الرئيسية / حوارات وأحاديث / د. يحيى الرخاوى: التصالح مع الذات أمر فطرى ترعاه التربة السليمة وتقهره التربية القامعة

د. يحيى الرخاوى: التصالح مع الذات أمر فطرى ترعاه التربة السليمة وتقهره التربية القامعة

حوار نشر فى جريدة المصرى اليوم

14-2-2010

حوار د. يحيى الرخاوى :

التصالح مع الذات أمر فطرى ترعاه التربة السليمة وتقهره التربية القامعة

حوار   نشوى الحوفى    ١٤/ ٢/ ٢٠١٠

هل هناك بحق ما يسمى التصالح مع الذات؟ هل نتعلم الصبر والرضا أم نولد بهما لنواجه عثرات الحياة؟ ولماذا يشعر البعض منا ممن حرمتهم الأقدار رغد العيش ووفرته بالرضا والتسامح مع الآخرين، فى حين يفتقدهما من يمتلك نفوذ الدنيا وثرواتها؟

تلك الأسئلة وغيرها أجاب عنها الدكتور يحيى الرخاوى أستاذ الطب النفسى مؤكداً رفضه لكلمة التصالح مع الذات، مفضلاً عليها تعبيراً آخر هو «اتساق الذات»، نافياً ما اعتقدناه لسنوات فى القاعدة القائلة إن فاقد الشىء لا يعطيه، مؤكداً أنه قد يعطى الكثير والكثير، ويحيى فيك الأمل فيقول إن احتفاظ المصرى بحيويته ومقاومته للشيخوخة أو للموت لا يرجع للجغرافيا أو التاريخ بقدر ما يعود للإنسان المصرى ذاته الذى قاوم الفناء والهزيمة عبر التاريخ. فإلى نص الحوار..

■ ماذا يعنى مفهوم التصالح مع الذات؟ وهل هو مفهوم يكتسب من البيئة أم يتم التدريب عليه منذ الصغر؟ وهل هو ذاته ما يتعارف عليه المصريون منذ القدم بمصطلح «الرضا بالمقسوم»؟

ـ لا أوافق على استعمال تعبير «التصالح مع الذات» بهذه البساطة، لأنه يحمل افتراضاً أن ثمة خصومة موجودة بينى وبين ذاتى منذ البداية، وأن علىّ أن أتصالح معها، وهذا غير صحيح إلا بمعنى سطحى جدا. فالإنسان يولد كمشروع وُلاف جدلى مستمر، والولاف هو احتواء حيوى للتناقض، وليس صلحا بمعنى التسوية والترضية، إن تعدد مستويات الوعى فى النفس الإنسانية، الذى يعلن احتواء الإنسان لكل تاريخ الحياة، إنما يتيح حركية نمو قادرة على تكوين ذات فاعلة متسقة مع كل مرحلة من مراحل النمو، وفى الوقت نفسه قابلة للتحور، لاحتواء التناقض الضرورى لاستمرار النمو، وبما أننى أميل إلى الرأى القائل بأن هذا أمر فطرى جاهز، إلا أن التربية السليمة تتعهده وترعاه،

أما التربية القامعة، والمكتفية بضبط وربط السلوك الظاهر، فينتج عنها قشرة قامعة، وداخل مقهور، وبالتالى يصعب تحقيق كل من النمو وحتى التسوية، التى نطلق عليها مجازاً «التصالح»، إلا بجهد جهيد، أما مسألة أن التصالح يترادف مع الرضا بالمقسوم فهى خطأ بحت، لأن الرضا أمر جيد، والمقسوم أمر واقع، وأن يتخلق من هذا المقسوم نوع من الرضا يمكن أن يكون إيجابيا بمعنى البدء باستمرار من «النتائج المتاحة»، لكن الرضا بمعنى التسليم، ليس تصالحا، وليس رضا.

■ فاقد الشىء لا يعطيه… مقولة نكررها كثيراً، ولكن هل تنطبق على مفهوم التصالح مع الذات أيضاً؟ بمعنى أن المواطن إذا فقد شعوره بالأمان، والنجاح، والقدرة على تحقيق الذات فى المجتمع، هل يكون قادراً على منح المصالحة للحياة؟

ـ أظن أيضا أن تعميم هذه المقولة يحتاج إلى مراجعة، ففاقد الشىء يمكن أن يعطى الكثير والكثير، سواء من نفس نوع الشىء الذى فقده، أو بصفة عامة، لأن العطاء ليس بالضرورة مربوطا بما أمتلكه أنا شخصيا الآن، أو حتى بما أخذت، فالعطاء آلية مستقلة يمكن أن يتمتع بها أى إنسان كريم يعرف قيمة نفسه وطبيعة إنسانيته، هناك مثل عامى مصرى جميل يقول «طلب الغنى شقفة، كسر الفقير زيره، جات الفقير وكسه، يا سوّ تدبيره»، وأنا لا أوافق تماما على النصف الأخير من المثل الذى ينبه إلى أن الفقير قد أخطأ عندما أعطى الغنى ما أراد، ولا أعتبر هذا العطاء نوعا من النفاق، فقد يكون فى تصرف هذا الفقير كرم حقيقى، وفرحة بالعطاء والتضيحة لا يعرفها الغنى الذى قد يعميه غناه عن معنى العطاء الحقيقى، اللهم إلا إذا أعقبه منّ أو أذى.

■ يرى البعض أن منظومة النجاح فى مصر غائبة. بمعنى أنه لو وجد ناجح فهو نتيجة مجهود فردى لا مجهود مؤسسى، بالإضافة إلى أن الغالبية لا تستطيع النجاح بمفردها، والأكثر أن البعض يرى أن من يرد النجاح فليرحل لبلد آخر والدليل زويل ومجدىيعقوب وغيرهما.. ما رأيك فى هذا؟

ـ علينا ابتداء أن نعرّف مفهوم النجاح، فهو ليس مجرد تحقيق الشهرة أو المال أو أى إنجاز كمى مادى، وعلينا ألا نقرأ نجاح بعض المصريين فى الخارج على أنه يعنى فشل المصريين فى الداخل هكذا تلقائيا، إن ما يجرى فى مصر منذ عدة عقود ومازال مستمراً حتى اليوم، هو ما سميته «التسيير الذاتى»، أنا أعتقد أن اقتصاد مصر مازال مستورا، وليس بالضرورة ناجحا، نتيجة لتراكم جهود الأفراد كل على حدة، سواء بالسفر للعمل بالخارج، أو بإجادة حرفة ماهرة، أو بالمشروعات الصغيرة الناجحة، وبالتالى لا يمكن أن ننكر على الإنسان المصرى إسهامه فى دعم مسيرة بلده، ولو بدا إسهاما فرديا، أما فرص النجاح الذى يحتاج إلى تعاون مؤسسى منظم، مثل البحث العلمى، أو الإنجاز الطبى الفائق، فأنا معك أن هذا يحتاج إلى تخطيط مركزى، وتعاون جماعى من البداية للنهاية.

■ الصبر، المثابرة، الأمل فى الغد… كلمات يسمعها المواطنون فى المجتمع منذ صغرهم على ألسنة الصفوة. ولكن يختلف الواقع عن الكلام.. هل لايزال لهذه الكلمات تأثير فى حياتنا وخاصة لمن هم من أصحاب المشكلات المزمنة؟ وكيف نحولها لفعل نؤمن به لا كلمات مأثورة؟

ـ كل هذا الذى بدأ به السؤال ليس قاعدة مسلم بها على طول الخط، فالصبر والمثابرة موجودان ربما بدرجة أكبر مما ينبغى أن يوجدا به، لأنهما بالصورة التى تصلنى أحيانا من معظم المصريين يؤجلان ثورة لأزمة أحيانا، الإنسان المصرى صبور حتى على حاكمه السئ، واثق أن الزمن فى صالحه، فهذا الحاكم السيئ إما أن يرحل، أو تأتى له مصيبة تأخذه، كما يقول المثل المصرى أيضا، لكن هذا ليس أمرا جيدا على طول الخط كما ذكرت أما فقد الأمل فى الغد فأظن أن الأمر ليس كذلك، خاصة عند الشباب حتى لو غلبته البطالة أو افتقد الدعم الرسمى.

 ولذا فإن حركية الشباب على الإنترنت، وتواصلهم متجاوزين الوصاية المركزية والإعلام السلطوى، وابتداعهم للغتهم الخاصة الجديدة المتحدية، كل ذلك يشير بطريق مباشر أو غير مباشر إلى أنهم لم يفقدوا الأمل بعد.

 أما أصحاب المشكلات المزمنة، فهم أصبر من أصحاب المشكلات العاجلة القابلة للحل السريع، وأخيرا: فإن تحويل هذه الكلمات إلى أفعال تصحيحية يبدأ بإعادة النظر فيها، وعدم التسليم بالمقولات الشائعة، لمجرد أنها شائعة، ثم البحث عن البداية بحيث يجد كل واحد نفسه قادرا على أى بداية مهما تواضعت، إلى أن تتغير الفرصة ويصبح العمل الجماعى مؤثرا تأثيرا فعليا، وليس مظاهرة انتخابية مشكوك فى مصداقيتها، كل ذلك جار ويتزايد باستمرار فى واقع الحال مهما بدا الأمر غير ذلك، ومهما تغافل عنه الظالمون والمغيبون بخدر السلطة.

■ كيف تؤثر الأحداث السياسية والمعطيات التى يرى البعض أنها فى غاية السوء على واقع المواطن البسيط وعلاقته بالحياة اليومية لواقعه؟

ـ ذكرت حالا أنها تؤثر فى تعميق الصبر من ناحية، وربما فى حفز المبادرات الفردية من ناحية أخرى، هذا من حيث موقف وموقع الذين يقبلون التحدى، أما الذين يتوقفون عند اتخاذها تبريرا لمزيد من الكسل والسلبية، فهم يساهمون فى سوئها دون أن يدروا، وأنا لا ألومهم، لكننى أنبه إلى أنهم للأسف يدفعون بذلك الثمن مضاعفا، طالما أن المسؤول عن هذه السلبيات السياسية هو فى موقعه يمارس مزيدا من السلبيات والعمى والظلم، وهم الذين ستزيد معاناتهم.

■ البعض يرى أن المصريين لم يعودوا مهتمين بالشأن العام، منكبون على الشأن الخاص موغلون فيه. وهذا تفسير رضاهم عن الواقع المعاش أو عدم اهتمامهم بما يحدث فيه؟ هل هذا صحيح؟

ـ لا أعرف هل تقبلين كثرة استشهادى بأمثالنا بهذه الوفرة أم لا، أعلم أن الاستشهاد بالأمثال ليس إيجابيا دائما، ولكن حضرنى مثل آخر لا أستطيع أن أقاوم الاستشهاد به، يقول المثل «قال يلعن أبوك اللى مات من الجوع، قال هوا لقى أكل ولا كلشى»،

 فإذا استعملنا هذا المثل ردا على سؤالك، فيمكن قياساً أن نقول: «قالوا الله يخيبك عشان ما بتشاركشى فى الشأن العام، قال هو أنا لقيت فرصة مشاركة وما شاركتش». فنحن لا يوجد عندنا أى فرصة حقيقية للمشاركة فى اتخاذ القرار، أو محاسبة من يتخذ لنا قراراتنا دون إذن منا، أو حتى المقاضاة بما يحقق العدل، فكيف بالله عليك نطالب عامة الناس بالمشاركة فى الشأن العام، وكيف نلام على أننا حولنا اهتمامنا لما ننقذ به أنفسنا أفرادا فجماعات صغيرة، مما يلحقنا ممن يتولون شؤوننا العامة دون إرادتنا، إن هامش الحرية أو الديمقراطية الذى يتحدثون عنها هو قاصر على السماح بالكلام، وأحيانا بالسباب، فى صحف المعارضة مثلا أو الصحف المستقلة،

 أما ما يترتب على هذا الكلام أو النقد الذى يصل أحيانا إلى القذف فهو ضئيل جدا، لا توجد حياة سياسية دون انتخابات حقيقية، وأحزاب غير ورقية، وفرص موضوعية لتبادل السلطة،، وبالتالى يصبح الاهتمام بما يقيم أود الأفراد وأسرهم هو الممكن، حتى التعليم، أصبح مسؤولية الأفراد والأسر سواء بلجوء الأغنياء إلى المدارس الأجنبية، ولجوء المتوسطين إلى الدروس الخصوصية، والتنازل عن حق التعليم أصلا عند الأفقر فالأفقر.

■ هل مظاهرات أو «اعتصامات الخبز» كما يحلو للبعض تسميتها وهى تلك الوقفات الاحتجاجية التى تعبر عن رفض الأفراد لواقعهم المادى فى مجال عملهم. مثل الضرائب العقارية أو المدرسين أو غيرهم من المهن…. هل هذه المظاهر تتعارض مع حالة التصالح مع الذات أو الرضا الشخصي؟

ـ لا طبعا، صحيح أنها بلا فاعلية فى نهاية النهاية، اللهم إلا تصحيحات تسكينية هنا أو هناك إذا استمرت الاحتجاجات متحدية بدرجة كافية، لكنها لا تتعارض إطلاقا مع ما تسمينه التصالح مع الذات، إن المطالبة بالحق، أو الاحتجاج لرفع الظلم، هو احترام للذات، وتمسك بحقوقها، فكيف تتعارض مع التصالح معها.

■ يرفض البعض مقولة إن مصر ماتت أو شاخت… مؤكدين أن مقومات الحياة فى هذا البلد من تاريخ وجغرافيا قادرة على حمايته من أى موت قد يُظن به. كيف ترى ذلك؟

ـ طبعا مصر لم تشخ، ولم تمت، ودعينى أقول إنها لن تموت، المصرى إنسان حضارى ليس لأن أجداده هم قدماء المصريين الذين بدأوا الحضارة كما يعرفها التاريخ الحالى، ولكننى أعتقد أن فى المصرى «شيئا ما» عميقا جدا، وأصيلا جدا، يمنعه أن يموت، ارتباط المصرى بالأرض، وبالناس، وبالتاريخ، هو أكثر تجذرا من أن يقضى عليه حكم خائب طال عشرات السنين، الأجانب الذين يشمون هذه الرائحة العطرة فى عرق المصريين وسلوكهم يتمسكون بالبقاء فى مصر بديلا عن بلادهم الأكثر تحضرا، والأوفر حقوقا ورفاهية، التعامل بين الناس المصريين يرتبط بالعرف الإيجابى، أكثر مما يخضع لقانون مكتوب «أعمى» فى كثير من الأحيان. إن احتفاظ المصرى بحيويته ومقاومته للشيخوخة أو للموت لا يرجع للجغرافيا أو التاريخ بقدر ما يرجع إلى الإنسان المصرى الذى قاوم الفناء والهزيمة عبر التاريخ.

■ أب يفقد زوجته وابنتيه فى انهيار عمارة لوران بالإسكندرية فيقيم جمعية لمحاربة الفساد… زوجة يموت زوجها بالتهاب كبدى وبائى تاركا لها ثلاثة أطفال تصر على تربيتهم من كدها وفى ذات الوقت لا تترك محتاجاً بلا مساعدة… كيف تتعايش هذه النماذج فى ظل واقع مؤلم بل تصر على العطاء؟

ـ إن السؤال نفسه يحمل معالم الإجابة، هذا الأب عمل جمعية تحارب الفساد، وتلك الأم واصلت تربية أطفالها، ماذا تريدين منهما أكثر من ذلك؟ وهما مجرد نموذجين أنت التى قدمتهما لنا فى سؤالك، وهذا هو دليل على أن هذا النموذج أو ذاك ليس فرديا بالضرورة، بل لعله القاعدة حتى نجد الحل الأكثر عمومية، والأبقى فاعلية، والأقل ظلما.

■ هناك من تتوافر لهم كل مباهج الحياة ومقومات النجاح ولكنهم غير متصالحين مع ذواتهم يطمعون فى المزيد… رجال أعمال… ساسة… وغيرهم كثيرون.. ما تفسير ذلك؟!

ـ أوافقك أن هذا وارد، فالتصالح مع الذات، سواء بمعنى التسوية التى رفضتها أنا فى أول الحوار، أو بمعنى حركية النمو، وهارمونية التناسق داخليا وخارجيا، هذا أو ذاك غير وارد عند كثيرين من الأثرياء المغتربين تماما حتى عما جمعوا ويجمعون، إن الجشع هو الذى يحرم صاحبه حتى من التمتع هو شخصيا بما جمع، وربما لا تصدقيننى إذا قلت لك إننى أشفق عليهم فى كثير من الأحيان، برغم كل ما جمعوا وكنزوا.

■ الامتلاء النفسى بالشبع رغم الجوع، والعزة رغم الفقر…والعطاء رغم العجز… كيف نحققه؟

ـ أظن أن هذا وارد عند أغلبنا، ليس كفضيلة نتباهى بها بالألفاظ، ولكن كواقع نتعايش معه، ونتحدى من خلاله أى هزيمة داخلية، الإنسان – المصرى أو غير المصرى – لا ينهزم لأن الواقع أقوى منه، أو لأن الظلم قد تجاوز مداه، وإنما هو ينهزم إذا قبل الهزيمة، والأرجح عندى أن كثيرين من المصريين لا يقبلون أن ينهزموا داخلياً، وبالتالى فهم يحتفظون بالعزة والتحدى حتى داخل السجون أو فى الغربة القاسية أو وهم يربطون بطونهم وبطون أطفالهم حتى تفرج بسعيهم، ورحمة ربنا، إلى أن نثور بما ينبغى، كما ينبغى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *