الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / أنا واحد ولاّ “كتير”؟ (10) (ملف الحب3) الحب السهل المُستَـسْهِِـل

أنا واحد ولاّ “كتير”؟ (10) (ملف الحب3) الحب السهل المُستَـسْهِِـل

نشرت فى روز اليوسف

10 – 3 – 2006

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

أما قبل

المسألة ليست مجرد تبادل العطف والعواطف بأسرع وأسهل وأسلم الطرق، ولا هى سجن أبدى، العلاقات البشرية الإيجابية، وأهم تجلياتها ما يسمى الحب (الحقيقى)، هى مسئولية رائعة. الأنواع المطروحة من الحب والمُوَظفة  لتزجية image002الوقت أو تبادل العناق أو سد الحاجة، قد تكون طريفة ومسلية ولذيذة، وقد تروى عطشانا بعض الوقت، لكنها “ليست هى”. كذلك، فإن الحب المنغلق على اثنين استبعادا لكل من عداهما هو مهدَّدٌ بالتناقص أو الجمود (الموت). إن ما سبق أن أسميناه علاقة “الضبة بالمفتاح” هو عكس علاقة “الحركة معا “لإعادة التخلق انطلاقا بنا، وكل على حدة”. علاقة الضبة بالمفتاح يمكن أن تـُوظـَّـف لفتح الباب إلى ما بعدها، أما أن تكون هى النهاية فسوف يسكن المفتاح داخل الضبة دون تحريك حتى يصدآ فيفسدا بلا انفتاح أبدا.  فى هذه الحلقة، كنت أنوى أن أعرض لشخصيتين متضادتين، ليس باعتبارهما شخصيتان متميزتان، ولكن بما تمثلانه فينا، فيما نسميه عادة “حبا”. نحن لا نعرّى أحدا هنا، وأنا لا أعنى شخصا بذاته، وإنما نأخذ جانبا من الخبرة التى سمحتْ لى بقراءة تلك العيون، لنكتشف أعماقنا سعيا إلى مستوى أرقى وأبقى.

أنا واحد ولاّ “كتير”؟ (10) (ملف الحب3)

  الحب السهل المُستَـسْهِِـل

كان العنوان المطروح الذى أنهينا به الحلقة السابقة هو “استسهال الحنان، والموت حبا”، لكننى حين راجعت “المتن” رأيت أن أفرد لكل منهما حلقة مستقلة، صحيح أن جمعهما معا يبين تناقضا يوضح طبيعة كل منهما، لكنى وجدت أن كل حالة تحتاج إلى تفصيل منفرد.

 فى الحالة الأولى – هذه الحلقة – جرى الحب سهلا وعموميا، بدا للجميع حبا سلسا، ومتدفقا جدا، وغير مشروط أيضا، لكن قراءتى أرتنيه استسهالا  أكثر.

السيدة (التى هى أىٌّ منا) فى أول الأربعينات، وهى صاحبة التدفق العاطفى الحانى، ذات حس فنى رائق، وجمال هادئ متسحب مخترق معا، كانت تغمرنا جميعا بفيض من القبول والحب والاستجابة والدفء بلا تردد، وأكاد أقول بلا تمييز. فرحت بها فرحة العطشان يشرب من قلة باردة علقت تحت شجرة ظليلة فى يوم قائظ، وأيضا دهشت من سلوكها دهشة طفل لا يصدّق أن أمه ما زالت على قيد الحياة بعد هدوء الإعصار، وحين نظرت أعمق أقرأ عيونها ما استطعت، كان هذا بعض ما  رأيت:

والنظره‏ ‏دى ‏رخْرَه‏ ‏عجب‏.‏

ماباشوفشى ‏فيها‏ ‏إلاشئ‏ كَمَا‏ ‏الحنان‏. ‏

لا‏ ‏لُهْ‏ ‏شروط‏ ‏ولا‏ ‏سببْ‏.‏

وأقولْ‏ ‏لِنفسى، ‏يا‏ ‏ترى:‏

هوّا‏ ‏حنان‏ ‏الدنيا‏ ‏كله‏ ‏اتجمّع‏ ‏الليله‏ ‏هنا‏‏؟

عمال‏ ‏بِيْغمُرْنَا‏ ‏كَدِه‏ ‏من‏ ‏غير‏ْْ ‏حِسَابْ‏،‏

كَمَا‏ ‏تِرعَه‏ ‏سابـِتْ‏ ‏فى ‏الغيطان‏ْْ،‏

إللى ‏بطونها‏ ‏اتْشَقََّـقـِتِْ

هذا الفيض، من العطاء العاطفى الغامر، كاد يؤكد– لأول وهلة – قدرة هذه السيدة (قدرة الإنسان) على أن تغمر كل الناس، دون تمييز تقريبا، بفيض مما افاض بها الله عليها من تدفق الحنان والاستعداد للقبول، والقدرة على الرّى.

الحب غير المشروط (دون شرط مُسبق للحصول على مقابل) هو من أهم ما يحتاجه الطفل حديث الولادة، إذْ من أين يمكن لمثل هذا الطفل أن يلبى شرط من يمنحه حق الحياة : “أن يُقبل ، ويُعترف به”؟ لو كان من حقنا أن نشترط على هذا الطفل أن يعطينا (يعطى أمه) مقابل ما يرضع من لبنها، لأمكن تطبيق مثل هذا الشرط على ما نمحنه إياه من “اعتراف” و “شوفان” و”حب” و”إحاطة”. إذن: الحب غير المشروط هو وارد، وطيب، وحق، ومفيد، لكنه ليس نهاية المطاف. حين يشب الطفل مراهقا فيافعا فكهلا، تتطور أحواله بشكل يجعل الشروط من أهم ما يميز أية علاقة حسب السن والظروف والممارسة. بمجرد أن نذكر كلمة “شروط” أو “صفقة” يقفز المثاليون (يعنى) يحتجون على تشويه هذه المشاعر الرقيقة الراقية!!. واقع الحال أننا – بعد أن نأخذ جرعتنا من الحب غير المشروط أطفالا – لا نقيم أية علاقة إلا بشروط. قد تكون شروطا معلنة صريحة مثل التى يقولها الزوجان عند عقد القران (كما تظهر معلنة بالألفاظ بالتعهد بالوفاء “إلى الأبد” فى عقد قران إخواننا المسيحيين مثلا)، أو مثل أية شروط فى أية علاقة عابرة أو دائمة. صحيح أن الشروط تسخّف الحب وتمسخه، لكنها موجودة، ربما خفية فى الأغلب على مستوى ما من وعيى المحبين مهما أنكروها. الشروط عادة متبادلة، وهذا قد يخفف من نفورنا من إعلانها قليلا أو كثيرا، فى العدد الماضى، ذكرنا كيف أن الهاربة إلى الواقع (الزواج الآمِن) قد أعلنت شروطها بوضوح وشجاعة “أنا نفسى حد يعوزنى، وأعوز عوزانه” شرط أن تتم العلاقة هو أن يحتاجها، ومقابل ذلك فهى سوف تحتفظ به وتحرص عليه طالما أنها تعطيه مقابلا هو إعلان احتياجها له، حتى لو كان فى عمق أعماقه، احتياجا لاحتياجه لها، وليس له هو شخصيا. هذه صفقة قد تكون جيدة. طبعا هى لا تُعلن هكذا صراحة، لكن هذا هو ما يجرى فى داخل الداخل. شروط أخرى كثيرة تجرى من خلف ظهورنا ونحن نمارس الحب على كل المستويات ، وحين لا تكون معلنة (حتى لا نشوه الحب) تتم الشروط من الجانبين فى الخفاء، فهى الصفقات (المشروعة تماما)، حتى لو أخفيناها تحت مسميات أرق والطف. هذه الصفقات التحتية  بين ذوات أخرى خلف ظاهر الوعى، تتم بين أى ذات داخلنا، وذات أخرى، بشكل متغير ومتنوع على كل المستويات، وإليكم بعض الأمثلة:

(1)   عقد بين طفل وطفل (داخلنا): هيا نلعب سويا ، ونلتذ

image004(باقولّك ايه ، ياللا نلعب مع بعض ونهيص وننبسط وخلاص!!)

(2)   عقد بين طفلة ووالد (داخلنا): أحتاجك حاميا راعيا طول الوقت، وسأفرحك مقابل ذلك

( إنتَ باب وانتَ ماما، وانت َ أنور وجدى، وأنا بتاعتك !!)

(3)   عقد بين والدة وطفل (داخلنا): أنا أمك، فلا تذهب بعيدا، وسوف تجد ما يسرك

(تعالى فى حضنى يحتويك بصحيح، إنت رايح بعيد ليه، أنا أمك وحاعمل كل اللى يبسطك!!)

(4)   عقد بين يافع ويافعة (داخلنا أو خارجنا): هذه المؤسسة ضرورة اجتماعية، وسوف تسمح لنا بتبادل احتياجاتنا علانية دون مخاطر

(كده تمام، العلانية ما فيش أحسن منها، والناس عارفة ومباركة، وربنا كريم، بلا هدّه!!)

(5)   عقد بين يافع وطفلة: ما دمت تصرين على الاعتمادية، فسوف أقبلها دون أن أسمح لك بالتمادى، وسوف أقوم بواجباتى كاملة فى حدود ما أستطيع وأخطط

image006(هوّا انتى حاَّتِنيكى عيّلة لحد إمتى؟ ما دام ده مريّحِك حاعمل اللازم، بس ما تزوِّديهاش لازهق!)

(6)   عقد بين والد ووالدة:  لقد شبعنا لعبا، (أو: لما كنا قد عجزنا عن أن نلعبها كما كان ينبغى) ، فلم يبق أمامنا  إلا أن نرعى الأصغر منا معا فى تعاون محب، لا مانع.

(الحمد لله على كده ، كله تمام، المهم نفرح بالعيال سوا، ياه ، دى عشرة عمر!!)

هذا بالنسبة لاختزال الـ”كتير فينا ” إلى والد وطفل ويافع، وهو أول طريق التعرف على هذه الكثرة، لكن المسألة – كما أكدنا مرارا – لا تقتصر على هذه التباديل والتوافيق، فهناك شروط أخرى كثيرة كثيرة، لصفقات أخرى متنوعة ومتعددة يمكن أن تعقد بين ذواتنا الداخلية من وراء ظهورنا أيضا، (وبعضها قد يصل إلى مستوى الوعى).، ولأنها لا تحصى فسوف أكتفى بعرض أمثلة قليلة جدا، لا يشترط فيها أن تكون بين الذوات الثلاثة المعروفة (الطفل- الوالد- اليافع)، ومنها (دون تحديد نوعية الذات الداخلية)

ملحوظة: قلنا إنه لا عيب فى الصفقة من حيث المبدأ، ويا حبذا لو كانت معلنة وتحملناها، خاصة  وأن الصفقات ليست كلها سلبية، الصفقات السلبية هى التى تتم من وراء ظهورنا عادة، وقد تعمدتُ ألا أميز فى الامثلة المختارة أى الصفقات سلبية، وأيها إيجابى، وعلى القارئ أن يرى ما يرى على مسئوليته.

المثال الأول:

ظاهر الأمر: (أنا احبك ó وأنا أيضا جدا)

الصفقة:

1-   أنا أعطيك ما تريد على شرط أن تعمى عن باقى ما لا تعرف عنى.

2-    وأنا قبلت أن آخذ ما تيسر، على شرط أن تستجيبى وقتما ما أطلب = بالعامية

o       (خد كل اللى انت عايزه، بس ما تشوفشى قوى أنا مين!!)

v                         (ماشى، بس تتجاوبى وقت ما اعوزِك!!)

المثال الثانى:

ظاهر الأمر:  (أنا احبك ó وأنا أيضا جدا)

الصفقة:

1-   أنا جائع لمن يرانى ليس كما أبدو للناس الأبعد

2-    وأنا أيضا على شرط أن تكون الرؤية متبادلة  = بالعامية

  • (نفسى حد يشوفنى بصحيح ، مش زى ما بقية الناس شايفِّنى!!)

v    (وانا كمان، ما تيالا نقايس ونشوف بعض بحق وحقيق!!)

المثال الثالث:

(أنا احبك ó وأنا أيضا جدا)

الصفقة:

1-   كتـّم على الخبر، فليس أمامى خيار

2-    ليكن ، هذا أسهل، وأنا موافق لكن لا تعلنيها = بالعامية

  • image008(هوّا انا يعنى كنت لقيت حد غيرك، كله تمام)

v    (ماشى، كده الحكاية سهلت، بس خليها فى سرك)

المثال الرابع

(أنا احبك ó وأنا أيضا جدا)

الصفقة:

1-   أنا أحبك على شرط ألا تحب أحدا غيرى

2-   ولا أمى ؟ !! حاضر ، على شرط أن أخذك لى حتى النخاع = بالعامية

  • (حسك عينك تبص أو تتلفت أو تحب حد غيرى)

v     (حتى ماما؟ !! طيب حاحاول بس على شرط آخدك كلك بحالك لىّ لوحدى)

المثال الخامس

(أنا احبك ó وأنا أيضا جدا)

الصفقة:

1-   أنا أستفيد من حبى لك لأنه يمنحنى وقتا ودعما كافيين “لأكون”

2-   وأنا أيضا، تحملين عنى ما لا أعرف من تفاصيل، فأنتج أكثر، وأكون = بالعامية

  • (أنا كده كسبانه ، مريّحة، وعندى وقت، وباعمل حاجات ليّا، وباستفيد)

v     (طيب ما انا  برضه باشتغل أكتر، ومريّحانى من الحاجات الصغيرة، وباكسب زيك) 

التعقيب:

نلاحظ هنا كيف أن الحب المعلن ليس بالضرورة كذبا لمجرد أن وراءه تبادل مصلحة، المصلحة مقبولة لو بدت مصلحة مشروعة أو غذّت احتياجا طبيعيا. ثم إن هذه الصفقات تتغير لو أن مسيرة النضج عند الطرفين استمرت فى اتجاهها الصحيح، وقد يتم تبادل الأدوار ما أتيح ذلك.

باعترافى بضرورة مثل هذه الشروط، ومشروعية أغلبها، سواء أعلنت أم لا، تعجبت من هذه السيدة الحانية الجاهزة المتدفقة حبا وحنانا: “عمال‏ ‏بِيْغمُرْنَا‏ ‏كَدِه‏ ‏من‏ ‏غير‏ْْ ‏حِسَابْ‏،‏ كَمَا‏ ‏تِرعَه‏ ‏سابـِتْ‏ ‏فى ‏الغيطان‏ْْ،‏ إللى ‏بطونها‏ ‏اتْشَقََّقِتِْ”. بدا لى، برغم العطش، أن المسالة هكذا “ليست هى”، وأن هذا الغمر، برغم فيضه، وجوع من يتلقاه، إلى أنه من السهولة وانتفاء الشروط فيه، وبظاهر كرمه وشكل تلقائيتة يمضى بلا  أنين لساقية، ولا جدية، ولا حتى مسئولية:

مِنْ‏ ‏دُونْ‏ ‏ولا‏َ ‏ساقيهْ‏ ‏تِنوُح‏،‏

image010ولا‏ ‏قادُوسْ‏ ‏ولا‏ ‏شَادُوف‏ْْ.‏

المية‏ ‏تُغْمُرْ‏ ‏والحَنَانْ‏ ‏بِيْبَشْبِشِ‏ ‏القلب‏ ‏الحَزِيِنْ‏،‏

والقلب‏ ‏إللى ‏مَالُوش‏ ‏حبيبْ‏،‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏من‏ ‏عمايل‏ ‏الناسْ‏ ‏بقى ‏حتِّةْ‏ ‏خشب‏ْْ، ‏

والقلب‏ ‏إٍللى ‏اتمهمطت‏ ‏دقاته‏ ‏أصبح‏ ‏مثل‏ ‏كوره‏ ‏مْن‏ِ ‏الشراب‏،‏

تضربها‏ ‏رجلين‏ ‏العيال‏ ‏طول‏ ‏النهار‏ْْ.‏

وان‏ْْ ‏جت‏ ‏على ‏أْزاز‏ ‏ام‏ ‏هاشم‏ ‏يبقى ‏يوم‏ ‏أزرق‏ ‏وطين‏،‏

يالْكوره‏ ‏تتشرمط‏ ‏يا‏ ‏إِمّا‏ ‏ان‏ ‏العيال‏ ‏يتفركشوا‏.‏

حتى ‏إٍذا‏ ‏ازاز‏ْْ “‏ام‏ ‏هاشم‏” ‏ما‏ ‏اتْكَسَرِشْ‏.‏

مش‏ ‏صحّت‏ “‏الأسطى ‏إٍمام‏” ‏من‏ ‏غـفْلِتُهْ‏.‏

‏”‏واللَّى ‏يصحى ‏الناس‏ ‏يانَاسْ‏ ‏أكبر‏ ‏غلط‏”! ‏

وأن هذا الغمر برغم فيضه، وبرغم أن الجوع إليه يعطيه قيمة تبدو عالية وخاصة،  إلا أننى حين رحت انظر فى عدم تمييز صاحبته لمسارات تدفقه، وجدوى توظيفه، وجدتنى أقرأ ما قرأت. اعترفت أولا أننا من فرط حرماننا، فنحن أشد الحاجة إليه، هو حنان يهدهد الحزن ويلطفه، وهو يرطب جفاف المحروم، وهو يداعب الأطفال بداخلنا وقد قهرهم الضبط الأعمى، والربط الجبان. نحن نقهر الأطفال خارجنا وداخلنا  لأنهم اقرب إلى الفطرة، فهم يهددون قيمنا الثابته، وبيتنا الزجاجى الهش، “وان جت على أزاز ام هاشم يبقى يوم أزرق وطين”، وأيضا نقهرهم خارجنا حتى لا نرى أطفالنا داخلنا. “مش صحّت الأسطى إمام من غفلته، واللى يصحى الناس يا ناس أكبر غلط.” هذا القهر والحرمان يجعلنا نستقبل فيض ما يبدو حبا غير مشروط بعمى مطلق. لم استطع إلا أن أرى ما رأيت:

وارجَع‏ْْ ‏أشوف‏ ‏نهر‏ ‏الحنَانْ

image013ألقاه‏ ‏بيطفى ‏فى ‏الشراقى ‏بْدون‏ “‏أوان‏” ‏

لكين‏ ‏الشراقى ‏مَهْما‏ ‏شَّققْها‏ ‏الجفاف‏؛

الميـّه‏ ‏راح‏ ‏ترويها‏ ‏صُحْ‏،‏

لكن‏ْْ ‏كمانْ:‏ ‏

إن‏ ‏سابت‏ْْ ‏الميّه‏ ‏على ‏العمَّالْ‏ ‏على ‏البطَّالْ‏ ‏حاتغرق‏ ‏أرضنَا‏،‏

حتى ‏لو‏ ‏الأرض‏ ‏شراقى ‏مْـَشَقَّقَهْ‏،‏

ولاّ‏ ‏الزراعة‏ْْ ‏بدونْ‏ ‏أصُولْ‏‏؟

مش‏ ‏لازم‏ ‏الأرض‏ ‏تجف‏ ‏وتتعزق‏؟‏!‏

أو‏ ‏ضَرْبِة‏ِِ ‏المحراتْ‏ ‏تِشُقّ‏ ‏الأرض‏ ‏تقلبِ‏ ‏تبْرِهَا‏‏؟‏!‏

إن من يريد أن يقرأ هذه الفقرة كما قرأتها فى عيون صاحبتنا، يحتاج أن يكون قد عاشر الفلاح المصرى من خمسين عاما مثلا حين كان يستعمل المحراث البلدى، ويروى أرضه أحيانا بالشادوف، وكثيرا بالساقية (الحلزونة) بأنينها الراتب، كما يحتاج أن يعرف كيف أن الأرض تُترك أحيانا بدون رى بالقصد حتى تتشقق ويتهوّى جوفها لتصلح لزراعة معينة، فى وقت بذاته (وتوصف الأرض ساعتها بـ”الشراقى”). التنبيه هنا هو أن هذا النوع من الحب غير المشروط، لجائع لا يميز من فرط جوعه، يُغرق الأرض لا يرويها، حتى لو بلغ العطش مداه (حتى لو الأرض شراقى مشققة من طول الجفاف). إن الرؤية، التهيئة، وضبط جرعة العطش، مع جرعة الماء اللازم،  هو الذى يعطى لهذا الرى معنى وجدوى. حاولت بصراحة أن أهز هذه السيدة لترى ماذا تفعل، إلا أن رقة قلبها الغالبة، أوالظاهرة، كانت تمنعها أن ترى إلا ما تفعل، وهو بالغ القبول موفور الترحيب به من كل جائع.

والنظره‏ ‏إللى ‏بْتُغْمر‏ ‏الكون‏ْْ ‏بالحنانْ‏ ‏من‏ ‏غيِر‏ ‏حِسَاب‏ ‏بتقول‏:‏

‏”‏حَرام‏ْ..، ‏يانَاس‏ ‏حَرام‏ْْ:‏

‏  ‏أرض‏ ‏الشراقى ‏مْشَقَّقَة‏ْْ، ‏جاهزه‏، ‏

‏ ‏بلاش‏ْْ ‏نِجْرح‏ ‏شُعُورْها‏ ‏بالسَّلاَحْ‏…”‏

يا‏ ‏ناس‏ ‏يا‏ ‏هُوه‏: ‏بقى ‏دا‏ ‏كلامْ؟‏ ‏بقى ‏دا‏ ‏حنانْ‏‏؟‏ ‏

‏”‏الزرع‏ ‏لازِم‏ْ ‏يِتْروِىِِ‏”‏؟ ‏أيوه‏ ‏صحيحْ‏،‏

بس‏ ‏كمانْ : ‏الَزرِعْ‏ ‏لازم‏ ‏يِتْزَرَع‏ََ ‏أََوَّل‏ْْ،‏

ماذَا‏ ‏وإٍلا‏ ‏البذرة‏ ‏حاتْنَبِّتْ‏ ‏وبسْ‏. ‏

لا يوجد حب دون ألم، ولا توجد علاقة حقيقية دون مخاطرة، حكاية “يا حرام”، و”حاسب عليه”، و”أحسن يزعل”، هى مسألة تحسيس قد لا ينتبه إلى طبيعته المسطحة أى  عطشان أو جائع، هو  حب لا ينتج إلى تنبيتا صناعيا فى المحل،  دون امتداد أو إثمار (ماذا وإلا البذرة حاتنبت، وبس).

 مضيت أكمل القراءة: 

يا‏ ‏ست‏ّْ ‏ياصاحْبِة‏ْْ ‏بُحور‏ ‏الحب‏ ‏والخير‏ ‏والحنان‏:‏

إٍوعِى ‏يكون‏ ‏حُبَّك‏ ‏دا‏ ‏خوف‏،‏

‏ ‏إٍوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏دَهُه‏ْْ “‏قِلّـةْ‏ ‏مافيش‏”.‏

إوعى ‏يكون‏ ‏حبك‏ ‏طريقه‏ ‏للهرب‏ ‏من‏ ‏ماسْكه‏ْْ ‏المحْرَاتْ‏،

 ‏وصُحْيانك‏ ‏بطول‏ ‏الليل‏ ‏لَيِغْرق‏ ‏زرعنا‏. ‏

العلاقات البشرية هى صعبة بطبيعتها، لأنها مسئولية بطبيعتها، ليس معنى ذلك أن الصعب مطلوب لذاته، ولكن إذا كنا نريد للحب أن يكون بناء، وتخليقا، وبعثا ، وحركة ليست مؤمنّة مسبقا طول الوقت، فعلينا أن نكون على المستوى الذى يتطلب الرؤية والرعاية والانتباه إلى المخاطر الضرورية الرائعة المحيطة، لا المستوى الذى ليس إلا هربا يخفى احتياجاتنا الأصيلة، ويشل حركتنا نحو أنفسها مع الآخر، وبه،  لنا. (إوعى يكون حبك طريقة للهرب من ماسكة المحرات، وصحيانك بطول الليل ليغرق زرعنا).

برغم وضوح الرؤية هكذا، إلا أننى عذرت من يُعلى من قيمة هذا النوع من العطاء الحانى، تقمصته (أو كنته، لست متأكدا)، نهرتُ نفسى عن الرؤية لعل شربة تصلنى فتبلّ ريقى وأنا لا أنكر عطشى.

من‏ ‏كُتْر‏ ‏ما‏ ‏انا‏ ‏عطشان‏ ‏بَاخَاف‏ ‏أشرب‏ْْ ‏كَـدِه‏ْ ‏من‏ ‏غير‏ ‏حسابْ‏! ‏

لكن‏ ‏كمانْ‏:‏

مش‏ ‏قادرْ‏ ‏أقول‏ ‏لأَّه‏ ‏وانا‏ ‏نِفسى ‏فى ‏ندْعِةْ‏ ‏مَيّهْ‏ ‏من‏ ‏بحر‏ ‏الحنان‏ْْ!‏

يا‏ ‏هلْترى: ‏

‏   ‏أحسن‏ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏العطش‏؟

ولا‏ّ ‏أموت‏ ‏من‏ ‏الغَرق‏‏؟‏! ‏

التنبيه هنا شديد الوضوح إذْ يقول إن الرؤية لا تكفى. الحذر لا يمنع تقبل هذا الفيض الغامر مهما شككنا فى جدواه أو استمراره أو أعماقه، هكذا تنتهى القراءة بالاعتراف بالعطش الذى لا يلغى الرؤية، فتحتد الحيرة بين موت من العطش، أم استسلام للغرق.

هذه النهاية التى تطفئ النار دون حساب لجرعة الماء التى تغرق الحروق حتى التلف، هى من ضمن أشكال الحب الذى يوقف النمو تماما فيما أسميناه أكثر من مرة: علاقة “الضبة والمفتاح”. فيضان الحب العشوائى (أو ما يشبه الحب) الذى يغرق الأرض فتموت البذرة، أو يغلق المسام فتتوقف الحركة هو أحد أنواع السكون الذى هو ضد النمو، والذى نسميه:

 “الحب الموت“،

 وهو موضوع الحلقة القادمة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *