الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / مسيو إبراهيم ..(2) الإبداع طريق الإيمان. من ديستويفسكى إلى شميت مرورا بمحفوظ

مسيو إبراهيم ..(2) الإبداع طريق الإيمان. من ديستويفسكى إلى شميت مرورا بمحفوظ

نشرت فى روز اليوسف

30-12-2005

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

أما قبل

التحدى الملقى على وعى البشر اليوم هو أن الإنسان أصبح مشاركا فعالا فى مسيرة تطوره، ليس بالضرورة مشاركا image002إيجابيا، الزمن أبدع الحياة – بفضل الله-، والإنسان بغروره يتصور أنه يقف على قمتها. هل هى الأمانة التى حملها الإنسان فكان ظـلوما جهولا؟ (ظلم نفسه جهلا بثقل الأمانة)؟ ليكن. من هذا المنطلق يصبح أخطر المجالات التى من طبيعتها أن تحرك مجاميع البشر فى اتجاه بذاته، والتى– للأسف- يديرها قلة مشبوهة من الناس دون الباقى، قلة  تمارس تأثيرها فى مجالين متداخلين مهما حاولنا الفصل بينهما: الدين والسياسة، أغلب ما عدا ذلك من نشاطات بشرية هى وسائل يستعملها الذين يحركون مجاميع الناس فى هذا الاتجاه أو ذاك. العلم والمعلومات-مثلا- يتوقف أثرها على من يستعملها أو يحركها لصالح أوضد المسيرة البشرية (أشهر مثال: الطاقة الذرية). الحديث عن الدين والسياسة هو من أهم ما يجب تناوله ونحن نبحث فى الإنسان. إن  ما يسمى فوز الإخوان هو فى حقيقته إعلان حجم من نجحوا أن يذهبوا إلى صناديق الانتخاب ممن هم إخوان، أو ممن هم متعاطفون مع الإخوان، أو ممن هم آملون فى الإخوان، ما هو الدافع إلى مثل هذا التوجه، وأين يقع من لم يذهبوا، علما بأن النتائج لن تصيب الذين انتخبوا منا خاصة؟ هذا بعض ما نحاول الكشف عما تيسر منه الآن.

مسيو إبراهيم ..(2) الإبداع طريق الإيمان.

من ديستويفسكى إلى شميت مرورا بمحفوظ

الذين يعبدون الله على حرف يتمحكون فى معلومة من هنا، أو رأى عابر جاء فى حوار فى رواية أو مسرحية هناك، فيهتفون أو يصرخون أن الله سبحانه موجود كما جاء فى قول فلان (فى رواية كذا صفحة كيت)، والذين يعبدون الله على حرف أيضا، يلتقطون معلومة علمية جزئية محدودة، فيها شبهة تماس مع بعض ألفاظ آية كريمة، وهات يا تفسير الدين بالعلم، ، بما يشوه كلا من الدين والعلم معا، فريق ثالث يجد حجرا عليه نقش عشوائى بما يشبه رسم الكعبة مثلا، وهات يا تصوير، ويا تصفيق ويا تسويق. ألا يدل كل ذلك وغيره على اهتزاز إيماننا، وعدم ثقتنا فى مصداقيته بذاته لذاته؟ معظم الناس، بما فى ذلك جمهرة من العلماء، ناهيك عن المشايخ، يتصورون أننا نتعرف على أنفسنا والكون بما يسمى “العقل”. البحث فى المنهج مؤخرا جدا (العلم المعرفى) اتسع ليعلمنا أن العقل (كما نعرّفه تقليديا) ليس هو الوسيلة الوحيدة للمعرفة الصحيحة،  لكنه وسيلة جيدة جدا، وضرورية، فى حدود إمكاناتها، وهى قليلة بالنسبة لحجم الحقيقة الممكنة والمجهولة. الوسائل الأخرى هى عديدة وربما أكثر أصالة ، تكفى الإشارة هنا إلى أن كلا من وعى الجسد ومستويات الوعى الأخرى تشترك بجرعة أكثر إيجابية فى عملية الإبداع الخلاّق. الزعم بأن الإسلام دين العقل، وأن “ربنا عرفوه بالعقل” هو زعم يختزل الدين والله عز وجل إلى ما نفهمه، لا من نتوجه إليه وقد وسع كرسيه السماوات والأرض، ليس كمثله شىء. كيف يمكن أن يكون الإبداع طريقا إلى الإيمان، وكيف أن أجهاضه و قهره إنما يحرم الإنسان من حركية الإيمان، وبالتالى من الكدح إلى ربه ليلاقيه.

منذ أيام كتبت  فى الأهرام 26( الجارى) ما يصلح مقدمة لهذا المبحث، كتبت ما يلى :

 “الإيمان أصلٌ فى الوجود، والدين أحد تجلياته، بوحى ورحمة من الله عبر أنبيائه عليهم السلام. الإيمان ليس مرادفا للدين. الخائفون من تدخل السلطة الدينية بجمود معوّق، راحوا يلقون بالطفل (الدين) مع السلة التى يريدون التخلص منها (السلطة الدينية)، ثم يكتفون بإعلان السماح للأفراد أن يتدينوا بعض الوقت، أو كلما لزم الأمر!!،

……..تظل حركية الإيمان/الإبداع هى الوجود البشرى فى أنقى صوره. الإيمان موقف وجودى حياتى حيوى، يمتد بالوعى البشرى إلى الوعى الكونى كدحا إلى ربنا لنلاقيه، هو عملية فردية/جماعية بقائية تطورية مستمرة، لا يمكن تهميشها بأى قرار أو تنظيم، كما لا يمكن حبسها بأية وصاية أو تقـزيم.

القراءة

image004من أهم ما يفسر التسطيح الذى يتناول به الناس مسألة الدين ما شاع بفرحة غامرة عن كيف أن ديستويفسكى فى “الإخوة كارامازوف” قد أنهى أو كاد ينهى الرواية بإعلان ما معناه “إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، (أذكر أن الرواية حين تمصرت فيلما “الإخوة الأعداء” وقيلت هذه الجملة بلهجة خطابية فى الفيلم، صفق الناس فى الصالة، وهللوا). هؤلاء الناس الطيبون قد يكون منهم من انتخب الإخوان، أو أمِل فيهم. وهم بذلك يعلنون أن شوق البشر إلى ما يدعم علاقتهم بالله هو شوق بلا حدود. موقف مثل هذا، ومثل التفسير العلمى للقرآن هو موقف يعلن ضعف علاقتنا بربنا، وبالإبداع، وبالوعى، وبالإيمان، ومن ثم : بالدين، وبالسياسة. هذا الموقف يكاد يختزل الدين (فالإيمان) إلى ما يثبط حركية السعى إلى وجه الله (بالإبداع والعبادات). إن المبالغة فى الفرحة ببعض المعلومات المتواضعة فى بعض الآيات، أو بإسلام الخواجة الفلانى المهم جدا، وأن هذا وذاك يثبت أن “ديننا كويس جدا”، وبالتالى علينا أن نتمسك به، وننتخب بالمرة كل من يلوّح لنا أنه قادر على نشره وصيانته، هو دليل على أغلبنا يعبد الله على حرف.

نرجع إلى قول “إيفان كارامازوف ما معناه:  إذا لم يكن الله موجودا فكل شىء مباح”، نقيمها

المقتطف (من نص كارامازوف)

‏”… ‏فإذا‏ ‏فقدت‏ ‏الإنسانية‏ ‏هذا‏ ‏الاعتقاد‏ ‏بالخلود‏ ‏فسرعان‏ ‏ما‏ ‏ستغيض‏ ‏جميع‏ ‏ينابيع‏ ‏الحب‏، ‏بل‏ ‏سرعان‏ ‏ما‏ ‏سيفقد‏ ‏البشر‏ ‏كل‏ ‏قدرة‏ ‏على ‏مواصلة‏ ‏حياتهم‏ ‏فى ‏هذا‏ ‏العالم‏، ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لن‏ ‏يبقى ‏شئ‏، ‏يعد‏ ‏منافيا‏ ‏للأخلاق‏. ‏وسيكون‏ ‏كل‏ ‏شئ ‏مباحا‏ حتى أكل لحوم البشر(91)

مقتطف (الناحية الأخرى) من نفس الرواية:

فيدور‏:‏ “‏أما‏ ‏أنا‏ ‏فلا‏ ‏مانع‏ ‏عندى ‏من‏ ‏أن‏ ‏أعتقد‏ ‏بوجود‏ ‏الجحيم‏ ‏ولكن‏ ‏شريطة‏ ‏ألا‏ ‏يكون‏ ‏لها‏ ‏سقف‏”.‏

إيفان: “‏خسارة‏… لا‏ ‏يعلم‏ ‏أحد‏ ‏ماذا‏ ‏كان‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏أصنع‏ ‏به‏ ‏ذلك‏ ‏الذى ‏اخترع‏ ‏الله‏ ‏أول‏ ‏من‏ ‏اخترعه‏، ‏إن‏ ‏الشنق‏ ‏قليل‏ ‏عليه‏”

كتبت – ناقدا – من وحى هذه الرواية ” إنه‏ ‏لم‏ ‏يظهر‏ ‏فرد‏ ‏فى ‏الرواية‏ ‏صغيرا‏ ‏أو‏ ‏كبيرا‏ ‏لم‏ ‏تمثل‏ ‏عنده‏ ‏قضية‏ ‏الإيمان‏ ‏ووجود‏ ‏الله‏ (‏وليس‏ ‏فقط‏ ‏الدين‏) ‏محورا‏ ‏خطيرا‏ ‏وأرضية‏ ‏متفجرة‏، ‏لا‏ ‏الأب‏: ‏الشهواني‏/ ‏الفيلسوف‏/‏الطفل‏.. ‏المنحل‏ ‏الوحيد‏، ‏ولا‏ ‏إيفان‏: ‏الملحد‏ ‏المثقف‏ ‏المتألم‏ ‏المحتج‏ ‏الجاف‏ ‏المنسحب‏، ‏ولا‏ ‏أليوشا‏ ‏المؤمن‏ ‏الراهب‏ ‏الطيب‏ ‏المسامح‏ ‏الشاكّ‏ ‏قليلا‏، ‏ولا‏ ‏ديمترى: ‏المندفع‏ ‏اللـّذّى، ‏ولا‏ ‏إيليوشا‏ ‏ابن‏ ‏الكابتن‏ ‏سينجريف‏ ‏ولا‏ ‏أبوه‏ ‏ولاإخوته‏، ‏ولا‏ ‏أمه‏.” أوصلنى نقدى للرواية إلى فرض يقول باستحالة الإلحاد بيولوجيا، بمعنى أنه وصلنى كيف أن تنظيم الخلية البشرية فى ذاته، يتوجه بطبيعة فطرته نحو استعادة هارمونيته مع تنظيم العالم على اتساعه، وأن الوعى بهذا النزوع يوجهنا بشرا لنبدع أنفسنا بتجدد متصل نحو استعادة التوازن مع الكون، فنؤمن، وأن  أية مخالفة لهذا القانون البيولوجى الحافز إلى التناسق الإيمانى، ليس إلا من ألعاب العقل المبرمج حديثا من خارجه، أما الخلية فتظل مبرمجة تطوريا بما يوجهها إلى إطلاق فطرتها، الأمر الذى لا مجال لتفصيله هنا والآن. المهم أن قضايا الإيمان والتدين تتفجر بكل إشراقها من أصالة حركية الإبداع، وأن هذه الحركية هى الآلية  الأساسية اللازمة لتحريك  جدل الإيمان. ديستويفسكى لم يقصد أن يجعلنا مؤمنين، لكنه حقق ذلك بمجرد أنه سمح لفطرة إبداعه أن تتجلى دون وصاية سلطوية تقزمها، أو تجهضها. القراءة الوصية السلطوية لنفس هذه الرواية يمكن أن تحاكمها  من خلال بعض الحوارات محاكمة لا تحرمنا فقط من إسهامها لكشف الطريق إلى الإيمان، ولكن أيضا قد تبرر محاكمة كاتبها، أو حتى قتله.

نجيب محفوظ

لم يعد ثم مجال للشك فى أن قارئ نجيب محفوظ الذى يحسن الإنصات إلى رسائله، لا بد أن يصل إلى الإيمان اليقين من أكثر من طريق، وبأكثر من لغة. يتحرك إبداع هذا الرجل طول الوقت وهو يكشف لنا بعض ما نستطيع تحمله، على قدر ما يستطيع هو أيضا تحمله، من جرعات الإيمان المتصاعدة. فى رأيى أن أضعف ما تناول به محفوظ هذه  القضية هو رواية “أولاد حارتنا” خصوصا حين وضع فى النهاية مسؤولية حل الإشكال الأساسى  بين يدى عرفة (العلم) ليعيد الحياة إلى الجبلاوى. هذه مهمة تحتاج إلى  علم آخر، بمنهج آخر، غير ما ألمحتْ له نشاطات عرفة قرب النهاية، وغير ما كان معروفا عما هو “علم” وقت كتابتها.

image010مقتطفات من محفوظ

أولا : من ملحمة الحرافيش

فى حوار بين فلة وعاشور الناجى الكبير، تسأل فلة:

 ” كيف يلقاك الناس يا عاشور؟”

 فيرد “كل يعمل على قدر إيمانه”،

 الإيمان فى هذا السياق الإبداعى المخترق يمكن أن يعيننا لنستلهم فهما جديدا لإسلام الأعراب الذى ميزته الآية الكريمة عن  الإيمان الذى لا يكون إلا أن يدخل القلوب :

“قالت الأعراب آمنا، قل لم تؤمنوا، ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبكم”،

ثانيا: من أصداء السيرة الذاتية

فى أصداء السيرة الذاتية حضرت إشكالة الإيمان والموت والخلود بشكل متكرر متنوع لتخدم نفس فكرة تحريك الوعى، لإيقاظ الفطرة سعيا إلى وجه الحق تعالى. لعل أكثر الفقرات مباشرة، وإن كانت لا تصل إلى سخف رمزية أولاد حارتنا هى الفقرة بعنوان الزيارة‏ ‏الأخيرة”   ففيها أرجع الكاتب الفضل كله لصاحب الفضل، وأوضح كيف أنه بالرغم من فضله هذ،ا فقد أنكره أغلب من تفضل عليهم، بل وتنكروا له، حتى نسوه، لتنتهى الفقرة بالتذكرة بأن الموت هو اليقين الذى لابد وأن يثبت أن الوفاء هو الأجدر بمن وعى فضله باحثا عنه حامدا صنيعه.

  “‏ولم‏ ‏تحل‏ ‏تلك‏ ‏الصعوبات‏ ‏بين‏ ‏الرجل‏ ‏ورغبته‏ ‏فمضى ‏من‏ ‏فوره‏ ‏إلى ‏الإمام‏، ‏كان‏ ‏يقوده‏ ‏شعور‏ ‏قوى ‏بالوفاء‏، ‏وبأنه‏ ‏ذاهب‏ ‏إلى ‏غير‏ ‏رجعة‏..”‏

الفقرة المسماة “‏المصادفة”  أظهرت كيف أن الاعتذار عن غرور الإنسان بنفسه، يبدو أهم من الاستغفار، وأنه مهما نضج الفرد حتى تصور أن بإمكانه أن يستقل عن تلك القوة الداعمة الجبارة المساندة، فإنه فى نهاية النهاية سوف يعرف أنه “لا غنى عنه … وأن لقاءه، هو مصادفة سعيدة”.

وفى الفقرة ‏بعنوان “‏الانبهار”  كان الذى حافظ على استمرار العلاقة الجدلية نحو الإيمان حية حركية هو حضور الأسئلة المستعصية دون جواب، حيث يسمع كل سائل فى جوف الصمت العميق، يسمع  “الجواب الذى يغيثه” لتنتهى الفقرة كما يلى:

…. لم‏ ‏أرَ‏ ‏حركة‏ ‏تدب‏ ‏فى ‏شفتيه، ‏ ‏ولم‏ ‏أسمع‏ ‏صوتا‏ ‏يند‏ ‏عن‏ ‏فيه‏، ‏ورجعت‏ ‏من‏ ‏عنده‏ ‏وسط‏ ‏جموع‏ ‏قد‏ ‏انبهرت‏ ‏بما‏ ‏سمعت‏ ‏لحد‏ ‏الجنون”‏.‏

الإجابات‏ ‏الصامتة‏ ‏عن‏ ‏الأسئلة‏ ‏الصعبة‏ ‏الغامضة هى ‏الإجابات‏ ‏الحقيقية‏ ‏القادرة على تحريك الوعى إلى غايته‏، ‏وهى ‏إجابات‏ ‏تأتى ‏من‏ ‏الداخل‏/‏الخارج‏ (وبالعكس) ‏مباشرة‏ ‏بيقين‏ ‏ليس‏ ‏كمثله‏ ‏شئ‏، كل‏ ‏إبداع‏ ‏محفوظ‏ – تقريبا- يحرك فينا مثل هذه الأسئلة التى تدفعنا إليه حيث يدور ‏حول‏ ‏الله‏ ‏والخلود‏ ‏والوعى ‏بالنهاية‏/‏البداية‏، ‏والحوار‏ ‏مع‏ ‏الأقدار، يفعل ذلك وهو يثير – بسلاسة متسحبة- الأسئلة التى هى هى الإجابات ( أولاد حارتنا، لم يكن فيها هذا التسحب)

image008مسيو إبراهيم وزهور القرآن

الرواية القصيرة، أو القصة القصيرة (وقد طالت قليلا)، تأليف إيمانويل شميت وترجمة محمد سلماوى) تحكى عن بقال مسلم فرنسى من أصل أناضولى يعيش فى باريس، ماتت زوجته من سنوات (هذا ما علمناه قرب النهاية)، يصادق صبيا يهوديا فرنسيا منذ كان فى الثانية عشر، فيتعرف الصبى من خلال لقاءاتهما، وحواراتهما، على إيمان وتصوف عم إبراهيم (هكذا أسميه، وليس مسيو إبراهيم) يرد عم إبراهيم على أسئلة “(موييس/مومو/محمد)، فيما يتعلق بما يدهشة من هدوئه، وسلوكه، ورضاه، ويقينه، يرد عليه بأنه “يعرف ما فى قرآنه”، التعبير كان دقيقا، وقد أرسلت لأحصل على النسخة بالفرسية لاتأكد من أصله، (وهو غير التعبير الذى جاء فى مقدمة المترجم القدير، محمد سلماوى حين ذكر ذلك باعتباره:”..الإيمان بما ورد فى القرآن”.) ثم  يهرب والد الصبى متخليا عن ابنه بعد أن انفصل عن أمه سنين عددا، ثم يتمادى فى الهرب بانتحاره، فيقوم عم ابراهيم بتبنى الصبى، بناء عن طلبه، ويقومان برحلة معا، يتعرف إبراهيم قبلها وأثناءها عن معنى التصوف، فكرا وفعلا ورقصا وتواصلا معا فى توجه شامل إلى وجه المطلق والحقيقة والحق تعالى. ولا يفوت المؤلف، أن يعرض لنا كيف كان عم إبراهيم يتعاطى الكحول، وأحيانا يعطى image006بعض النقود للصبى ليزور الغانيات، كل ذلك فى جو من السماح والحوار ومحاولة الصدق والبحث عن الحيققى والحقيقة .

لن نعيد المقتطفات التى أوردناها فى العدد السابق، فهى دالة فى ذاتها لمن قرأها، والأفضل أن تقرأ فى سياقها: الرواية، مثل كل إبداع عميق، وجاد، ومحرك، تتعرض لقضايا خطيرة، يمكن أن تثير إشكالات نقدية متعددة، كما يمكن أن تستثير اعتراضات دينية قهرية بلا حصر. وبالتالى فإن أيا من هذه القضايا يمكن أن يتناولها أصحاب الشأن، أو أولوا الأمر، بطريقتين متناقضتين تماما. ومنها:

image0121- ارتباط فكر التصوف بنظرية التطور، وامتداد الأصل حتى النبات، واحتمال تذكر ذلك.

2- الحلال والحرام، وهل تصوف مسيو إبراهيم يسمح له بتناول الكحول؟ وهل فى هذا سماح ضمنى لقارئ شاب، ومن ثم التشجيع على فساده !! ؟؟

3- الإشارة إلى اختلاف قراءة القرآن عن حضوره فعلا ماثلا (مع تذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه: خلقه القرآن)

4- تقييم تعبير:”أعرف ما فى قرآنى”، والفرق بينه وبين ما جاء فى مقدمة المترجم “الإيمان بما جاء فى القرآن”.

5- دور حركية الجسد فى تحريك الوعى، فالمعرفة من أول جلسة عم إبراهيم ساكنا كنبات حى، حتى رقصة التنورة، إلى أن يعلنها عم إبراهيم صريحة، وأن الكاحل يفكر أفضل.

“..ذكاؤك فى كاحلك، ولكاحلك طريقة عميقة فى التفكير”

6- كيفية عرض الموت وعلاقته مع ما سبق إيراده من فرض فى هذا الباب، حين قرأنا نقدا “بائعة أعوادالكبريت الصغيرة”، لهانز أندرسون،  باعتبار أن الموت هو وعى بينىّ، وعى بين الوعى الشخصى والوعى الكونى. ظهر ذلك فى قول مسيو إبراهيم :

– صه، لا تقلق، إنى لن أموت، بل سألحق بالاتساع اللانهائى.

اختبار النوايا والشجاعة

 إذا كانت الوزارة المدنية الحالية، بجلالة قدرها، وادعاء علمانيتها، لم تستطع أن تقف فى وجه ما أثير من قضايا أقل من ذلك بكثير، مثل “وليمة أعشاب البحر” ثم حكاية قصور الثقافة والثلاث روايات، فكيف يمكن أن يتناول الحكام الذين سوف يحكمون باسم الإسلام بعض ذلك؟ أفترض أن كثيرين من الإخوان، أو حتى قلة قليلة، ممن يحترمون فطرة الله التى فطر الناس عليها يقفون إلى جانب الإبداع طريقا إلى الإيمان بلا حدود، لكن، ما كل ما يتمنى الحاكم يدركه، وما كل ما تراه السلطة السياسية الإسلامية، حتى لو وعدت وصدقت، يمكن أن تنفذه.

image016نحن نعرف أن البشر فى شوق شديد إلى نوعية أخرى من الحياة، وطريقة أخرى من التفكير، وحضور آخر للمنهج، ومساحة أخرى من الحرية، ذلك لأن النموذج المطروح من الغرب عالميا وعولميا قد تمادى فى الاهتمام بالكم، والرفاهية، وغرور الإنسان، الحرية المشبوهة المتحيزة، لكن  هذا النموذج الذى لاح لجارودى فى ابن عربى، ولاح لديستويفسكى فى عمق دينه، ولاح لمحفوظ فى كل وعيه، ولاح لشميت فى زهور القرآن،  لا يتحقق بإعلان تطبيق الشريعة ظاهرا، ثم إنكار كل زخم الإيمان وإبداع التصوف وكأننا نلقى بكنوزنا فى القمامة لنحتفظ بالوعاء أو الغطاء بديلا عنها، نحن فى حاجة إلى ثورة  نسترد بها كنوزنا منهجا وتصوفا وإيمانا مبدعا، ثورة تحد من قهر السلطة الدينية لوعى الناس وإجهاض إبداعهم، تلك السلطة التى تواصل فرض وصايتها ليس فقط على الحكومات المدنية، وإنما أيضا على دور النشر، وعملية التفكير، وفرص الاجتهاد، ورحابة التفسر وإبداع الاستلهام ، فما بالك إذا كانت السلطة الحاكمة تزعم أنها إسلامية ملتزمة بتفسيراتهم؟

هذا ، وليس تصريحات الطيبين منهم، هو ما ينبه إلى خطورة تسلمهم مقاليد الحكم، دون فصل دستورى دائم بينهم وبين تلك السلطة المحتكرة تفسير النصوص دون إعادة استلهامها. إن الحصول على الأصوات تحت شعار واعد –ضمنا- بإحياء الفطرة السليمة، ثم تسليم نتيجة هذه الأصوات لسلطة محتكرة وصية قامعة، هو بمثابة التزييف الذى أخذناه على الحزب الوطنى حين قام  بتحويل أصوات الذين انتخبوا المستقلين فجعلوها أصواتا لصالح الحزب الوطنى. المسألة فيما يتعلق بالسطة الدينية وقهر الإبداع، هى  أخطر، وأكبر خداعا.

 الاختبار الحقيقى  لنوايا السلطة المرشحة للتداول، وأيضا لشجاعتها فى مواجهة السلطة الدينية الرسمية، هو أن  تتبنى فتاوى الحرية الطليقة طول الوقت فى كل المجالات، ثقة فى وعى الناس وإبداعهم وقدرتهم على الاستلهام المتجدد،  فتبدأ بإعلان السماح  بالدخول والخروج من هذا الدين القوى، لأنه متين، لا يقل متانة وثقة بنفسه عن الأديان الأخرى، وبما أننا سمحنا أن يدخل ديننا مَـنْ ليس منه، بل راح بعضنا يهلل لذلك ويكبر، (خاصة إذا كان الداخل خواجة معروف عنه الفهم والتفكير)،  فالعدل يقول إن المعاملة ينبغى أن تكون بالمثل، وإلا وضعنا ديننا فى موضع الأضعف المهزوز، ثم إن الفتاوى الشجاعة الكريمة جاهزة لقصر حد الردة على زمن الحرب (ما يقابل الخيانة العظمى)، هذا تكرارا لن أمل من ذكره احتراما لدينى، وثقة به.

 إن فقهاءنا المتنورين قد أعلنوها وتحملوا مسؤولية إعلانهم،

 فما هو موقف من يلوّح بالوعود ويتعهد بدوام ما يسمى الديمقراطية؟

وأين الضمان؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *