الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / أنا واحد ولاّ كتير؟ (7) …. رحلة فى سراديب النفس

أنا واحد ولاّ كتير؟ (7) …. رحلة فى سراديب النفس

نشرت فى روز اليوسف

17-2-2006

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

أما قبل

فى العدد الماضى قرأنا معا – يارب يكون حصل – كيف يمكن أن تزدحم المشاعر داخل الذات البشرية للتآلف، لنحيا كما خلقنا الله. الصورة التى قدمناها لم تكن شعرا كالشعر، كانت محاولة قراءة فى عيون من واقع تجربة تحاول أن تـُـظهر أن ازدحام كل المتناقضات مع “حركية الاقتراب ó الابتعاد”، وكذلك مع تنشيط برنامج النمو الدائم، “برنامج ó الدخول والخروج”، كان هذا وذاك يجرى مستعرضا فى نفس العين، فى نفس الوقت. عثرت فى أوراقى على صورة أخرى، قراءة أيضا فى عيون أحدهم، الذى هو أى منا، قـراءة تمّت على مراحل، بمعنى أننى كنت كلما كوّنت صورة لما هو، لغلبةِ ما هو، اكتشفتُ عمقا آخر. الكثيرون (الكتير) الذين هم بداخلنا ليسوا فقط – كما أوضحنا – والد، وطفل، وجان، ومعلومات نجمعها بالنهار لتظهر فى الأحلام إذا لم نتمثلها، ولكنهم تاريخ أيضا، التاريخ يشمل: تاريخنا التطورى من أحياء وأشياء، كما يشمل تاريخ ما عرفنا من معلومات فرادى وجماعات، قراءة فى عيون أو ذات شخص ما  تتم أيضا بمشاركة تاريخ هذا القارئ الذى هو عادة ، أو غالبا، ما يسقط عليه (على المقروء) ما يصله من نفسه ومن معلوماته ومن مادة قراءته (النص البشرى المقروء). قرأت فى عيون صاحبنا هذه بما أعرف عما يشاع عن البومة،  وعن سيدنا سليمان، ثم تشكيل مونا ليزا، وصورة دوريان جراى، فجاءت نتيجة هذه الرحلة فى كل تلك السراديب فاجعة سلبية، لكن هناك وراء كل هذا الواقع الداخلى/ الخارجى المر، يمكن أن تدب الحياة مهما حدث

أنا واحد ولاّ كتير؟ (7)

.... رحلة فى سراديب النفس

ليس شخصا بذاته، بدا لى غامضا يحوى كل تاريخ رحلة الإنسان “ليكون”، لكننى فى النهاية اكتشفت أنه نجح أن يكون مجرد مشروع إنسان لم يمت  تماما، برغم كل السراديب المظلمة، والحارات المسدودة. طالما أن فينا نفسا يتردد، فنحن قادرون على البداية من جديد.  بعد أن أخذتْ تتكشف لى طبقات وعيه (تعدد ذواته) الواحدة تلو الأخرى أقرأها نصا بشريا بما تيسر لى  كما أسلفت، تبينت أنه مهما بلغت محاولات الواحد منا:  بالتحايل، والهرب، والعمى، والكسل، والبلادة، والغموض، يظل مشروع الإنسان قابعا فينا جاهزا لبدءٍ جديد فى اتجاه واعد. انتهت رحلتى في سراديبه  بدعوة تقول:

image002ما تيالاّ نقايس نستحملْ، نفضل مع بعض،

 دا الموت الوغد بيتسحب من تحت الأرض،

 إنما فيه بذرة منسية،

 مستنية،

 نرويها نشوفها انها هيه،

تكبر، تمتد! ‏

تعالوْا، نقرأ صاحبنا (نقرأنا)  فقرة فقرة: كنت كلما فتحت بابا وجدت سردابا يعد بالتعرف على صاحبى, لكننى كنت أجد فى نهايته بابا آخرا،  فسردابا آخرا، وهكذا:

(1)          وعدٌ غامض

كانت بداية محاولة قراءة صاحبنا شديدة الصعوبة غموضا، كان طيبا يبدو كأنه قريب، يلوح  بوعدٍ فى صحبةٍ ما، ثم فى نفس الوقت يبدو أنه وعد كاذب.

وعيونه بتوعدْ‏،

image004‏من‏ ‏غير‏ ‏وعـد‏.‏

…..

‏ و‏الساحر قاعد متّـاخِـر‏،‏

والآخِـرْ،  ‏ما‏ ‏بايِـنـْلوش‏ ‏آخِـر.‏

…..‏

يا‏ ‏ترى ‏حانـلاقى ‏قلب‏ ‏نضيفْ‏ ‏وصغيـّر‏ ‏وبرىء ‏،‏

كما‏ ‏قلب‏ ‏العصفور‏ ‏فى ‏الجنة‏؟

ولا‏ ‏حانـلاقى ‏نقايـة‏ ‏مـشمـش‏، ‏مافيهاش‏ ‏ريحـة‏ ‏الـروح‏.‏

واذا‏ ‏حـتـى ‏اتكسرتْ‏،  ‏مرارِتْهَـا‏ ‏صـعْـب‏ْْ ‏؟‏

أنت لا تستطيع أن تجزم بكذبه، لأنك لا تريد أن تتخلى عن احتمال تحقيق الوعد معه، فكل الاحتمالات مطروحة إذا أنت لم تسرع بالتراجع، إذا أنت غامرتَ بتعليق الموقف (بين قوسين) حتى نرى.

علينا أن نغامر مهما بدا الوعد كاذبا، فدائما هناك أكثر من احتمال.:

كان الاحتمال الأول هو أننا إذا واصلنا السير إلى نهاية رحلة التعارف قد  نكتشف أننا يمكن أن  نبدأ من جديد من حيث البراءة النقية فالبداية الجديدة،

لكن فى نفس الوقت كان  ثَمَّ احتمال آخر يهدد بأننا قد نكتشف أن التحوصل قد أغلق كل المسام، فلم يعد هناك إلا المـُرّ بداخل نقاة الخوف والانسحاب.

(2) العمى النفسى بالإنكار: البومة نذير أم نعيب ؟

ولقيت‏ ‏فى ‏الأول‏ ‏صورة‏ ‏البومة

image006بتبص‏، ‏وتبحلق‏:‏

وتقول‏ ‏جرى ‏إيه‏ ‏؟

بتبصـولـى ‏ليه‏ ‏؟

أنا‏ ‏مالى ‏؟

‏ ‏حوالىّ ‏خراب‏ ‏؟

دا‏ ‏خرابـكم‏ْ ‏إنتْم‏.‏

دانا‏ ‏كتّـر‏ ‏خيري‏.‏

عماله‏ ‏بازعق‏ ‏وأقول‏:‏

‏”‏فيهْ‏ ‏لسّـه‏ ‏حياة‏ .. ‏حتى ‏فى ‏خرابه‏”. ‏

تكونوش‏ ‏عايزينْها‏;‏

تخربْ‏ ‏فى ‏السرْ‏ ‏؟

دور البومة هنا – داخلنا- أن تكشف فشل تحقيق الأمان بالعمى، بدفن الرأس فى الرمال، بالتخدير. نعيب البومة التى نعتبره شؤما، والخراب الذى نزعم أنها تفضل أن تسكن فيه، هو موقفنا نحن من هذا وذاك. هذه البومة التى التقيناها فى بداية تجوالنا فى سراديب صاحبنا، كانت أول مفاجأة حين نبهتنا أنها ليست علامة شؤم بقدر ما أنها تعلن حجم الخراب، وخطورة الاغتراب.  رؤية الواقع – داخلنا وخارجنا- بحجمه وصفته هو بداية الإفاقة، البومة تؤكد أن نعيبها ليس إلا جرس إنذار، إن الأوْلى بنا  أن نرى خواءنا الداخلى ونعلنه لنتحمل مسؤوليته، ونبحث فيما وراءه،  (دانا كتـّر خيرى، عمالة بازعقَّ، وباقول: فيه لسـّه حياة، حتى فى خرابة). إن بذرة الحياة لا تموت فينا إلا بموتنا فعلا، وربما هى لا تموت حتى بموتنا.(أنظر البداية/النهاية).

تابع (2)

وأقرّب‏ ‏أكتر‏ ‏مالصوره‏،‏

وأبص‏ ‏فى‏ ‏عيون‏ ‏البومهْ‏.‏

واستغربْ‏!

‏دى ‏عيونها‏ ‏إزاز‏.‏

عاملين‏ ‏كده‏ ‏ليه؟

حسِّسْ‏،  ‏جرّب‏ ، ‏يمكنْ‏،‏

وألاقى ‏العين‏ ‏مش‏ ‏عين‏،‏

‏دى ‏زرار‏،‏

وأجرّب‏ ‏أزُق‏.

‏تتحرك‏ ‏كـل‏ ‏الصوره‏،‏

والباب‏ ‏التانى ‏يبان‏:‏

 انتهى  هذا السرداب النذير إلى باب آخر، يفضى إلى طبقة أخرى من كيان صاحبنا (كياننا)، ومن ثم كشف آخر، ورؤية أخرى لما هو إنسان. كانت اعتمادية صاحبنا واضحة طيبة خطيرة فى آن، رأيته يعتمد  كلية على مجهول، على والد داخلى/خارجى غير موجود، أو عاجز عن الدعم، هكذا:

(3) الاعتمادية على والد (داخلى/خارجى) مهزوز

الشيخ‏ ‏قاعد‏ ‏وشه‏ ‏منوّر‏،‏

image008 ‏مركون‏ ‏على ‏عصا‏ ‏بيفكـّـر‏.‏

وعنيه‏ ‏بتشع‏ ‏سلام وأمان‏.‏

‏ ‏دا‏ ‏شبـه‏ ‏سيّدنا‏ ‏سليمان‏

…..‏

وعيال‏ ‏لـّيام‏ ‏دى ‏غـلابـه‏، ‏

لا فى ‏عـصـا‏ ‏تـرحـمـهم‏ ‏ولا‏ ‏حـكمة‏،‏

‏ ‏مـن‏ ‏مـس‏ ‏الجـان‏ ‏

والجان‏ ‏أيامنا‏،

‏لابسين‏ ‏جلد‏ ‏الإنسان‏. ‏

ولا‏ ‏عاد‏ ‏بـيهـمّ‏ ‏الواحد‏ ‏منهم‏ ‏سورة‏ “‏الكرسي‏”، ‏

‏ ‏ولا‏ ‏سورة‏ “‏الناس‏”.‏

والحكمة بقت لعبة فوازير مكشوفه‏،‏

تلقاها‏ ‏ملفوفه‏، ‏

حوالين‏ ‏حتة‏ ‏شكولاته‏،

 جوا‏ ‏الصالونات‏.‏

والتعلب فات. فات

وأبوك السقا مات.

‏ إن لم يتشكل الكيان الوالدى الداخلى ليكون دعما حقيقيا للنمو، يصبح عبءا وخداعا.  الحاجة للأمان نستمدها من الداخل بقدر ما تستمدها من الخارج.  تدهوَرَ حضورُ “الوالد” فى الوعى فى مجتمعنا مؤخرا بعد أن اهتزت صورة السلطة، فحل محلها  هذا الحضور المفرغ من فاعليته ومعناه.  فكرة العصا الرحيمة هى فكرة أقرب إلى ثقافتا، هى حضور والدىّ محدد االمعالم، وبالتالى فهى ضد السماح حتى التسيب، كما أنها ضد القهر حتى القمع،

 تتحدد معالم “الوالد الداخلى” (الذات الوالدية)  من خلال حضور والدى خارجى له معالم متميزة، الرخاوة الوالدية السائدة هذه الأيام، لا تتيح الفرصة للأولاد أن ” ينموا” تحت مظلتها. لون الوالدين الباهت لا يسمح بتحديد معالم النشء النامى. اهتزاز القيم السلطوية وتناقضها، هو بداية إفرغ ذات الطفل من معالمها. هذه الكيانات الداخلية التى تحدثنا عنها على مدى هذه الحلقات جميعا، تحيطها فى البداية حماية خارجية كافية حتى تتآلف هى بنفسها مع بعضها مع مرور الزمن، هذا هو ما يمنع  الخلخلة فالتفكك والانشقاق (مس الجان). “الكثير” الذى داخلنا  يبدأ بالتجمع تحت مظلة، أو داخل عباءة ذات (والدية) منطبعة من الخارج ، ومع تقدم مسار النمو، تتآلف الذوات فى الداخل باستمرار نحو التكامل المفتوح النهاية، وهى تتمثل بالتدريج تلك الذات الوالدية، حتى تعود جزءا منها، لا غطاء لها. إذا افتقدنا منذ البداية إلى هذه الإحاطة من “الخارج الخارج”، ثم من “الخارج الذى أصبح داخلا”، فإن التفكك وارد بشكل أو بآخر (هنا: التعبير عنه بـ  مس الجان) ، العلاقة التاريخية لما يسمى الجان بسيدنا سليمان ليست مطروحة هنا، لكنها علاقة أخرى  تستعمل هنا لتعرية فشل الاستغاثة بوالد لم يوجد أصلا إلا هيكلا وهميا، وأنه، بضعفه وعجزه، هو الذى يمكن أن يستغيث بالأصغر وليس العكس:

– ‏إلحقنا‏ ‏يا‏ ‏عمى ‏الشيخ‏ ‏شفـنا‏ .

‏ -” ‏ألحقكو‏ ‏ازاى ‏؟‏ ‏

إنت‏ ‏اهبلْ‏ ‏؟‏

 ‏ولا‏ ‏بـتـسـتهبل؟‏

‏دانـا‏ ‏صوره‏”.              ‏

وأبص‏ ‏كويس فى عيون عمى الشيخ‏.‏

‏”‏دى ‏النملة‏ ‏بتزحف‏ ‏فى ‏بياضها‏”.‏

وعيون‏ ‏الحكمة‏  ‏الصابرة‏ ‏الغرقانة‏ ‏ف‏ ‏بحر‏ ‏آلام‏ ‏الناس‏،‏

تستنجـد‏ ‏بيـّا :‏

‏- ‏إعمل‏ ‏معروف‏ ‏شيل‏ ‏النملة‏ ‏دى ‏بتقرصنى،‏

دانا‏ ‏صوره‏،  ‏دانــا‏ ‏ميـت‏  ،‏

وعصاتى: ‏إلسوس‏ ‏سوّسها‏،‏

حانكفى ‏عـلـى ‏وشى ‏توّ‏ ‏ما‏ ‏تبقى ‏دقـيق‏،‏

والكل‏ ‏حايفرح‏.‏

‏           “‏دقـى ‏يا‏ ‏مزيكا‏ ،‏

‏             ‏شمِّمنا‏ ‏يا‏ ‏ويكا‏”.‏

‏           “‏إعمل‏ ‏معروف‏ ‏شيل‏ ‏النملة‏” .”‏

وأحاول‏ ‏اشيلها‏،‏

أتاريها‏ ‏التانية‏ ‏زرار‏،‏

والباب‏ ‏المسحور‏  ‏بـيــزيَّـقْ‏. ‏

هكذا نتبين كيف انقلبت الآية، الوالد الشيخ هو الذى يستغيث بالإبن، هذه القضية أيضا شائعة فى مجتمعنا/ثقافتا حين يعتمد الأهل – خفية – فى وجودهم على أبنائهم أو بناتهم، إما تحت زعم أن الأولاد هم المبرر المشروع  لاستمرار حياة الوالدين “لهم”، أو حتى الوهم المبرر لاستمرار الحياة الزوجية مثلا. حين تصبح  الذات الوالدية الداخلية مجرد لافتة تغرى بالاعتمادية وفى نفس الوقت تستحيل أن تمنحها، ثم تبدوا أعجز من أن تقى نفسها بنفسها فتستغيث بمن كان المفروض أن تغيثه هى، ينتهى دورها الذى لم يبدأ أصلا، وبنتهى هذا السرداب لنجد أنفسنا فى سرداب آخر:

 

(3) الحنان الغامض والوعد المجهول، موناليزا:

 والعين‏ ‏اللى ‏بتمشى  ‏وراكْ‏ ‏بحنانها‏،‏

image010‏ ‏وبتـنـدهـلـك‏ ‏ماطرح‏ ‏ماتـروح‏.

بالبسمة‏ ‏الهاديه‏ ‏النادية‏،‏؟

………..

هوا‏ ‏انتِى‏ ‏؟‏ ‏موناليزا‏ ‏الطاهرة‏ ‏الفاجرة‏ ‏؟‏

أهو كده يا بلاش !!!‏

الواحد‏ ‏عايز‏ ‏إيه‏ ‏غير‏ ‏بسمة‏ ‏حب‏،  ‏وحنانْ‏،‏

والصدق‏ ‏الدافى ‏وكل‏ ‏الطيبه‏ ‏يــلـفـّــونى،‏

وكإن‏ ‏الشر‏ ‏عمره‏ ‏ما‏ ‏كانْ‏.‏

وكإن‏ ‏الدنيا‏ ‏أمان‏ ‏فى ‏أمانْ‏،‏

وكإن‏ ‏البسمه‏ ‏الصادقة‏ ‏تدوّبْ‏ ‏أيها‏ ‏حقد‏،  ‏وأيــها‏ ‏خوف‏. ‏

 إذا كان الأمل قد خاب فى كيان والدى داعم، (الفقرة 2)  فقد انتقل هنا إلى حلم بالحب الدافئ المنساب  غير المشروط، وهو خليط من حب الأم والحبيبة والذات المقدسة، فيه من الاعتمادية أيضا بقدر ما فيه من وعد بأمان ما. لكن الواقع سرعان ما يكشف عجز هذا الحنان المسترخى عن توفير أمان حقيقى. يتكشف البحث فى هذا السرداب عن أنها “خدعة مثالية” (أقرب إلى تسويق المفهوم السلبى للنفس المطمئنة). فى محاولتى مع صاحبى هذا، تم كشف هذه الخدعة، فانقلب الأمر إلى سخرية لاذعة تعرّى تلك المثالية، وتحذر من تصديقها.  هكذا انتهى السير فى هذا السرداب إلى جدار مسدود أيضا.

‏يا‏ ‏أخينا‏: ‏

مين‏ ‏المسئول‏ ‏عن‏ ‏بعضيـنا‏ ‏؟

عن‏ ‏أكل‏ ‏العيش؟‏ ‏

عن‏ ‏قتل‏ ‏الغدر؟

عن‏ ‏طفل‏ ‏عايز‏ ‏يتربَّى ‏وسْط‏ ‏المكنْ‏، ‏القـِرشْ‏ ‏الدوشهْ‏ ‏الدمْ‏‏؟

عن‏ ‏جوع‏ ‏الناس‏ ‏؟‏ ‏

عن‏ ‏بيع‏ ‏الشرف‏ ‏الأمل‏ ‏الـْبـُكره ‏: ‏امبارح‏ ‏؟

وأبص‏ ‏لهــا‏ ‏تانى ‏وأقول‏:‏

بالذمه‏ ‏بتضحكى ‏على ‏إيه‏ ؟

دى ‏البسمة‏ ‏الحلوة‏ ‏الرايقة‏ ‏المليانـه‏ ‏حنان‏ .. ‏وخلاص‏،‏

‏ ‏يمكن‏ ‏تبقى ‏مصيبه‏ ‏الأيام‏ ‏دى !‏

حا‏ ‏تخلى ‏الواحد‏ ‏يتهيأ‏ ‏لـه:‏ ‏إن‏ ‏الدنيا‏ ‏بخير‏،  ‏وينام‏، ‏

يحلم‏ ‏بالجنهْ‏ …،‏

وخلاص‏ !‏

وعشان‏ ‏أبـعـد‏ ‏تأثيرها‏:‏

قهقهت‏ ‏كما‏ ‏بـتـوع‏ ‏المولدْ:‏

فى ‏المــولـدْ‏.‏

بصيت‏ ‏لـلصـوره‏،‏

طلّعت‏ ‏لـسـانـى:‏

تكشيره‏ ‏امال‏ ..! .. ‏كـدهـه‏ !‏

‏ ‏تبويزه‏ ‏امال‏ ..!  .. ‏كـدهـه‏ !”‏

وتغيظنى ‏ولا‏ ‏تـبـوّزش‏.                   ‏

وأنا‏ ‏أعمل‏ ‏عقلى ‏بعـقلـيـها‏ ‏من‏ ‏كـتر‏ ‏الغـيظ‏،                     ‏

‏     “‏بـلا‏ ‏نيلة‏ ‏بتضحكى ‏على ‏إيه‏ ‏؟‏”‏

وأحاول‏ ‏اشوّه‏ ‏ضحكتها‏، ‏وأغطيها‏،                          ‏

‏ ‏يا‏ ‏خرابى !!‏

الصوره‏ ‏دى ‏رخره‏ ‏بتتحرك‏، ‏

وبيفتح‏ ‏باب‏:‏

(3) صورة دوريان جراى: أوسكار وايلد

 image013صورة موناليزا الخادعة أوصلتنى إلى آخر سردابها، فإذا بباب سحرى أخر ينفتح، ليؤدى إلى سرداب جديد ليس  مثل سابقيه، لأنه أعقد تركيبا لكنه أقدر تعرية ، هذا  بعض ما أبدعه أوسكار وايلد فى روايته “صورة دوريان جراى”. أبدع ما أعتبره اسطورة حديثة رائعة الدلالة، تلك الدلالة التى جعلتنى أعيد النظر فى نعومة  وظاهر براءة صاحبى الطيب هذا، فإذا بى أكتشف أننى عثرت على شرح أوضح حتى مما قدمه لى الفيلم الذى جسد الرواية، والذى شاهدته ربما فى الخمسينات، وقام فيه كيرك دوجلاس ربما بأعظم أدواره- من وجهة نظرى آنذاك- (بعد فان جوخ)، رأيت فى صاحبى، ومن خلاله،  كيف أنه كلما ازدادت وغدنة الداخل، ازدادت براءة ونعومة الخارج. يتراكم هذا الداخل ويتراكم، ويتراكم، حتى لا يطيق صاحبه إلا أن يعترف به، فيحاول أن يتخلص منه، فإذا كل بشاعته تظهر على الذات الناعمة الطيبة التى كانت تخفى قبحها فى صورة خفية بعيدة. فتعلن الحقيقة البشعة الرائعة المروعة معا:

‏ الشاب وسيم وحليوة،

واقف منطور ،

‏ ‏واسمه‏ “‏دوريان‏”

إلوش‏ ‏بريء‏ ‏بنعـومة‏.‏

والطيبة الغطا عمالة بتفوّت بسمات، مرسومهْ.

…..

هوا‏ ‏انتِ‏ ‏الصوره‏ ‏اياها؟

ودا‏ ‏صاحبـِك‏ ‏إللى ‏اتمنى ‏ف‏ ‏يوم‏ ‏يخدعنا‏ ‏

‏ ‏ما‏ ‏يبانـشـى ‏عليه‏ ‏بصمات‏ ‏السن‏،‏

ولا‏ ‏خِـتم‏ ‏الشـر‏،  ‏ولا‏ ‏صـوتْ‏ ‏لـضمـير‏.‏

وان‏ ‏كان‏ ‏لازم‏ ‏تتسجل‏ ‏كل‏ ‏عمايْـلُـهْ‏:‏

راح‏ ‏عامل‏ ‏صورة‏ ‏يبان‏ ‏فيها‏ ‏التغيير‏.‏

وكإنها‏ ‏صـورة‏ ‏الحــق‏ ‏الجـوانـى ‏الـبِِـِشِع‏ ‏العـريـان‏”. ‏

لم يكن من الممكن أن أصارح صاحبى بكل هذا، لسببين:

أولا: أننى  قدرت أنه ربما يكون  جزء  كبير من هذه الرؤية هو إسقاط منى، وبالتالى يكون أقرب إلى رؤية ذاتى منها إليه،

وثانيا: أن رؤية الحال هكذا، سواء كان حالى أم حاله، يجعل القضية أعم، فلا تختص الدلالة على شخص بذاته، وإنما هى تكشف بعض جوانب النفس الإنسانية لنتحمل مسؤوليتها.

(5) السراديب تنتهى إلى ساحة الفراغ

أفضى بنا هذا  السرداب إلى فراغ جديد، لكنه ليس فراغا كاملا تماما، حيث لمحت طفلة منزوية منسية فى ركن قصى من ذلك الفراغ، تطلب أن نراها،  لتبدأ من جديد، ما دامت قد استطاعت أن تقاوم كل هذه الألاعيب والأغطية والتحايل والاغتراب والكذب. ظهر لى هذا الفراغ بمجرد أن قلبت الصورة على ظهرها حين عجزت عن مواصلة رؤية قوة وبشاعة الحقيقة من خلالها:

مش قادر أبص اكتر يانى

حاقلبها عالوش التانى ‏:‏

وظهر ‏ ‏لى ‏الهـِـوّ‏ ‏الأخراني‏‏:

دا‏ ‏مفيش‏ ‏ورا‏ ‏آخر‏ ‏باب‏،

 ‏ولا‏ ‏أوضه،‏ ‏ولا‏ ‏بوّاب‏!!‏

‏ والاقيلك‏ ‏بحر‏ ‏التيه‏،

‏من‏ ‏تحت‏ ‏البحر‏ ‏الميت‏،‏

(6) الطفلة  ما زالت تقاوم الموت، وتنتظر

لكن هناك وراء كل هذا الضياع والموت كانت ثمة حياة، كانت طفلة جميلة تبكى وتنتظر

والطفلة‏ ‏الغلبانة‏ ‏بتبكى،

ولا‏ ‏حد‏ ‏شايـفــها‏ .‏

والميه‏ ‏مية‏ ‏نار‏،  ‏والجلد‏ ‏صدف‏ ‏ومحار‏،‏

لا‏ ‏هى ‏قادره‏ ‏تصرّخ‏،  ‏ولا‏ ‏راضية‏ ‏تموت‏.

جرى إيه يا جماعة ؟

مانتوش شايفين؟

طفل‏ ‏بيتشوه‏، ‏

من‏ ‏كتر‏ ‏الخوف‏،‏

وسط‏ ‏العميان‏؟

(7) الحياة تتحدى

تنتهى هذه الرحلة فى سراديب النفس إلى رؤية التعدد (أنا كتير) من منطلق آخر، وهو أن الكائن البشرى يلعب طول الوقت مع مشروعه بلا يأس، ولا استسهال، و كما أنه مكون من “كثير” من المعلومات والكيانات والذوات، فهو منظم فى طبقات من الوعى تتوالى وراء بعضها بقدر ما تتوارى فى بعضها البعض.

إن مسيرة الحياة ، نمو الفرد وتطور النوع، تحتاج منا إلى كل الصبر ومعاودة المحاولة ، يزداد ذلك إلحاحا حين يغلب على السطح ما يبدو سلبيا لا حل له

أختم بأن أذكر بما بدأت به، وهو أنه حتى لو يبق فى كل كيان بشرى منا إلا خلية واحدة نابضة بالحياة، فعلينا أن نعيش مسؤولية ذلك معا، لنبدأ دائما من جديد. هكذا تقول خاتمة القصيدة ، التى أفضل أن أعيدها نصا كما بدأت بها.

ما تيالاّ نقايس نستحملْ، نفضل مع بعض،

 دا الموت الوغد بيتسحب من تحت الأرض،

 إنما فيه بذرة منسية،

 مستنية،

 نرويها نشوفها انها هيه،

تكبر، تمتد! ‏

وهل نملك غير ذلك؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *