الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأخبار / الثورة: إبداعٌ جماعى وإيقاع حيوى

الثورة: إبداعٌ جماعى وإيقاع حيوى

شرت فى جريدة أخبار اليوم

4/6/2011

الثورة: إبداعٌ جماعى وإيقاع حيوى

الثورة هى إبداع جماعى،

هى نقلة تطورية نوعية للوعى الكلى لشعب ما فى مرحلة ما من مراحل تطوره، وهى مثل كل إبداع، تتحرك فى أطوار ومراحل متتالية لها معالمها ومخاطرها ومضاعفاتها، وهى – فى الأحوال الطبيعية الصحيحة – ليست حدثا منفردا، ولا هى مصادفة عابرة، وإنما هى طور إيجابى على مسار قانون الحياة النابض.

لا يسمى الإبداع إبداعا عند أية مرحلة من مراحله الأولى إلا أن يتم إعادة التشكيل والاستقرار على الشكل الأصيل الجيد المكتمل المحقق لغايته.

كذلك لا ينبغى أن تسمى الثورة ثورة بمجرد قيام جماعة من الشعب، أو حتى جموع الشعب بتفكيك القديم وإعادة تفكيه، ثم إعادة تفكيكه ثم تتوقف زائطة عند ذلك.

الإبداع الذى لا يكتمل، وأسميه الإبداع المُجهض، هو نوع من الجنون المتفسخ، ويا ليته ما بدأ أصلا إلا أن يتحول مساره بتخليق صعب مع خبير قادر (معالج) على احتوائه إلى مسار ايجابى، وما لم يتم ذلك فهو الجنون التفسخ، وليس الإبداع مهما بلغت روعة بدايته وقوتها.

كذلك الثورة التى تتوقف عند مراحلها الاولى، وهى بعد غضة لم يشتد عودها، هى عرضة للإجهاض أيضا، أو على الأقل للتشويه والخطف بواسطة المتربصين بها من غير أهلها،

العلاقة بين الإبداع والجنون علاقة وثيقة تماما ومهمة، فبقدر ما يتشابهان فى المراحل الأولى لعملية كل منهما، فإنهما يختلفات إلى العكس تماما فى مآل كل منهما، وفى حين لا يكون الإبداع إبداعا  إلا إذا مر بكل مراحل الإبداع، ودفع ثمنها كاملا، وخرج منها سالما بتشكيل جديد أصيل، يكون الجنون تفسخا وتدهورا برغم أنه بدأ بنفس آليات الإبداع البادئة أيضا بالاقتحام والرفض والتفكيك.

المبدع الفرد يعرف ذلك، وهو يخاطر بخطاه وهو يعرف أنه يخطو فى حقول الموت والبعث فى آن، ثم هو يواصل ويتحمل كل أهوال المغامرة لأنه يعلم أنه ليس أمامه سبيل آخر، فهو الإبداع، وبرغم ذلك : لا يوجد مبدع أصيل يستطيع أن يضمن مآل  خطوات إبداعه بيقين مسبق، وإلا فإن إبداعه سيخرج ماسخا بلا طعم.

الثورة، الإبداع الجماعى تغامر بنفس المخاطر، مع احتمال نفس المضاعفات وتتعرض لنفس احتمالات الإجهاض والتشويه والتفسخ (الفوضى) ومن ثَمَّ النكسة إلى مستوى أدنى يسمى المآل السلبى أو الاندمال.

على هذا القياس يمكن أن نسنتنتج أن الوعى الجمعى للشعب الذى كتبت عليه الثورات كما كتبت على الذين من قبله (لأنها قانون الحياة)، هو يمر بنفس المراحل، وهو يخترق  نفس المخاطر، ويحتاج إلى نفس الحرص للحفاظ على التوجه والقيام بالتصحيح باستمرار، وما لم يتعهد الوعى الجمعى هذه الخطوات الواحدة تلو الأخر بكل المسئولية التى تتجاوز الفرحة، وتحذر من مجرد تكرار نص الخطوات الأولى، فإن المآل السلبى ينتظره مثل كل إبداع مجهض.

يا ترى: هل نحن منتبهون بدرجة كافية إلى احتمال تمادى التفكيك إلى التفسخ، ومن ثم الإجهاض؟ فهى الفوضى العشوائية التدهورية البشعة، وهى ما يكافئ المراحل المتأخرة السلبية من الجنون بعد أن ينقلب التفكيك إلى التفسخ.

والآن: ما الذى يضمن لنا – فرادى وجماعات: مبدعين وثوارا– أن ننتقل من التفكيك إلى إعادة التشكيل، وليس إلى التفسخ فالفوضى العشوائية المدمرة؟ خاصة وأن الوعى التطورى المسئول يعرف أنه ما انتهت ثورة إلا إلى ثورة؟

الجواب: إنه الإعداد الجيد، والرعاية اللاحقة، والمسئولية المثابرة

أما عن مرحلة الإعداد لمشروع ثورتنا الحالية، فيبدوا أنه تم بكفاءة مناسبة، كنا نشك فيها طول الوقت، إذ لا بد أن هؤلاء الشباب وهم  يمارسون حياتهم العادية بإيجابية – روتينية– نسبيا، وبرغم أنهم بدوا وكأنهم  قد استسلموا للقهر والاحتقار والتهميش، يبدوا أنهم كانوا يتلقون فى نفس الوقت من الإعلام الإيجابى الانتقائى (اللامركزى) عبر العالم، ومن الإبداع والنقد المحليين بشكل مباشر وغير مباشر، ما كان قادرا على المستوى الشخصى أن يجمع رسائل مشحونة وقادرة هى التى أدت إلى كفاءة الاستعداد للخطوة التالية، هؤلاء الشباب لم تمنعهم مرارة الذى يعيشونه هم وناسهم، من تخزين طاقتهم وتنظيمها – بدون وعى مباشر– استعدادا للانطلاق بمشروع الإبداع المحتمل، ثم حين وصلت الطاقة إلى عتبة الانطلاق تجاوزت الظاهر بشجاعة وتضحية قادرة، وإذا بنا نفاجأ حيث لا مجال للمفاجأة إلا بالتوقيت، ومهما كان هناك شك فى مَن الذى  أثار انطلاق هذه الطاقة، ولا من الذى حدد التوقيت، فإنه بمجرد أن ظهرت آثاره على السطح تبينا كم كان ثريا وكافيا لبداية عملية الإبداع الجمعى الواعد بثورة حتمية.

الإعداد للثورة باعتبارها إبداعا جماعيا، مثل الإعداد الفردى اللإبداع فعندى أن الإبداع ليس مسألة تنمية مواهب أو شحذ قدرات، وإنما هو استيعاب طبيعى للإيقاع الحيوى النابض على مسار النمو، وهذا هو منطلق ما جعلنى أعتبر أن الأحلام – دون ضرورة حكيها- هى إبداع الشخصخ العادى.

بمجرد أن يتحرك مشروع الثورة: البسط للتفكيك، ونطمئن إلى كفاءة الإعداد من واقع سلامة البدايات، تنتقل عملية الإبداع  إلى مرحلة الرعاية فالتنظيم للمفردات المتناثرة، تماما مثلما يحدث فى عملية الإبداع الفردى  الناجح، السؤال الذى كان يطرح علىّ وعلى غيرى، وكنت أنزعج منه ابتداءً، ثم أرفض الإجابة عليه عادة هو عن عنصر المفاجأة فيما حدث، مع أن إيجابيات ما حدث تطرح الإجابة بالنفى بشكل حاسم، فلا شىء مثل ما حدث يمكن أن يخرج من فراغ. السؤال الثانى الذى كان موقفى منه بنفس الدهشة حتى الرفض، هو تحديد تاريخ “25 يناير” كأنه علامة فارقة لما قبله وما بعده، وكأن الزمن يمكن أن يقسم تعسفا إلى خطوات منفصلة عن بعضها البعض بما يفسد سيولة مساره، وكأننا فى قطار للمفاجآت فى مدينة ملاهى، وليس فى مجال اكتشاف وعود وإيجابيات حاضرة فى الوعى الجمعى وقد أفرج عنها لتعلن البداية الجديدة؟

بمجرد أن نطمئن إلى أننا قادرون على تجاوز احتمال مسار الفوضى يبدأ الإعداد – بوعى أو بتلقائية متنامية – للثورة القادمة، هذه هى طبيعة الإيقاع الحيوى عامة، وهى هى، على ما يبدو، طبيعة حركية نمو الشعوب (بل والأحياء عبر تاريخ الحياة)

هل هذا يعنى أن  ثمة ثورة قادمة فعلا

وهل هذا حتم لا مفر منه

ولماذا؟

الإجابة عندى أن : “نعم”

علينا أن نستعد لثورة إيجابية قادمة، بإعداد أكثر وعيا، حتى لا تكون ثورة على الثورة، وهذا ما يمكن أن يقلبها إلا ما يسمى الثورة المضادة،

الاعداد للثورة القادمة يبدأ من الآن بإنجاح هذه البداية الحالية حتى تكتمل ثورة قادرة، تأخذ فرصتها بكل ما لها وما عليها، ونتعلم منها ما هو أبقى وأرقى، فنعود نشارك فى صناعة حياتنا، وتكريم أنفسنا وناسنا – والناس- كما خلقنا ربنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *