الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (8): مـَـنْ يُـحبّ مـَـنْ ؟

أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (8): مـَـنْ يُـحبّ مـَـنْ ؟

نشرت فى روز اليوسف

   24- 2 – 2006

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

أما قبل

لimage002ما كنا قد استدرجتنا حكاية “أنا واحد ولا “كتير”؟” حتى صدقناها، أو كدنا، فهل نستطيع أن نتناول بنفس الشجاعة، أو بنفس المغامرة،  ما يترتب على احتمال أن التركيب البشرى هو أعقد مما نتصور، لأنه أبسط مما نحبسه فيه، أو نشيعه عنه؟ الإشكال أننا إذ نـقـْدِم على مراجعة السائد،  لا نملك ما نضعه بديلا جاهزا عما نعرّيه أو نهزّه. نحن الآن على أبواب موضوعين صعبىْ التناول، برغم كل ما شاع عنهما بالحق وبالباطل: الحب, والجنس. تُـرى هل نجرؤ أن ندخل، ولو متسحّـبين، لنرى ما يجرى وراء هاتين اللافتتين؟ وهل مجتمعنا يسمح ببعض ذلك؟ مهما ضؤُلَ أو صدَقَ “ذلك”؟ وهل العلم والتعـلّم فيه ما يُسمح به وما لا يُسمح به؟ وهل توصل العلم أو الفكر أو الواقع إلى حسمٍ جازم لصالح رؤية أفضل؟ وعلاقات أعمق؟ وحوار أصدق؟ وهل هذا هو المكان المناسب – مُتناوَل القارئ العادى – لتعرية هذه القيم أو إعادة فحص تلك المفاهيم علميا وعمليا، مع العلم أن ربنا أمر بالستر؟ الإجابة عن كل هذه الأسئلة هى بالسلب: لا المجتمع سمَح، ولا الفرص متاحة، ولا المسألة حُسِمتْ، ولا القضية سهلة، ولا القارئ العادى مستعد لتقبل إلا ما اعتاد.. ولكن عندك!!: إنه  ليس من حق أحد أن يكون وصيا على وعى الناس فيما يتلقونه وكيف يتلقونه، ولا أن يصدر حكما مسبقا على قدراتهم.  والله فكرة كما تضع وزارة الصحة تحذيرا على علب السجائر “التدخين ضار جدا بالصحة، وقد يسبب الوفاة”، دعونا نضع تحذير موازيا يقول: “التعرية ضارة جدا بالحب الطيارى، والجنس المغترب، وقد تؤديان إلى الوحدة أو الفراق”.

أنا واحد ولاّ “”كتير””؟ (8):

مـَـنْ يُـحبّ مـَـنْ ؟

image004إذا كنا قد قبلنا، ولو من باب الفرض العملى الراجح:  احتمال، أن كل واحد منا هو “كثير”, وأن هؤلاء الكثيرون فينا – كما كررنا مرارا – ليسوا فقط  “طفل” و “يافع” و “والد”،  ولكنهم معلومات، موروثة، ومكتسبة، وبرامج فاعلة وكامنة، وحركة دائرية وجدلية، وإيقاع نبض حيوى دائم، إذا كان الأمر كذلك، فماذا فى أن يقول أحدنا لآخر، أو لأخرى: “أنا أحبك”؟!! ماذا؟ فيها ماذا؟ هو يحبها، وهى تحبه، وخلاص. فإذا كنا “كتير” (ملحوظة: باللغة العربية المفروض أن أقول كُـثْرٌ، لكننى من هنا وحتى آخر هذه السلسلة سوف استعمل اللفظ العامى الأقدر “كتير”، فهو يحمل المعنى أسرع وأدق)، أقول إذا كان كل واحد (أو واحدة) منا “”كتير””، فمَـن مِن هؤلاء الـ”كتير” هو الذى يحبها؟ فقالها بهذه البساطة والإيجاز “أنا أحبك”،  ومّنْ مِن هؤلاء الـ”كتير” عندها هو الذى قد يبادله الحب؟

مثال بدئى

إن الفحص الظاهر يمكن أن يعرض علينا علاقة حب حقيقية، وصادقة، وطويلة، وناجحة،  يكون الطفل الذى داخل الرجل image006هو الذى يحب الأم التى فى داخل حبيبته، (لا، لا تتسرع، المسألة ليست أوديية ولا يحزنون، قد نعرج إلى موضوع عقدة أوديب لاحقا) ، وقد يكون العكس:  بمعنى أن الطفلة التى فى الحبيبة تريد وتمارس وترضى وتفضل أن تعتمد على حبيبها “والداً” طول الوقت. وهى تفضل ذلك، وترتاح إليه، وقد تكتمل العلاقة، حتى جنسيا، من خلاله أيضا، (على فكرة كل هذه التباديل والتوافيق تحدث من وراء وعى الإثنين عادة، وهذا لا يعيبها، ولا يحتاج إلى تحليل نفسى ولا يحزنون). السؤال الآن: هل فى ذلك ضيرً إذا صح هذا الافتراض أو ذاك؟ الجواب “أبدا”، لكن للمسألة عمق آخر.

الرجل (قدر الدنيا، يعنى “أد الدنيا”)، مالئ ملابسه (ملو هدومه) يحب حبيبته أمًّـا حانية محيطة محتوية، وحبيبته هذه “ست الكل” ترضى بذلك، وتطمئن له وتباركه وتمارسه على كل المستويات بما فى ذلك الجنس (قلنا دعك من عمنا أوديب الآن، فنحن نتكلم عن الأم والطفل داخلنا يا أخى، الله!!!).  هذا الوضع يمكن أن يكون بداية علاقة ناجحة، كما يمكن أن يكون وضعا دائما قد ينجح وقد لا ينجح، من الممكن مع مرور الزمن أن يزداد الرجل (مع أنه قدر الدنيا، وملء ملابسه) طفولة واعتمادية، وفى نفس الوقت أن تتأكد أمومة المرأة حبا وإحاطة، ويظل الوضع على ما هو عليه حتى نهاية الحياة.  فى هذه الحال: ما هو دور بقية الذوات داخل الرجل؟ وبقية الذوات داخل المرأة؟ هل يُستبعدون من العلاقة، أم يظلون جالسين على خط التماس احتياطيا فى انتظار أى تغيير محتمل؟ أم يقومون بأدوار أخرى؟.  كل الاحتمالات جائزة، بمعنى أنه يمكن أن تسير الحياة – بعيدا عن حكاية الحب والجنس – بشكل راتب، فيتم التعاون والتفاهم على مستوى الاتفاقات السطحية، وتجرى التباديل والتوافيق المحتملة، فى سلاسة وطيبة، وخلاص. أو قد يحدث أن تنعكس الأدوار فى مناطق أخرى، فالرجل الطفل “فى الحب”، يصبح والدا فى السعى والكسب، والمرأة الأم فى الحب، تصبح طفلة فى صرف النقود  والمسئولية (أو اللامسؤولية!) ، وتظل العلاقة الأساسية، فى الحب والجنس هى هى كما ذكرنا.

لكن ثمَّ احتمال آخر هو  ألا يرضى (أو لا يستطيع) أحد الطرفين أو كليهما استمرار الوضع هكذا، فتتحرك ذوات أخرى داخل أحدهما (أو كليهما)، فلا يعود يصلح ما كان صالحا لفترة ما، هنا تظهر على السطح مشاكل مختلفة، عادة لا ترتبط مباشرة وعلانية بهذا التغير المحتمل، لأنه يتم غالبا بعيدا عن الوعى. من تلك المشاكل أن الجنس الذى كان ناجحا قد لا يعود كذلك، والراحة التى كانت متبادَلَة والرجل يتمرغ فى طفولته على حجر حبيبته تصبح لزُوجّةُ مرفوضة غير مشبٍِعة، والمرأة التى كانت آمنة لامتلاك حبيبها فى جيبها أو رحمها، لا تعود تتمتع بهذه المِـلكية، أو هى تستغنى عنها، أو حتى تنفـر منها. يحدث هذا أو ذاك ليس لمجرد الضجر من نوع العلاقة التى كانت ناجحة فى مرحلة ما، بل لأن كلا من الطرفين يعيش حياته معرَّضا لتقلبات مختلفة، تُـحرك احتياجاتٍ أخرى لا ترويها هذه الصفقة البدْئية الجارية مهما طال زمنها. مثلا:  تقابل المرأة منْ يحرك فيها طفلها الذى لم يره حبيبها (الإبن) أبدا (عادة: زوجها)، وهو لا يريد أن يراها طفلةَ حتى لا يتخلى عن طفولته، أو قد يقابل الرجل من تلوِّح له بعلاقة فيها قدر من السماح والحوار والندّية، فيتحرك فيه كيان آخر لم يعد يشبعه لبن الحب الأمومى (من زوجته  عادة).  هذا التحريك لكيانات أخرى، فى اتجاهات أخرى لاحتمالات أخرى، يعلن الحاجة إلى إعادة النظر فى التعاقد السائد (أكرر: بعيدا عن الوعى عادة)، وبالتالى: قد يلتقط الطرفان الخيط فيعيدان ترتيب علاقتهما بشكل آخر على مستوى آخر بين ذوات أخرى ليتم تعاقد آخر على مستوى آخر، أطول عمرا، وأكثر ثراء، فى الحب والجنس والفكر وغير ذلك، وقد يـُطَنْبِل (يطنّش) أحدهما أو كلاهما فى محاولة أن “يستمر الحال على ما هو عليه”، بنجاح أو بعمىً، والأعذار كثيرة وجاهزة عادة: من أول أن الأولاد كبروا، حتى الأمراض الجسدية، حتى الصعوبات الجنسية حتى الاضطرابات النفسية.

فتح الكلام ليس نهاية التعاقد

كل علاقة ، رسمية أو غير رسمية، تبدأ باتفاق ظاهر، حتى ولو كانت مصادفة، وعادة ما لا يأتى ذكر كلمة “الاتفاق” علانية. هذا الاتفاق الظاهر قد يصاحبه من البداية، أو بعد قليل، مشروع اتفاق آخر بين ذوات أخرى كامنة ويقظة برغم عدم الإعلان. مثلا حين تبدأ العلاقة بانجذاب جسدى، لنداء إغرائى، وفى نفس الوقت يتحرك من وراء هذا وذاك ما يعِـدُ بعمقٍ آخر، لتواصلٍ آخر، وجنسٍ آخر، وجدلٍ آخر، يتم فى هذه الحال تحاورٌ خفىٌّ، بين ظاهرٍ متعجلٍّ راضٍ بأى صفقة لذّيه عابرة، وبين عطشان لا يمانع من شربةٍ ترويه ولو إلى حين، لكن قد يجرى حوار آخر من وراء هذا وذاك، حوار  فيه دعوة لإرساء علاقة حقيقية فطرية مبدعة سهلة، لا تستبعد الجنس، ولا تقف عند ظاهر إعلان الحب، لكنها تأمل فى تقارب خلاّق على مستوى آخر، وقد يتعارض ذلك مع الاتفاق البدئى المكون من “إغراءٍ فاستجابة”، فيتولد خوف مشروع من تطور العلاقة إلى ما هو أعمق وأصعب وأجمل وأصدق وأخطر (لا يقتصر هذا الخوف وذاك التردد على احتمالات زواج أو التزامات مادية)، فتجرى الحوارات متعددة على مستويات مختلفة، غير حكاية الطفل والأم والوالد والطفلة.

النداء، والنداهة، والخوف البدئى

هى خبرة عايشتُها متقمصا “واحدة” – هى أيضا نحن – بما تحوى مما تيسر من شخوص فيها – اقتصرت المعايشة على رصد اثنتين (شخصتين) فقط: واحدة جاهزة على السطح، إنسانة جميلة، جاهزة، والثانية صادقة مرعوبة فى داخل الداخل، فماذا جرى؟ وماذا رأيت؟

تبدأ العلاقة وهى تبالَغ فى النداء، على شرط ألا يتخطى المستجيب حدود ما يعلنه نداؤها، لكن ما يجرى وراء ذلك هو ما يشرح ما نريد تقديمه:

وعيون‏  ‏مكـْحُـولة‏ ‏مْـنَـدِّيــة‏.‏

‏تِسحِـَر‏ ‏وتشد‏ْ.‏

منديلها‏  ‏على ‏وش‏ ‏الميّة

‏مِـستنّى ‏تمـدْ‏،‏

‏إيدك‏، ‏تسحبْـها‏ ‏تروح‏ ‏فيـها‏،‏

‏ ‏ولا‏ ‏مين‏ ‏شـَاف‏ْْ ‏حدْ‏.‏

ماتكونشى ‏يا‏ ‏واد‏ ‏الندّاهة‏‏؟‏     ‏

‏  ‏حركات‏ ‏الجنّية‏ ‏اياها‏؟

أنا‏ ‏خايف‏ ‏مـِاللـِّى ‏مانـِيش‏ْ ‏عارْفُهْ‏.‏

أنا‏ ‏شايفْ‏ ‏إِللِّى ‏مانيش‏ ‏شايفُــه‏ْ.‏

هذا الانجذاب اللحظى قد يكون بداية حب حقيقى دائم، لا أعنى به مايسمى عادة “الحب من أول نظرة”، لكننى أقصد ذلك الجذب الجاهز المقصود أو العفوى، وتلك الاستجابة التلقائية المباشرة. هو حب حقيقى لمن يقدر على الدخول إليه دون خديعة، فالخروج منه دون مأساة، قد ينتبه المنادَى أن النداء خطر لأنه مختزَل عنيف ناقص، وبالتالى فثم وراءه تهديد بالإجهاض أو انسحاب إلى التلاشى من جانب واحد، كأنه يسشتعر احتمال “الالتهام” وليست فرصة التواصل.

تسريبٌ تحت السطح

تحت هذا السطح من الإغواء الظاهر، تصل رسائل غامضة واعدة من مستويات أخرى:  (أنا شايف إللى مانيش شايفه!!) ؟ تلتقط النداهة – التى لم يكن على بالها تحريك ذلك العمق- هذا التلويح لعلاقة وراء العلاقة، كما تلتقط خوفه من هذا التواصل الأعمق، فيثار خوفها بدورها، فتتظاهر بطمأنته، لوثوقها أنها قادرة أن توقف العلاقة عند مستواها السطحى الّذى وخلاص:

وimage008تْـلاحِظ‏ْْ ‏خوفى ‏تْـطَـمّنى‏.‏

وتقولّى ‏كلام‏، ‏قال‏ ‏إيه‏ ‏يعنى:‏

ماتبصّش‏ ‏جوّه‏ْ ‏بـزْيادة‏،   ‏

‏ ‏خلّــيك‏ ‏عالقَــدْ‏.‏

شوف‏ ‏حركة‏ ‏عودى ‏الميـّادَة‏ ،‏

‏شوف‏ ‏لــون‏ ‏الخد

لا يمكن أن يمنع أحد هذه الحركة الداخلية، مهما بدت الصفقة الخارجية كافية ومغلقة. الذى يتجاوز هذا الشكل الإغرائى الخارجى، دون إهماله، قد يتعامل معه بقبول طيب باعتباره “فتح كلام” إلى ما يُحتمل. برغم إعلان أن هذا المستوى هو نهاية المطاف. مهما بدا الأمر قاصرا على نداء واستجابة ظاهرين، فإن تحريك الداخل الآخر وارد بشكل فيلوح احتمال علاقة أخرى بداخل الداخل، من هنا نبدأ فى التعرف على بعض “الـ”كتير” الجاهز لتعاقدات أعمق، وهكذا يجرى حوارٌ آخر فيه رؤية واحترام وخوف ونداء ومقاومة:

الأمل يقترب ليبتعد

وأحس‏ ‏بنبض‏ شعور  تانى‏،  ‏أنــوِى ‏أقرَّب‏ْ.‏

وأشوف‏ ‏التانية‏ ‏جُــوَّاهَـا‏، ‏أحلى ‏وأطيبْ‏.‏

والخوف‏ ‏يغالبنى ‏من‏ ‏ايـّاهـَا‏، ‏لأْ‏. ‏مش‏ ‏حَـاهـْربْ‏.‏

والطفلة‏  ‏تشاورْ‏ ‏وتعـافـرْ‏ْ،  ‏

‏ ‏بتقـّربْ‏، ‏ولاّ‏ ‏بـْتـِتاَّخـِرْ؟

وانّ‏ ‏مدّيت‏ ‏إيدى ‏ناحيتها‏، ‏بتخاف‏ ‏وتكشْ‏.‏

والتانية‏ ‏تنط‏ ‏تخلّـيها‏: ‏تِـهـْرَبْ‏ ‏فى ‏العـِش‏ْ.     ‏

دى ‏غيامة ‏ ‏كـِدب‏ ‏وتغطــيّة‏، ‏ومؤامرة‏ ‏غِشْ‏.

لماذا تأبى التى على السطح الإنصات لهذا الحوار الداخلى الجارى، وهى التى بدأت النداء والإغراء؟  لماذا تخشى الطفلة بداخلها (الطفلة هنا ليست بمعنى الكيان الطفلى الاعتمادى، وإنما بمعنى الصدق، والبراءة، والجسد الخام، وحركية النمو، والوعى المتناغم!!)، لماذا تتصدى النداهة لهذه الطفلة، وتحاول أن تمنعها أن تمد يدها وقلبها ووعيها لمن رآها وناداها من وراء ذلك الإغراء البدئى؟ ليس ذلك  فحسب بل إن هذه الطفلة التى بالداخل، وهى القادرة على عمل علاقة حقيقية، تخاف هى الأخرى من هذه العلاقة الأعمق، هى تخاف من احتمال إحباطٍ محتمل، كما تخاف من أن تضبطها الذات الظاهرة على السطح  فتقتلها، حتى رحمة بها، ومن ثم هى تهرب برغم كل البدايات، فى حين تزداد الأخرى الظاهرة إصرارا على موقفها المستبعِد كلَّ من سواها من “ذوات” بها، لكن الحوار يتواصل من الداخل.

عناد وإصرار

وماصـدّقشى،‏

ولا‏ ‏اسلّمشِى،‏

أنا‏ ‏واثق‏ ‏إنها‏ ‏ما‏ ‏مَـتِـتْـشٍى

أنا‏ ‏سامع‏ ‏همس‏ ‏الماسْكِتْشِـى ‏

مش‏ ‏حاجى، ‏لو‏ ‏هيه‏ ‏ما‏ ‏جَاتْـشِى‏.‏

إجهاض واستبعاد

تنتبه الذات على السطح، من موقعها الظاهر القاهر الغنِج،  إلى هذا الحوار الذى يجرى من ورائها، فتسارع للحيلولة دون أية علاقة حقيقية، بأن تتمادى فى الإغواء أملا فى تحجيم الصفقة، هنا ننتبه إلى أن هذا الخوف الذى ملك الذات الأعمق والأشمل (ليست مجرد طفلة)  ليس قاصرا عليها، بل إن الذات الظاهرة على السطح  تتصور أيضا أنها بالاقتصار على صفقة الإغراء الظاهرة إنما تحمى نفسها، كما تحمى مَن بداخلها مِـن مخاطر تبادل علاقة أعمق وأصدق، فتتمادى فى إنكار كل ما عداها، والاعتراض على أى اتفاق من ورائها (“ولا فيش بنوتة بمرايلها، ولا فيه عيـّل ماسك ديلها”).

‏- ‏جرى ‏إيه‏ ‏يا‏ ‏أخينا؟‏  ‏عَـلى ‏فـِينْ‏ ‏؟‏ ‏

‏      ‏حَاتْـصـَحّى ‏النايـِمْ‏؟‏ ‏بـِـضمانْ‏ ‏إيه‏”‏؟‏

مش‏ ‏عاجـْبـَك‏ ‏رسمى  ‏لـِحـَواجـْبى، ‏ولا‏ََ ‏لُـونْ‏ ‏الُّروجْ‏؟

‏ ‏مش‏ ‏عاجبك‏ ‏تذكرة‏ِِ ‏الترسو‏، ‏ولا‏ ‏حتى  ‏اللوجْ‏‏؟

image010ما‏ ‏كَفاكشى ‏زِواق‏ ‏الباب‏‏ْ؟

هيـّهْ‏ ‏وكالة‏ ‏من غير‏  ‏بّوابْ؟

أنا‏ ‏مش‏ ‏ناقصة‏ ‏التقليبهْ‏ ‏ديّــهْ‏ْ،‏

ولا‏ ‏فيش‏ ‏جوّاى ‏الـمِشْ‏ ‏هيّة‏ْْ،‏

ولاَ‏ ‏فيه‏ ‏بنوتــة‏ ‏بـْمَـرايلْهـَا‏،‏

ولا‏ ‏فيه‏ ‏عيّل‏ ‏ماسك‏ ‏ديلهاَ‏،

الاتفاقية المعروضة بين الدواخل هنا هى بين طفل وطفل، ليس بمعنى طفولة السن، وإنما بمعنى الأصل الفطرى الصادق الذى لم يتشوه،  لكن القمع يتمادى ليحجب ذلك الكيان بكل ما تيسر من وسائل القهر  والترهيب والتأثيم والتشكيك ..وما شابه. هذا هو ما يتعرى من خلال إعلان الخوف من المخاطرة بعلاقة أعمق، ومن ثم الاكتفاء بالوقوف خلف السد (الدفاعات-الميكانزمات- المتنوعة) المقام لحجز تدفق المشاعر الأصدق والأخطر. الكشف عن هذا الموقف الهروبى الدفاعى بدا صريحا فى النهى النهائى عن الاستمرار فى الحوار الداخلى:

إimage012وعى ‏تخطّى، ‏أبْعـَد‏ْ ‏منّى، ‏حاتْلاقى ‏الهِـِو‏ْْ.‏

البيت‏ ‏دا‏ ‏ما‏ ‏لوهِشى ‏أصْـحـَاِبْ‏.‏

دُولْ‏ ‏سـَافروُا‏ ‏قَـبـْلِ‏ ‏ما‏ ‏يـِيـِجـُوا‏.‏

‏من‏ ‏يوم‏ ‏ما‏ ‏بنينا‏ ‏السدْ‏ْ.‏

‏‏السد‏ ‏الجوّانى ‏التانِى‏.‏

وانْ‏ ‏كان‏ ‏مش‏ ‏عاجبكْ‏، ‏سدّى ‏البرّانـِى‏.‏

تبقى ‏فقست‏ ‏اللعبة‏،‏

ومانيـِشْ‏ ‏لاعبةْ‏.

حين تصل البصيرة إلى هذا المستوى (تِـبقى فقست اللعبة) ، فإن إعلان الرفض،  حتى للاتفاق البدئى الذى كان يؤمل فيه أن يكون”قتح كلام”، هو الأرجح. بهذه البصيرة تتعرى  الوجبات الساخنة السريعة، فى حين تتراجع احتمالات العلاقة الأعمق خوفا من مخاطرة الإقدام على علاقة حقيقية. هكذا تعلن “النداهة أن الأخرى ليست للعرض، وأن كل المطروح هو هذا الظاهر، وعلى الزبون إما أن يرضى بهذا السطح، أو ينسحب :

كل الموجود واحدَهْ‏ ‏هبْلهْ‏،‏

بتْسوُرَق‏ ‏مِنْ‏ ‏حَصْوِة‏  ‏نِبْلهْ‏.‏

تديلك‏ ‏راس‏ ‏الخسّاية ‏!!‏

ومالكشى ‏دعوة‏ ‏بْجُوّايَا‏.

قلب الخساية ما هوش معروض

دا الوعد يا روحى للموعود

……

يا‏ ‏ما‏ ‏كان‏ ‏نفـِسى،‏

بس‏ ‏ياروحْ‏ ‏قلبى “‏ما‏ ‏يُحْكمشِى‏”.

وبعـد

image014نريد أن نشير- بكل ما قدمنا- إلى أن العلاقة الإنسانية، وفى الحب خاصة، وفى الجنس أيضا، تتم على مستويات متعددة معا، كما تنتقل العلاقات مع تطورها وبمرور الزمن بين الذوات المختلفة باستمرار، بالتبادل، و بالتحديث، وبالجدل نمو وتطورا، وإبداعا…إلخ

الفرض الذى ننتهى إليه من هذه المقدمة عن بعض احتمالات تشكيلات الحب  يقول:

“إن الحب هو “عملية” وليس “حالا  ثابتة”،

هو نبض يتحرك وليس غاية تـُدرك أو لا تدرك،

هو ليس انجذابا ساكنا بين شخص وشخص، مثل علاقة “الضبة بالمفتاح”Key-and-lock relation ، بل هو حركية مستمرة أبدا، قد تبدأ أو تجرى ظاهرا بين كيانات معلنة باتفاقات محددة، لكنها متجددة متغيرة بالضرورة.

حتى يكون الحب حبا وعيا متعددا متجادلا بشريا خلاقا، علينا أن نقبل أن نتحمل تنشيط متغيراته باستمرار، وأن نستعد لها، ليس بقرار شعورى أو إرادة معلنة، وإنما بصدق المحاولة واستمرارها وتحمل مضاعفاتها ببصيرة متجددة.

بمعنى أن الحب جدل متواصل بين كيانات متعددة بعضها فقط هو الذى على السطح.

الحب  يتخلق منه وبه كل من يمارسه: جديدا باستمرار،

يحدث ذلك على فترات، ربما تكون متباعدة نوعا- لكنه يخلـّق المشاركين فيه إلى ما يبدعون به أنفسهم كلٌّ على حدة، بقدر ما يبدعون علاقتهم المتغيرة الخلاقة طول الوقت.

حتى لو كان كل هذا صعب لدرجة الاستحالة، فهو ما يستحقه الإنسان بعد رحلة تطوره العملاقة.

طبعا: ثم أشكال أخرى سوف نعرضها فى حلقات قادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *