ‏يشبه‏ ‏الثورة‏ ‏فى ‏البداية‏، لا مجرد طمأنة من الظاهر.

‏إن‏ ‏القيم‏  الأبقى التى تستطيع أن تغنى عن الإدمان  ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يحصل‏ ‏عليها‏ الفرد ‏من‏ ‏جهاد‏ ‏إيمانى ‏حقيقى  ‏يقلب‏ ‏وجودنا‏ ‏الجاف‏ ‏المنقطع‏ (كالجسم‏ ‏الغريب‏ ‏فى ‏الكون‏) ‏إلى ‏وجود‏ نابضٍ إيقاعىٍّ ‏نام‏ ‏ممتد‏ ‏فى ‏التناسق‏ ‏الكونى ‏والمعنى ‏الحقيقى.

إن‏ ‏تنمية‏ ‏الجانب‏ ‏الإبداعى ‏فيما‏ ‏هو‏ ‏إيمان‏، ‏هو‏ ‏أمر‏ ‏جوهرى ‏و‏‏أساسى، ‏ليس‏ ‏فى ‏مقاومة‏ ‏ظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏فحسب‏، ‏وإنما‏ ‏فى مجرى ‏المسار الحضارى ‏والتطورى  ‏بشكل‏ ‏عام‏.

من هنا وجب التنبيه على سطحية التوقف عند معنى سلبى لما هو ” النفس المطمئنة” حين ننسى أن “أدخلى فى عبادى” جاءت بين رجوع النفس المطمئنة وبين دخولها الجنة” وادخلى جنتى”.

ثالثا‏:‏المَخْرج

ضبط ‏ ‏جرعة الرؤية‏ ‏مع‏ ‏كفاءة‏ ‏القدرة

إذا‏ ‏ما استشرت‏ ‏ظاهرة‏ ‏بهذه‏ ‏الجسامة‏ ‏وتلك‏ ‏الخطورة‏، ‏ثم‏ ‏تعذرحلها‏ ‏فى ‏مختلف‏ ‏الظروف‏، ‏وتحت‏ ‏سائر‏ ‏النظم‏، ‏فلا‏ ‏بد‏ ‏من‏ ‏التوقف‏ ‏للنظر فيما ‏تعنى ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏أكثر‏ ‏شمولية‏، ‏وأبعد‏ ‏غورا‏، ‏إذ‏ ‏لا‏ ‏يعود‏ ‏يكفى ‏أن‏ ‏نقدم‏ ‏توصيات‏ ‏جزئية‏ ‏بعلاج‏ ‏هذا‏، ‏أو‏ ‏نصح‏ ‏ذاك‏، ‏كما‏ ‏قد‏ ‏لا‏ ‏يكفى ‏أيضا‏ ‏أن‏ ‏نستمع‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏تقوله‏ ‏الظاهرة‏ ‏متفرقا‏  ‏عن‏ ‏بعضه‏ ‏البعض‏.

‏ ‏لهذا‏ ‏وذاك‏ ‏فسأحاول‏ ‏أن‏ ‏أقدم‏ ‏فى ‏نهاية‏ ‏هذه‏ ‏المداخلة‏ ‏بعض الدلالة‏ ‏العامة‏ ‏التى قد ‏يشير‏ ‏إليها‏ ‏تواتر‏ ‏الظاهرة‏ ‏وانتشارها‏ ‏عالميا‏ ‏ومحليا‏ ‏إلى ‏هذه‏ ‏الدرجة‏، ‏وفى ‏نفس‏ ‏الوقت‏ ‏امتناعها‏ – نسبيا- ‏عن‏ ‏الاستجابة‏ ‏الكافية لأغلب‏ ‏وسائل‏ ‏المقاومة‏ ‏والعلاج‏.

‏ ‏قبل‏ ‏ذلك‏ ‏لا‏بد‏ ‏من‏ ‏الاعتراف‏ ‏أن‏ ‏جذور‏ ‏المشكلة‏ ‏ليست‏ ‏جديدة‏ ‏تماما‏، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏فرط‏ ‏التعميم‏ ‏لا‏ ‏يقدم‏ ‏عونا‏ ‏عمليا‏ ‏فى ‏مسألة‏ ‏تفصيلية‏ ‏كهذه‏، ‏فمسألة‏ ‏حاجة‏ ‏الإنسان‏ ‏إلى ‏الاستعانة‏ ‏بكيمياء‏ ‏ما‏: ‏تعتم‏ ‏وعيه‏ ‏السائد‏ ‏من‏ ‏جهة‏، ‏وتفجر‏ ‏وعيه‏ ‏الكامن‏ ‏من‏ ‏جهة‏ ‏أخرى ‏هى ‏قديمة‏ ‏قدم‏ ‏محاولات‏ ‏الإنسان‏ ‏للتكيف‏ ‏على ‏مستويات‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏متبادلة‏، ومداخل‏ ‏للمعلومات‏ ‏محدودة‏.

‏ ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏الجديد‏ ‏فى ‏المواجهة‏ ‏مما‏ ‏سبق‏ ‏الإشارة‏ ‏إليه‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏المداخلة‏  ‏يمكن‏ ‏ترتيبه‏ ‏على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏

أولا‏: ‏إن‏ ‏الظاهرة‏ ‏تنتشر‏ ‏بأسرع‏ ‏وأخطر‏ ‏من‏ ‏تاريخها‏  ‏السابق‏.

ثانيا‏: ‏إن‏ ‏المواد‏ ‏الطبيعية‏ ‏والمصنعة‏  ‏المستعملة‏  ‏فى ‏التأثير‏ ‏على ‏الوعى (‏طبيا‏ ‏وعشوائيا‏)  ‏تتنوع‏  ‏وتتطور‏ ‏بشكل‏ ‏سريع‏ ‏ومهدد‏،  ‏بحيث‏ ‏يكاد‏ ‏يختفى ‏الحد‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏الاستعمال‏ ‏الآمن‏، ‏والاستعمال‏ ‏المدمر‏.

ثالثا‏: ‏إن‏ ‏الطب‏ ‏النفسى ‏الدوائى ‏الأحدث‏، ‏يروج‏ ‏لمبدأ التسكين‏‏ ‏ترويجا‏ ‏يتعدى ‏الاستعمالات‏ ‏الطبية‏ ‏إلى ‏شيوع‏  ‏قيمة‏ ‏ضرورة‏ ‏التخدير‏، ‏وبالتالى ‏ضرورة‏ ‏الاعتماد‏ ‏على ‏الأدوية‏ ‏اعتمادا‏ ‏ممتدا‏ (‏مدى ‏الحياة‏ ‏أحيانا‏) ‏مما‏ ‏يعد‏ ‏نموذجا‏ ‏بشعا‏ ‏لما‏ ‏يجرى ‏فى ‏موازاته‏ ‏مما‏ ‏أسميناه‏ ‏التطبيب‏ ‏الذاتى ‏عن‏ ‏طريق‏ ‏الإدمان‏.

رابعا‏: ‏إن‏ ‏المعالجات‏ ‏الجزئية‏  ‏لظاهرة‏ ‏الإدمان‏ ‏لا‏ ‏تستطيع‏ ‏أن‏  ‏تلاحق‏  ‏خطورة‏ ‏الانتشار‏ ‏وتمادى ‏التدمير‏ ‏لكل‏ ‏ذلك‏:‏

‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نبحث‏ ‏عن‏ ‏مدخل‏ ‏آخر‏، ‏وتناول‏ ‏آخر‏ ‏يستطيع‏ ‏أن‏ ‏يتحمل‏ ‏مسئولية‏ ‏المواجهة‏، ‏لا‏ ‏لشكل‏ ‏الظاهرة‏ ‏فى ‏حدودها‏ ‏الطبية‏ ‏والقانونية‏ ‏فحسب‏، ‏ولكن‏ ‏لدلالاتها‏ ‏العامة‏ ‏وما‏ ‏يبلغنا‏ ‏من‏ ‏خلالها‏ ‏من‏ ‏رسائل‏ ‏متنوعة‏.

‏ ‏وليس‏ ‏هذا‏ ‏مجال‏ ‏تفصيل‏ ‏عرض‏ ‏خطة‏ ‏شاملة‏ ‏لمثل‏ ‏ذلك‏، ‏لكن‏ ‏علينا‏ ‏أن‏ ‏نتذكر‏ ‏أن‏ ‏المطلوب‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏نقبل‏ ‏التحدى، ‏بما فى ذلك إمكانية أن نعترف‏ ‏بالفشل فى مرحلة أو أخرى‏، ‏وأن‏ ‏نقسم‏ ‏مهمتنا‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏هذا‏ ‏وذاك‏  ‏إلى ‏مستويين‏:‏ الأول‏: ‏محاولة‏ ‏التقدم‏ ‏أثناء‏ ‏الوقاية‏ ‏والعلاج‏، ‏من‏ ‏خلال‏ ‏فهم‏ ‏الظاهرة‏ ‏وحسن‏ ‏الإنصات‏ ‏لما‏ ‏تعنيه‏ ‏وما‏ ‏تشير‏ ‏إليه‏، ‏والثانى:‏ ‏محاولة‏ ‏الإلمام‏ ‏بالمعنى ‏الشامل‏ ‏وراء‏ ‏التفاصيل‏ ‏المتعددة‏، بحيث ‏يمكن‏ ‏أن‏  ‏نحاول‏ ‏أن‏ ‏نستجيب‏ ‏بطريقة‏ ‏أفضل‏  ‏لنفس‏ ‏الحاجات‏ ‏ولكن‏ ‏بسبل‏ ‏أخرى ‏كما‏ ‏ذكرنا‏ ‏منذ‏ ‏البداية‏.

تعقيب

أولاَ:‏إن ظاهرة‏ ‏الإدمان‏، ‏بما‏ ‏وصلت‏ ‏إليه‏ ‏من‏ ‏هذا‏ ‏العنف‏ ‏التدميرى، ‏قد تكون بمثابة إعلان‏ ‏نهاية‏ ‏مرحلة‏ ‏بيولوجية‏ ‏فى ‏تاريخ‏ ‏الجنس‏ ‏كأحد‏ ‏مظاهر‏ ‏التمادى ‏فى ‏الاستغراق‏ ‏فى ‏مقومات‏ ‏انتحار البشرية‏.

ثانياَ: قد تكون الظاهرة‏ ‏نذيرا‏ ‏مهما‏ ‏ينبه‏ ‏إلى  ‏ضرورة‏ ‏احترام‏ ‏حاجات‏ ‏الإنسان‏ ‏غير‏ ‏المشبعة‏ ‏وبالتالى ‏فإن‏ ‏هذا‏ ‏النذير‏ ‏يدعونا‏ ‏إلى ‏محاولة‏ ‏إشباعها‏ ‏بوسائل‏ ‏أكثر‏ ‏إيجابية‏ ‏وأقدر‏ ‏استمرارا.‏

‏ ‏هذا‏ ‏الاحتمال الثانى هو‏ ‏الأرجح‏ ‏عندى، ‏وهو‏ ‏ما‏ ‏أفصله‏ ‏ فروضاً، على ‏الوجه‏ ‏التالى:‏

‏1- ‏إن‏ ‏الإنسان‏ ‏فى ‏مرحلته‏ ‏الحالية‏ – ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏أى ‏وقت‏ ‏مضى – ‏قد‏ ‏ملك‏ ‏أدوات‏ ‏معرفة‏ ‏أكثر‏ ‏فأكثر‏: ‏معرفة‏ ‏نفسه‏ ‏وخارجه‏ ‏على ‏حد‏ ‏سواء‏، ‏فأصبح‏ ‏مهددا‏ ‏بجرعة‏ ‏من‏ ‏الوعى ‏لم‏ ‏يتهيأ‏ ‏لها‏ ‏بقدرات‏ ‏تستطيع‏ ‏استيعابها‏ ‏فى ‏حركة‏ ‏إبداعية‏  ‏مناسبة‏.

‏2- ‏يضاف ‏إلى اتساع ‏مساحة‏ ‏الرؤية‏ ‏ومداها‏، ‏أن‏ ‏محتواها ‏أصبح‏ ‏زاخرا‏ ‏بكل‏ ‏ماهو‏ ‏باهر‏ ‏وخطير‏، ‏من‏ ‏حيث‏ ‏القدرة‏ ‏على ‏التنبؤ‏ ‏بمصائب‏ ‏قادمة‏، ‏وتدهورات‏ ‏محتملة‏، ‏وعلاقات‏ ‏مضروبة‏،  ‏وحيوات‏ ‏مهدرة‏.

‏3- ثم إن‏ ‏الميكانيزمات‏ ‏النفسية‏ ‏العادية‏ (‏الحيل‏ ‏النفسية‏) ‏قد عجزت عن‏ ‏إغلاق‏ ‏نوافذ‏ ‏هذا‏ ‏الوعى ‏المنتشر‏ ‏للتخفيف‏ ‏من‏ ‏واقعية‏ ‏وموضوعية‏ (‏وربما‏ ‏حتمية‏) ‏تلك‏ ‏الأخطار‏ ‏الزاحفة‏.

الاحتمالات والمسئولية:

‏1) ‏ثمة‏ ‏محاولة‏ ‏طبنفسية، تجارية استهلاكية،‏ ‏خطرة‏ ‏تروج‏ ‏للتمادى ‏فى ‏الإفراط‏ ‏فى ‏التداوى ‏بالعقاقير‏، ‏معظم‏ ‏الوقت‏ ‏أو‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏.‏ (شركات الدواء)

تواكبها‏ ‏وتوازيها‏ ‏محاولة‏ ‏تخدير‏ ‏ذاتى ‏متزايد‏ ‏حتى ‏يصل‏ ‏إلى ‏نهاية‏ ‏إدمانية‏ ‏مدمرة‏.‏ (الإدمان)

‏وكلا‏ ‏‏ ‏المحاولتين‏ ‏تسعى بنا ‏إلى  ‏التقليل‏ ‏من‏ ‏حدة‏ ‏الوعى ‏الملاحق‏ ‏بالرؤية‏ ‏المتزايدة‏: ‏فى ‏مداها‏ ‏ومحتواها‏ ‏جميعا‏.

‏2) ‏إذا‏ ‏نحن‏ ‏سلمنا‏ ‏بذلك‏، ‏صار‏ ‏لزاما‏ ‏علينا‏ – ‏ابتداء‏ – ‏أن‏ ‏نسعى ‏إلى ‏القبول‏ ‏بالأمر‏ ‏الواقع‏ ‏فى ‏محاولة‏ ‏الاعتراف‏ ‏بضرورة‏ ‏التخدير من حيث المبدأ، لكن لابد:‏‏من‏ ‏التسليم‏ ‏بأن‏ ‏هذا‏ ‏القبول‏ ‏هو‏ ‏مرحلى ‏بالضرورة.

‏3) ‏إن‏ ‏هذا‏ ‏الاعتراف‏ ‏ينبغى ألا يكون أكثر من ‏خطوة‏ ‏تكتيكية‏ ‏فى ‏استراتيجية‏ ‏ممتدة‏، ‏حيث‏ ‏أن‏ ‏التسليم‏ ‏بضرورة‏  ‏الحد‏ ‏من‏  ‏الرؤية‏، ‏بما‏ ‏يعنى ‏ضرورة‏ ‏التخدير،‏ ‏لا‏ ‏يعنى ‏الإقرار‏ ‏باستعمال‏ ‏مواد‏ ‏كيميائية‏ تنتهى إلى تعمية الوعى وتزييفه، ‏بقدر‏ ‏ما‏ ‏يدعو‏ ‏إلى ‏البحث‏ ‏عن‏ ‏وسائل‏  ‏تسمح‏ “‏بتناسب‏ ‏القدرة‏ ‏مع‏ ‏الرؤية”‏ ‏فى ‏مراحل‏ ‏النمو‏ ‏المختلفة‏.

‏4) ‏إن ذلك‏ ‏يستلزم‏ ‏إمعان النظر فى طبيعة مسار ‏نمو‏ ‏الإنسان‏ ‏من‏ ‏منظور‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى،  ‏لندرك‏  ‏أن‏ ‏نمو‏ ‏الإنسان‏ ‏لا‏ ‏يسير‏ ‏فى ‏شكل‏ ‏خطى ‏مسلسل‏، ‏وإنما‏ ‏يتم‏ ‏فى ‏جدل‏ ‏إيقاعى ‏متناوب‏ ‏تناوب‏ ‏الليل‏ ‏والنهار‏، ‏وتناوب‏ ‏النوم‏ ‏واليقظة‏، ‏وتناوب‏ ‏الحلم‏ ‏والنوم‏ ‏غير‏ ‏الحالم‏.

 ‏إن ضبط‏  ‏جرعة‏ ‏الرؤية‏ ‏مع‏ ‏كفاءة‏ ‏القدرة‏  ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يسير‏ ‏بنفس‏ ‏الإيقاع‏. فإذا‏ ‏كان‏ ‏الإنسان‏ ‏فى  ‏حاجة‏ ‏إلى ‏تخدير‏ ‏مؤقت‏ ‏مناسب‏، ‏بالطرق‏ ‏الطبيعية‏، ‏فى ‏مرحلة‏ ‏بذاتها‏ (‏مرحلة‏ ‏تحصيل‏ ‏المعلومات‏ ‏وترتيبها‏)، ‏فهو‏ ‏فى ‏حاجة‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏أخرى ‏إلى ‏تحريك‏ ‏موجه‏ ‏من‏ ‏خلال‏ ‏إطلاق‏ ‏قدرته‏ ‏الإبداعية‏ ‏لاستيعاب‏ ‏جرعات‏ ‏متزايدة‏ ‏من‏ ‏الرؤى ‏والبعث‏ (‏وهذه‏ ‏هى ‏مرحلة‏ ‏البسط‏ ‏المتناوبة‏ ‏مع‏ ‏مرحلة‏  ‏التحصيل‏)‏.

‏5) ‏بما‏ ‏أن‏ ‏التخديرالكيميائى (‏طبيا‏، ‏أو إدمانيا‏) ‏يحمل‏ ‏مخاطر‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏ضبطها‏، ‏وجب‏ ‏علينا‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏سياسى ‏وتربوى، ‏وإلى ‏درجة‏ ‏أقل‏ ‏من‏ ‏منطلق‏ ‏دينى ‏وطبى ‏أن‏ ‏نتقبل‏ ‏و‏ ‏ننمى ‏مخدرات‏ ‏سلوكية‏ ‏طبيعية‏ ‏بطريقة‏ ‏مرنة‏ ‏تسمح‏ ‏بالخلاص‏ ‏منها‏ ‏فى ‏مرحلة‏ ‏لاحقة‏ ‏

وتعريف‏ ‏المخدرات‏ ‏السلوكية‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تفصيل‏ ‏لا‏ ‏يسمح‏ ‏به‏ ‏المجال هنا الأن‏، ‏فأكتفى ‏بالإشارة‏ ‏إلى ما  أعنيه بذلك من‏ ‏بعض‏ ‏العادات‏ ‏الحميدة‏ ‏والمفيدة‏ التى ‏قد‏ ‏تصبح‏ ‏ملحة‏ ‏لدرجة‏ ‏الإدمان‏ ‏الإيجابى‏، ‏كذلك بعض العبادات الراتبة المنظمة التى تؤدى نفس الوظيفة، أى‏ ‏أن‏ ‏بعض‏ ‏التسليم‏ ‏الطيب لأعمال مكررة،‏ ‏دون‏ ‏تساؤل‏ ‏لحوح‏ عن معناها وجدواها، ‏يمكن‏ ‏أن يقوم بدور مرحلى مطمئن ناجح‏، ‏وهذا‏ ‏هو‏ ‏المقبول بهدف‏ التسكين المرحلى، ‏شريطة‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏مجرد‏ ‏مرحلة‏ ‏يليها‏ ‏ويتناوب‏ ‏معها‏ ‏مرحلة‏ ‏البسط‏ ‏الإبداعى

‏6)‏ يتمثل‏  ‏البسط‏  ‏الإبداعى ‏فى ‏تحريك‏ ‏الوعى ‏فى ‏توجه‏ ‏هادف‏ ‏مسئول‏، ‏يحاول‏ ‏تنظيم‏ ‏المعلومات‏ ‏التى ‏حصل‏ ‏عليها‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏أثناء‏ ‏ما‏ ‏أسميناه‏ ‏بالتخدير‏ ‏الجيد‏ ‏الهادئ‏،  ‏وهذا‏ ‏ما‏ ‏يقابل‏ ‏تحريك‏ ‏الوعى  ‏الذى ‏قد‏ ‏يلجأ‏ ‏إليه‏ ‏المدمن‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏ ‏إقحاما‏ ‏وافتعالا‏، ‏فإذا‏ نحن نجحنا أن ‏ ‏نحقق‏ ‏من خلال انتظام‏ ‏الإيقاع‏ ‏الحيوى، ‏مع‏ ‏الاستعداد‏ ‏له‏ ‏بتنمية‏ ‏قدرات‏ ‏الإبداع‏ ‏حتى ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يستوعب‏ ‏الجرعات‏ ‏المتزايدة‏ ‏من الرؤية‏ ‏والمواجهة‏، ‏ ‏فإن‏ ‏الإنسان‏ ‏لن‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏تعتيم‏ ‏وعيه، أو‏ ‏تحريكه ‏بوسائل‏ ‏صناعية طبية قامعة، أو عشوائية خطرة.

خلاصة القول:

إن “ظاهرة الإدمان” تصرخ فينا أن ننتبه إلى ما آلت إليه ” ظاهرة الإنسان”.

الظاهرة البشرية هى أرقى وأجمل ما تخلَّق من الوعى الكونى، وتعميقها لتتطور أرقى، يبدأ بسبر غورها المرة تلو المرة، من منطلقات متعددة، متكاملة بالضرورة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *