الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / من الموت الجمود إلى الموت الولود !!

من الموت الجمود إلى الموت الولود !!

نشرت فى روز اليوسف

 2 – 12 – 2005

سلسلة الإنسان

أ.د.يحيى الرخاوى

أما قبل

 تلك أثارنى ما اكتشفناه الأسبوع الماضى من خلال إبداع هانز كريستيان أندرسون، كيف أن الأطفال يعرفون الموت أكثر منا. انتبهت إلى أن  المشكلة أن سائر الأحياء الأخرى، لا تطرح هذا السؤال أصلا. برغم أننا مثلهم لم يستشرنا أحد قبل أن نقدم إلى هذه الحياة إن كنا نريدها أم لا، الأحياء الأخرى تبلع الورطة، أو تفرح بها بطريقتها، وتقضيها أياما أو شهورا أوسنين، حتى تذهب، بعد أن تترك وراءها بعض خلَفها  متورطين فيما تورطت فيه، لعلهم يحلونها بمعرفتهم هم وقوانين التطور. !! لماذا لا نفعل نحن البشر مثلهم، ونستعبط، ونتركها كما استلمناها ربما ينشأ منا صنف أرقى، يستطيع أن يرد على الأسئلة التى تبدو بلا إجابة؟ إن الوعى الذى شرف به الإنسان جعل مسيرته فى متناول عقله وفكره ومراجعاته وتداخلاته، فكاد ذلك يعوق خطى نموه. النمو فى نهاية النهاية  ليس عملا إراديا تماما، هو طبيعة حيوية، لكن الوعى البشرى جعل المسألة أكثر تعقيدا، وأخطر نتائجا، وأروع إبداعا فى نفس الوقت.

من الموت الجمود إلى الموت الولود !!!

image002قدمنا الأسبوع الفائت فرضا يبين احتمال أن الأطفال يعرفون الموت الحقيقى باعتباره  وعيا بين الوعيين، الكبار يتعاملون مع مفهوم “الموت” بفكرهم التجريدى، وعقلهم المنطقى تبعا لرصدهم ما يصلهم من إجراءات الظاهر من اختفاء ودفن وذهاب بلا عودة، فهل يمكن أن نعتبر هذا مدخلا إلى فحص نوع آخر من الموت يتم ونحن أحياء بعد، وهو ما يسمى “إعادة الولادة” التى تحدث مع كل أزمة نمو؟ لو حاولنا بعد أن هززنا التعريف التقليدى للموت أن نعيد تصنيف مفهوم الموت وتجلياته  المختلفة حسب السياق والاستعمال، فسوف نفاجأ بجديد يمكن أن يكون مفيدا لنا على مسار النمو الذاتى، بل والنمو الجمعى أيضا، فيما يلى بعض تلك المحاولات التى تقدم عددا من تشكيلات الموت المحتملة :

  1. الموت الفيزيقى السلوكى = العدم الاختفاء بلا رجعة ( وهو ما يقره الكبار والسلطات كما ذكرنا)
  2. الموت “الوعى بين الوعيين”: الوعى الفردى والوعى الكونى (وهو ما يعرفه الأطفال كما قدمناه، وهو اليقين image004بالاستمرار برغم الاختفاء الظاهرى).
  3. الموت الجمود الاغتراب: الذى يلبس ظاهر الحركة الزائفة وكأنه الحياة (الحياة موتا).
  4. الموت/الولادة: وهو الذى يشير إلى النقلة النوعية أثناء النمو حين يتولد التشكيل الوليد (الجديد) مما سبقه من تشكيل يختفى (يموت) فى طريقهما إلى تشكيل قادم، وهكذا. مثلما يحدث فى فترة المراهقة، أو أزمة منتصف العمر إلخ. بل مثلما يحدث بدرجة ما كل ليلة فى دورات النوم واليقظة (الحمد لله الذى أحيانى بعد ما أماتنى وإليه النشور).

ندع جانبا النوعين الأول والثانى فقد تناولناهما فى العدد السابق ونحن نحاول أن نميز بين مفهوم الموت عند الصغار عنه عند الكبار. فى هذا العدد سوف نركز على العلاقة بين النوعين الثالث والرابع، حيث هما فى واقع الحال نقيضين لكنهما مكملين لبعضهما بشكل أو بآخر، فالخوف من النوع الرابع (الموت/الولادة) هو المبرر لثبات وعناد وفرض النوع الثالث (الموت/الجمود)، كما أن الوعى بعبء اغتراب هذا الجمود ولاجدوى استمراره، هو الذى يكون حافزا لإنهاء مرحلته والمخاطرة بالإقدام على النوع الثالث (الموت؟ الولادة)، وما بين الاستكانة الدائمة للموت/الجمود، وبين المخاطرة المرعبة للموت/الولادة ، يمكن تصنيف كثير من مظاهر مسيرة الحياة البشرية، بما فى ذلك كثير من التجليات المرضية النفسية.

 خذ مثلا: الموت الجمود يتجلى بكل ثقله وتصلبه فيما يسمى اضطرابات الشخصية، فى حين أن الوعى بالموت الولادة  قد يكون من أهم مظاهر ما يمسى الاكتئاب الحيوى، أو بداية نشطة لأى من الأمراض النفسية الكيانية الجسيمة (أتعمد ألا أذكر الاسم منعا للاختزال والخلط).

image015هذا “الموت/الجمود” يحدد الموت بما هو اغتراب شديد دائم، حتى لو ظلت رئتانا تمارسان الشهيق والزفير، وظلت عقولنا تفرز الأفكار الدوائرية (أنظر بعد).  هو جمود مستقر ثابت، هو رضا باهت، هو تكرار خادع، هو حركة فى المحل، هو إصرار على رفض أى تغيير فى أى اتجاه معلن أو خفى، هو الدوائر المغلقة بإحكام على نفسها.

 بالتالى: تصبح الحياة ليست مجرد الاستمرار الفيزيقى، وإنما هى معاودة كسر الاغتراب، هى سكون جائز لكن إلى حركة حتمية، وهى رضا يقظ لكن فى حالة استعداد متحفز للمراجعة، وهى حركة فى أى اتجاه لكن غايتها النهائية تكون إلى قفزة نوعية أمامية أوسع، وهى التغيير المسؤول والدوائر المفتوحة النهاية ..إلخ.
الحياة بهذا الوصف ليست نقيضا ثابتا للموت الجمود، وإن كانت تتجدد  باستمرار من الموت/الولادة.

نبدأ بقراءة فى نقد قدمه كاتب هذه السطور لملحمة الحرافيش  لنجيب محفوظ  فى عدد مجلة الهلال هذا الشهر بعنوان “حركية الموت ضد الخلود العدم ” وهو تحديث موجز لدراسة مطولة سابقة.

المتن

(1) فى البدء كان الموت

 فى ملحمة الحرافيش حضر الموت باعتباره:  البداية، واليقين، والتحدى، والدفع جميعا: لم يحضر الموت العدم إلا وهو image008يخلق الحياة من داخلها : “الموت لا يجهز على الحياة، وإلا أجهز على نفسه”(ص 64). منذ السطر الأول يعلن محفوظ أن الملحمة تدور “.. فى الممر العابر بين الموت والحياة”،  لم يقل الممر العابر بين الحياة والموت، أو بين الولادة والموت، كما يُفترض بحسب التتابع الزمنى المنطقى. قدم محفوظ الموت باعتباره الأصل، وأن الحياة هى احتمال قائم، الموت بمعنى العدم – كما يشيع عنه – لا وجود له. حين راح شيخ الزاوية (خليل الدهشان) يصبر جلال (الأول) بعد موت خطيبته قمر (ص 403).

–                           كلنا أموات أولاد أموات.

فقال بيقين: لا أحد يموت.

لكن جلال يعود  ليقول لأبيه فى الصفحة التالية مباشرة (ص 404)

–                           يوجد شئ حقيقى واحد يا أبى، هو الموت.

موقف جلال هنا هو اقرب إلى موقف مفهوم الموت عند الطفل باعتباره وعيا ممتدا، كما اشرنا إليه فى العدد السابق، لكنه أكثر استهدافا لمسار سلبى عكس ما نتوقعه من وعى الطفل الذى يستقبل النقلة إلى وعى الموت بنعومة حقيقية نظرا لقرب عهده بالفطرة “وعى الكون”، جلال هنا ينكر الموت “لا أحد يموت”، لكنه يعلن فى نفس الوقت:  أنه لا يوجد شىء حقيقى غير الموت.

تتناول الملحمة الموت بهذا التناقض المتحدى، جنبا إلى جنب مع التنبيه إلى أن الحياة الزاخرة إنما تنبع من الوعى بحقيقته، أو حتى الخوف منه.  نعم، تؤكد الملحمة ان الخوف من الموت هو رعب محرك أكثر منه جمود عاجز، كما أنها قرنت الموت بالحلم:

“جرّب عاشور (الاول) الخوف لأول مرة فى حياته، نهض مرتعدا، مضى نحو القبو وهو يقول لنفسه: إنه الموت. تساءل فى أسى وهو ويقترب من مسكنه: لماذا تخاف الموت يا عاشور؟”(ص 54)، ثم اقترنت رؤية الموت رأى العين – منذ البداية – بالحلم، فعاشور حين قرر شد الرحال هربا من الشوطة، كان ذلك بناء على حلم رآه، فهم منه أن الشيخ عفرة زيدان ينصحه أن يشد الرحال، فكان قوله الموجز المكثف لحميدو شيخ الحارة: لقد رأيت الموت والحلم (ص 58) كان ذلك ذا دلالة خاصة لدىّ، رجحت أنه ربما استعمل فعل “رأيت”، ليفيد البصر والبصيرة معا، وحينئذ جاء رد شيخ الحارة: هذا هو الجنون بعينه، الموت لا يرى(ص 58):

نتذكر هنا بالضرورة أن الدراسات الأحدث لما هو حلم ليست لمحتواه أو رموزه، بقدر ما هى للتأكيد على أنه “وعى آخر”.  ربما يدعم هذا  المنطلق ما ذهبنا إليه من أن الموت هو أيضا “وعى آخر” .

لم تخل الملحمة من عرض النوع الأول من الموت (الموت السلوكى الفيزيقى) : التضاؤل الكمى حتى الاختفاء، لكنها عرضته باعتباره تذكرة بالنوع الثانى (الجمود الاغترابى) والثالث (حفز الحياة، وإعادة الولادة فى دورات الحرافيش) .

المتن من الدراسة النقدية

يواجه شمس الدين سؤال الموت، وهو يعى تماما مغزى الدعاء : “أن يسبق الأجل خور الرجال”، يواجهه أكثر فأكثر بعد موت حميه، المعلم دهشان، ثم عنتر الخشاب صاحب الوكالة، “فهذا (الأخير) رجل يماثله فى السن، يقف معه فى صف واحد”، يواجه السؤال  فيجيب عنه : “ولكن الموت لا يهمه، لا يزعجه بقدر ما تزعجه الشيخوخة والضعف، وأنه يأبى أن ينتصر على الفتوات وينهزم أمام الأسى المجهول بلا دفاع”(ص130).

ومع التسليم للقدر الزاحف تمنى شمس الدين حسم الموقف: “أليس من الأفضل أن نموت مرة واحدة؟” (ص 137). وبموت “عجمية” زوجته يرى الموت (رأى العين) كما رآه أبوه من قبل، فيهرب منه إلى الخلاء: (ص 138): “رآها وهى تغيب فى المجهول، وتتلاشى”. ولكن هل الموت هو مجهول بهذه  الصورة، أم أنه مازال اليقين الذى مابعده يقين؟ فيكرر(الصفحة نفسها): “إنه لا يخشى الموت ولكن يخشى الضعف“. ويكرر: “ما أبغض قفا الحياة!”.

أكتفى بهذا القدر، (ولمن يريد ان يرجع إلى الدراسة الموجزة فهى فى مجلة الهلال هذا الشهر، أما الدراسة المطولة فهى فى مجلة فصول  العدد الأول والثانى 1990)

التمسك بالموت/الجمود

خوفا من الموت/الولادة

‏فى ديوان “أغوار النفس” كان الفصل الأول بعنوان “سبع جنازات” حيث تجلت فى شعر عامى عدد من آليات الخوف من الإقدام، مع تنويعات الهروب، مما سنثبت بعضه متنا ثم نقرأه نقدا وشرا، كالتالى :

 بداية الفصل تعلن كيف أن مجرد إصدار أصوات هى ليست بالضرورة حياة، فالإنسان ليس حيوانا ناطقا بمعنى أنه يتكلم والسلام، لكنه الحيوان الذى يشارك بوعيه فى دورات موته وولادته،  فى المقدمة تنبيه أن بعض الأحياء ليسوا إلا نعوشا تصدر منها أصوات :

image010مر‏ّّ ‏الهَوَا‏ ‏صفَّرْ‏، ‏سِمْعِنَا‏ ‏الّصُوْت‏ ‏كإن‏ ‏النَّعْش‏ ‏بِيْطلّع‏ ‏كَلاَمْ‏:‏

‏لأ‏ْْ..، ‏لسّهْ‏..، ‏إسْكُتْ‏،.. ‏لَمْ‏ ‏حَصَلْ‏.‏ سيِمَا‏ .. ، ‏ياتَاكْسِى، .. ‏لسَّه‏ ‏كام‏ ‏؟‏”‏

أىّ ‏كلام‏.‏

ألفاظ‏ْْ ‏زينَهْ‏، ‏مَسْكيَنه‏ْْ،‏

بتزقْزَقْ‏، ‏وتْصَوْصَوْ‏،  ‏ .. ‏وِخَلاَصْ‏!!‏

ثم نعرض للجنازة الأولى التى تعلن الخوف من مخاطرة التغير، بقدر ما تكشف ألعاب الحركة الزائفة.

المتن: قصيدة: من ْ‏شطّى  ‏لْشطِّى

 (1)

الشط الثانى المِش باينْ

كل‏ ‏مااقَرّب‏ ‏لُهْ‏،  ‏يتـاخِـرْ‏.‏

وِمراكبْ‏، ‏وقلوع‏، ‏وسفايــنْ‏،‏

والبحر‏ ‏الهــِوْ‏ ‏مالوش‏ ‏آخــــرْ‏.‏

‏(2)‏

لأ‏ ‏مِشْ‏ ‏لاعِبْ‏.‏

حاستنى ‏لمّا‏ ‏اعرف‏ ‏نفسى، ‏من‏ ‏جـوّه‏.‏

على ‏شرط‏ ‏ما‏ ‏شوفشِى ‏اللـِّى ‏جــوَّهْ‏.‏

واذَا‏ ‏شفته‏ ‏لقيتـُـه‏ ‏مِشْ‏ ‏هـُوٍّه‏،‏

‏    ‏لازِمْ‏ ‏يفضَلْ‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏هُوَّهْ‏.‏

(3)‏

image012أنــا‏ ‏ماشى ‏”‏سريع‏”‏ حوالين‏ ‏نفسى،‏

وباصبّح‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏بامَسِّى،‏

وان‏ ‏كان‏ ‏لازم‏ ‏إنى ‏أَعدّى: ‏

رَاحَ‏ ‏اعدّى ‏مِنْ‏ ‏شَطّىْ ‏لـشَطِّىْ، ‏

هوَّا‏ ‏دَا‏ ‏شَرْطى‏.‏

‏(4)‏

ولحد‏ّّ ‏ما‏ ‏يهدَى ‏الموج‏،‏

واشترى ‏عوّامة‏ ‏واربطها‏ ‏على ‏سارى ‏الخوف‏،‏

ياللا‏ ‏نقول‏ “‏ليهْ‏ْ”‏؟‏ ‏و‏”‏ازاىْ؟‏”‏

‏”‏كان‏ ‏إمتَى‏”‏؟‏ “‏يا‏ ‏سَلاْمْ‏”! “‏يْبقَى ‏انَا‏ ‏مَظْلومْ‏”.‏

‏ ‏شكر‏ ‏الله‏ ‏سعيك‏!!‏

حتم المخاطرة

هذه الصورة توضح شكلا أكثر تحديدا من الحركة الزائفة، التى نلقاها  أثناء العلاج انفسى بشكل صريح، كما نلقاها فى الحياة العامة بطريقة أخفى، وسوف نعرضها بتركيز نسبى على الموقف العلاجى باعتباره نموذجا مكثفا لمسار النمو فى الحياة. ربما لأنه تكبير مكثف لمسيرة الحياة فى تراجعها، وسكونها، وانطلاقها.

الجهل بخطوة النمو التالية هو الذى يجعل النمو الحقيقى مخاطرة فعلا. إذا صدقتْ المسيرة فمن طبيعتها ألا نعرف أبدا تفاصيل ما سيحدث ونحن ننتقل من مرحلة إلى مرحلة. إنْ أنت خطوت خطوة إلى ما تتصوره تطورا أو نموا، وأنت واثق مائة فى المائة من طبيعتها، ومآلها، وتفاصيل محتواها، فأنت واهم.  ليكون الإبحار إبحارا لا بد أن تقلع دون أن تعرف مسبقا وبشكل محدد : أين ومتى تستقر على الشاطئ الآخر، كل ما عليك هو أن تحذق فن الإبحار والمهارات الضرورية المصاحبة، مثل العوم. قواعد النجاة التى تقولها المضيفة الجوية، التى لا يسمعها أحد، هى أقصى ما يمكن أن تتسلح به فى مخاطرة الإقلاع من مرحلة نمو إلى أخرى. الإنسان الحى (الذى يقبل المخاطرة بالحياة) يشعر أن الحركة ليست قاصرة عليه، بل هى واردة أيضا فيما يتعلق بهدفه” ‏ ‏الشط‏ ‏التانى ‏الـْمِشْ‏ ‏بايِــــنْ‏:‏ كل‏ ‏مااقَرّب‏ ‏لُهْ‏،  ‏يتّـاخِـرْ‏”. هذا فضلا عن مفاجآت المبحرين الآخرين حوله فى غموض صاخب، فضلا كذلك عن النهاية المفتوحة “‏ وِمراكبْ‏، ‏وقلوع‏، ‏وسفايــنْ‏،‏ والبحر‏ ‏الهــِوْ‏ ‏مالوش‏ ‏آخــــرْ‏.‏”

المسار الدائرى المغلق

حين يرعبنا الأهل من مخاطرة النمو، ثم يرعب كل منا نفسه من مخاطر المحاولة،  نتصور – بحق – حتم مراجعة كل شىء تقريبا قبل أن نفعلها، فيعدل أغلبنا عن الحركة، نتوقف. مسموح أن نتوقف مؤقتا حتىنتجمع أحسن، ونستعد أكثر، image014لكن هذا الاستعداد قد يستغرق العمر كله، فيتثبّت الموجود بشكل مزمن حتى يتحجر. المحاولة المتكررة المُعلنة نوايا وحماسا، ليست سوى تأجيل مزمن، أحيانا  يتصور البعض أنه لا بد أن يعرف من هو أولا قبل أن يقرر أن يفعلها، وأنه لا سبيل إلى ذلك إلا من خلال معرفة معالم نفسه ظاهرا، وباطنا. هذه كلها إشاعات معطلة، لا أحد يمكن أن يعرف نفسه كما يرجو أو يتصور، طالما نحن ننام ونحلم، فسيظل أغلب جبل الجليد تحت سطح البحر، لكن ذلك لا يمنع التبخر والسحاب فالرى أن يغمروا الدنيا بما يرويها من خلال حركية النمو المغامر. هذا الزعم “أعرف نفسى من جوه”، يصبح أكثر خداعا حين تكون تلك المعرفة هى أقرب إلى التغطية، بمعنى أنه فى كثير من الأحيان، نحن نعرف، أو نتصور أننا نعرف، ” ما ليس أنا”، باعتبار أنه “أنا”، أى أننا نعرف الممكن الذى فى المتناول، والذى هو ليس بالضرورة حقيقة الداخل، بل قد يكون عكسه، وفى النهاية ربما تكون النتيجة هى العدول الصريح: ” لأ‏ ‏مِشْ‏ ‏لاعِبْ‏”، إلى أجل غير مسمى. “حاستنى ‏لمّا‏ ‏اعرف‏ ‏نفسى، ‏من‏ ‏جـوّه‏.‏ على ‏شرط‏ ‏ما‏ ‏شوفشِى ‏اللـِّى ‏جــوَّهْ‏.‏”

إن كان الأمر كذلك “أننا نرى على شرط ألا نرى”، فماذا لو خابت الحسبة ورأى بعضنا حقيقته؟.

فى أحيان كثيرة يكتفى الواحد منا “بالرؤية بديلا عن الحركة”. حين يصبح اكتشاف السبب هو لتثبيت الحاصل، وليس لتجاوزه،  والانطلاق منه، حينئذ لا يكون التغيير هو المطروح، وإنما التبرير، وكأن المحصلة فى النهاية هى لتأكيد الجمود، لا لتحريك الثابت” واذَا‏ ‏شفته‏ ‏لقيتـُـه‏ ‏مشْ‏ ‏هـُوٍّه‏،‏ ‏لازِمْ‏ ‏يفضَلْ‏ ‏زىْ ‏ما‏ ‏هُوَّهْ‏.‏

إذا ما حدث مثل ذلك فالتقطه خبيرٌ فاهم محب، سواء كان معالجا أو طبيبا أو مربيا أو أيا من كان، فقد يبادر بتقديم العون بطمْأنة من يعيش كل هذا الخوف والتردد، لكن مثل هذه الطمأنة تبدو غير كافية، فتنشط حركة ما، لكنها فى واقع الحال حركة فى المحل، او بتصوير شائع : مثل الكلب الذى يحاول أن يعض ذيله “أنــا‏ ‏ماشى، سريع‏، ‏ حوالين‏ ‏نفسى،‏ وباصبّح‏ ‏زَىْ ‏ما‏ ‏بامَسِّى،‏ وان‏ ‏كان‏ ‏لازم‏ ‏إنى ‏أَعدّى: ‏رَاحَ‏ ‏اعدّى ‏مِنْ‏ ‏شَطّىْ ‏لـشَطِّىْ، ‏هوَّا‏ ‏دَا‏ ‏شَرْطى‏.‏

ما معنى ذلك؟ خاصة إذا علمنا أن هذا هو موقف أغلبنا فى نهاية النهاية ؟

هل نحن نفضل أن نخدع أنفسنا إلى هذه الدرجة؟ فأين يقع ذلك من كلامنا الذى لا ينقطع عن أننا نتغير على المستوى الفردى (ناهيك عن المستوى الجمعى)؟ لا بد من توضيح أننى ألجأ للمبالغة والتكبير حتى تتضح الصورة،  هى محاولة للتنبيه لوقف الخداع بزعم التغيير دون تغير. حتى لو قبلنا الحركة فى المحل، ووافقنا على مرحلة الدوران حول نفس المحور، فإن المطلب النهائى هو أن يكون ذلك تمهيدا لنقلة التغيير فى الوقت المناسب، الذى لا نعرفه تحديدا، ومن ثم حتم المخاطرة.

التأجيل المتكرر: تسكين دائم

حين تصل مقاومة التغيير إلى أقصاها، يصبح التأجيل شديد الإلحاح، فيتقدم مبدأ “السلامة أولا” على  كل الاعتبارات، ويتكرر التاكيد على أن ما ولدنا عليه واعتقدناه هو الأسلم، “هذا ما وجدنا عليه آباءنا”، برغم ظاهر أننا ضدهم. إن المبالغة فى ضرورة الحصول على ضمانات مسبقة حتى أسمح لنفسى بالتغير هى ضد التغير مهما كانت تبدو  نوعا من الحرص لتجنب المخاطر، وهى تؤدى إلى إجهاض المحاولة دون إمكان الرجوع حتى إلى شط الإقلاع، أو ربما : إلى أسوأ منه.

لا أحد يعترف أنه توقف عن المحاولة، أو أنه استسلم بإرادته، وبالتالى فإن أيا منا يملأ الدنيا  بخداع الكلام التبريرى، منتهيا إلى أن ينعى حظه، ويضع اللوم على الناس والظروف. وهات يا نعابة نكررها  طول الوقت بلا معنى، ولا جدوى،  ولا طائل.

“ولحد ما يهدى الموج، واشترى ‏عوّامة‏ ‏واربطها‏ ‏على ‏سارى ‏الخوف‏،‏

ياللا‏ ‏نقول‏ “‏ليهْ‏ْ”‏؟‏ ‏و‏”‏ازاىْ؟‏”‏ “‏كان‏ ‏إمتَى‏”‏؟‏ “‏يا‏ ‏سَلاْمْ‏”!

“‏يْبقَى ‏انَا‏ ‏مَظْلومْ‏”.‏

‏شكر‏ ‏الله‏ ‏سعيك‏!!‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *