الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / أنا واحد ولاّ كتير (14): ملف الجنون (2) : جنون صبى: تَنَـاثَرَ فتجمّد، ثم تجمّـع

أنا واحد ولاّ كتير (14): ملف الجنون (2) : جنون صبى: تَنَـاثَرَ فتجمّد، ثم تجمّـع

لم تنشر فى روز اليوسف

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

أما قبل

حين انفتح علىّ ملف “الجنون”، وجدت أننى فى بيتى أكثر دفئا وأقرب ائتناسا، أنا أحب أن أعلن أننى طبيب مجانين، أفضل ذلك عن الاختباء وراء الاسم الحركى “طبيب أمراض نفسية”، برغم أن المرضى وأهاليهم يريدوننى متخفيا وراء  هذا الاسم حسن السمعة، وهذا يعطلنى أحيانا، المنظور الذى أعمل من خلاله هو أن الجنون موجود بداخلنا كامن ينتظر أن ينقض إذا نحن لم نحسن التصالح مع كل “من” هو، منْ هم “نحن”، ولو بدرجة نسبية، لكن متحركة. الاعتراف بالـ”كتير image002فينا” ليس  نزهة عقلية، أو معلومة طريفة، هو أساس حركية الوجود لبناء الفرد فالمجتمع. نحن نقى أنفسنا من الجنون بأن نسمح بمكوناته أن تشترك جميعا فى لحن واحد. إذا توقفنا واختبأنا وراء أغطية “العادية”، فالحال قد يمشى، وربنا يستر. نعم: الحال يمشى ولكن لو استمر مشيه على نفس النمط الساكن فعلينا أن نعرف أن ثم خطأ ما.  كلما  هددنا الـ”كتير” بداخلنا بالخروج عشوائيا (الجنون) سارعنا بزيادة عدد من الأغطية والألحفة والحواجز والأسوار والأثقال.  إذا  زادت هذه الأحمال بلا توقف على حساب حركية الداخل أصبنا بما يسمى الأمراض النفسية التى هى محاولة لتغطية وضبط الجنون الذى يتقلقل داخلنا من فرط كتم أنفاسه. من هنا صار موقفى العلاجى (والشخصى، والوقائى) هو أن أتعامل مع الجنون فى الداخل حتى لو كان ما زال كامنا بعيدا عن التناول. نعم، حين يطمئن المريض النفسى (لم يجن بعد) من أن الجنون بداخله ليس غريبا عنه، وأنه لن  ينقض عليه إلا إذا أنكرنا حقه فى التعبير بطرق غير مجنونة، حين نتصالح على جنوننا فى الداخل لا نمرض نفسيا من فرط الضبط، ولا عقليا بكسر الحواجز ورفع الأغطية واقتحام الأسوار. تعاملى هو مع الجنون فى كل الأحوال: إن كان كامنا  يتغطى بصورة المرض النفسى، فعلينا أن “نهوى” ونتفهم أسباب قلقلته وهى إنكارنا حق حركته، وإن ظهر يفرض نفسه على السطح تناثرا أو شطحا أو بعدا عن الواقع  فهى المواجهة وإعادة التنظيم. أول خطوات الوقاية من الجنون الصريح، هو احترام الكثير فى داخلنا وإعطائهم الفرصة للتناوب والتعبير من خلال الأحلام أو اللعب أو الإبداع، بل كل ذلك.

أنا واحد ولاّ كتير (14): ملف الجنون  (2)

جنون صبى: تَنَـاثَرَ فتجمّد، ثم تجمّـع

هو صبى فى مستهل المراهقة، من ناسنا الطيبين، عينة من عمق ما هو نحن شعبا مجتهدا مثابرا  طول الوقت. تفكك الصبى وتناثر حتى أصبح نموذجا لما يسمى الفصام (اسمه الجنون الباكر أو جنون المراهقة، تاريخا) …. اسمه: علاء محمود (اسم مستعار مثل كل الأسماء)، عمره خمسة عشر عاما، يسكن فى حى فقير بالقاهرة الفقيرة ، يعمل “صبى مطبعجى” ترك المدرسة فى سن العاشرة ليعمل أعمالا متفرقة متقطعة، تاريخه العائلى إيجابى للمرض العقلى (إبنة الخالة)، وهو الأخ قبل الأخير لخمسة من والد  قهوجى فى نفس الحى، الأب غيور بعيد ضعيف، والأم قوية حاضرة أنانية  ثائرة محتجة بطريقتها، كان الأب المشغول البارد يشك فى أن ثمة علاقة بين  الأم وجارهم، انتهى هذا الشك بالطلاق منذ ثمان سنوات، (كان عمر علاء 7 سنوات) و تزوجت الأم من الجار!!!، ولم تر أبناءها – دون أن يمنعها أحد من ذلك- لمدة عام ونصف عام، ثم عادت الزيارات المتباعدة حتى توفت إثر إصابتها بعد أن  شجت رأسها فى  مشاجرة مع زوجها الجديد حين دفعها فاصطدمت فى عامود سرير حديد، مع أنهم زعموا أنها توفت بورم فى المخ، ولم يحدث تحقيق. حين دخل علاء على الطبيبة  للكشف لأول مرة بادرها بقوله:

 “عندى خمس سنين، أنا عندى خمس سنين، عندى خمس سنين”.

 وحين سألته الطبيبة عن شكواه قال: مفيش حاجة تعبانى يا دكتورة”.

بعد يومين من دخوله المستشفى كان قد نجح أن ينام ليلتين ببعض العقاقير (ليست منومة أساسا)، عاودت الطبيبة سؤاله، فأجاب بما يلى:

مفيش حاجة تعبانى ، ماشى ياعين أمك، أصل احنا كنا بنهزر شوية مع بعض أنا والدكتورة “س”، أصل أنا كنت بذاكر شوية فى الحمّام،  وقابلتنى واحدة،  وآدى كل اللى حصل، حبينا إحنا الاثنين، واتقفنا نتجوز أول ما نعيش – فيه واحد بيسحبنى ورايا كل يوم، باسمع أصوات بتقولى ووى ووى ووى، كان فيه واحد قاعد جنبى بيأكّلنى بس مش عارف جه منين،  إنتِ بتحسبى إنى أنا اللى لبستهولــِـك؟  طب يالا قوم يا حبيبى، تعبت من أول امبارح، هش يا واد قوم من  قدامى، إنت اللى بتعمل فىَّ كده.”

     image004

اعتاد الأطباء أن يقولوا إن مثل هذه الشكوى هى منتهى الخلط وهم يصفونها أحيانا بأنها  “سلطة كلام”، وهذا صحيح، علاء لا يكاد يكمل جملة واحدة على بعضها، النقلات سريعة ، والصور متلاحقة بدرجة تبرر مثل هذا الحكم المبدئى، سلطة كلام لكن من منطلق مسألة “أنا واحد ولا كتير”، تعالوا معنا (وأغلبنا ليسوا أطباء والحمد لله) نعدد كم واحد ظهر فى هذه الأسطر (1) طفل عنده خمس سنوات (هذا ما قاله ابتداء) (2) واحدة قابلته فى الحمام (3) واحد يسحبنى ورايا كل يوم (4) أصحاب الأصوات التى تقول له ووى ووى ووى (5) واحد يجلس بجواره يؤكله وهو لا يعرف من أين أتى (6) واحد يحسسه أنه لبسه له (لبّس ماذا ليس مهما) (7) واحد راح يهشه حين ظهر أمامه وهو ينهره “إنت بتعمل كده ليه(؟)

إن إعلان ظهور الطفل الذى بداخله هكذا على سطح الوعى (أنا عندى 5 سنين) كان هو كل ما قاله ابتداء دون سؤال، ثم تظهر بقية الشخوص مُسقطين إلى الخارج وهو يستقبلهم “معا فى نفس الوقت” تقريبا. كما نلاحظ أيضا أن هؤلاء الشخوص الذين خرجوا من داخله لا يتخذون نفس الموقف، فواحد منهم يسحبه، والأخر يلبسه، وواحد يقابله، وواحد وراءه، ثم واحدة قابلها فى الحمام، وواحد يهشه وواحد ينهره. لو ترجمنا كل هؤلاء إلى مجرد “أفكار خاطئة”، كما نفعل نحن الأطباء عادة، لضاع منا الخيط.

 نستمع إلى جانب آخر من حكايته تحكيه أخته (20 سنة) المخطوبة:

“من 3 شهور علاء كان  يحب بنت معاه فى الشغل، هيه اللى كانت بتعمل حاجات عشان يحبها، هيه كبيرة عندها 26 سنة،  وكانت قايلاله إنها مِن سنُّه،  وكانت دايما تقعد تتكلم معاه وتاكل معاه، وفى عيد الحب جابت له طقم هدوم، وهوه كان ابتدى يتعلق بيها أوى وكان ابتدى يحكى لاخواته عنها، ولما سابت الشغل فجأة كان ده بداية تعب علاء، هيه كانت بتعامله  كويس وبتعطف عليه  زى أخوها الصغير بس هوه تقريبا أخدها حاجة تانية. ولما سابت الشغل جه  يوميها شكله حزين وبيعيط وأما تكلميه ما يردش عليكى، ويبص للحيطان زى  ما يكون خايف أو مرعوب من حاجة….، وماكنش ينام ولا بالليل ولا بالنهار ويقوم الليل يصحينا يقولنا قوموا اتكلموا أنا ربنا بيحبنى، فيه حاجة بتجيلى وأنا نايم بتخلينى أعمل الصح، إنتوا مش حتحسوا بيها، ويقول لأخويا أنت مش بتصلى ليه أنت مش بتحب ربنا، ……، ويقول إنتوا ليه كلكوا بتقولوا علىّ إنى وحش وحرامى؟ أنا كويس، إنت أختى، أنا مش هأذيكى،”

لا ينبغى للناس أو الدراما أو حتى الأطباء أن يختزلوا كل هذا الموقف إلى حكاية “اللى حب ولا طالشى،”، هذا التفكك هكذا لا يحدث إلا لمن تهيأ له، هى مجرد قشة قصمت ظهره، فتراجع ضعيفا، مكشوفا، عاريا، يستنجد بأى دعم، وكل داعم وهو يعلن براءته  من ذنب لم يرتكبه، تطورت الحالة بسرعة مخيفة إلى درجة من التدهورر جمعت بين النكوص والتصلب (الكاتاتونى).

من أسبوعين كلامه قل وساب الشغل ولما يروح يشترى حاجة يقف ساكت قدام الراجل، ينسى هوه المفروض يقول إيه، وكل ما يأكل حاجة يرجّعها،  باطنة مش قابلة أى حاجة وبطل نوم ويبص للحيطان ويقول يا ماما، زى ما يكون بيشوف حاجات تخوفه، ولما نسأله يقول لنا “بس”، بصوت واطى زى ما يكون خايف حد يسمع، وفضل واقف على رجله يوم بحاله من 9 صباحا – 10 مساء جنب باب الشقة حتى عمل حمام بول وبراز فى البنطلون،  ويبقى واقف ساكت ما يتحركشى،  وما يكلمش حد،  وكل ما نحركه ونشده لجوه يزقنا ويرجع تانى لنفس المكان،  وخرج بره البيت وقف جنب الجامع برضه بنفس الشكل بتاع ساعتين

هذه المظاهر تعلن ما وصلت إليه الحالة بهذه السرعة المخيفة، وبرغم أنها مفزعة  جدا، فإن التعامل معها برفض، أو تجنب، أو حتى بشفقة ماسخة مفرطة ، هو من أخطأ الخطا. النكوص هنا تخطى مرحلة الطفولة إلى مرحلة التجمد كالمادة قبل الحياة، هذا الشاب حين تفسخ بعيدا عن بعضه البعض بهذه السرعة، بهذه الجسامة، أصبحت كل حركة منه، من جسده، تهدده بالتلاشى. الجمود هنا يوقف الحياة الفاعلة بقدر ما يوقف حركية التناثر، وكأنه دفاع ضد مزيد من التناثر (عكس ما يعتقده كثير من الأطباء ويعتبرونه هوة التدهور).

image006مفاجأة التحسن

برغم كل هذا التدهور، فقد تحسن الصبى بالعقاقير المهدَْئة الجسيمة وبعض جلسات تنظيم إيقاع الدماغ (ما كانت تسمى جلسات كهربائية) و تحت مظلة علاقة هادئة بناءة مع الطبيبة ومجتمع المستشفى، وقد تمت المقابلة مع الأستاذ (الكاتب) بعد ذلك ، وهى التى نقتطف منها ما يلى:

–         إزيك يا علاء

–         الحمد لله ، قرّبت أخف

– أنا أحب الكلمة دى، “قرّبت”، أحسن من خفّيت

–         متشكر يا د. يحيى

– إنت مش كنت نسيت إسمى فى أول المقابلة

–         أنا آسف

–         هوا اللى ينسى اسم حد، يبقى غلطان لدرجة إنه يعتذر

–         يعنى

لا أحد يمكن أن يصدق أنه نفس الشخص الذى أوردنا مقتطفا من شكواه فى البداية.  أليس ذلك دليلا على أن المرض إذا لحقناه باكرا، وأمكن التعامل معه بسرعة ضامّة، يمكن تجميعه هكذا، ثم إن فرط التناثر حتى درجة التدهور (التى جعلته لا يتحكم فى إخراجه)، ثبت أنه ليس علامة سيئة جدا كما تبدو لأول وهلة، وبالرغم من هشاشة تركيبه التى سمحت بهذا التناثر بمثل هذه السهولة، إلا أن التزامه السابق، وتماسكه فى عمله  من سن مبكرة، ربما تكون من أهم العوامل التى أرجعته بسرعة إلى هذا التجمّع “فى واحد” من جديد

انتقلت نفس المقابلة بعد ذلك إلى تناول الحدث المرسب (حب زميلته) على الوجه التالى:

–         إنت إيه علاقتك دلوقتى بالدكتورة نور (الطبيبة المقبمة المسؤولة عنه).

–         دكتورة حلوة وطيبة

–         ما تقولها كده يا أخى، ينوبك ثواب

(ينظر إليها بود حقيقى، فيكمل الطبيب(:

–         يا لهوى على نظرتك دى، إنت ابن حلال.

(يطأطئ علاء رأسه)

–   image008ممكن يا علاء توصف لنا مشاعرك دلوقتى نحو الدكتورة نور ؟ (مكملا) زى ما انت متأسف إنك نسيت إسمى،  أنا متأسف برضه إنى باسألك كده زى ما يكون تحقيق.

–         مشاعرى نحوها كويسة

– يعنى إيه كويسة؟

–         باعزّها زى اختى

–         يالله عِزّها قدامنا

–         إزاى يعنى؟

–         ما اعرفشى

(يطأطئ رأسه وهو يبتسم)

– طيب نرجع لحكايتك من الأول، إنت فى الأول قلت كلام مفكوك بشكل ! أقولهولك؟

–         قول

– مثلا كنت بتقول “يسحبنى ورايا”، يعنى إيه يسحبنى ورايا؟ إللى يسحب يسحب قدام؟

–         مين هوا ده؟

–         أنا عارف؟ دا انت قلت برضه “الواحد إللى قاعد جنبى يأكلّنى”

–         مش فاكر

–   بصراحة ، أول ما دخلت المستشفى ، كان فيه حاجات كتير مع بعض، إنت جواك كله كان ملخبط على بعضه، أصوات على تحركات على دربكة

–         مش فاكر

 image010أحسن، باقولك إيه يا واد يا علاء، عارف وصل بيك الحال لحد إيه؟

–         لحد إيه؟

–         بصراحة حاجة مش كويسة، بس لازم أشاور لك عليها عشان تعرف كان فيه إيه

–         …..

–         إنت وصلت لدرجة ما كنتش بتتحكم فى البول والحاجات التانية

–         لا

–   حد ينسى حاجة زى كده يا شيخ ؟ طيب نرجع للدكتورة نور (….:  كان انتباهه بدأ يضعف عندما حاولنا تذكرته بما كان) ، صَحْصَـحْ شوية زى أول ما دخلت علينا النهارده  يا علاء

–         ما انا مصحصح

–         لا إنت غطست ساعة ما جبنا سيرة الفركشة، طيب هى الدكتورة نور بتحبك، ولا إيه؟

–         أيوه بتحبنى، زى اخوها

–         حد قالك زى مين، هوّه  إنت مش خايف إنها تحبك، وبعدين فجأة تسيبك؟ تنساك؟

–         مش عارف

– إنت فاكر زميلتك فى الشغل إلى كانت بتحبك

–         أيوه

– مش هى برضه كانت بتحبك زى اخوها

–         لأ، دى ما كانتشى بتحبنى زى اخوها، دى  كانت بتحبنى حب حقيقى، كانت بتحبنى وتعطف علىّ.

–         هى اسمها إيه؟

–         مش فاكر

–         ولاّ خايف تفتكر اسمها؟

–         لا، أنا نسيتها خالص

–         يا شيخ !! نسيت إسمها ونسيتها كمان؟ بقى بعد العِشرة واللى كان، تنسى بالبساطة دى

(د. نور ) – أول حرف فى اسمها “هـ”

–         مش فاكر

–         اشتغلت معاها قد إيه؟

–         شهر شهرين ، مش فاكر

–         شهرين وتنسى إسمها يا مؤمن، هى عندها كام سنة

–         عشرين

–         إنت عارف عندك كام سنة ؟

–         خمستاشر

–         بس هى كان عندها ستة وعشرين سنة

–         لأه

– إنت كنت عايزتتجوزها ؟

–         هى كانت مخطوبة

–         إيش عرفك

–         خطيبها كان بييجى ياخدها من الشغل

–         شفت خطيبها؟

–         أيوه

– أسمر ولا ابيض

–         أبيضانى

–         وشعره ؟

–         أسود

 كان مسبسبه ؟

–         مش عارف (يتراجع إنتباهه أكثر)

–         إنت رحت فين ؟ عايزتنام؟

–         لأه

 عايزتمشى؟ كفاية كده؟

–         لأه

 عايز تقعد معايا ليه؟

–         مش عارف؟

 إنت بتحبنى؟

–         أيوه

–         طب وانا؟ باحبَّك؟

–         حضرتك بتعزّنى

–         إيش عرّفك؟

–         أكيد بتعزنى.

أولا: الفرق ظاهر بين فرط التناثر فى البداية، ودرجة التماسك فى المقابلة.

ثانيا: بالإضافة إلى الاستعداد الوراثى (الاستعداد للتناثر أساسا)  فإن هذا الصبى لم تصله رسائل ضامّة من والديه تكفى لضمه فى “واحد صحيح”، واحد قادر على استيعاب الكثير الذين بداخله على مسار النمو. والده مهزوز مهزوم ، شاك فى زوجته القوية الذاتوية، ليتبين بعد ذلك أن شكه كان له مايبرره، والأم بعيدة عن أولادها، جافة المشاعر، على النقيض من  فرط اندفاعها لنفسها ورغباتها  لذاتها.

ثالثا: حاول الصبى أن يعوض غياب أمه الواقعى، وغياب أبيه الفعلى برغم تواجده الجسدى بأى تعويض مدرسى أو علاقاتى، فلم ينجح فى المدرسة، وتنقل سريعا بين أعمال متعددة، لكنه لم يتوقف.

image012رابعا: وجد علاء فى زميلته التى تكبره بتسع سنوات ما يشبع جوعه بشكل ما. لعلها لم تقصد إيذاءه واعية، لعلها وجدت فى احتياجه الشديد لها، ما كانت هى بدورها محتاجة له سواء أمام نفسها أو لافتقارها مثل ذلك من خطيبها. أو أنها كانت تستطْيبة، فالتقطت طفولته الجائعة، وراحت تلعب معه  للتسلية، دون استبعاد جرعة من حنان صادق.

تأكيد علاء على التفرقة بين “حبها الحقيقى”، وحب الدكتورة نور”زى اخوها”، يشير إلى أن الذى تحرك فيه  لم يكن الحاجة إلى أم خالصة (اللهم إلا إذا تبنينا وجهة نظر فرويدية،  باعتبار خطيبها هو  الأب المنافس، بشكل ما). ومهما التمسنا العذر لزميلته تلك فقد ترتب على عواطفها ما لم يكن فى حسبانها. يقول المثل الصينى: تقذف الأطفال الضفادع بالحجارة وهم يلعبون، لكن الضفادع تموت جدا لا هزال.

الخلاصة

إن ما يَجْمَعٌ الكثيرين (الكتير) داخلنا هو تماسك ما هو خارجنا وانتظام إيقاعة وسلامة رسائله، خارجنا يبدأ بالأسرة بالأم والأب، علاء هنا لم يصله طفلاً إلا فراغ الأب، ودوران الأم حول نفسها لنفسها فى المحل، كيف إذن تتناغم مستويات وعى علاء (شخوصه) على درب النمو. إن ذلك النشاز من حولنا لا يسمح لأى منا  أن يؤلف لحنه الخاص المنساب إلى اللحن الأكبر يتناغم مع الوجود البسيط الحقيقى. إن التغطية الخارجية  للهشاشة المتراكمة، بالضبط والربط والعمل والإنجاز فقط،  قد تؤجل التناثر، ولكنها قد تخمد الحركية الداخلية حتى يتوقف النمو برغم ظاهر السلامة.

إن مثل هذا الجنون إنما يعلن خيبتنا فى استيعاب الكثير فينا، كما أن التغطية بأثقال الكبت والدفاعات طول الوقت إنما تعلن خيبتنا فى استيعاب الحركة داخلنا.

لا مفر من اتاحة الفرصة للحركة المتنامية بين الداخل والخارج طول الوقت على كل المستويات الممتدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *