الرئيسية / حوارات وأحاديث / حديث عن السيرة الذاتية والنشأة ضمن دراسة (ملف الرجل) بالمجلة

حديث عن السيرة الذاتية والنشأة ضمن دراسة (ملف الرجل) بالمجلة

مجلة نصف الدنيا

2007-6-24

حديث الأستاذ الدكتور: يحيى الرخاوى

مع الأستاذة: عبير مسعد

الدكتور يحيى الرخاوى شخصية ثرية بحق، فهو طبيب وأديب أيضا، لم ينجح فقط فى مجاله بل امتدت نجاحاته إلى مجالات أخرى متنوعة، فهو عضو مؤسس للكلية الملكية للأطباء النفسيين ومستشار الطب الشرعى بالمحاكم المصرية والعربية بالسودان والسعودية وحصل على جائزة الدولة التشجيعية فى الأدب عن رواية “المشى على الصراط” عام 1979 وهو رئيس تحرير المجلة المصرية للطب النفسى ومجلة “الإنسان والتطور” وهى مجلة علمية تصدر عن جميعة الطب النفسى التطورى والعمل الجماعى وهو عضو اتحاد الكتاب وهو أيضا شاعر فقد أصدر عدة دواوين شعرية من بينها ديوان “سر اللعبة” و”البيت الزجاجى والثعبان” و”أغوار النفس البشرية”.

يقول الدكتور يحيى الرخاوى: ولدت فى الأول من نوفمبر عام 1933 بالقاهرة، ودرست بمدرسة مصر الجديدة الثانوية.

1- النشأة وفترة الطفولة؟

‏حين‏ ‏أتذكر‏ ‏أيامى ‏الأولى ‏وأقارنها‏ ‏بما‏ ‏يجرى ‏اليوم‏ ‏حول‏ ‏أبنائى ‏وأحفادى‏، ‏أجدنى ‏قد‏ ‏عشت‏ ‏إيقاعا‏ ‏خاصا‏ ‏لعله هو‏ ‏الذى ‏صنعنى ‏هكذا‏، ‏وأتساءل‏: ‏هل‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أكون‏ ‏أنا‏ ‏هو‏ ‏أنا‏ ‏لو‏ ‏أننى ‏لم‏ ‏أنتظر‏ ‏قطار‏ ‏الدلتا‏ ‏ثلاث‏ ‏ساعات‏ ‏فى ‏محطة‏ ‏زفتا‏ ‏فى ‏طريقى ‏إلى ‏بلدتنا وأنا‏ ‏عائد‏ ‏من‏ ‏المدرسة‏ ‏الابتدائية؟‏ ‏وهل‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أستوعب‏ ‏معنى ‏الزمن‏، ‏وأن‏ ‏أنصت‏ ‏لهمس‏ ‏سنابل‏ ‏القمح‏، ‏وأن‏ ‏أستنشق‏ ‏غبار‏ ‏المدراة‏، ‏لو‏ ‏لم‏ ‏أركب‏ ‏النورج‏ ‏لشهر‏ ‏أو‏ ‏اثنين، ‏فى ‏كل‏ ‏إجازة‏ ‏صيفية؟‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يسمح‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نجلس‏ ‏ننتظر عربة‏ ‏الكافورى ‏ساعتين‏ ‏لنوفر‏ ‏قرش‏ ‏صاغ‏ ‏وهو‏ ‏الفرق‏ ‏بين‏ ‏سعر‏ ‏الكافورى ‏وسعر‏ ‏التاكس‏، ‏فيم‏ ‏كنت‏ ‏أفكر‏ ‏وأنا‏ ‏أنتظر‏ ‏هذه‏ ‏الساعات؟‏، ‏وماذا‏ ‏كان‏ ‏يصلنى ‏وأنا‏ ‏جالس‏ ‏فوق‏ ‏حجر‏ ‏مترب‏ ‏تحت‏ ‏جميزة‏ ‏ضخمة‏‏؟‏ ‏هذا‏ ‏الإيقاع‏ ‏ما‏ ‏زال‏ ‏يملؤنى، ‏أفتقده‏ ‏وأعود‏ ‏إليه‏ ‏داخلى، ‏وهو‏ ‏الذى ‏علمنى ‏كيف‏ ‏أستطيع‏ ‏أن‏ ‏أبطئ‏ ‏حركة‏ ‏الزمن‏ ‏لأعيد‏ ‏النظر‏ ‏بين‏ ‏الحين‏ ‏والحين‏، ‏فأكون‏ ‏أنا‏ “‏هكذا‏”‏

2- الدراسة الجامعية؟

دخلت الجامعة سنة 1950، حصلت على مجموع 70 %، المجموع وليس أنا هو الذى أدخلنى كلية الطب، لم أقرر ذلك تحديدا لكن أخى الأكبر (بسنتين) كان قد سبقنى إلى الطب، فلحقته، كنا عادة  نقتفى أثر من يكبرنا لا أكثر ولاأقل، درست فى كلية العلوم إعدادى طب، وبدأت أتعرف على السياسة فى الجامعة، وهتفت ضد مشروع صدقى بيفن سنة 1950 دون أن أعرف عنه شيئا، مع أننى قرأت دراسة مقارنة فيما بعد تبينت منها أنه كان اتفاقاً أفضل من اتفاق 1954 الذى انتهى برحيل الإنجليز، وهللنا له بما لا يقاس، واستمرت دراستى الجامعية تواكب أحداث تلك الفترة، ورأيت أبى وزوج عمتى وهما يرقصان للتخلص من فاروق، ثم رأيتهما وهما يبكيان حين تبينوا كم فاروقا ورثوا العرش، واصطحبنى صديق – رحمه الله – فى رحلة على الدراجات من القاهرة إلى الإسماعيلية فالقنطرة فبورسعيد سنة 1953 كان يريد منى أن أفهم معنى الاحتلال حين كانت عربات الجنود الانجليز تكسر على دراجتينا حتى نكاد نهلك، إذ لم يكن لنا سعر، فنحن مصريون عبيد لا ثمن لنا، وتخرجت بترتيب متواضع، ألحقنى بوظيفة طبيب مقيم نفسية بالعافية.

3- الزواج والأبناء؟

تزوجت طالبة شرقاوية كانت تتدرب فى العيادة النفسية قصر العينى أثناء فترة عملى طبيباً مقيماً، تعرفنا سنتين وتزوجنا سنة 1960، وكنا لا نملك ثمن ملعقة ثانية، فكنا نشرب الشوربة بالتناوب، وتحملتنى هذه الكريمة الطيبة الجميلة سبعة وأربعين سنة + 2، وأنجبنا ولدين وبنتين ولا يشبه أى منهم الآخر شكلا، مع أنهم يشتركون جميعا فى “التفرد والإبداع” حتى أصبح كل منهم دولة مستقلة ذات سيادة، برغم أنهم جميعا يعملون فى نفس التخصص تقريبا، وربنا يستر، ولى تسع أحفاد، منهم أربعة بنات جميلات.

4- العمل والممارسة العملية لمهنة الطب النفسى؟

أختلط عملى بحياتى، بقدر ما تمازجت حياتى مع عملى، كما اختلط موقفى النقدى فى الحياة عموما، بموقفى العلاجى من مرضاى، حتى اكتشفت أخيراً أننى أقرأ مريضى لا أشخصه، أقرأه باعتباره “نصا بشريا”، وأعالجه وكأنى أتعامل مع النص الأدبى، لكن الفرق أن نقد النص الأدبى أقوم فيه وحدى بإعادة تشكيل النص، أما النص البشرى (المريض) فهو يشاركنى فى النقد، ويشاركنى فى إعادة التشكيل، ليس فقط، إعادة تشكيله هو، وإنما إعادة تشكيلى أنا أيضا.

 أخطر ما أمر به فى ممارستى الحالية للطب النفسى هو ما تفعله شركات الأدوية بأمخاخ الأطباء عامة والصغار منهم خاصة، أتبين أكثر فأكثر، أن التجارة والربح أصبحا هما الأصل فيما يوصلونه لنا نحن الأطباء من رسائل ومعلومات شبه علمية، بعد أن يستعملوا العلماء لأغراضهم التجارية، غالبا دون وعى العلماء بشكل واضح، المسألة اصبحت فى منتهى الخطورة، على المرضى وعلى العلم، وعلى الأخلاق جميعا.

5- المثل الأعلى والقدوة والشخصيات المؤثرة فى حياتك؟

أنا لا أفضل استعمال تعبير “المثل الأعلى” بقدر ما استعمل تعبير “دور الأب”، الأب الحقيقى، هو مثل أعلى دائما، عشت طول عمرى وأنا أعتمد بصراحة على والدٍ ما، بدءاً بوالدى البيولوجى، ثقافتنا المصرية تقر ذلك وترحب به، (اللى مالوش كبير يشترى له كبير) وفى نفس الوقت هى لا تلغى الصراع الإيجابى معه.

أتصور أن موقفى ‏الحياتى ‏فى ‏العلاقات‏ ‏كان‏ ‏متمحورا‏ ‏طول‏ ‏الوقت‏ ‏حول‏ ‏حاجتى ‏الدائمة‏ ‏إلى “‏أب‏”، ‏وبالرغم‏ ‏من‏ ‏أن‏ ‏والدى – ‏رحمه‏ ‏الله‏- ‏كان‏ “‏والدا‏ ‏جدا‏ ” ‏طول‏ ‏الوقت‏، ‏وأن‏ ‏أثره‏ ‏فى ‏لم‏ ‏ينقطع‏ ‏حتى ‏الآن‏ ‏إلا‏ ‏أننى ‏لا‏ ‏أذكر‏ ‏أننى ‏اكتفيت‏ ‏به‏ ‏أبدا‏ ‏أو‏ ‏توقفت‏ ‏عنده‏، ‏وأعتقد‏ ‏أن‏ ‏تكوينى – ‏وحتى ‏الآن‏ – ‏كان‏ ‏وما‏ ‏زال‏ ‏مرتبطا‏ ‏بهذه‏ ‏البنوة‏ ‏الدائمة‏ ‏المتجددة‏، ‏ولا‏ ‏أطيل‏ ‏وقفتى ‏عند‏ ‏أبى ‏الذى ‏ولدنى، ‏رغم‏ ‏أنه‏ ‏أهم‏ ‏شخصية‏ ‏بين‏ ‏كل‏ ‏هؤلاء‏، ‏وكان‏ ‏أهم‏ ‏ما‏ ‏فيه‏ ‏أنه‏ ‏كان‏ ‏به‏ ‏من‏ ‏العيوب‏ ‏والضعف‏ ‏ما‏ ‏حال‏ ‏بينى ‏وبين‏ ‏تقديسه‏ ‏أكثر‏ ‏مما‏ ‏هو‏.

وليس‏ ‏معنى ‏التركيز‏ ‏على ‏دور‏ ‏الأب‏ ‏هكذا‏ ‏فى ‏تكوينى ‏أن‏ ‏دور‏ ‏الأم‏ ‏لم‏ ‏يكن‏ ‏له‏ ‏نفس‏ ‏الأهمية‏، ‏فقد‏ ‏كان‏ ‏لى ‏والدتان‏، ‏أمى ‏التى ‏ولدتنى، ‏وأمى ‏خالتى، ‏وكلتاهما‏ ‏كانتا‏ ‏صمام‏ ‏أمان‏، ‏ومساحة‏ ‏سماح‏ ‏أهرب‏ ‏إليها‏ ‏حين‏ ‏يزداد‏ ‏ثقل‏ ‏حضور‏ ‏أبى، ‏أو‏ ‏تغلق‏ ‏الطرق‏ ‏أو‏ ‏تتلاحق‏ ‏القذائف‏.‏

أما‏ ‏موكب‏ ‏آبائى ‏الآخرين‏ ‏الذى ‏شاركوا‏ ‏فى ‏تكوينى ‏بجوار‏ ‏والدى ‏فهو‏ ‏موكب‏ ‏زاخر‏ ‏من‏ ‏كل‏ ‏الأعمار‏ ‏والأشكال‏، ‏كنت‏ ‏أنتقيهم‏ -‏ ‏ ‏دون وعى ‏طبعا‏- ‏لتتكامل‏ ‏مظلة‏ ‏الأبوة‏ ‏دون‏ ‏احتكار‏ ‏قاهر‏، ‏مثلا‏: ‏كان‏ ‏لى ‏زوج‏ ‏عمة‏: ‏رجل‏ ‏ظريف‏ ‏فى ‏عمر‏ ‏أبى ‏أو‏ ‏أكبر‏ ‏منه‏ ‏بعام‏، ‏لم‏ ‏يكمل‏ ‏تعليمه‏، ‏ولا‏ ‏يمارس‏ ‏عملا‏ ‏أصلا‏ ‏كان‏ ‏يقول‏ ‏لنا‏ ‏الفكاهات‏ ‏إياها‏، ‏وكان‏ ‏يجعلنا‏ ‏نرى ‏أن‏ ‏ثمة‏ ‏طريقة ‏آخرى‏ ‏فى ‏الحياة‏ ‏غير‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏الجد‏ ‏الصارم‏ الذى يمثله أبى، ‏فجعلته‏ ‏يتبنانى ‏سرا‏ ‏دون‏ ‏إذن‏ (‏وإلا‏ ‏لرفض‏ ‏تحمل‏ ‏المسئولية‏) ‏ويبدو‏ ‏أننى ‏اخترته‏ ‏لما‏ ‏لمحت‏ – ‏أو تصورت‏- ‏غيرة‏ ‏أبى ‏منه‏، ‏وكأنه‏ – ‏أبي‏- ‏يتمنى ‏أن‏ ‏يبحبحها‏ ‏حبتين‏، ‏ولا‏ ‏يستطيع‏، ‏فلم‏ ‏لا‏ ‏أتمتع‏ ‏أنا‏ ‏بأب‏ ‏صارم‏ ‏هكذا‏، ‏وأب‏ ‏آخر‏ ‏عكس ذلك؟ ‏ففعلت. وقائمة‏ ‏الآباء‏ ‏بعض‏ ‏الوقت‏ ‏هى ‏قائمة‏ ‏بلا حصر‏: ‏من‏ ‏أول‏ ‏عم‏ ‏عطية‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يحضر‏ ‏كل‏ ‏عام‏ ‏يعقب‏ ‏حبوب‏ ‏البرسيم‏ ‏فى ‏البدروم‏، ‏ويحكى ‏لى ‏الحواديت‏ (‏الخيال‏ ‏الحر‏) ‏والأمثال‏ (الخيال‏ ‏الهادف‏) ‏حتى ‏عم‏ ‏على ‏السباك‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏جارى ‏فى ‏المنيل‏، ‏مارا‏ ‏بعم‏ ‏شعبان‏ ‏الذى ‏كان‏ ‏يحضر‏ ‏فى ‏بيتنا‏ ‏بالقرية‏ ‏كل‏ ‏مساء‏ ‏يمسك‏ ‏بذراع‏ ‏الطلمبة‏ “‏الماصة‏ ‏كابسة‏ ” ‏يملأ‏ ‏بها‏ ‏الخزان‏ ‏فوق‏ ‏البيت‏، ‏ويحكى ‏خبراته‏ ‏الحقيقية‏ ‏والمؤلـفة‏، ‏وكأنه‏ ‏هو‏ ‏بطل‏ ‏قصصه‏.

‏ ‏ثم‏ ‏خذ‏ ‏عندك‏ ‏سلسلة‏ ‏من‏ ‏المدرسين‏ ‏مختلفى ‏الهوية‏، ‏كلهم‏ ‏كانوا‏ ‏آبائى، ‏سليم‏ ‏أفندى ‏رزق‏ ‏الله‏ ‏مدرس‏ ‏الإنجليزى ‏فى ‏مدرسة‏ ‏مصر‏ ‏الجديدة‏ ‏وهو‏ ‏لم‏ ‏يتزوج‏، ‏لا‏ ‏هو‏ ‏ولا‏ ‏حنآ‏ ‏أفندى ‏مدرس‏ ‏الرياضة‏، ‏ولا‏ ‏أشرف‏ ‏أفندى ‏مدرس‏ ‏الفلسفة‏، ‏وكان‏ ‏ثلاثتهم‏ ‏ثلة‏ ‏نراهم‏ ‏سويا‏ ‏فى ‏المدرسة‏ ‏وخارج‏ ‏المدرسة‏، ‏فما‏ ‏الذى ‏يجمعهم‏ ‏هؤلاء‏ ‏العزاب‏ ‏ياتري؟‏ ‏فليسرح‏ ‏خيالى، ‏ولتضاف‏ ‏لبنة‏ ‏من‏ ‏نوع‏ ‏آخر‏ ‏فى ‏تكوينى.

قال‏ ‏لى ‏مصطفى ‏أفندى ‏رياض‏ ‏مدرس‏ ‏الإنجليزى ,‏وكان‏ ‏يلبس‏ ‏طربوشا‏ ‏مائلا‏ ‏جميلا‏ ‏وله‏ ‏شارب‏ ‏أجمل‏، ‏كما‏ ‏كان‏ ‏يعزف‏ ‏الكمان‏، ‏قال‏ ‏لى ‏ردا‏ ‏على ‏استشارة‏ ‏مبكرة‏ ‏بشأن‏ ‏مستقبلى ‏وكنت‏ ‏فى ‏سنة‏ ‏ثالثة‏ ‏ثانوى (‏سنة‏ ‏أولى ‏حاليا‏)، ‏قال‏: “‏إذهب‏ ‏حيث‏ ‏تشاء‏، ‏وادرس‏ ‏حيث‏ ‏يتصادف لك‏، ‏فإنك‏ ‏سوف‏ ‏تضيف‏ ‏شيئآ‏ ‏جديدا‏ ‏حيثما‏ ‏ذهبت‏”. ‏ولم‏ ‏أفهم‏ ‏ماذا‏ ‏يعنى ‏آنذاك‏، ‏ولكننى ‏تذكرت‏ ‏كلماته‏ ‏بعد‏ ‏أربعين‏ ‏عاما‏، ‏وكنت‏ ‏وقتها‏ -‏وقت‏ ‏أن‏ ‏تذكرت‏- ‏أسجل‏ ‏إضافة‏ ‏ذات‏ ‏دلالة‏ ‏فى ‏تخصصى، ‏وترحمت‏ ‏عليه‏، ‏كيف‏ ‏رأى ‏هذا‏ ‏هكذا‏ ‏بذلك‏ ‏الوضوح‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏الزمان‏؟‏ ‏

ثم‏ ‏انتسبت‏ ‏إلى ‏أب‏ ‏آخر‏ ‏باختيار‏ ‏مطلق‏,، ‏فما‏ ‏كان‏ ‏الأمر‏ ‏يحتاج‏ ‏إلى ‏إذن‏ ‏منه‏، ‏عرفته‏ ‏فى ‏سن‏ ‏الرابعة‏ ‏عشر‏ ‏حين‏ ‏انتقلنا‏ ‏إلى ‏مصر‏ ‏الجديدة‏، ‏الأستاذ‏ ‏محمود‏ ‏محمد‏ ‏شاكر‏، ‏كانت‏ ‏شقته‏ ‏فى ‏شارع‏ ‏السبق‏ (‏هكذا‏ ‏كان‏ ‏إسم‏ ‏الشارع‏ ‏قبل‏ ‏أن‏ ‏يتغير‏ ‏إلى ‏ما‏ ‏لا‏ ‏أدرى) ‏كانت‏ ‏شقته‏ ‏مرتفعة‏ ‏مثل‏ ‏هامته‏ ‏وفكره‏، ‏أمامها‏ ‏خلاء‏ ‏متسع‏ ‏باتساع‏ ‏خيالنا‏، ‏وكنت‏ ‏أعجب‏ ‏كيف‏ ‏يفتح‏ ‏هذا‏ ‏الرجل‏ ‏العظيم‏ ‏الكبير‏ ‏بيته‏ ‏لشباب‏ ‏وصبية‏ ‏فى ‏مثل‏ ‏سنى آنذاك، ‏وألاقى ‏عنده‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏السن‏ ‏يحيى ‏حقى، ‏ومحمود‏ ‏حسن‏ ‏إسماعيل‏، ‏وعلال‏ ‏الفاسى، ‏وغيرهم‏ ‏كثير‏، ‏وعنده‏ ‏ومنه‏ ‏تعلمت‏ ‏أمرين‏ ‏جوهريين‏ ‏مازلت‏ ‏أستزيد‏ ‏منهما‏، ‏تعلمت‏ ‏ضرورة‏ ‏الإتقان‏ (وهو‏ ‏ماصدر‏ ‏به‏ ‏ديوانه‏ ‏أو‏ ‏قصيدته‏:‏القوس‏ ‏العذراء‏) ‏كما‏ ‏تعلمت‏ ‏منه‏ ‏الحرية‏ ‏الفكرية‏، ‏فقد‏ ‏كانت‏ ‏قضيته‏ ‏معنا‏ ‏ألا‏ ‏نكتفى ‏برسائل‏ ‏الإخوان‏ ‏المسلمين‏ ‏التى ‏توزع‏ ‏علينا‏ ‏كالمنشورات‏، ‏وأن‏ ‏ننهل‏ ‏العلم‏ ‏والدين‏ ‏من‏ ‏مصادرهما‏ ‏الأولى.

6- رأى سيادتكم فى نظرة الناس للمرض والمريض النفسى الأن وهل اختلفت عن الماضى؟

طبعا اختلفت نظرة الناس عندنا للمريض النفسى، واصبحوا أكثر تقبلا للاعتراف بأنه مرض مثل كل الأمراض، بل إن الأمر امتد إلى ما هو أبعد من ذلك، حتى أصبح المرض النفسى، أو تصوره، تبريرا لكثير من السلبيات دون داع، وهذا خطأ كل من الإعلام والأطباء النفسيين وأحيانا الدراما المسطحة فى نفس الوقت.

 إن الاتجاه الأحدث هو تحمل مسئولية المرض، وليس التوقف عن البحث عن أسبابه والتعلل به، وفك العقد، وما أشبه ذلك، الطب النفسى الأحدث لا يتوقف كثيراً عند “لماذا” وإنما ينطلق إلى “إذن ماذا”هنا والآن“، مع كل الاحترام للبحث عن الأسباب لابد أن نتذكر أن الأسباب عادة تقع فى الماضى وكثيرا منها لا يمكن تصحيحه لأنه ماضٍ، الذى يمكن إيقافه فعلاً هو السبب الذى يجرى هنا والآن، فيعطل الشفاء ويضاعف المرض.

الموجة الثالثة للعلاج المعرفى الأحدث تسمى “علاج القبول والإلتزام” ويقابله هنا علاج أمارسه مع زملائنى الأصغر منذ سنة 1970 اسميته علاج “المواجهة – المواكبة – المسئولية” (م.م.م) نحن نواجه الموجود، ونواجه المرض ونواجه الذات والمجتمع (المواجهة) نواجه كل ذلك مع بعضنا  البعض (المريض والمعالجين والمحيطين (المواكبة)، من هنا الاسم: “علاج المواجهة المواكبة المسئولية” لنتحمل مسئولية الاستفادة منه وتجاوزه.

نظرة الناس عندنا للطب النفسى تمادت – للأسف – فى اتجاه مزيد من التبرير والسلبية، فى الوقت الذى يتراجع هذا الاتجاه فى العالم المتقدم، الذى تبين مدى أضرار ذلك،

 وأرجو ألا نكتفى باستيراد السلبيات التى تجاوزها التاريخ دون الإيجابيات التى بعضها هو عندنا من الأصل.

7- سبب حب سيادتكم للطب النفسى؟

لاأنكر أننى أحب مهنتى، فهى مهنة شاقة لا يمكن الاستمرار فيها بأمانة مناسبة إلا إذا كانت تمثل موقفا جوهريا فى وجود من يمارسها، فضل مهنتى على دينى ورؤيتى وحياتى وأبنائى وإبداعى يأتى من المرضى أساتذتى، بقدر ما يأتى من التحريك الذى أحدثوه ويحدثونه داخلى وخارجى، ثم يلحق بهذا وذاك ما يصلنى من معلومات علمية، أحاول أو أوكبها من كل مصدر.

8- سبب زيادة معدلات الإصابة بالأمراض النفسية؟

لا أظن أن هناك زيادة حقيقة فى معدلات المرض، هناك أمراض تكاد تكون ثابتة نسبة حدوثها عبر العالم، وعبر التاريخ، إذ تتراوح نسبة حدوث الفصام مثلا حول الواحد فى المائة من عامة الناس، هذا رقم خطير. وتفسير ذلك يرجعونه أحيانا إلى أن هذا المرض بهذه النسبة قد يكون من المضاعفات اللازمة لمسيرة التطور بشكل أو بآخر.

الذى زاد فعلا هو وعى الناس بقكرة المعاناة النفسية التى يمكن أن تصل إلى درجة المرض، وبالتالى يمكن الاستشارة بشأنها، وعلاجها، أضف إلى ذلك ما سبقت الإشارة إليه من أن كثيرا مما يسمى المرض النفسى قد اصبح تبريرا أكثر منه معاناة حقيقية أو ألم مسئول.

9- نبذة عن أخطر الإمراض النفسية؟

لا يجدر بنا أن نضع ترتيباً للأمراض بهذا الشكل الكمى، هذا خطر، وهذا أخطر، وهذا أخف، المرض مرض، ومسئولتينا هى أن نواجهه معاً مهما كانت خطورته، كثير من الزملاء يشفقون على المريض وأهله ويذكرون لهم اسم مرض أخف بدلا من مرضه الأخطر، معظم الأمراض يسمونها الأطباء عندنا – بقصد التعاطف عادة – باسم اكتئاب. هذا لا يجوز، وحتى تسمية الأمراض بأسماء مخيفة مهما كانت حقيقية هى أمر قد لا ينفع نفعاً كبيراً فى مسيرة العلاج، المهم هو أن نحترم المرض مهما كان خطير، ولا نستسلم له مهما كان الجهد المطلوب كبيرا.

10- الرجل أم المرأة أكثر عرضه للإصابة بالاكتئاب المدمر؟

لا يوجد شئ علمى اسمه الاكتئاب المدمر، وعلينا أن نفرق بين الاكتئاب والحزن الطبيعى الذى هو حق كل إنسان، أنا أفضل الاسم الذى اقترحه استاذنا عبد العزيز القوصى، وهو أن يسمى الحزن الذى يصل إلى حد المرض باسم “الانهباط” وليس الاكتئاب حتى لا تختلط الأمور إن أنواع الاكتئاب هى كثيرة جدا ومتنوعة حتى أن أحدها يمكن أن يكون عكس الآخر.

أما حكاية أن المرأة هى أكثر عرضه للاكتئاب من الرجل فهذا أمر وراد إحصائيا.

المسألة أن للمرأة ظروفاً عامة، فضلا عن ظروفها الخاصة فى مجتمعنا، تجعلها أكثر عرضه لما يسمى الاكتئاب – فعلا – نأخذ مثلا ما يسمى: “كدر النفاس” وهو اكتئاب طفيف جدا يحدث عقب الولادة فى حوالى 60 % من الأمهات، ويزول وحده دون علاج عادة بعد أسبوع أو اثنين.

 ثم خذ التوتر الذى يحدث قبيل الطمث، أو الاضطرابات التى تحدث للمرأة فى الأربعينات أو الخمسينات حين ينقطع الطمث، فإذا أضفنا إلى كل ذلك ما تلقاه المرأة هو عندنا خاصة من ضغوط وقهر وظلم، أمكن الإقرار بأن النساء عندنا بشكل خاص هن أكثر عارضه لهذه المعاناة المسماة ” الاكتئاب” (وغيرها).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *