الرئيسية / الأعمال الأدبية / كتب أدبية / كتاب: هيا بنا نلعب يا جدى سويا مثل أمس

كتاب: هيا بنا نلعب يا جدى سويا مثل أمس

الأهداء والمقدمة

الأهداء والمقدمة

هيا بنا يا جدى نلعب مثل أمس

أ.د. يحيى الرخاوى

1999

إهـــداء

إلى روح المرحوم”عم سيد عطوة

لماذا الأعمال المتكاملة؟

عجزتْ أداة واحدة أن تستوعب “القول الثقيل ” الذى حمّلتنى إياه رؤيتى، من خلال الجدل الحى بين ذاتى ومرضاى ودنياىَ، فلجأتُ إلى كل ما أتيح لى من أنغام وأشكال، لكننى لم أكتب إلا مسودات، لذلك كنت  أنوى أن يكون العنوان”الأعمال الناقصة” وخاصة أن ترجمة Collected works أو    Collected papers هى “مجموعة أعمال” أو “مجموعة أوراق” فلان، الأمر الذى لا  ينبغى أن يسمى كذلك أو ينشر بهذا الاسم، إلا بعد أن يكف صاحبها عن العطاء، أو عن الحياة.

 ثم قبل ذلك وبعد ذلك: هل يكتمل شىء أبدا؟

وحين آن أوان الحسم، قررت أن تخرج كل المحاولات كما وصلتْ إليه، ولتكتمل بعدُ أو تتكامل مع غيرها. فكان هذا العنوان “الأعمال المتكاملة”  أملا فى أن يكون جمّاع المحاولة هو “توجُّهٌ ضام،  حولَ محورٍ ما”.

يحيى الرخاوى

مقدمة:

هذه المجموعة هى ما استطعت إنقاذه من كتابات كنت أحسبها  فى عداد ما يسمّى “القصة القصيرة”،، نُشر بعضها، وترددتُ فى نشر الباقى إلى آن أوان المغامرة لتكشف عما لم أستطع الرحيل دون إعلانه.

وقد حاولتُ أن أصنفها مسلسلة تاريخيا، فلم أجد التاريخ مثبتا فى كثير منها فضلا عن أن تاريخ النشر غير تاريخ الكتابة بداهة، فعدلت على الرغم من نصيحة من بعض أهل هذه الصناعة، وعلى الرغم من دلالة ذلك فى تطور الكاتب.

ثم إنى لاحظت أنها يمكن أن تتجمع فى جزأين:

الجزء الأول هو ما غلبت فيه خبرة شخصٍ ما (ليس الكاتب بالضرورة، وإن كان يمكن أن يكون هو)، ووجدت أنها إذا  قرئت فى نفسٍ واحد بدت وكأنها “رواية مستعرضة”، إن صحّ التعبير، أو هى “منتالية قصصية”  فى  لوحات متجاورة”،

 ربما.

 أما الجزء الثانى فقد تمثلّ لى فى لوحات أخرى ذات حضور مستقل، رحت أقترب منها وأبتعد وأعيد النظر حتى أسميتها  “زووم”

والآن، أشعر أننى مدين للقارئ باعتذارٍ ما، لا مبرر له.

وبالتالى: فلن أقدّمه  .

يحيى الرخاوى

19/9/1999

الجزء الأول: هيا بنا نلعب يا جدى سويا مثل أمس

رواية: متتالية قصصية

رواية: متتالية قصصية

الجزء الأول

هيا بنا يا جدى نلعب مثل أمس

[متتالية قصصية]

هيجل

ـ 1 ـ

عاد قرب المغرب وهو ينفخ دون سبب ظاهر، سأل عن الأم فوجدها فى الخارج دون أن تحدد وجهتها، جلس على طرف المائدة وحيداً، كشف عن الأطباق المغطاة وراح يأكل دون تمييز وهو ينظر إلى ابنه فى أقصى الصالة وهو يُعد واجباته المدرسية فى حماس واهتمام، كان الولد قد بدأ مؤخرا يلتزم ويستقل ويواصل التقدم كل”فترة”، وكل عام، حتى أصبح قريبا من أن يكون أوّل فصله بكل جدارة، لم يفرح لهذا الخاطر الذى طالما انتظره وأمل فيه، بل راح يتذكر كل الأوائل الذين كانوا معه فى الدراسة.

ـ 2 ـ

 قابل منهم أخيراً ذلك الطبيب المشهور، فتطرق الحديث فاترا طيبا  أطلّت من خلاله ذكريات لا لزم لها ، فلم يرد الطبيب قيمة الكشف، هل هذا هو الفتى  الذى كان  موضع أنظار الزميلات، تراخى جسده حتى ليعجز أن يحيط بمحتواه، ولا بد أن عقله قدتبعه، أو لعل العكس هو ما حدث،  طالما شعر بالنقص الذى كان ينتابه عند المقارنة بين إمكاناته المتواضعة فى الدرس والبنات، وبين تفوّق صاحبه هذا الذى صار طبيبا جدا فى العلم والجاذبية  معا، راح ينظرإلى ما آل إليه جسده  وحسه جميعا، فاقترب منه همسُ شماتة، فأنكره، هذا الطبيب الزميل لم يكن يكف عن التنافس فإن لم يجد من يتنافس معه تنافس مع نفسه، يبدو أنه ما زال يتنافس وإن اختلفت التفاصيل، تُرى مع من يتنافس هذه الأيام فى هذا العمر؟

وعلى الرغم من الفتور السائد وضيق الوقت فقد ذكر له الطبيب الأشهَر عدد العـُمـْرات التى عملها هذا العام، كما سأله حين علم أنه مُحاسب وله  زبائن يتعاملون فى البورصة التى لم يألف لغتها بعد عن أى الأوراق أضمن، هو لا يتوقف عن العدّ  واستعمال أفعال التفضيل، لابد أنه سجـّل مضاعفات الركعات: سبع وعشرين ضعفا، مائة ألف، ولا بد أنه حسب كيف  يمكن أن تعوّض تلك الأضعاف الصلوات المتروكة، والمخطوفة، التى يؤديها غالبا بنصف وعى.

ـ 3 ـ

عاد ينظر إلى ابنه فى شكٍّ رافضٍ واحتار:

حين كان الولد بليدا كان يقيم الدنيا ويقعدها حتى يتقدم فى الدراسة، وحين تقدم فى الدراسة هاجمته خيبة أمل متوقعة وتذكر زميله الطبيب الأشهر.

إذن ماذا؟

ـ 4 ـ

انتهى من غذائه دون أن يدرى، وكان عادة يتصفح الصحف أثناء تناوله طعامه فلا يستطيع أن يميز بين البازلاء من القلقاس، ولا يعوقه من ممارسة هذا النشاط المزدوج إلا طبق ملوخية يحتاج إلى درجة من الانتباه تسمح بلف اللقمة عدة مرات حتى يتقطع “العرق”، أما الآن فالملعقة تمسخ  طعم الملوخية، وعادة ما ينتهى الأمر إلى الإمساك بالطبق من كلتا الناحيتين، بكلتا يديه، لا حبّاً فيه، ولكن من باب العجلة العاجلة. فى هذا اليوم  تساوت عنده  ـ أكثر فأكثر ـ الأطعمة والأمور والعادات والأخبار السياسية وصفحة الوفيات  وصفحة الاجتماعيات . ثم نسيها جميعاً، كما نسى أيضا أنه نسيها، ولم يأكل سوى ما هو جاف جاهز بما تطوله يده وهو مستغرق فى القراءة، وكأنها هى .

هو مازال يصرّ على هذه العادة .

ـ 5 ـ

توقف فجأة وهو يمر بابنه دون أن يقترب منه، وسأله عن مكان بقية صحف اليوم، بادر الولد بأنها على المنضدة بجوار الباب وأنه سيأتى بها حالا، وهـّم أن يقوم لإحضارها، لكن يدا حازمة ربتت عليه بشدة غير مناسبة، ثم تدافعت الأمور على غير توقع، هكذا:

ـ وأنت؟

ـ نعم يا والدى؟

ـ الصحف؟

ـ أُحـْضـِـُرهم حالا؟

ـ لم تقرأهم، أليس كذلك؟

ـ فعلا…

ـ وأمس؟ هل قرأت صحف الأمس؟

ـ  كلا

ـ وأول أمس؟

ـ ولا أول أمس.

قالها الصبى وهو يتدرج فى مراتب الحيرة والتوجس والخوف معا،  انفجر والده يسب ويلعن الصحف والأولاد والحكومة والمهندسين، والتجار وخاصة شقيق زوجته، وزوج شقيقتها، وشقيقته نفسها، وابنها الشاطر فى الشطرنج والكرة الطائرة معا. أولئك الأوغاد الذين يعيشون فيها “كالمهاجرين”، أليست هى بلدهم أيضاً؟

لم يستطع الولد أن يتابع كل ما لم يسمع، فوالده لم ينطق بكل هذا السباب، .

راح الولد ينظر لوالده، منتظرا تحويل الفوهة إلى ما يخصه هو، لابد لهذا الموقف أن ينتهى.

هدأ الرجل بسرعة غير متوقعة، واستدار مبتعداً.

ـ 6 ـ

أفل راجعاً قبل أن يغلق عليه باب حجرته، عاد مندفعا وكأنه تذكر شيئاً هاماً، وكأن أصل كل ما حدث هو فى ذلك الشىء الهام، سحب كرسياً وجلس بجوار ابنه  على الأريكة، ووضع جسمه فى هيئة استعداد متنمر، حتى أحس الولد طعم موت بارد على وشك أن يغمره

 قال الرجل فى نبراتٍ واضحةٍ وببطء مرعب:

ـ هل “تعرف” هيجل؟

خاف الولد أن يرد بالنفى مثلما رد سابقا، كما خاف من الكذب على حد سواء، وتيقن أن الموضوع “هكذا” لن ينتهى على خير، إذ لابد أن يتفتق عن إهمال، أو تقصير، أو تجاوز، أو ما يرى والده مادام الأمر هكذا بهذه الصورة الحاسمة القابضة على مجهول، فانبرى الولد مدافعاً :

ـ ليس “علينا” هذا العام.

– ولن يكون عليكم فى أى عام.

راح الولد يتحسس أى ثقب نجاة وهو يحاول أن يعتذر عن ذنب لم يقترفه، وهو لا يعرفه أصلا.

ـ علينا أم ليس علينا؛ كل ما تشير به حضرتك هو علينا، حضرتك أدرى، حضرتك قل لى وأنا أنفذ، أحفظه عن ظهر قلب، فقط قل لى قبلها، وسوف…

قاطعه الرجل متحسراً:

ـ أقول لك ماذا؟

ـ أى شىء، هذا الاسم أو غيره، أو أى أحد، وسوف أفعل كل شىء، فقط قل لى.

قال الرجل فى نفس الهدوء الواثق الحاسم:

ـ كل ما فى الصحف كذب ونفاق وتلفيق، هل تعرف ذلك؟

قال الولد وهو لا يدرى إلى أين يذهب به الرد:

ـ هكذا تقول حضرتك باستمرار، نعم، هو كما تقول حضرتك.

قاطعه أكثر حسما:

ـ أعرف ردّك هذا، توقعتُه بالحرف، عذر أقبح من ذنب،  لابد أن نقرأها يوميا، نستعين على ما بها بالصبر والعناد والاستمرار على الرغم منها، نعم، كل يوم، صباح كل يوم تال، صباح كل يوم بعد التالى،الآن فهمتُ لماذا قال هيجل إن قراءة الصحف اليومية هى صلاة الإنسان المعاصر، بل إنها فى أيامنا هذه هى الجهاد الأكبر، لابد أن نقرأها ونحن نعرف أنها لا تستحق القراءة، ولا ينبغى أن تصدر أصلاً.

لم يعرف الولد ماذا يخصه فى كل هذا، كان أبوه يكلم نفسه بصوت عال، ولم يحاول الولد أن يستبين أبعد مما يخصه، مع أنه لم يستطع أن يميز ما يخصه مما لا يخصه. ارتعد وهو يسمع نفس الإسم الغريب من جديد،  ـ “هيجل” ـ فالتقط من كل ذلك كلمة “الصلاة” فلاحت له انفراجةٌ، لعل وعسى.

– أنا أصلى يا والدى بانتظام، وحضرتك تعرف، أننى أصلى كل الأوقات.

ـ 7 ـ

أفاق الرجل فوجد نفسه متلبسا، كاد يأخذ رأس ابنه فى صدره يعتذر له، تراجع فى آخر ثانية، وصله من داخل نفسه نشيج مكتوم، فخاف أن ينتفض جسده أمام ولده، دون أن يلحظ، تمنى  لو أن ثمة وسيلة للاختفاء دون حركة، حاول أن يشير أية إشارة، أو حتى أن يقهقه، يريد أن يزعم أنه كان مزاحا لا أكثر. حاول أن يبدأ أى حديث آخر، هل يقول له إنه كان يختبر أعصابه؟ هل يلفق له رواية تفسر بعض ذلك، كأنه سمعها فى المكتب فحاول أن يمثلها معه.

الثقل يزداد فى الساقين واللسان على حد سواء، فتمنى أن يكون كل ذلك حلماً.

ـ 8 ـ

حين عاد آخر الليل، اتجه إلى سرير الولد مباشرة، فوجده نائما ينتفض.

انحنى عليه يهم بتقبيله، تراجع فى آخر لحظة خشية أن يستيقظ فيفزع، أو يتذكر، أو يسأل.

وحين هم  أن ينسحب فى هدوء لم ينتبه  إلى تلك “الدمعة” الدافئة التى سقطت على خد النائم. وحين تنبه لها بدرجة كافية، لم  يحاول أن يمسحها، ولا أن يمسح لاحِقَتَها عن خده هو.

 ******

(2)  رشفة.. ورشفة

-1-

قالتْها بحكمة رصينة وهى تهز رأسها بما يفيد الذكاء والتواضع معا، وكان هو يرتشف قهوة الصباح ـ السريعة الذوبان باللبن ـ قبل الانطلاق إلى الدورة اليومية المغلقة،  قالت وهى تنظر فى الصفحة قبل الأخيرة فى الأهرام وقد جللها السواد رغم الإعلانات المبروزة، قالت:

“لو أن الناس نظروا إلى هذه الصفحة بواقعية وفكروا، ما تعب  أحد منهم قط”.

فارتاح إلى اللهجة الوديعة، وأحس بالمسافة تتلاشى بينه وبينها، ودبت الحياة فى كل الخلايا، فبدت قريبة حبيبة.

نبضَ وتهدّج، وانتشى، وتحفـَّزَ، وترك نفسه وهمس بلا صوت:

“لستُ وحيداً”.

-2-

أزاحتْ الكوب جانبا بعد أن أكملتْ ما تبقى فيه، وتنهدت، ثم انطلقت  تصف إحدى القريبات: بالحقد، والخيانة والانتهازية، والطمع، والبله، وقصرالنظر.

وسوستْ له نفسه، لكنه ربط بين الأول والآخر من بـُعـْدٍ خاص، وُخـّيـل إليه أنه تخطى التناقض الظاهر إلى حل محتمل.

ومشى الحال.

-3-

طلبتْ منه بقية ثمن الصالون الذى جددته بغير مناسبة، فأطرق غير معترض، اجتهد ليعود إلىه الأمل، مع أنها مضت فجمعت حساب إصلاح السيارة، وتغيير الستائر، وطلبات المطبخ، وعيد الأم، أخذ يرصد تراكمات الغيظ المتصاعدة داخله، فقرر ألا يستسلم لتمام خيبة الأمل، كما قرر ألا ينفجر. دفع كل ما طلبته صامتا ولم يمنعها ذلك من أن تستمر فى نفس الاتجاه، فتذكـَّر بإرادة واضحة، وفائدة مؤكدة، أن رزقه يتزايد بسرعة أكثر من تزايد مطالبها، ومع ذلك لم تستمر الفائدة فى اتجاه يقلل من غيظه إلا قليلا، عاد الغيظ وقد أصبح شيئا آخر أقل تحديداً، عاد يهجم عليه من كل اتجاه.

تصاعد النقاش، واحتدّ حتى صاحت فيه:

” أنت لا تفهمنى، ولن تفهمنى، ويبدو أننا لن نلتقى أبداً.”

صدّقها كما لم يصدقها من قبل.

-4-

حلّ موعد خروجه “فجأة”، فتنهد كمنْ أُنقذ، واستأذن معتذراً.

-5-

ترك محرك السيارة دائراً حتى تسخن، وراح يدور حولها يمسح زجاجها، وحين رد عليه تحية الصباح خفير البناية المجاورة “تحت التأسيس” ودعاه “أن يتفضل” (مجاملة أو من قبيل العادة) قـَبـِلَ الدعوة دون تردد بما أدهش الخفير وأدهشه شخصياً.

-6-

جلس على الأرض بجوار الغفير مسندا ظهره للحجرة المقامة من الطوب المرصوص وألواح الصفيح، متجاهلاً وقع المفاجأة.

 أخذ ينقل نظره بين كوم الأطفال تحت السقف الصفيح، وبين ملامح زوجته التى تراءت له خلف نوافذ الفيللا المغلقة، فلم يكد يتعرف عليها فى خياله، ثم لفت نظره طول سيارته تحت التسخين فتعجب وكأنه يراها لأول مـّرة.

 ما لزوم  كل هذا الطول ؟

    -7-

عاد يرتشف الفقاقيع المتجمعة على سطح الشاى الأسود اللزج مثل مربى التوت الأسود، فاختلط طعم المرارة بالسكر المعقود بالصدأ بالهباب، فاكتشف مذاقاً ونكهةً لهما مضمون جديد.

فرح أنه لم يجد لهذا المذاق اسماً فى قاموس العواطف، والتجارة، والسياسة، والحكمة، والأشياء.

 ****

(3) سرطان

-1-

قررتُ ألا أذهب.

كم ذهبت، وكم باركتُ، وكم حضنتُ، وكم قبّلتُ، وكم تلقيتُ القبلات، بقايا القبلات اللزجة تستمر معى وقتا، أحيانا يعود ملمسها حين تهبّ علىّ تهديدات مثلها، هذا الصباح، وأنا أغسل وجهى، شعرت بدهننةٍ ما حين تذكرتُ “الدعوة”.

لم أعد أستطيع، لم يعد ممكنا، ومع ذلك فلا يكادون يلوّحون لى.. حتى أعد أقنعتى السبعة أخفى بها أفواه الجوعى فى الداخل، هذا الصباح أيضا، شعرت أن نداء الأفواه قد فاق سـُمك الأقنعة حتى كاد يفضحنى أمام المرآة.

حين أُضطر للذهاب… أروح أبحث عن شىء لم يـَعدنى أحـٌد بتقديمه، بل لم يُشِر أحد أصلا إلى وجوده، ، وبديهى أنى لم أعثر عليه أبدا.

 صعبٌ كل هذا، صعبٌ ويزداد صعوبة.

 وحين تيقنتُ أنى لم أعد أحتمل… قررت أن الأسلم هو أن أصبر. أنا لست قدر الاستسلام ، ياليت.

 قررت  ألا أذهب.

 تمنيت (كالعادة) أن يضغطوا علــىّ حتى أذهب، لكن أحدا لم يفعل ذلك: احتراماً لرأيى، وتقديراً لتعقلى، وفهماً لحكمتى، وتوفيرا لوقتى، باعتبار أنى لا أحب “هذه المسائل”، من أدراهم هؤلاء ماذا أحب وماذا لا أحب؟، ثم من أين لهم تحديد هذه المسائل من تلك؟ بل من أدرانى أنا؟

-2-

قررت أن أذهب.

 كيف السبيل؟

لا يمكن أن أسمح أن أبدو لهم أبلها عديم الرأى مهزوز الموقف،  الوقت يمرّ يثـّاقل على وعيى حتى يكاد يوقف حركةً كنت أحسبها لا تتوقف، فأزداد عجزا عن القراءة، أروح أستنقذ بالقلم.

الكتابة تربطنى باللحظة، تجذبنى إلى الصفحة حتى لا أتشتت، يخذلنى القلم، ويشمت الورق، الموسيقى الصامتة تزداد صمتا، تتداخل الحروف تتخلل السدود فتُطِل الأفواه الجوعى من الداخل فتتباعد الأقنعة أو تشفّ، فأتخلخل، فأخاف، وأحتاج أكثر فأكثر إلى أى قدر من دفءٍ بشرىٍّ ما.

 أزداد عناداً فيقظة رغم بطء الإيقاع وكثافة الهواء.

لو أن ابنى رجع ناسياً شيئاً فسألتمس مدخلاً للحديث لابد وأن يؤدى بى إلى اصطحابه، لو أن “هاتفاً” رن للاطمئنان أو السؤال أو الطلب أو حتى بدون سبب، فلسوف أجرجره فى الحديث حتى يعاود دعوتى، ويلح، فيصر، فأذهب. لماذا صدَّقونى وأنا أعتذر؟ لماذا يصدقونى؟ أنا لم أقصد أن أشوه صورة الأحضان وقبلات الطقطقة، لم أعلن صعوبتى أبدا، أنا لم أدمغ أبدا طَرَبَ الطبل والرقص والغناء، أنا فقط كنت أصفها لنفسى؟ لم سمعنى أحد. قبلاتٌ وأحضانٌ، وأحضان وقبلات، وفيها ماذا ؟ وهم؟ مالهم؟  مالهم هم ؟ كل ذلك لا يعنى أنى أرفضها، هل يعرفون طبعى أكثر منى؟ هكذا يبدو الأمر، بمجرد أن  اعتذرتُ، قـِبلوا، بسرعة، وبكل تقدير واحترام!!!

 الناس طيبون، وأنا متورط، وعلىَّ تصحيح الوضع إن أردت،

 وقد أردت:

أعرف الميعاد، والمكان، والطريق، وأعرف أنهم سيفرحون بقدومى بعد دهشة عابرة، بل قد يعتبرونه “تفضلاً” بل “تنازلاً”، ولسوف أدعهم يحصلون من خلاله على إقرار ضمنى بأنى لا أرفض ما تصوروا أنى أرفضه.

 ولماذا أرفضه؟

-3-

نزلت من العربة بعد أن وجدت مكانا بالموقف خارج سور النادى، سارعت بنقد المنادى رشوة كبيرة وكأنى أرجوه بها ألا يعلن قدومى على الملأ، أو كأنى أبعد بها نظراته الشامتة حتى لا يعايرنى أنى “قلت ورجعت”. دخلت إلى الحديقة الآهلة بالأضواء، والعربات، والجنود، والورود، وسألت المنادى الآخر (أو لعله البواب) عن صالة الفرح، فأجابنى أن ثمة فرحين: الأول فى الدور الأول، والثانى فى الدور الثانى !! فأيهما أريد؟ فوجئت مفاجأة ضخمة وكأنى واجهت تناقضاً ليس له حل، وكأن احتمال وجود فرحين معا فى نفس المكان والزمان هو المستحيل بعينه، مع أنى لاحظتُ من يومين اثنين وأنا أدور حول ميدان التحرير أن ثلاثة مآتم قد أقيمت معا فى مسجد عمر مكرم، وفجأة تركنى الرجل عـَدْواً إلى سيارة تهم بالحركة فعلمت أنه المنادى لا البواب.

-4-

واصلت سيرى نحو الدور الأول، فقابلتنى باقات الورود الكثيرة وقد تناثرتْ فى إهمال حول بئر السلم، وحولها يجرى أطفال فى عبث صاخب، فقدرت أنها باقات فاضت عن القاعة، فاقتربت من إحداها أفحص البطاقة لعلنى أتعرف منها على اسم صاحب العرس الأول فى الدور الأول، لكنى ضبطت نفسى أفعل ذلك لأدارى وجهى وكأنى أعيد النظر فى محاولة اختفاء جديدة، فاختلستُ نظرة من طرف عينى عبر الباب المفتوح فعرفتُ وجوها أعرفها، فسمعتُ صياحا مألوفا، فالتقطتُ قهقهقة مميزة، ها هم أولاءِ، وهذا هو العرس الذى أقصده، وبدلا من أن أطمئن للعثور على بغيتى غرقت فى موجة ربكة كنت قد نسيت نوعها، ارتبكت مثل طفل ذهب يشترى لأبيه شيئا لا يعرفه رغم أنه مكتوب فى الورقة التى أعطاها له أبوه، وحين ابتسم البقال عند قراءة الورقة ، زاد ارتباك الطفل حتى كاد يبتل ـ فاقتربتُ أكثر من باقة الزهور أكاد أدفن وجهى فيها، فإذا بى ألاحظ أنها بلا رائحة. بلاستيك هذه أم زهور للإيجار؟ فوجدتنى بجوار بداية دَرَج السلم، فانطلقت عدوا صاعدا أربعا أربعا.

-5-

دخلت إلى العرس الثانى (فى الدور الثانى) وأنا فى حالة من الطمأنينة القصوى حيث غمرنى اليقين بأن أحدا لا يعرفنى، واستقبلنى أهل العروس ـ هكذا حدست ـ وكأنى من أهل العريس، وهكذا فعل أهل العريس، أو العكس، وفرحت فرحة قديمة أيضا حتى كدت أستمرئ اللعبة لولا أنى انتهيت قبل أن أتورط فى الجلوس إلى مائدة محدودة الأفراد، إذْ ماذا لو كان بها ممثلون لكل من العروس والعريس معا؟ فدرت دورة كاملة وعدت أهبط الدرج مسرعا إلى الباب عابراً الفرح الأول حذراً من المطاردة، ولم تعد السكينة إلىّ ثانية إلا وأنا داخل السيارة أدير مفاتيحها دون أن تنشق الأرض عن شبح المنادى الذى يبدو أنه قد قنع بالرشوة الأولى.

-6-

استجاب المحرك بسرعة غير مألوفة رغم برودة الجو، فانطلقتُ وكأنى على ميعاد محدد رائع مع شخص غير محدد وغير رائع، وما أن انحرفتُ إلى الشارع الرئيسى فجأة حتى اضطررت للضغط على “الفرامل” تلقائىا قبل أن أتبيّن لماذا، فسمعت أصوات  أبواق السيارات خلفى كما تخيّلتُ اللعنات بوضوح كاف. رجّحت أن دواراً أصابنى، أو أنه عمى شبكى مفاجىء، وتمنيت ألا أكون فى طريقى إلى فقد وعيى، استبعدت ذلك لأنى كنت أزداد فى كل ثانية يقظة وعنادا بما لا يقاس. لاحت لى لألآت ساطعة وسط ستار الضباب فحسبتها ثريات الفرح وكأنى لم أنصرف عنه إلا فى الخيال، ثم لمحت صفاء الجانبين، كذا صفاء الزجاج الخلفى فى المرآة، فبدأت أدرك حقيقة الموقف ومددت يدى أتحسس الزجاج الأمامى فإذا به ينهار كالمطر الوابل المحمل بالثلوج الصغيرة، فقفزت فَِرحا من داخل الداخل، مخترقا الغصة والدهشة والربكة حتى نسيت ما غمر ملابسى وساقى من آثار المطر الثلجى المنهمر.

لماذا أسموه “سرطانا”؟ أبعد الاحتمالات أن يصاب زجاج بسرطان ما،  وهل يحدث السرطان هكذا فجأة ؟السرطان نمو خبيث وليس انهيارا منقضّا هكذا.  ولماذا الآن بالذات؟ السرطان هو زحف الموت الغادر.

  هذه النشوة المتفجرة ضد كل الحسابات ليس لها علاقة بالزحف أو بالموت .

-7-

 اكتشفت أننى لم أتوقف أصلاً رغم كل ذلك، فمازالت  السيارة تواصل السير، تخترقنى الريح الباردة فأخترقها، يصل هواؤها إلى النخاع فيلين بتفجر حبات البَرَدِ مطلقةً دفئاً غير متوقع، فأمد يدى إلى آخر مداها فلا يحول دونها شىء حتى خيل إلىّ أنها تستطيع أن تمسك بذيل السيارة التى أمامى، أو أن تلتقط بعض ضوء النجوم تفرزه من بين ثنايا الإنارة الصفراء المنبعثة من تلك المصابيح الباهتة القبيحة.

 ******

(4) البياض… والطارق

-1-

سافر الأولاد مع أمهم إلى بورسعيد لإرضاء الشبق الشرائى الدورى، اليوم جمعة، ورغم أنه قيل مؤخرا ـ هم الذين قالوا بألسنتهم ـ أن الأشياء هناك أصبحت محدودة الأذواق، والأثمان متقاربة، إلا أن الآراء اختلفت حــول جودة المعروض من مثلها فى أسواق القاهرة، شد الركب الرحال رغم أن أغلبية الأصوات صوتت فى صالح أن “المشوار لا يستأهل”.

-2-

قُرب المغرب..، قلت أنتهز الفرصة وأنهى شيئا مما علىّ، أخرجتُ رزمة الورق المسطر التى لم تفتح، وأعددت الشاى بنفسى، وجلست على المكتب فى وضع المتأهب فى تصميم كاف، فضضت اللفة الخارجية لرزمة الورق، وسحبت منها مجموعة من الأوراق، وضعتها أمامى، فوجئت أن الورق ليس مسطرا، ملكنى الغيظ ولعنت البائع إذ تصورت أنه تعمد خداعى على الرغم من أن الفرق لا يزيد عن عشرة قروش، وعلى الرغم من  تأكيدى عليه أن تكون الأوراق مسطرة، مفردة، أنا لا أحب الورق الأبيض، السطر يميل منى، لكن هذا هو الله، وهذه هى حكمته.

-3-

نظرتُ فى الورقة البيضاء ملياً، وارتشفت رشفة من الشاى الساخن فأحسست بنشوة هادئة تنساب فى كيانى، أعدت النظر إلى البياض الناصع فأحسست أن اللون الأبيض هو جـُمـّاع ألوانٍ بلا حصر، حتى صار أبيض، أخذ البياض ينبض ويتشكل فى قوةٍ تارةً، وفى طيبة تارةً، حتى صارت القوة طـِيبـَة، وبالعكس، فإذا به يحركً فى داخلى مساحة مقابلة، أكاد أعرفها وأزورها بين الحين والحين فى المنام واليقظة، خطر لبالى فجأة أن أدع ما “علىّ” جانبا، وأن أتجول فى تلك المساحة البيضاء أبعد مما اعتدت، فرصة، قلت لنفسى ينبغى أن أسجل هذه الجولة على الورق حتى لا تهرب منى تماما بعد العودة، وتعهدت ألا أشطب حرفاً أو أراجع كلمةً.

 فشددتُ الرحال.

-4-

… ترحال؟!، تفجُّــرٌ فى المكان يحوى الزمن والألوان.

فعلمت أنها “فعلٌ” لا إسم،

 وهى رغم الفراغ والسكون ليست موتا بل نقيضـه.

 “لا أريد أن أموت”.

-5-

طرق الباب فلم أنزعج كما كنت أتخيّل أنى سأفعل وأنا أتمادى فى استغراقى، ثم إنى مازلت أفزع باستمرار من أى طرق رغم ملايين الطرقات التى أتلقّاها طول العمر، دعوت الله أن يكون الطارق أحد الذين يقولون كلاما “ذا معنى” حتى يصدقنى حين أقسم له أنى حريص كل الحرص “أن أعيش”، وأن الموت لا يخطر على بالى إلا غصبا، هل هذا أمر صعب؟ لماذا لا يفهمون؟

ألقى الزبال ـ وكان هو الطارق ـ تحية المساء، وسألنى عن القمامة والزوجة والأولاد، أجبته بما يناسب، لكننى لم أذهب لإحضار ما انتظر، ولا أنا صرفته، فعاد ينبهنى برقة إلى وقفتى وإذا ما كان هناك قمامة أم لا، خيل لى أنى همهمت بما يكفى إذ راح يسألنى مرة ثانية وهو يلملم حاجاته عن الست والأولاد، انصرف وهو يدعو لى ولهم بالصحة والسلامة.

خيل إلى أنه كان قد لاح لى أملٌ ما، ثم انطفأ. ماذا كنت أريد منه غير هذا النبل المطلّ من بين ثنايا جلبابه القذر المنتفخ أعلى حزام مجدول؟

 زبال نبيل متسامح حكيم..

-6-

رجعت إليها فى بياضها النابض بالإيقاع الحى، رجعت أحاول أن أحدد موقعها بينى وبين الناس، هل ستغنينى عنهم، أم ستثرينى بهم بين ثناياها؟ هل سأكتفى ساعتها بما تحيطنى به من فيضٍ صامتٍ متحفزٍ يملأ الدنيا دون شروط، أم أنها ستدفعنى بطاقتها المتولدة إلى ضرورة أن يشعر بها معى أحدهم فيربت علىَّ دون أن يقترب ؟ ويبتسم مودعاً دون أن ينصرف؟

-7-

طرق الباب طارق جديد، فقمت مبتسماً لشخص مجهول، فتحته فإذا به ابن جيراننا وصديق ابنى، سألنى عنه فأخبرته بسفره وعدم علمى بموعد عودته تحديداً، وحين شكرنى وانصرف كدت أنزل وراءه غيظاً ، فمنعتُ نفسى.

هذا الولدُ العجوز الأعمى فى سن ابنى، لم يلحظ ابتسامتى الجديدة، ولا ندائى الملحّ، انقطع نفسه من بضعة سلالم، وانطمس وعيه بلا سبب، شبابٌ هؤلاء!؟ كذبٌ والمصحف الشريف، كذب وافتراء، لماذا لم ينظر فى وجهى ثانية واحدة؟ كان لابد سيعرف وحده، متعجل؟ مستعجل ليذهب إلى أين؟ هذا الغبى!! أنا أوْلى به منه، لم يترك فى مخيلتى إلا صورة قفاه حديث الحلاقة، لم أكن أريد منه شيئا إلا أن يكون “ممكناً”، هذا كل ما فى الأمر، يكفينى الإمكان لأعيش مؤتنساً طول الوقت.

 عدتُ أشد إصراراً على أن تلك اللحظة النابضة البيضاء قادرة على تخليق الممكن المناسب، تُحَقِّقُهُ حتى من العدم، نعم.. هى كذلك.

-8-

طرقةٌ ثالثة.

 لطيفة هذه اللعبة الجديدة، أصبحت أفتح الباب وكأنى أقلب ورق اللعب، أبحث عن البنت القلب أو السبعة الكومى لأكمل الترتيب التصاعدى للأوراق التى جمعتها، تلكأتُ فعاود الطارق الطرق،  فاستأذنت، منى ومنها، وذهبت.

كان التعبير على وجهى أقرب إلى اليقين هذه المرة من قبل أن أفتح، فجاء الطارق أبعد ما يكون عن التوقع، عجوز تسأل عن اسم لا أعرفه، لكننى كدت أن أجيبها بالإيجاب وأنه موجود، بيْد أنها انصرفت بمجرد أن تبيّنتْ وجهى، وأنى لست هو انصرفت شاكرة معتذرة، أو  لعلّى أنكرت وجود من تسأل عنه بسرعة لم أتبينها، خيّل إلىّ أننى أسمع دعاءها لى بالستر والصبر حتى أننى أحسست بيدها تربت على كتفى وتطمئننى، فابتسمت، ومن الغريب أنى لم ألحظ أنها كانت تتوكأ على عصا إلا حين عدت إلى جلستى الأولى أنظر فى الورقة البيضاء، أحاول أن أواصل معها ما بدأناه، أو ما كنا ننوى بدايته.

انتبهت أن محاولة تحديد المعالم فى ذاتها هى ضد قواعد هذه الرحلة، هذه المرأة الشابة المتخفية فى جلد عجوز بشعرها الثلجى وعمرها المتجدد؛ تخفى قوتها فى عصاة سحرية لا تحتاجها، تستعملها لتكفّ الحسد، أنا صدقتها وهى تعلم أنى صادق، واسألوها، فإن أجابت بالإيجاب، وسوف تفعل، فسوف تتحرك الدوائر بيقين ثابت إلى كل المدى المتخلق، فما لزوم أى تحديد بعد ذلك مما كاد ينحرف بى عن خطة الترحال؟

  لن أشطب حرفا مما كتبت.

-9-

طارقٌ رابع. هذا هو، وكأنى كنت منتظرا هذه الطرقة أيضا، والآن تحديداً، أصبح توالى الطرقات وانتظامها جزءا من تشكيل هذه الرحلة، فتحت الباب فوجدته تحت قدمى، قامته لا تكاد ترتفع عن ركبتى إلا قليلا، كان ينظر إلى أعلى فى أدب مصطنع وخوف حقيقى، طلب منى أن أحضر له الكرةً التى وقعت فى الشرفة، تسمرتُ كأنى لم أفهم، ورغم اتساع ابتسامتى فقد بدا أن الخوف يزداد تدريجيا، فخفت عليه، وأسرعت أطلب منه أن يدخل ليحضرها بنفسه من حيث يعرف، تردد قليلا ثم اندفع إلى الداخل عدوا وأحضرها وانصرف عدوا دون أن يشكرنى، وكان يبدو أنه فرح بالنجاة أكثر من فرحته باسترداد الكرة.

هذه دَفعة أخرى إلى حيث أرتحل، لا أحد يلومنى فى هذه المسألة لأنى أعلنتُ منذ البداية وبصريح العبارة أننى عدلت عن التنفيذ، هذه قضية حُسمت من قديم، وليطل الانتظار مادام قد أصبح فعلا يغمرنى بما لا أعرف.

-10-

الطارق الخامس جاء قبل توقعى، لو كان تأخر قليلا لانقطع الخيط، حملنى الطرق المُنقذ إلى الباب حملا حيث لم أكن واعيا بتلاحق المسائل فى تسلسل مضمون، فقد طـَمـَسـَتْ حاجتى إلى عمق الاستمرار حرصى على مواكبة الإيقاع، انقبض قلبى حين طالعتنى تلك الحلة البوليسة الرسمية، ورغم ابتسامته العريضة البلهاء، غمرنى ما يغمرنى حين أواجه الحكومة، على الرغم من أننى لم أفعل شيئاً أبداً يحتاج زيارة أى مندوب من السلطة هكذا، لم تهدأ الأمور إلا قليلا حين سمعتُ “مساء الخير”، عرفتُ الصوت والملامح، وتبينت أنه الشاويش الذى يأتى لزوجتى بالخادمات من بلده، ليهربْن (حسب تعليماته فى الأغلب) بعد أسبوع أو بحد أقصى بعد شهر ، ويكون هو قد لهف المعلوم، وهكذا، أنا لا أحب هذا “الشاويش” وأعجب كيف يخدع زوجتى بنفس الطريقة كل مرّة. وهى لا تنتبه أبدا.

 مرّت لحظات طويلة  وهو يتكلم بأصوات لم أحاول أن أشكّلها كلاما أصلا . كان يتكلم وكأنه راكب على صدرى، أخبرته أن زوجتى ليست هنا، وأن.. وأن…، لكنه كان يزيحنى بجسمه كالعادة، أو كاد يفعل، فانتصبتُ أكثر: سداً منيعاً مؤكِّداً استحالة عودتهم هذه الليلة أصلا، لم يتحرك بعشمٍ قاس، فكـّرت أن أرشوه لكننى لم أستطع أن أحسن تقدير المبلغ، كما خفت أن يتمادى فى لىّ ذراعى دون أن ينصرف، فقررت الصمود.

 فجأة، أشرق وجهه بلمعة ذكاء ريفى أعرفه، بدا وكأنه اكتشف بحذق خاص لماذا أحولُ دون دخوله، فقفزتْ إلى إحدى عينىَّ دون الآخرى نصف غمزة مناسبة  لعلها تساعده فى تأكيد شكوكه ، فحدثت المعجزة، تعاون الذكاء الانتقائى فى تناسق رائع مع البلاهة المبتسمة فتوهَّم أنه فقس الفولة، وأظهر ما يشير إلى أنه فهمها وهى طائرة ، ومن الأول، إذ راح يهز رأسه هزة الحاذق الذى يفَــوِّتَها بخاطره، وأن  الله أمر بالستر، ولم يقل حلال عليك، ولم يطلب مقابل انصرافه، فقط أخطرنى بعلم وصول أنه سيمر على الهانم لأن عنده شغالة جديدة “تعجبك”، هو الذى غمز بعينه  هذه المرّة.

-11-

كانت نشازا هذه الطرقة الفائتة بوجه خاص، فأمِلتُ أن ينزاح الثقل عنى بانصرافه فأشعر بانعتاق مضاعف، إلا أن ذلك لم يحدث، إذ أن خجلاً اجتاحنى، وكأنى فعلا كنت أخفى سراً نسائياً، وأن حضرة هذا الشاويش قد تفضل علىّ  فـَسـَتـَرنى، وحفظ المحضر بعد أن ضبطنى متلبسا،  فوجدتُـنى أقل حماساً لما كنت فيه، وأقل قدرة عليه، فقلت أدخل من بابٍ آخر، فقفز إلى جانب عقلى سؤال جنسى غير واضح، فانتشيتُ جزئيا وابتسمت.

 وبقفزة  عملاقة إلى الجانب الآخر الذى هو هو، أحسستُ أن الله هو أعظم وأبسط الحقائق قاطبة، ومن ثمَّ نبضُ البياض.

 انزاح الثقل كثيرا، وقدرت أنه قد آن الأوان أن يحضر الطارق التالى، فأرهفتُ السمع.

-12-

لم يخب ظنى، على الرغم من أنى لم أتأكد من حقيقة الطرق، فوضعت احتمال توهمى، ومع ذلك غامرت بفتح الباب، فوجدتها فعلا بالباب، وقرأت فى وجهها أنها لم تكن قد طرقت بعد، ابنة الجيران صديقة ابنتى (وشقيقة الطارق الثانى!!)، سأَلـَتْ وأجبتُ، وسألتْ وأجبتُ، وكان المفروض أن تنصرف مثل أخيها، لكنها لم تفعل، كنت ما زلت فاتراً محبطاً دون أن أدرى، فلماذا لم تنصرف؟ وقبل أن تهاجمنى أنوثتها الفائرة فتتحرك تيارات الماء فى الاتجاه الخطأ فالغليان: شكرتْ، وتـَثـَنَّتْ، واستدارتْ، وأسرعتْ، فسمحت لجانب من وعى اللحظة بما لم أعتده، وما لا ينبغى.

-13-

قبل أن أتم جلستى أمام الورقة تنتظرنى، اكتشفت أنى مضيت أسرع مما ينبغى فى اتجاه لم أكن أحب أن أعيَهُ هكذا، وبسرعة رائعة وأنا مستسلم لما غمرنى من ضعف متزايد وحاجة ملحة إلى إنقاذٍ سريع، جاء الفرج فى صوت وقع أقدام كثيرة على السلم، فتنهدت منسحبا تماما.

-14-

حمدا لله على السلامة، ماذا أحضرتم؟

 أرونى كل شىء، كل شىء.

ليست عادتى؟

نعم، ولكنى أريد أن أشارككم كل شىء، أى شىء.

 أريد أن تفردوا أمامى وبالتصوير البطىء: الأقمشة، والأحزمة، والقمصان، والجوارب، والحقائب الصغيرة، ومسحوق الصابون وحكايات الشطارة الجمركية.

 *****

(5) شيكات على بياض

-1-

لم يكد يضع القلم بعد انتهائه من كتابة ذلك الخطاب إلى ابن أخيه فى الخارج حتى دق جرس الباب، ففزع كما تعوّد، ثم  تمنى أن يكون قد سمع صوتا كاذبا فهو لا يريد أن يقطع ما هو فيه، لكن صوت الجرس عاد يؤكد الواقع، إنه أحوج ما يكون الآن بالذات إلى أن يكمل  المراجعة، فابن أخيه هذا يمثل بعض شبابه بشكل ما، وهو الذى فاجأه بالمراسلة بعد سفره رغم أنه لم يصادقه أبدا مثل معظم شباب العائلة الذين يأتنس بهم فيأنسون له، عاد الجرس يدق دقة أقصر، وأكثر ترددا، خيراً..، لا مفر، بحث عن نعل يضعه فى قدميه فى تباطؤ واضح رغم أنه يمشى فى المنزل حافيا فى العادة، فخطر بباله أن الإيقاع السريع الذى عاش به حتى الآن هو السبب، ومع ذلك فلا شىء فى الدنيا يعدل العدل: بالذات العدل بين الداخل والخارج، بين الصغير والكبير، بين الذات بين الناس، ولكن من يفهم؟ ومن يقبل؟

لم يجد أحداً بالباب، يئس الطارق بسهولة.

 الحمد لله، قدّر ولطف، فليكمل ما هو فيه.

 تبين أنه أنهى لتوه كتابة الرد على ابن أخيه، واكتشف أنه كتب خطاباً لا ردّاً، وأنه كان على وشك أن يقول فيه كل ما أجّل البوح به حتى الآن، حتى كاد يخنقه، حتى كاد يـُغـْرقه، أن يعلن له بكل شرف الهزيمة أنه مستعد للتنازل، بل كاد أن  يتقدم خطوة أخرى ليخبره أنه تنازل فعلا ـ  أخيراً ـ عن قانونه الخاص، ما دام الجميع قد أجمعوا أنه يزودها حبات كثيرة، وعموما فلسوف يعترف له بكل بساطة أنه بعد كل هذ السنين ـ لم يعد يحتمل.

-2-

دق جرس التليفون فرفع السماعة بنفس الرفض المشوب برغبة فى النجاة، جاءه صوت غريب، فأوضح خطأ الرقم، تنهد ووضع السماعة وانتظر الشعور بالخلاص لكن القبضة أحكمت عصر القلب أكثر.

-3-

عاد القلم يجذبه إلى الورق عنوة، فتصور ما يمكن أن يقوله مما سبق أن أعاده حتى مـَلـُّوا وأُنـِهك، مازال القلم فى يده، فبحث عن دفتر الشيكات وراح يوقعها جميعا”على بياض” وبدون تاريخ، ودون أن يشطب على: “أو لأمر”،  وضع الدفتر فى المكان الذى اتفقا عليه منذ حاولا أن يتجنبا محاولات الإقناع والاقتناع، أغلق الباب فى هدوء، وحين مر أمام المرآة التى فى مدخل العمارة اكتشف أنه نسى أن يحكم رباط عنقه فوقف يعدّله فى ثبات تام.

-4-

خرج إلى الشارع واتجه على غير عادته إلى جهة اليمين، فمحطة الأتوبيس والجمعية فى الاتجاه الآخر، أخذ ينظر إلى وجوه المارة فانتبه إلى أن عيونهم ـ جميعا ـ مغرورقة بنفس الدموع، فتذكر عينيه فى المرآة وهو يحكم رباط العنق،  آنسه ذلك حتى شعر أنه ليس وحده، فما شقى كل هذا العمر إلا من أجلهم، حتى لو أنكروه جميعا.

 حتى لو لم يَرَوْه أصلا.

 ******

(6) مزاح

-1-

كان يحتاج إلى أى مخلوق يدرك ما به دون تدخل، لكنه تمنى ألا يجدها فى الصالة وهو يفتح الباب بمفتاحه الخاص، ماذا لو رأتْ  ولم تشعر؟ ماذا لو لم تر أصلا؟ لم يكن يحاول أن يخفى دموعه هذه المرة، هى حقه دون منازع، ولكن لماذا هنا؟ الآن؟ لم يحاول أن يتمادى، ولمَ يتردد فى الدخول، ولم يتصنع الثبات.

-2-

كانت تجلس منتظرة فى غير لهفة أو توقع، لم يكن هذا موعد عودته، لكنها كانت هناك، حمد الله وقلبه يخفق وجلاً، لعلها لاحظت فتجاهلتْ، أو لعلها لم تصدق فسمحت بفرصة لإعادة الاختباء، شكر ترحيبها الطيب، وصمتها السمح، فرح حين تبيّن من  نظرتها أن دموعه كانت سِرّىة لم تنسب على خديه؟ مضى إلى الحمام ينظر ليتأكد، فوجدها، فحمد الله أنها لم ترها، كيف ؟

-3-

سوف يقول لها أنه  فى أشد الحاجة لمن يشاركه، وهى لن تسخر منه، الخبر منشور فى الصفحة الأولى على غير العادة، ثم إن التفاصيل فى صفحة الحوادث، ثم إنها تقرأ صفحة الحوادث يوميا قبل أى صفحة أخرى. ذلك الشاب الطيار الوسيم كما ظهرت صورته فى الصحيفة، لم تمض على تخرجه سوى بضعة أسابيع، سقطت به طائرة التدريب . هو أكبر إخوته، خاطب، عرسه بعد أيام، لا بد أن له أب مكافح ، وأم محجبة تدعو له ولمن مثله طول الوقت، لماذا لم يستجب الله لها فيحفظه؟  وجه الشاب أقرب إلى وجه أمه، مع أنهم لم ينشروا صورة أمه الثكلى. خيّل إليه أنه ـ شخصياً ـ مسئول عن سقوط طائرة هذا الشاب العريس بشكل ما، ومع ذلك فإن الأم الثكلى لا تعايره بالاستمرار فى الحياة دون ابنها، كان هو الأوْلى فعلا، مهما بلغ حزنه على الشاب المخطوف، فهو يشعر أنه لم يحزن بالقدر الكافى؟ بالقدر الذى يسمح له بحق الاستمرار من بعدهم، تُخايله أشلاؤهم داخل المخيمات، وعلى سفوح الجبال، وفى جوف الأنهار وبين كثبان الثلج، لكنّها سرعان ما  تتلاشى فى طبقات وعيه المخدَّر ليمضى، كما أن أيا من هذا لم يحدث هكذا؟

 نظر إليها فوجدها مازالت جالسة تنتظر منه ردّ تحية العودة، فهَّم أن يجاملها بردٍّ ما، وقبل أن ينطق سألته:

 ـ  مالك؟

حاول التملص بأن سألها عن طبيخ اليوم فأجابتْ، فبدا مندهشا، فاستفسرتْ، فأجاب أن كل شىء لا بد أن يتغيّر ما دام الأمركذلك، وحين لم تفهم أكثر حوّل الحديث إلى نوع الطعام ، وتفوّق الأولاد، قالت:

 ـ  جاء ابننا بالشهادة، وهو أول فصله هذه الفترة.

قال، و صوته يتصاعد حتى بدا كأنه يصيح، رغم أنه لم يكن يوجه كلامه إليها :

 ـ  أى شرف أن نفعـل نفس الأعمال؟! مع أنهم يموتون بلا منطق، ونحن نظل أحياء بلا مبرر.

كادت تقفز فزعا، لكنها تماسكت، وتساءلت عما يعنى:

 ـ أمزح.

قالت:

 أَخـَفْــتـَن قالِى.

 *****

(7) أبـَــدا……

-1-

قالت له وهو يحاورها:

” ـ  كيف؟”

فكر أكثر فأكثر، وكأنه لم يفكر من قبل فى إجابة لهذا السؤال ، نفس السؤال، وكأنه لم يعجز عن الإجابة فى كل مرّة، كم مرّة ؟ لا تعدّ، ألف مرة ؟ بل آلاف، بل أكثر،  ومع ذلك راح يجتهد من جديد،  التفت إليها فجأة فى حماس لا يهمد، وكأنه “وجدها” أخيرا قائلا دون تردد:

 ـ  ثمة وسيلة لا أعرفها، ولكن ليس معنى ذلك أنى مخطىء، أو مخرف، ثمة وسيلة.

صدقتْه بشكل ما، وتعجبت من حماسه هذا الذى يتجدد أبدا، رغم أنه لا يضيف شىئاً أبداً.

-2-

قال لها وهى تحاوره:

 ـ نعم، لابد أن يحدث كل ذلك لسبب بسيط وهو أنه لا بديل.

قالت وهى تتحكم فى احتمال ضجرها (المتسحب والمتزايد باستمرار) مِن هذا الحماس الذى لا ينقطع، وليس له أى مبرر واقعى، كانت تستلهم طاقة استمرارها من نظرته المتوثبة الطفلة:

 ـ ما الفائدة، ما دمنا لا نمسك حتى ببداية الخيط؟

هـّم أن يكتفى بالصمت ردَّا، كاد يتيقَّنُ من صواب رأيها، لكن شحنة جديدة تفجرت من مخزن إضافى مجهول، فمضى يحتج:

 ـ  أية فائدة؟ الكلام بحساب الفائدة لا يغنى شيئا، لأننا لا نعرف فائدةَ ما هو مفيد، هذا الكم الهائل من الفوائد لم يعد يصنع لأى أحد شيئا، فلا تحاسبينى بحساب الفوائد الرقمية.

قالت لنفسها هذه المرة: “وما فائدة الرد المعاد؟”

-3-

أخذ يجرى فى انتظام لاهث، العرق يتصبب منه، والأتوبيس يقترب، وهو لا يفتح ساقيه أكثر، فلا تزيد سرعته، ثقة ما بعدها ثقة، وفعلا: وصل إلى المحطة قبل أن يغادرها الأتوبيس، وكان ثمة موضعا لقدم واثنتين على السلم، لكنه لم يضع قدمه، ومضى يتجاوز الأوتوبيس الواقف ويواصل هرولته، فكاد يصطدم ببعض الناس، فتجنب البعض الآخر، ثم مرق منه الأتوبيس بسرعة مناسبة، وهو يجرى، وأتوبيس آخر يعبره، وهو يجرى، ومحطة أخرى، لا هو يتوقف عند المحطة، ولا الأتوبيس يتوقف عنده، وترابٌ لزج، وعطشٌ وعرق، وبدايات إفلاس، فانحرف عند أول ناصية، وهدأت خطواته حتى المشى، فترك جسده يسقط على أقرب كرسى فى أقرب مقهى.

أشفق صبى المقهى عليه فتركه فى حاله قليلا، حتى هدأ، ثم ذهب يرحب به، ويلاقيه، ويعرض خدماته:

 ـ  الحمد لله على السلامة.

اطمأن تماما فرد بكل يقين، وكأن الكلمتين تحملان كل ما يريد من معان:

 ـ  الله يسلمك.

ردّ الصبى النادل بحذر:

 ـ  إن شاء الله خير؟

أجابه وهو يمسح وجهه بمنديل أكثر اتساخا:

 ـ  طبعا، ألف حمد.

وطلب “حلبة حصا” ولكن بدون سكر، فمضى الصبى رافعا حاجبيه، مَغيظاً مشفقاً، طيباً، مبتسماً.

-4-

نظر إلى ساقيه الممتدتين استرخاء، فتعجب من قدرتهما على أن تتسلق إحداهما الأخرى دون أن تنتبه أى منهما إلى حركة الأخرى.

-5-

عاد إلى المنزل فـَرِحا فـَرَحـَا لا يخفى، وكأنه يحمل تفاصيل النبأ العظيم، فاستبشرتْ خيرا، “أخيرا !!”، وقالت له بكل أمل نفس كلمات الصبى الظريف:

 ـ  الحمد لله على السلامة

قال برضا أكثر فأكثر:

 ـ  الله يخليكِ

سألت فى أمانٍ سمح

 ـ  أُحضر لك الغداء؟

لكنه كان قد اختفى فى الحمام، وسمعت صوت “الدش” بلا إعداد سابق، فلا سخّان، ولا غيار فى الداخل، أواخر ديسمبر والماء ثلج، ومع ذلك لم تجرؤ أن تقترب منه لتسأله أو تعينه، فقط أحضرت الغيار ووضعته على أكرة الباب، وانتظرت تتلهى بأى شىء..

-6-

خرج من الحمام  كما توقع وأكثر، أنعشه الماء المثلج حتى انتشى أكثر، جعل يأكل بشهية وهو يحس ـ ربما لأول مرة منذ مدّة طويلة ـ أن للأكل مذاق الأكل، وما أن انتهى حتى لبس حلة قديمة، لكنها نظيفة، وقد كانت هذه الحلة بالذات عزيزة عليه جدا.

ربت على شعرها بهدوء وهو يجيب على سؤالها المنتظر وهو يهم بالخروج مع أنه ما كاد يرجع.

 كان سؤالها البديهى يقول:

 ـ “إلى أين”؟

ردّ فى غموض لم يتعمده:

ـ “أبداً….”

ولم تلاحظ هذه المرّة أىضا أن عينيه اغرورقتا بالدموع، وهو  لم يتأكد، مثل المرة السابقة، إن كانت دموعه ظاهرة أم خفية.

 ******

(8) صمت….

-1-

أخذ مكانه لأول مرة فى القاعة المهيبة التى لم يعتد الجلوس بمثلها، تلفت حوله فوجد الحائط مزداناً بالصور الجليلة وقد تحددت فى أسفل كل صورة الفترة الزمنية التى شغل فيها صاحب كل صوة رئاسة هذا المجلس، أخرج ورقة بيضاء كان قد أعدها وأمسك القلم يدون ملاحظاته، وإذا بالأمور تتلاحق بشكل لم يتوقعه، رفع يده وفتح فمه وقد دوّن ملاحظاته ببطء المبتدىء، لكنه لم يستطع أن يلاحق ما يجرى بأى سرعة مناسبة، مالَ، وهَمَّ، وتنَحْنَحَ، وكاد أن يشير بيده وهو يتعجب للأحاديث الثنائية الجانبية، وحين تصور أن الرئيس يعطيه الكلمة سمع أصوات المقاعد تتحرك، والأجساد تنتصب، فأدرك أن الاجتماع قد انتهى. نظر إلى الورقة أمامه فجذب نظره أن ما تبقى فيها من بياض أكثر مما سود فيها من ملاحظات، لملم أوراقه ووضعها فى حقيبته ورفع رأسه نحو الحائط وهو ينظر إلى الصوره معاتباً صف الشوامخ، وأخذ يتابع الضحكات السعيدة بالانصراف وما لا يدرى. حـَسِبَ أن الأصوات تزداد بـُعداً كلما اقترب من أصحابها، فكتم صرخة غريبة لم يسمع مثلها داخله أبدا.

-2-

ذهب إلى مكتبه، وبلا استدعاء دخل عليه العجوز ووجهه ينضح بالألم، ومن ورائه دخل زميله الشاب ووجهه أقل ألماً وأكثر غيظاً، بدا العجوز وكأنه يهم بالكلام، لكنه التفت إلى زميله الشاب قبل أن ينطق وكأنه يدعوه أن يقول هو، لم يستجب الشاب وزاد غيظه، فازداد الكهل ألماً، وطال الحوار بين المتألم والمغيظ .

خرجا كما دخلا.

فترددت على باله أسئلة جديدة تماماً.

-3-

لابد أ ن يقول لها رأيه بصراحة وليحدث ما يحدث، ما كل هذا القَذَى فى عينيه؟. قبيحٌ هذا الرداء على الرغم من  كل ما دفع فيه، وعلى الرغم من  اسم الحائك الشهير، ورغم القماش المستورد من جوار رسول الله مع غنائم آخر عُمرة. نظر إلى ساعته فوجد أنه لم يبق إلا نصف ساعة، مسافة الطريق، فتعجب متى ينتهى هذا الإصرار على تصاعد التنافر بكل هذا الحماس، تردد نظره بين المرأة والمرآة، فجعل يتابع تدريبات الحركات المياسة والرصينه معاً، ولمسات العطر تستقر خلف الأذن. لماذا خلف الأذن بالذات؟ هزت رأسها فتصورت أن “فورمة” الشعر قد استقرت أكثر، فسبقها يسخن العربة حتى تنزل، فخيل إليه أن صوت الموتور أعلى من المعتاد، ثم تبين أنه لم يضع المفتاح ولم يدر الموتور بعد، فبدا له وجهه فى المرآة الجانبية أكبر من حجمه وكأنه يبتسم، مع أنه كان فى حال.

-4-

نظر ابنه فى عينه وهو يهم بالخروج أن “ماله”؟ فربت على رأسه فى هدوء وهو يـُحكم إخفاء رقّته التى كادت تذيبُه، تذكر أن الولد كان قد طلب منه أمس طلباً ما، يحتاج إلى نقودٍ ما، فدس يده فى جيبه وأعطاه ما تصور أنه يكفى.

ومضى مسرعاً قبل أن ينكشف.

-5-

زادت الحكاية حتى لاحظها الناس من حوله، لم يعد يبدأ، ونادراً ما يرد، كلمة أو اثنتين لا أكثر، خاف على نفسه خشية أن تكون الحكاية أكبر من مجرد خيبة أمل.

فقرر فى ذلك أمراً.

ظل جالساً فى حجرة الانتظار أكثر من ساعة يتأمل الوجوه الضاحكة والعابسة والملساء، وتعجب أن أغلب الجالسين يتكلمون كثيراً، وبصوت مرتفع، وحين جاء دوره تظاهر بالذهاب إلى دورة المياه.

وانصرف لا يلوى على شىء.

-6-

سمع صراخاً من خلف الباب فاختلطت لديه معانى الاستغاثة والألم واللذة، توقف قليلاً عن مواصلة صعود الدرج وود لو يستطيع المساعدة بشكل ما، لكنه كان على يقين أنها امرأة، وهو لا يملك إزاء ذلك  شيئاً، وقبل أن يواصل التفكير تهادى الصوت تدريجياً حتى اختفى تماماً، فلم يدر هل كان ذلك بسبب الموت أم الاستغراق فى النوم عقب ذروة الشهوة.

واصل صعود الدرج، وقبل أن يختفى خلف الباب خيل إليه أنه يسمع صوت بكاء رضيع وقد اختلط بزغرودة مكتومة، فراح يتذكر أشياء شديدة البساطة كان قد نسيها تماماً، تذكرها بكل التفاصيل التى لم يكن يتصور أنه رصدها بهذه الدقة.

أخذ يردد بكل وعيه فرِحا:

 “أهكذا؟؟ على الرغم من  كل شىء؟؟”

 ******

(9) الورطة والمسألة

-1-

تحسس جيبه بمحض الصدفة، فوجده منتفخاً بحكم العادة، وبدون مناسبة، حدد بوضوح ما كان اعتاد أن يبقيه بعيدا عن ثورة وعيه، فهذا الانتفاخ هو مجرد عائد هذا اليوم، وهو أقل قليلاً من كل الأيام، لكنه انتفاخ منبعج لا يخفى على عين.

تسربت جحافل الفئران، فانشرخ الجدار، فتدفقت الحبوب فى تلاحق غير متوقع وغير مناسب حتى رأى الأيام كومة تتجمع تعلن رقما بعد الخمسين دون أن يتوقف العد، أو تتأكد الدلالة، استقبل المنظر فى يقين ودهشة وحياد منذر، ولم يحاول أن يتلهى عنه بالبحث فى الأسباب أو الهرب فى التفاصيل، فقال وشفتيه مضمومتان “لا جدوى من التأجيل .. الليلة، أو أبداً”.

-2-

نظر إلى ساعته الذهبية، فوجدها قد تعدت التاسعة والنصف، وهو لم يتناول غذاء بعد، فقد اعتاد مؤخرا أن يكتفى بكوب الزبادى و”باكو البسكويت” فى زحمة العمل، قال “فرصة، ولتكن البداية مثل البدايات القديمة”.

فتذكر فندقاً فخماً فى أقصى الشمال، مصر الجديدة، كان قد عرفه فى إطار المهنة والمؤتمرات، فاعتاد عليه سراً، خوفاً من المغامرات المجهولة فى أى مكان فخم آخر، هو يريده باهظاً هذه الليلة، ولابد أنه كذلك، فعلاقته به لم تتعد شراباً خطفاً فى ركن قصى.

-3-

نظر فى قائمة الطعام ووجدها مقسمة إلى ثلاثة أقسام، وبها ملحق يشير الى أنواع الشراب، وهو لا يعرف أغلب الأسماء، فقد اعتاد أن تطلب له زوجته ما يشتهى أو ما تشتهى له، لكن لليلة وضع خاص، لابد أن تختلف الأمور كما لابد أن تتضح الأمور، ثمة أمل فى اكتشاف جديد لتخطيط جديد، (جِدَّا!!).

أشار بإصبعه إلى ما يقابل أعلى الأثمان فى كل مجموعة دون أن يهتم بالاسم، وأجل طلب الحلوى بداهة، وان كان قد تخير شرابا كان قد تمنى أن يذوقه من قديم، ودون أن يقصد وجد نفسه قد جمع الأرقام (بدون الآلة الحاسبة فى جيبه) فوجد المجموع لم يتخط العشرة الثامنة مما لن يخفف من ضغط الانتفاخ المنبعج، وبدا أنه أبعد ما يكون عن نجاح التجربة، ليكن، فهو جائع، وهى بداية.

-4-

أكل بشهية جيدة، وبتمتع قليل، فانقبض دون حزن واضح، فالطبق الأول كان حساء مائلا الى الحمرة الخضراء، وبه أشياء صغيرة كاد يتصور لأول وهلة أنها دودٌ قد أحسن تسمينه، ولو كانت زوجته معه لاكتشفت الحقيقة، إذن لسُدت نفسه لأنه لا يعتقد أنه يحب الجمبرى، ولم يجد أبدا ما يبرر أن يحبه لمجرد ندرته أو ارتفاع ثمنه أو لأن الناس الذين يفهمون يحبونه، أما هى فهى لاتطيق رؤيتة أصلا أو حتى شم رائحته، فى  هذا يتفقان، جاء دور الطبق الرئيسى غريب الاسم أيضا، فوجده لحما مشويا عاديا فتساءل عن حكاية الأسماء الكثيرة المختلفة التى تنتهى كلها، إلى نفس نوع اللحوم والبطاطس المقلية، أما الشراب فكان لاذعا رائعا طمأنه على القدرة على إكمال تجربة الليلة بنشاط كاف ونشوة معتدلة.

-5-

أخذ يتحسس جيبه، ثم بطنه، بالتتالى، وهو يسير فى البهو متجها إلى الخارج، ولم يسترح لبقاء انتفاخ جيبه على ما كان عليه قبل هذا الافتتاح، لمح قبل أن يبلغ باب الفندق الخارجى أنه يوجد فى الطرف الآخر من البهو مطعم آخر، وقد وضع بيانا بقائمة الليلة خلف زجاج مرصع، اقترب فإذا بالثمن يقارب ضعف ما دفع غير الشراب والبقشيش، تململ حتى زحف إليه ندم على الفرصة التى ضاعت، هذا هو ثمن القائمة المعروضة الجاهزة (المينىو)؛ فما بالك بالذى هو “على الكارت”! لو أنه كان قد لمح هذا المطعم قبل أن يذهب إلى ما اعتاد لكانت مهمة هذه الليلة أسهل، حمد ربه أنه لم يملؤها حتى التخمة،  ولكن ذلك لم يبرر بأى صورة أن يتناول عشاءه مرتين فى نفس المكان لمجرد أن يتخلص من بعض الانبعاج كالورم الحميد فى جيبه، وقال لنفسه “مرة ثانية”، فانزعج حين تذكر شرط الليلة:

 لا تأجيل.

-6-

نظر فى الساعة فوجدها لم تصل إلى الحادية عشرة بعد، أدار مفتاح العربة ونقد المنادى خمسة جنيهات بأكملها ضد كل تحفظاته ضد هذه الفئة الطفيلية، وقبل أن يغلق المنادى باب السيارة بعد أن أصر على فتح النافذة رغم شدة البرودة، اكتشف وجهَ شبهٍ حاول أن يطمسه، فزاد من  سرعة السيارة دون عجلة.

-7-

قرر أن ينتقل من أقصى الشمال الى أقصى الجنوب، شارع الهرم، الرأى الليلة لوقود السيارة وليس لحسابات الأحسن، ليكن، منذ عشرين عاما دعاه أحد أقاربه من محدودى الدخل إلى الأوبرج وتعجب لمقدرته المالية المفاجئة، ثم عرف أن المسألة أنه حصل على بطاقة دعوة بالمجان من ضابط مباحث معروف، فعمل بها أبا على، وكانت الدعوة إلى أوبرج الهرم. هو لم يحب ذلك التلوى أبدا، اللهم إلا سامية جمال وتحية كاريوكا قديما وهو لا يطيق كل هذه الأشياء الموسيقية القارعة، لكن الليلة ليست ككل ليلة، الليلة ليلة كل ما هو جديد، فمن أين له أن يدرى ماذا حدث من تطور خلال عشرين سنة؟ ثم لابد أن الفاتورة هنا سوف تقترب من سقف الورقة أم مائة التى ألغوها منعا  للتهريب ثم أعادوها تسهيلا ، أو استسلاما له، هذه الأوراق تخفف من ضغط هذا الورم المتحدى، ما علينا، للجديد ـ رغم الذكريات الفاترة ـ جـِدّته.

-8-

توقف أمام باب الملهى الأكثر أضواء فتقدم إليه شخص لا هو بالمنادى ولا هو صاحب الملهى، لكنه “بين البينين”، همّ الشخص بفتح باب السيارة بترحيب محسوب وأدب ظاهر، كاد يضطر صاحبنا أن ينزل من السيارة ـ إحراجا ـ لكنه لم يكن قد استقر بعد على الخطوة التالية، قاوم، ثم سارع بوضع يده فى جيبه وتحسس أول ورقة وصلت إليها أصابعه ونقدها للشخص “بين البينين”، كل هذا لم يعتده، تأكد أن هذا الكرم الزائف هو  ضد مبادئه التى لا يعرف من أين جاءته! ومن الذى فرضها عليه؟ لماذا غيروا حجم الأوراق هكذا؟ أشار “للشخص إياه” أن يدعه الآن لأنه ينتظر صديقا فى السيارة، فابتسم الشخص ابتسامة خاصة مليئة بالفهم والغمز والموافقة، حتى قفاه بدا مبتسما فى تقرير طيب.

-9-

قرر أن يفكر أهدأ، ضد رغبته فى عدم التخطيط هذه الليلة أصلا، ولكن ما باليد حيلة، ما دامت القرارات تتزاحم والملاهى تتجاور، علما بأن المسألة ليست: ما هو الملهى الأفضل؟ لكنها: ما هو الملهى الأغلى؟ فقفز السؤال السابق إلى وعيه يقول: لا مفر من اختيار، لن يؤثر تفضيله اختياراً عن آخر مادام الهدف واضحا والسؤال محددا، كان السؤال الذى دفعه إلى جولة الليلة يقول: لمن يكسب ما يكسب؟ وعلى من ينفق ما يملك،؟ ثم لحقه سؤال أكثر تحديدا يقول”إلى متى؟” فثار وأجاب فى حسم “الليلة .. وليس بعد”، فانشرخ الجدار ـ فهو إذا استطاع الليلة، ولو مجرد الليلة، أن ينفق مكسب هذا اليوم بالذات على نفسه شخصياً، فسوف يستطيع أن يتحسس طريقه للإجابة على بقية الأسئلة، فاستضاف نفسه هذه الليلة بكل كرم أسطورى سمع عنه، ولا يكون الكرم كرما إلا لو لم يبق فائض أصلا، كل واحد يدلع نفسه، والفائض لو فاض سوف يظل يلعب تحت جلده مثل ذيل عقرب رفض أن يموت مع باقى الجسد، فانفصل يتحدى،  لقد سمع هذا اللفظ قبل ذلك ذات مناقشة بين اثنين من الذين يتناقشون حول أسعار الفائدة، فتصور أن أحدهم يعاير الآخر بمثل هذه الكلمة “الفائض”، وكانا يتكلمان أيضاً عن الاستقلال والاستغلال والسياسة والحرب والنظام والعولمة والجات، وهو عادة لا يحشر نفسه كثيراً فى هذه المسائل، ذلك أنه اكتسب بعد التخرج نوعا خاصاً من الذكاء الانتقائى يحميه من تشتيت جهده إلى غيرما يتقن، لكنه كلما أتقن أكثر تراكم فائض أكثر، فوجب العمى أو التحدى، وهذه هى المسألة.

-10-

المطلوب الآن أن ينجح هذه الليلة، لقد قبل التحدى والذى كان قد كان، الليلة وبعدها يحلها ألف حلال، لكن لكى ينجح لابد أن يغامر.

نظر ـ غصباً وبالصدفة معاً ـ إلى الفخذ المطل من حلة الرقص فى الإعلان المتسع على حائط الملهى، وانتقل من الفخذ إلى البطن الى اسم الملهى فصدحت فى رأسه أغنية عن الحرب والبطولة والاستشهاد ومصر، فتداخل الثكل فى الجنس فى النشوة فى الألم، فحاول أن يوقف هذا التلاحق المتكثف أو أن يسلسله أو أن ينقيه، فنجح نسبيا، إلا أن ما تحرّك مما هو جنس تباطأ فى التراجع مضطرداً، لم يذهب مع الكتلة المتداخلة، بل تصاعد وانتشر حتى احتل الساحة، هل يكون هذا هو الحل؟ إنه يسمع عن أوراق البنكنوت التى تحرق تحت أقدامهن فى المناسبات، وبدون مناسبات فى هذه الأماكن، ترى كم تساوى الليلة؟ مائة؟ مائتين؟ ألف؟ ولو !!!، ثم ماذا لو لم يجد عنده رغبة أو مزاجا، والألعن لو تأكد أن قدرته لا تنطلق الا إذا توفر الظلام والإغماء، وهو الآن فى أشد حالات اليقظة إثر تصاعد هذا التحدى الملح، ربما تنتظره فضيحة وهو ليس حملها الآن، ولا فى أى آن، عاود النظر الى الفخذ النافر فشعر أنه قد انحشر فى عينيه فطمس وجهه وساح زنِخاً حتى كتم أنفاسه، فأدار مفتاح العربة وهو يتجنب نظرات الشخص الـ ” بين البينين”، وحين سمع صوت الموتور أحس بخلاص مؤقت.

ـ11ـ

وصلت السيارة إلى نهاية الشارع، وقبل المينا هاوس انحرفت الى بداية الطريق الصحراوى، وعند مفترق الطرق تذكر قصة قرأها عن هذا المكان ـ أو مثله ـ تحكى مثل هذا، لكنه لم يستطع أن يسترجع اسمها تحديداً، ولا اسم مؤلفها مع أنه مشهور جداً وهو يحبه، ومع ذلك فقد تذكر تماما أن اسم البطل كان عُمَراً، ساورته فكرة لكنه عدل عنها بسرعة ورفض أن يتقمص بطل الرواية بوعى مشوش، أدار السيارة حول المفترق وأفل راجعاً وقد شعر أكثر فأكثر بثقل ذلك الانتفاخ بالقرب من تحت الإبط، وفوق أيسر الصدر، فتثاقلت أنفاسه وزاد الضغط تدريجيا على بدال الوقود.

-12-

تحركت أمعاؤه حركة مبشِّرة فمال وارتاح، ثم ابتسم يتمنى أن يترتب على ذلك جوع يسمح له بمعاودة العشاء، متعة نسبية يعرف بعض معالمها خيراً من المجهول، فوردت على عقله فكرة أسخف وهى أن يضع إصبعه فى حلقه يفرغ ما فى بطنه ليبدأ من جديد، وجاءت النتيجة عكسية، إذ تملكه قرف كاد يجهض التجربة برمتها، فتراجع محاولاً أن ينسى خجلاً.

زادت سرعة السيارة زيادة متوسطة وتذكر فيلما قديما جيدا عن مقامر خسر حتى أفلس، وفرح هذه المرة أنه تذكر اسم الممثل بسهولة، جريجورى بيك، فاكتشف فائدة القمار ومعنى أن يواصل المرء الخسارة حتى تفش أورامه، لكنه نشاط ممنوع على المصريين فيما سمع.

ثم ماذا لو لعب فكسب؟؟

يا ذى المصيبة السوداء.

-13-

حين بلغ ميدان الجيزة، انحرف بشكل معاند الى شارع سعد زغلول الذى لم يدخله راكباً أو راجلاً منذ عشرين عاماً، فرح بالزحمة التى جعلت السيارة تسير بسرعة المارة، فأخذ يتأمل الوجوه بائتناس ودعة، قاوم جذب فكره إلى ما يجرى داخل البيوت المتوارية فى أى زقاق جانبى، ونجح كما يبدو، انحرفت السيارة إلى شارع المحطة حتى توقفت ـ وحدها ـ أمام محل تفوح منه رائحة الشواء المميزة، كباب مِنَ الذى يعرفه، هذه الرائحة تفتح شهيته فى أى وقت تحت أى ظرف، اطمأن أنه مازال يستطيع أن يجد طريقه فى أى وقت خلال أى تجمعات سابقة، نزل لتوه ودخل إلى المحل فى تصميم واضح.

-14-

جلس فى أبعد منضدة بحيث يشاهد الجميع دون تبادل ملزم، اختفت فكرة الأكل تماما لكن أوان الهرب كان قد فات، أقبل عليه الرجل الصبى هاشًا باشا ًمرحباً وكأنه يستقبل زائرا عزيزا ًفى بيته الخاص حتى تصور أنه أتى إلى هذا المحل من قبل رغم يقينه أنه لم يفعل، فى الدورة التالية مباشرة أحضر “الرجل الصبى” فى يده بضعة أرغفة وأطباق سلاطة متنوعة يعلو بعضها بعضاً، وأخذ الدورق من على المنضدة واستبدله بدورق آخر، وذهب كالنحلة. يزداد الرفض كلما زادت المشهيات، صحيح أن أربع ساعات مرت على وجبة الفندق لكن المسألة فيها متغيرات غير واضحة، ورغم ذلك فقد اضطر فى الدورة الثالثة أن يطلب نصفا ًمشكلاً، وتساءل ما الذى أدخله هنا وهو يعلم أنه لو أكل كل ما فى المحل مجتمعاً فهو لن يفش ورم جيبه كما خطط ودبر؟ أخذ يتأمل الوجوه من حوله، وركز دون قصد على دائرة الفم والشدقين، فتضخمت تلك الدوائر حتى كادت تحل محل سائر الوجوه والوجود، فخاف حتى غلبه دوار لم يحله إلا صداع محدد، خجل مما فعله حتى عرق، وكأنه دخل الحمام على محرم عارية دون استئذان، تحسس الكومة وأخرج بعضها دون عدد، وهم أن ينادى الرجل الصبى ويرشوه بها دون أكل، حتى يطلق سراحه دون سؤال، لكنه فى نفس اللحظة فوجىء بالطبق الرائع يهبط أمامه مصحوبا بدعوة شديدة الحرارة بالهناء والشفاء.

أخذ يواصل الجهد ليمنع نفسه من معاودة النظر إلى فوهات البشر الطاحنة، فركز بصره على الطبق اللامع أمامه وإذا به يرى انعكاس منظر فمه وشدقيه مثلهم تماماً، بل أكثر تنافراً، فانتابه حزن حتى كاد يبكى، أنقذه ملمس ناعم احتك بأسفل ساقه فراح يسرب محتويات الطبق قطعة قطعة إلى هذه القطة الضيفة الكريمة القابعة تحت المنضدة، ثم مزق الأرغفة، وبلع الدمعة، ونادى الرجل، ودفع الحساب، وقام، وانصرف.

-15-

ركن السيارة بعيداً حتى يواصل السير فى شارع الأزهر آملاً أن تخفف برودة الهواء آثار ما يجثم على قلبه فشلاً وخجلاً، كاد يتعثر فى كوم اللحم المتجمع على الرصيف تحت غطاء بال مشترك، رفض انحناءة التفكير ونجح كما نجح من قبل فى تجنب محتويات زقاق الجيزة.

ارتفع به المصعد إلى أعلى الفندق المطل على ميدان سيدنا الحسين، وطلب شايا أخضر. فرح بصغر الكوب الضيق من وسطه حتى كاد ينسى تماما خيبته البليغة، بل إنه كاد ينسى كل تجربة الليلة، جذورها وفروعها، حاول أن يرتشف الشاى بهدوء كأنه فى استراحة بين فصلين من مسرحية سخيفة، ثم قرر إنهاء كل شىء بإعلان بسيط ومؤكد، يرد به على كل التساؤلات المسئولة عن هذه الورطة، يرد بقولة مشهورة تعلن أنها “سُـنة الحياة”. من ذا الذى سنّها؟ وكيف؟ وتزاحمت عليه أفكار الجانبين المتضادين الكاذبين معا، فتمنى أن تقوم الحكومة عنه بكل شىء فتريحه وتريح أمثاله من هذه الأسئلة وأشباهها، فقفز إليه رجل الضرائب يساومه ويقسم له أن رئيسه باع له “هذه المنطقة” بالشىء الفلانى، فتراجع وتأكد أنه أولى من الحكومة وأنصح وأقدر على حمل الأمانة، ثم أخذه الحماس حتى كاد يقسم أنه لو استأمن الحكومة “هكذا” فان الله سوف يدخله النار، فازداد غماً، فتمنى أن يتولى الله شخصياً عنه هذه المهمة، فقفز إليه صديق فى وزارة الأوقاف يلعّب له حاجبيه، فتذكر أن الله لا يدير أملاكه بنفسه، وإنما خلق خلقاً وكلفهم بإدارتها، فاغتم غماً على غم، فدعا على نفسه، وعلى الحكومة، وعلى هذه الليلة بما تيسر، ثم راح يعاتب ربه بما لا يجوز.

-16-

ما دام الأمر كذلك، فماذا لو لم يذهب إلى حيث يجمع ما ينتفخ به جيبه هكذا كل ليلة، هل يجرّب؟ هذا حل طيب، البتر عند المنبع، فلا يصبح مسئولاً: لا عن المجرى، ولا عن المصب، لا عن الانتفاخ ولا عن التخلص منه،  سوف يفعلها غدا، ويشوف، فرح لمدة نصف دقيقة، زادت بغير توقع حتى صارت دقيقتين، وما إن بدأ فى الاطمئنان إلى القرار حتى حدث ما توقعه ـ من خبرات سابقة ـ إذ قفز سؤال يتحدى يقول :

“وماذا عن بعد غد؟”

-17-

نزل من أعلى الفندق وقرر أن يدخل المسجد ليصلى ركعتين (غير تحية المسجد ) سنة لوجه الله رغم أنه لا يذكر أنه صلى الفروض نفسها، منذ شهور، فيما عدا النشاط الصباحى بالصدفة،  وهل تصح السنة دون فرض، لكنه شعر أن هذه الصلاة السنة الآن أبرك من مائة فرض، وأن الله حرّ فى حساباته، وهو يديرها بطريقة سرية غير ما يشيعه الأوصياء، وجد باب المسجد القريب مقفولاً، لم يحاول أن يجرب باباً آخر، وخطر بباله ـ خائفا ـ أنه قد يواجه نفس المشكلة فى الجنة نفسها.

-18-

وهو عائد إلى موقف السيارات البعيد، مر على نفس كوم اللحم فتوقف على رأسه ومال ينصت إلى الأصوات الكورالية المتداخلة، قرر أن يتخلص من الرزمة فى جيبه بأن يمنحها لكوم اللحم هذا، انحنى بتصميم مفاجىء وهز جانباً من الكوم داعياً الله أن يتصادف أن يكون ذكراً وإلا …، جاءت سليمة إذ استيقظ النائم ساخطاً لاعناً بصوت خشن لا شبهة حوله، توالت الأحداث بسرعة لم تمكّن النائم المستيقظ من المتابعة، فخاف، ورفض، وتحسس الكومة الملقاة فى حجره، وشك لحظـات فى أن تكون لفة مخدرات، وأن تتبلى عليه الحكومة، ثم تراجَعَ واحتضنها بنصف وعى، وقبـِلَ الرزق أو النذر أو المعجزة أو الحلم، وتظاهر بالنوم حتى نام فعلاً واللفة فى حضنه.

-19-

زاد انقباض صدره رغم تخلصه من الرزمة بأكملها، انزاح الورم عن صدره، وكان يتصور أن كل شىء سينزاح بانزياحه، وخاصة أن الرزمة ذهبت إلى أولئك المساكين النائمين بلاغطاء كاف على قارعة الطريق فى هذا الثلج المجمد، لكن المسألة لم تمض هكذا بالساهل، فلعن الحلول الفردية المؤقتة.

-20-

وصل إلى “الجراج” بالقرب من المنزل وترك العربة للسايس  الذى كان منهمكاً فى غسيل السيارات الفارهة وغير الفارهة، فقال لنفسه: الآن فهمت جدوى أن يغير أصحاب الجيوب المنتفخة سياراتهم عاماً بعد عام.

-21-

فتح الباب بمفتاحه الخاص فى صمت هادىء وقبل أن يتوجه الى مخدعه مر على أسِرّة الأولاد الواحد تلو الآخر، ثم تسحب إلى مخدع زوجته وهو يقسم أنهم جميعا ـ دون استثناء ـ أخْوَنُ من الحكومة، والأمم المتحدة، ومصلحة الضرائب، ووزارة الأوقاف.

 ****** 

(10) فيما بعد

-1-

الفصل شتاء، والوقت ظهراً، والهرم منظره من بعيد أجمل وأوضح وأفخم، لكن إذا ما اقتربت منه جداً، هكذا، فأنت بجوار حجر قبيح لا يقول شيئاً، ولم يعد الصعود إلى القمة مسموحاً به للهواة مثل زمان، وهو كان قد صعد إليه مع زميله الذى سبق أن صعده عدة مرات، وكانا طالبين فى كلية الطب، وكانا فى الإخوان المسلمين، وفى جوالة الكلية الموقوفة عن النشاط والتجوال معا، ولم يكن هناك أى هدف للصعود إلا التجربة والتحدى، وهو لم يصعده حينذاك بشكل رياضى، فهو لم يكن رياضيا أبداً رغم دخوله الجوالة، صعده مع زميله خجلاً من التراجع، واستجابة لحماس انطفأ الآن، ونزله زاحفا مرتعدا وكان وهو يصعد لا ينظر إلى أعلى بل إلى موضع قدمه، وكان وهو ينزل يضع نفسه على الحـَجـَرةِ الضخمة ويدلى ساقيه فى حذر مضحك، وهكذا، حتى نزل بالسلامة، وصاحبه نحيف طيب متدين عنيد، يقفز هنا وهناك وكأنه ينتقل من فرع شجرة إلى آخر برشاقة منسابة.

-2-

فى داخل الهرم كره الانحناء والرائحة والظلام.

-3-

حين أصبح طبيب امتياز تعرف على “روبير”، شاب مصرى رغم الاسم الأجنبى، طالب فى كلية طب أخرى فى العاصمة، ذى أصل يونانى، واتفق معه فى السر أن يعلمه الرقص الإفرنجى فى ست مرات، لا أكثر، وأعطاه روبير ستة مواعيد، أربعة قبل أن يطلب توصية خاصة إلى طبيب مقيم فى قسم الجراحة ليجرى له عملية ختان، شاب فى الواحدة والعشرين من عمره ولم يختن بعد، ذلك أن الختان عندهم ليس ضرورياً، ليسوا مثل اليهود ولا المسلمين، وقد شرح له “روبير” أنه رفض أن يعملها فى كليته الأصلية حتى لا يفتضح أمره فى هذه السن، وأنه يريد أن يعملها استجابة لطلب صديقته التى لم يعجبها منظره هكذا، المسألة ليست نظافة ولا تديناً، ثم إنه لا يملك تكاليف  العملية فى مستشفى أو عيادة خاصة.

 وحين وعده أن يسهل له هذه المهمة فى السر، كان يأمل حتما أن يوفى  روبير بوعده له بتعليمه الرقص، ولم يستطع أن يبعد عن خياله منظر روبير وصديقته  واتجاه نظرتها وهى تعترض على عدم ختانه، وقال لنفسه إن حذقه للرقص سيفتح له أبوابا جديدة.

-4-

عمل روبير العلمية وخرج مختنا غاية الختان  حتى يمكنه أنه يمكنه أن يشهرإسلامه أو حتى يتهوّد إذا شاء.

-5-

بعد اسبوعين اتصل بروبير هاتفيا، وبعد حمد الله على السلامه، عرج على الموضوع الأصلى وكأنه يطلب أتعابه، أربعة مواعيد لم يف روبير بواحد منها، وقد اتفقا على ست مرات يكون بعدها رقّاصا ماهرا، وها هى العملية انتهت بسلام، ومن حقه أن يسأل:

 ـ  والرقص؟

قال روبير بسهولة تفيد أشياء كثيرة، ولا تعد بشىء.

ـ فيما بعد، فيما بعد.

فقال لنفسه:

“فيما بعد؟ يعنى متى”؟

-6-

 ظل يرددها بعد ذلك مئات المرات فى مناسبات مختلفة ” فيما بعد” ” فيما بعد”،  كانت تصبره مرة وتفقسه مرات، ويبدو أنه نسي متى لطمته أول مرة من روبير، هذا الذى ذهب ولم يعد أبداً، لكنه فجأة تذكر كل ذلك.

 كان الموظف مشغولاً، ومهذباً . قالها وهو ينظر فى أوراقه دون أن يرفع رأسه :

ـ ” فيما بعد”، آسف الآن ، علىّ أن أسوى مرتبات الشهر أولاً، إطمئن، إن شاء الله خير “فيما بعد”.

-7-

كانت لهجة الموظف هادئة وواثقة وواعدة مثلما كان وعد روبير .كاد يرجع ليسأل الموظف” كيف يطمئن”، وخشى أن يكون ردّه هو نفس الرد”فيما بعد”.

 ******

(11) إنـّّـه الهواء

-1-

تقدّم إليه الرجل الذى لا بد أن يكون “ساعيا” أو مثل ذلك، تقدم إليه يعطيه مظروفا مغلقا،  بنّيا، لا هو بالفاتح ولا هو بالقاتم، وليس عليه طابع بريد، لكنّ خاتما غير واضح كان يكفى أن يصل بالرسالة إلى صاحبها ـ فلا بد وأن تكون من جهة حكومية ـ فهى تحوى، إذن، مطالبة أو إخطارا أو إنذارا.

خفق قلبه بشدة، وصمم ألا يفتح المظروف أصلاً وقال لنفسه ما معناه :

” لست أنا”

-2-

تذكرها وهى تغلق الباب خلفها بحركة لم يعتدها من قبل، كانت تقول له قبل خروجها: إنها أخيرا أفلحت  أن تواجهه ببعض ما كان ينبغى أن تقوله له منذ ثلاثين عاما، وكان قد قال فى سره وهو يتأملها دون أن يميّز كلامها (صورة دون صوت): ملعون أبو الحرية والنقود، ثم قال أيضا: ملعون أبوالحرية والنقود والخمر، ثم أضاف بعد فترة ليست قصيرة، فترة لا تصلح للإضافة بل لبداية كلام جديد، لكنه أضاف وهو يبلع ريقه بصعوبة: ” .. والجنس أيضا”، ثم جمعها جميعا هكذا :

“ملعون أبو الحرية والنقود والخمر والجنس أيضا”.

-3-

ملأ الكوب الفارغ إلى ثلاثة أرباعه بالماء المثلج (نصف نصف). قال وهو يتأمله فى يقين مندهش، إن تداخل الألوان هكذا، حتى يصير الماء شفافا هكذا، هو السر الذى لا يوصف، أما طعمه ورائحته فهما كل شىء حى.

وأخذ يرتشف الماء من الكوب ببطء وبصوت: رشفة .. رشفة: هكذا.

-4-

ردّ ابتسامة الطفل غير الموجود فى ركن الغرفة وقد خيّل إليه أنه  يغمز له بإحدى عينيه، لكنّه أحس بالغيظ يملؤه حين لم يستطع التأكد إن كان قد لــعّبَ للطفل حاجبيه وهو يرد ابتسامته أم لا، ثم إن الطفل راح يواصل لعبه غير مبال وقد خبأ نصف رأسه وراء  الملاءة المدَلاّة التى كان قد شبك أحد أطرافها فى مشبك النافذة نصف المفتوحة، فى حين أن طرفها الآخر كان مشبوكا فى مقبض النافذة الأخرى التى ما زالت مغلقة، والطرف الثالث فى عامود السرير  ليظل الطرف الرابع حرا طليقا يسمح بأن يختبئ الطفل وراءه.

كان  الطفل يؤجل أن تضبطه “دادته” بسرعة فى لعبة ” المسّاكة”. هو يخفى أنه يحبها فوق الوصف ويريد أن يستمتع بخياله وهو ينتظر اللذة التى يتمتع فيها بدفء بدنها وهى تحمله على ظهرها.

-5-

قال  وكأنه يعلن قرار إنهاء الحرب:

الآن، والآن فقط عرفت تحديداً ما أريد، وهكذا أستطيع أن أرسم كل خطوات المستقبل القريب والبعيد بمنتهى الدقة وكل التفاصيل، صحيح أننى تأخرت كثيرا، لكن ذلك كان لازما لأن  القرار الذى أتانى الآن، فقرّرته، كان يستلزم كل ذلك الوقت، فعليه يتوقف مصير اللحظة، وقال:

اللحظة هى كل شىء

-6-

انصفق الباب  خلف ذلك الشخص الأول الذى كان قد أتى بالخطاب البنّى الذى لم يكن عليه طابع بريد، والذى كان عليه خاتم حكومى غير واضح.

عاد  نفس الشخص الذى هو فى الأغلب “ساع” أو مثل ذلك،  يفتح الباب فى تردد حذر، ثم أطل برأسه دون أن يدخل، وكان وجهه ممتقعا وهو  يعتذر مؤكدا:

 “آسف سيدى… لم أكن أقصد” ..”إنه الهواء”.

 *******

(12) ... هيا بنا يا جدى نلعب مثل أمس

-1-

الوقت قبيل الغروب،  وقرص الشمس يتوسط أفق الوعى إذ يتحدد ويلتهب.

ولمّا كان هو يحب “هذا” حبّا قديما شديدا، فقد راح يتبيّن لِم َظلّ يرفض طول عمره وصف ما يفوق الوصف،  حتى لو رسموه شعرا، حتى لو أشرقت فيه وبه أضواء جنونُ فان جوخ شخصيا.

  فكاد يتوارى خجلا أن يضبطوه متلبّسا بكل هذا الاختلاف.

على أنه كان قد سمح لكل الحركات الهامسة التى كانت تتكوّر متداخلة باستمرار باستمرار، سمح لها أن تتجمع الآن أكثر من أى وقت مضى، فتخلّقت قبضة قويّة قادرة على البزوغ فى اتجاه بذاته.

-2-

قرص الشمس يقترب من خط الأفق، ويتوهّج، وتتحدد معالمه، ويهم بالغوص إلى العين الحمِئة،  هذا منظر يعرفه، حضره عشرات المرات، لكنه الآن يجد نفسه فى بؤرته، وهو متأكد أن أغلب ما وُصف به هذا المنظر كان  كافيا لهم، لكنهّ لم يكن  له كذلك أبدا، القرص يزداد دموية حانية، الوهج تتجدد حمرته المصفرة إلى سواد رمادى  يوحى بطيف كامن،  لكنّ رذاذ الأفق لا يتقافز وهو يتناثر عليه.  هو يحب هذا جداً.

-3-

ترتبت السنون فى شكل لم يعمل حسابه أبدا كما بدت له الآن، لم يخطط له، لم يصدّق أنه هو، وإن كان  ذلك راح يتمّ فى هدوء واضح المعالم، لكنّه بلا تفاصيل، كان دائما على يقين من أن ذلك سوف يحدث، بل من أنه حادث فعلا ولم يبق له إلا أن يَظهر، كان ينتظره  أكثر مما كان يتمنّاه، كان واقعا أكثر من أى واقع، حقيقة ماثلة طول الوقت رغم أنه لم يتبيّنها بهذا الوضوح أبدا.

-4-

غاص القرص المتوهج   فتلقاه الأفق حانيا  بلا أدنى شهوة أو شبهة احتواء،  النار التى عبدها بعض البشر بعض الوقت كانت تنتمى إلى هذا الذى يعيشه الآن، ولو أن سيّدنا إبراهيم عاش هذه اللحظات لما استنكر أفول الشمس، أو لعله كان سوف يحبّ الآفلين، دون أن يعبدهم.

 لماذا تهان الألفاظ والأشياء ونحن نفهمها بالمقلوب؟

 لماذا نستعملها من الظاهر؟

-5-

إن الذى سيشرق من الجانب الآخر لن يكون “هو”، ذلك لأنه لا  الشمس تدور حول الأرض، فهذا تفكير جاهل متخلف نسخه العلم  منذ كوبرنيكس، ولا الأرض تدور حول نفسها أمام  الشمس، فهذا سلوك راقصة خليعة شاذة ترتزق. لا بد من حل آخر يضعنا نحن البشر فى اعتباره، حل  يغلّب المنطق السليم، وهو ـ شخصيا ـ  ليس مسئولا عن إيجاد هذا الحل بأى درجة، ولا يوجد سبب واحد يضطره إلى ذلك.

-6-

قطرات الحياة تتجمّع فى بؤرتها المقعرّة وكأنها لم تتفرق وتتلاحق أبدا، هى وحدات أشف قليلا من القطرات، وأخفى،  لم تقل شيئاً جديدا، لكنهّا قالت ما يكفى لتتضح الأمور.

ليكن

فتقدّم نحو مغرب الشمس  ليهمس لها فى خدرها: إنه حزين.

ثم  راح يتذكّر  أشياء كثيرة كثيرة، أخذت تتضح أكثر فأكثر حتى صارت شديدة البساطة والمباشرة.

-7-

قال له حفيده فجأة:

 “هيّا بنا يا جدى نلعب سوياً مثل أمس، كما وعدتنى”.

 ألقى ما بيده، واستجاب له دون تردد.

الجزء الثانى: زووم

حقيقة ما حدث

حقيقة ما حدث

الجزء الثانى

زووووم

(لوحات أخرى)

قصص قصيرة !!

 حقيقة ما حدث…..

-1-

.. قالت “تماضر” إنها تعرف  “ما حدث” بالتفصيل، وإن كانت لا تريد، ولا ترضى، أن تتحدث فيه؛ لأنها لا تقبل أن يتحدث أحد عنها شخصياً بمثل ذلك، خاصة فى غيبتها، وبالتالى، فهى لن تتحدث عما حدث. ثم راحت تحكى وتحكى وتحكى، وكأنها لا تحكى كل شىء بالتفصيل الممل، و كانت على يقين من أنها لم تخالف تحفظها المبدئى…

وأكملت.

-2-

 فانبرت “إقبال” تبرر “ما حدث” مؤكدة أنها لم تكن تعرف، ولم تكن تتعمّد أن تعرف، وأنها لم تدركه بحجمه الحقيقى، إلا بعد زمن طويل جداً. جداً. وحتى الآن، هى لم تـُــلِـم بكل أبعاده، ثم إنها حين أدركت حقيقة ما جرى، وبعد الدهشة الأولى، علمت يقينا أنه لم يحدث  من أصله، أو على الأقل لم يحدث كما صّوروه أو تصوروه .

وصمتت.

-3-

 أما “اعتماد” فإنها لم تبال أصلا بما حدث، وقالت إن المهم هو ما يحدث، لا ما حدث. وقالت إنها تفضل أن يحدث الآن، إن كان لا بد أن يحدث، وإنها خائفة، وإنها تشعر بقشعريرة غير مناسبة، وإنها فى أشد الحاجة إلى ألا تكون وحيدة، وأن تعيش لحظتها هذه بوعى متفجر وطازج، وقالت إنها أخيراً تشعر أنها تستطيع. صحيح أن ما يحدث الآن، ما يمكن أن يحدث الآن، لا يختلف كثيراً أو قليلاً عما حدث، لكنها تستطيع.

ثم تراجعتْ.

-4-

 أخذت تماضر ترسم مثلثـّا بسبابتها على الأرض، ووضعت فى وسطه نقطة غير ظاهرة، فنهرتها إقبال. وتذكرت ـ بدورهاـ كيف أصيبت بالهلع حين وقعت قدمها أثناء ذهابها إلى المدرسة الابتدائية، على الشق الفاصل بين بلاط رصيف الشارع، وكانت حريصة طول الوقت، طول العام، ألا يحدث هذا مرة ثانية أبداً.

 وكانت اعتماد ـ فى اللحظة ذاتها ـ تأخذ شهيقا طويلاً هادئاً، وكأنها ترتشف شرابا شهياً. وطال الشهيق ناعماً عميقاً، حتى كادت تطير من على الأرض بلا أجنحة.

فابتسمت تماضر راضية .

-5-

 وحين عادت “أم محمد” من مهمة التسوّق المحدودة التى قد كلَّفْنَهَا بها، وجدتهن فى هذه الحالة من النشوة والبلبلة والندم والأمل، فلم تذكر لهن ما رأته فى الجمعية التى كانت استهلاكية، مع أنها كانت فى أشد الحاجة لأن تقوله لأى أحد.

نظرت “أم محمد” إليهن مجتمعات يتهامسن بصوت عال، ثم  نظرت إلى كل واحدة على حدة،  وقدّرت أنه لا لزوم لأى كلام،   مادامت الحال كذلك.

المضيفة والطفل

المضيفة والطفل

المضِيفة…، والطفل

-1-

وضعت المكبر الذى كانت تتحدث فيه جانباً. مدت يدها إلى الداخل، فلم تمسك بما كانت تبحث عنه، فخافت أن تخونها البسمة المهنية أيضا. بدأت جولتها فى طرقات الطائرة تتأكد من ربط الأحزمة وسعادة الجميع. الرحلة السابعة والثلاثون بعد المائة، هكذا أعلنوا منذ قليل، لكن هذه المرة ليست ككل مرة. من أين تأتى المشاعر الجديدة الصعبة؟

حين سألها رئيسها عن صحتها، وعن آخر إجازة قامت بها، شكرته، لكنها بدأت تفكر بلا طمأنينة، ولا أمل قريب.

-2-

الطائرة تعلو فى انسياب، القائد رائق المزاج، رقيق القلب، تمضى عارية فى الطرقات على الرغم من الابتسامة الحجاب.  هذه المرة  ليست مثل كل مرة، بل هى قراءة جديدة لما يحدث كل مرّة،  لم تكن تتصور أنه سيعود يلاحقها بين السماوات السبع. تصورتْ ـ فى بادىء الأمر، وصح تصورها لفترة ليست قصيرة ـ أن السماء أخفى مهرباً وأرحم وطأة من أشواك الأرض ونَزْفِها، أعفتها شروط المهنة من التهديد بالزواج؛ علاقات مؤقتة عابرة، وجوه سريعة متغيرة، موقف معلّق، وسحابٌ صديق، فما الذى جرى ليجعل الأمر هذا الصباح بهذه الصعوبة؟ تحتاج اليوم إلى جهد لم تعتد أن تبذله لمثل هذه المواقف المعادة السهلة. تتحرك اليوم بصعوبة، توزع البسمات والعصير المعلب من المصدر ذاته، وبالروح نفسها، بدت متعجلة ـ من الداخل ـ لتنهى المهمة، ربما قبل أن يفرغ إطار الوجه من هواء الود المضغوط.

-3-

 أثناء مرورها بجواره، ودون سابق إنذار، تعلَّقَ بيدها فى شقاوة تلقائية حانية، طفل فى الخامسة، جلس بجوار الممر على غير ما اعتادت بالنسبة إلى الأطفال من سنـّه. نظر فى وجهها فاعتراها حياء غير مناسب. لاحظت أن سنتيه الأماميتين مفلوجتان، تساءلت: إن كان صحيحا أن بعينيه آثار دموع، على الرغم من وجهه المشرق بالبسمة الغامضة؟ خطر ببالها ـ دون إصرار ـ أنه حزين، طفل فى الخامسة حزين، لم ذاك؟.

(تستطيعون أيها السيدات والسادة أن تشاهدوا على اليمين كذا وكيت. نحن على ارتفاع كذا ألف قدم، ونعـبر الآن المكان الفلانى…).

ناداها الصوت، فانسحبت إلى مقعدها بمؤخرة الطائرة، وتركت نفسها تسقط فيه مرة واحدة. خلعت البسمة، وأشعلت سيجارة، أخذت تلتهمها شبقاً، فبدا أنها لم تنفعها.

-4-

نظرت فى اللوحة المستطيلة تتشكل أمامها، حسبما اعتادت، فبدت خالية صامتة. منذ سكنت السماء، صاحَبَتْ قرصَ الشمس وصمتَ الهواء الهامس الرحيم، وعرفت كذلك لون الظلام، لكنها خسرت إيقاع الزمن. الشمس من هذه النافذة لا تقول الشىء ذاته، تتركها وهى تتوارى هنا فتظهر لها بعد ساعات مكتملة، وكأنها رجعت فى كلامها “استغماية”؟ اختلطت فيها عقارب الزمن بعقارب الأحداث، فتداخلت الأيام والليالى وأنفاس الناس، ولم تعد تخاف من صوت الصنبور المهمل إغلاقه ليلا وهى تمضى ليالى إجازتها المتفرقة وحيدة  غريبة. كأن وجودها فى منزلها أصبح هو السفر، هو الاستثناء.

حلّت لزوجة  وقائية محل الخوف المبهم ، لزوجة التفت حول  وعيها  فى رجرجة غثيانية غامضة.

-5-

رن جرس الاستدعاء فى عنف نسبى، فنظرت إلى اللوحة، وانطلقت فى شبه عدو؛ حين تذكرت أن الرقم المضىء يشير إلى حيث يجلس الطفل ذو الأسنان الفالجة والعيون الحزينة. وحين وصلت، وجدت الأم تحتضن رأس ابنها، وتميله إلى صدرها، عيناه مفتوحتان وهو يحملق فى لا شىء، وكأنه لا يرى. طلبت الأم منها فى لهفة واثقة أن تحضر ملعقة ملفوفة بقطن كثيف لأن النوبة قد تجىء، لم تفهم لكنها أسرعت عدواً دون سؤال. أحضرت ما طـُلب منها أو ما شابه، وحين عادت وجدت الطفل يحدِّث أمه وكأن شيئا لم يكن، كادت تحتج وكأنها خُدعت. طمأنتها الأم بأن الأمور أحسن، وأنه ـ أحياناـ تأتى البداية؛ ثم تُجهض دون نوبة، فالولد مواظب على الدواء، لم تفهم شيئاً مما قالته الأم، ولم تهتم أن تفهم أكثر، فلم تسأل تستوضح، وظلت ساكنة لحظات، وكأنها تحتج أو تعاتب. ربّت الطفل على ذراعها فى حنو والدىّ جعلها تتخلص من كل مشاعر احتجاجها مرة واحدة. طلب منها الطفل فجأة أن تصحبه ـ دون أمه ـ إلى الركن الصغير يقضى حاجته، فَرِحَتْ، ورحـَّبَتْ، وطمأنت الأم، فاطمأنت باسمة بشكل غير متوقَّع.

مضيا ممسكة بيده الصغيرة وإذا بها تضبط ذلك الإحساس الطازج الغامض الذى أيقظها يوما على أنوثتها، فتعجّبتْ، ورضيتْ، وابتسمتْ، ورفضتْ، حتى أوصلت صديقها الصغير الجميل إلى حيث أراد. دخل وحده، وأصر على إغلاق الباب من الداخل، خفق قلبها بعنف: ماذا لو جاءته تلك النوبة المزعومة التى لا تعرف عنها شيئا، وهو وحده بالداخل، والباب مغلق؟

لم يطل انزعاجها، فقد فتحَ الباب مبتهجاً، فتنهّدت فى شهيق بدا كأنه ليس بعده زفير، وقالت لنفسها إن الله  قادر على كل شىء، وفى نفس الوقت رحمان ورحيم . جدا.

-6-

جذبته إلى ركنها، وأجلسته على حجرها، وحاولت أن تبادله حديثا، أى حديث، فزاغ بعيدا عن حب استطلاعها. لم تيأس، وواصلت فى إصرار. سألته عما يشكو منه، أجاب ببساطة مزعجة إنه يشكو من أن الكبار يتكلمون كلاما كبيرا، ثم يفعلون عكسه تماما، وأنه يصدقهم، لا يعرف لماذا!

حاولتْ أن تستعيده، فقفز من حجرها، ومضى إلى مقعده مسرعا ملوحا بيده. كادت تصرخ فى عدوًّ مجهول، أن يبتعد عن الأطفال.

-7-

حان وقت المرور والابتسام والانحناء. وكل ما يشبه تلك الأشياء. دق قلبها حين اقتربت من مقعدهما، وجدت صديقها  قد أراح صدره على صدر أمه، ونام مبتسما، ووجهه ينطق بما لا يخفى.

سألت  أم الطفل بشكل مهنى يخفى حقيقة مشاعرها.

 ـ  كيف حاله الآن؟

ردّت الأم بنبرة لا تدل على شىء:

 ـ  بخير، شكراً.

 ـ  لكنه قال كلاماً، كبيراً، أقصد…

قاطعتها الأم:

 ـ  لا عليك، قبل النوبة أو بعدها يقول ما لا يناسب سنه، فعذرا. لكنه سرعان ما ينسى ما قاله، هو يقول أى كلام على كل حال.

 كتمت احتجاجها ، فاستطردت الأم، وقد بدا عليها مزيج من الشفقة والطمأنية والسخرية

 ـ  يقول الطبيب إنه حين يكبر سيعقل،  وينسى، مثلنا، سينسى كل شىء.

رددت وراء الأم بلهجة بين السؤال والتعجّب وكأنها تحدّث نفسها:

ـ كل شىء.؟!

ثم تراجعت  إلى مقعدها، وجلست فى انتظارٍ بغير معالم.

 نظرت إلى اللوحة المستطيلة الفارغة، وترجـّتها أن تتشكل.

 أى شكل يمكن أن ينقذها، لا بد من شكلٍ ما، أى شكل يكفى الآن. أشباح سحاب، ظل سماء، أوهام دخان.

ولكن أبدا.

ظلت تحملق منتظرة بيقين متجدد.

 أخيرا أطل عليها قرصٌ دموى يسبح فى نار جليدية، فلم تتساءل إن كان شروقا أم غروبا.

 كادت تطمئن هى الأخرى من قبيل اليأس.

ولم تبتسم.

الحلقة والمضرب

الحلقة والمضرب

الحلقة والمضرب

 يوم السبت:

 خسر عبد القوى أفندى سكر، أمام صديقه إبراهيم النبال، العشرة الثالثة على التوالى، وكانت باثنتين؛ كان يأمل فى التعويض، وحين جاء موعد الانصراف، أخذ عبد القوى صديقه إبراهيم بالحضن، وكأنه قادم وليس منصرفا، لم ينتبه إلى ما فعل إلا بعد أن ضحك الجميع، فضحك معهم، يدارى خجله فى الأغلب.

 يوم الأحد:

دعا عبد القوى صديقه إبراهيم لزيارته بالمنزل، وأصر على ذلك هذه المرة. وهو لم ينس أبدا  التحفظ الصامت المتبادل  من الجانبين، كما أنه  لم يفهم، ولم يحاول أن يفهم،  لماذا يرفض إبراهيم زيارته بإصرار، برغم أنه لم يخبره أبداً بنفور زوجته من سيرته؛ فهى تغار من صداقتهما، مع أنها لم ترَ وجهه أصلا، وهو يحبهما معاً حباً شديداً.

 يوم الأربعاء:

 أخبر إبراهيم صديقه عبد القوى، أنه قرر أن يقبل دعوته، وأنه سوف يمر عليه يوم الجمعة قبل الصلاة، يشربان الشاى، وينزلان إلى المسجد معاً؛ ففرح عبد القوى، وحـَضَََرتْهُ فرحة يوم الوقفة الصغيرة من ثلاثين سنة.

 يوم الجمعة:

 سافر عبد القوى فجأة. كان سفره اضطرارياً، فلم يتمكّن من إخطار صديقه إبراهيم؛ لتأجيل موعد الزيارة. وهو لم يهتم كثيراً بذلك؛ فالبيت بيته، هذا إذا حضر أصلا.

 يوم الأحد:

 كسب عبد القوى عشرتين متتاليتين من صديقه إبراهيم ـ لأول مرة ـ ففرح وقفز وضرب بيديه فى الهواء، مثل طفل انتشى، بعد أن اطمأن للماء الدافى فى الحمام.

 ذات  ثلاثاء :

 وُجد فى أوراق عبد القوى أفندى سكر خطاباً غريباً يؤكد فيه:

 أنه لم ينتحر.

 وأنه مسامح.

 ثم أكّد مرّة أخرى: أن ميتته هى “موتة ربنا”.

…..

  وهل قال أحد غير ذلك ؟

العجوز والخيط

العجوز والخيط

العجوز والخيط

-1-

 كانت تجلس بجوار النافذة نصف المفتوحة تنظر إلى الشارع الخالى، وأنت لا تستطيع أن تعطيها سناً محددة؛ فقد تكون فى الخامسة والسبعين، أو حول الخمسين أو طفلة فى الثالثة من عمرها تتعلم كيف تصنع فستانا ورداء لعروستها الجديدة. كانت لحظة من لحظات الزمن الوديعة، برغم كل هذا السكون أو بسببه. كانت وداعتها أشبه بغروب يوم مطير بعدما انقشعت غيومه؛ إذ غسلت بمائها أدران البشر وتلويث الطبيعة. جلست بجوار النافذة العريضة الممتدة من الجدار إلى الجدار والتى تكشف عن بعد من قد يروح أو يغدو، على قلة من يروح ويغدو فى هذا الحى، فى هذا الوقت. وضعت على حجرها ثوبا ما، ليس بالجديد، ولا بالبالى، وأمسكت بيدها اليسرى تلك الإبرة الصلب رافعة إياها بمحاذاة مستوى عينيها وأحيانا فوقها، وأخذت تحاول باليد الأخرى أن تدخل الخيط الرمادى فى ثقب الإبرة. الخيط يأبى أن يدخل، ينثنى مرة، ويفلت إلى هذا الجانب أو ذاك مرات، تضعه فى فمها وتبلله بريقها، تفرده بضغطة خفيفة بين شفتيها، تعاود الكرة “أين أنت يا ابنتى؟” ليس فى الدنيا عندى أفضل من أن أراك تهنئين وسط أولادك مع زوجك. هو لا يحبنى، ولكنى أحبك، وأحبه من أجل خاطر عيونك،  … يا ترى هل أنت هانئة فعلا؟ من أدرانى؟. من زمن لم أرك، قلبى يحدثنى أنك تُخفِين شيئا، وها هو الخيط يأبى أن يدخل ثقب الإبرة، لا… بل دخل أخيرا هذه المرة، أكاد أرى طرفه يخرج من ثقبها فى الناحية الأخرى. نعم. . هو ذاك.   الإبرة تهتز ويدى تهتز، أضم المرفق إلى جنبى؛ حتى أتمكن من التقاط الخيط باليد الأخرى، ولكن الأخرى تهتز أكثر. هاهو الخيط قد خرج على كل حال. خرج الخيط يا ابنتى والإبرة تتحرك إذا تحرك، استقر فى ثقبها يقينا. لم أكن واثقة إن كان طرفه قد دخل أصلا إلى الثقب، أم أن نظرى خدعنى منذ البداية، ولا أنا أدرى إن كنتِ سعيدة مع زوجك؟ أم لا،  مادمتُ مازلت قادرة على لضم الخيط فالدنيا بخير، وربنا ليس أكرم منه،  لن ألبس منظارا على آخر الزمن، هل سأقرأ الصحيفة أم سأوقع على الشيكات؟ هذه العوينات للأفندية على المعاش؛ ليثبتوا أنهم كانوا يشغلون منصبا ما، وأنهم لم يولدوا على كراسى القهوة. نعم كانوا موظفين وتليق عليهم العوينات، بل إنها قد تزينهم حتى يبدو الواحد منهم مفكرا أو مهما، أو مهموما، لكن أنا؟ لا أمى لبست منظارًا ولا جدتى، فلماذا أنا؟ أين أنت الآن يا ابنتى، قلبى يحدثنى أنك ستحضرين، وها هو الجرس يدق، ألم أقل لكم؟ صبى القمامة، أخذ القمامة، والبواب أتى بالخبز، فلابد أن الطارق هو أنتِ. كم أحتاجك الآن بوجه خاص؟ كم أنت كريم يا رب.

-2-

 قامت إلى الباب وفتحته، ووجدتها هى بلحمها ودمها، ابنتها حبيبتها، لم يكذب حدسها، فغمرتها فرحة طفل وجد أمه فى زحمة السوق، بعد أن تاهت منه، أو تاه منها، أدخلتها وأجلستها ومسحت عن جبينها عرقها، وقبلت رضيعها النائم على كتفها، وسألتها عن زوجها، وعن أسعار مسحوق الغسيل، وماذا تبقى من الدجاج فى المبرّد، وأوصتها ألا تنسى أن تأخذ معها عند انصرافها زوج فراخ، استطاعت أن تحتجزه لها من الجمعية المجاورة، كالعادة.

 وحين ذهبت البنت والرضيع لترتاح فى حجرتها التى لم تستعملها  أمها، ولم تغير محتواها منذ زواجها، اكتشفت الأم أن الخيط قد تسرّب خارج الإبرة ، فلم تبتئس، وراحت تعاود المحاولة بإصرار أكثر مما سبق، وإن كانت قد تشاءمت قليلا، ثم كثيرا بغير سبب واضح، لم تكف عن المحاولة ـ طوال نوم ابنتها ـ بلا نجاح أو يأس. تتصور ـ دون وعى كاف ـ أنها لو نجحت فلن  يلحق ابنتها ولا طفلها مكروه طالما هى على قيد الحياة، وربما بعد ذلك أيضا،  ربنا ليس أكرم منه.

لمحت عبر النافذة طفلا يلعب مع أخته (هكذا أصرت أنها أخته دون أن تعرفها، أو تميزهما بدرجة كافية).

 فضحكت فى سرها ضحكة صافية.

خفّت حدّة التشاؤم رغم أن الخيط ظلّ عصيا على العودة إلى ثقب الإبرة.

-3-

 انصرفت الابنة ـ بعد استيقاظها ـ مباشرة وهى متعجّلة معتذرة عن عدم الانتظار للعشاء؛ لأنها مدعوة مع زوجها إلى وليمة ما. قبلت الأم العذر للتو، فقد تعودت ـ فى الشهور الأخيرة ـ أنه لا فائدة من الإلحاح فى هذا الزمن اللحوح. سألتها الابنة ـ فى صدقٍ حان ـ إن كانت تريد شيئا؟. أجابت الأم: أن “لا .. أبداً.. غير سلامتها” كررت الابنة السؤال، فكررت الأم الشكر والرفض، وقامت تودعها إلى الباب بعدما شبكت الإبرة بجوار الياقة، ثم ألقت ما بيدها وما على حجرها على الكرسى بجوارها.

نظرت الابنة فى عين الأم و وهى واقفة بفتحة الباب وكأنها تريد التأكد أن أمها لا تريد شيئا منها بحق. أو كأنها تريد أن تقنع نفسها بذلك، والأم تعاود الإجابة بالرفض والشكر، وهى تناولها الكيس،  وفيه الفرختان المجمدتان.

-4-

رجعت إلى جوار النافذة، ولم تلمح الطفل أو الطفلة فى الشارع. جمعت كومة الملابس القليلة من على الكرسى المجاور. التقطت الخيط الرمادى بصعوبة من بين ثنيات الثوب، ولكن الإبرة كانت قد تاهت حيث لا تذكر على وجه التحديد أين شبكتها؟ أخيرا وجدتها مغروسة بجوار الياقة مباشرة.

أشرق وجهها، وعادت تحاول من جديد.

اليقين

اليقين

اليقين

-1-

لابد أنه “هو”، وإلا فمن يكون؟. العين بالعين، واللمس بالذبح، والجرح بالقتل، ولا رجولة إلا للرجال. نعم .. لن يمسح هذا العار إلا القتل، قتله “هو” بالذات، على وجه التحديد، وعلى الملأ أيضا. الأمر فى غاية البساطة؛ إذ لا يوجد فعل بغير فاعل، وإن اختفى الفاعل، فهو ضمير مستتر تقديره “هو”.

 “هو” لم يحاول حتى أن يستتر، “هو” الذى سـَخـَر، و “هو” الذى ألمح، و “هو” الذى صرّح، و “هو” الذى فعلها بوقاحة، وعلانية.

 فليكن القصاص رادعاً.

-2-

دخل أبوه وقد رسم على وجهه ابتسامة والدية واثقة، وفتح الحديث مباشرة وكأنه يكمل مناقشة لم تنقطع. كان الوقت صبحاً، ومازال فى الوقت متسع لبضع دقائق لشرب القهوة.

 ـ  ليكن يا بنى، ولكن دعنا نذهب لنرى، والمقابلة عن قرب، غير زحمة طابور الصباح.

رد الفتى فى هدوء المؤمنين الجُدد، فكرر كلامه بلا أدنى تغيير.

كاد الوالد يدرك أنه يستحيل أن يفهم، فامتنع من فوره عن الوعى باحتمال عدم الفهم، واستبدل كل ذلك بحركة منتظمة وهو ينقـر فوق مقدمة كرشه، المائل على جذعه فى استقرار واضح. تبادلت الأصابع الحركة، وكأنها تستلهم هذا الانتفاخ المفكر أن يلد حلا لمسألة لم تُطرح أصلا بوضوح كاف، فمضى يكمل دون تلكؤ:

 ـ  أنت تقول بنفسك أن أحداً لم يلاحظ إلا أنت.

 ـ  حصل.

ـ إذن، كيف تحكم على برىء بهذه القسوة والسرعة والحسم. ثم إنك لم تخبرنى بما حدث تحديداً.

 ـ  المسألة مسألة كرامة. جَرْحُ الكرامة قتلٌ مترصد. هل فى ذلك شك؟

قبل أن يعقّب الأب ، مضى الفتى يكمل :

ـ لم يعد مجال للمراجعة، ولا براءة للقتلة.

كاد الوالد يهم بالكلام  من جديد لكنه لم يفعل،  وتزايد يقينه ـ هو الآخر ـ بما لا يدرى، فأنقذه ابنه بالوضوح ذاته.

 ـ  ثم إنى لا يهمنى التأكد من الفاعل، مادمتُ متأكداً من الفعل.

لاحت ثغرة، فعاود الوالد حماسه،  وعدل عن التراجع، ولكنّه لم يضف شيئا جديدا.

-3-

التفت الفتى دون قصد إلى الباب المفتوح؛ حيث يظهر جزء من الصالة، وقد تكومت كراسى المائدة فوقها فى زحمة مؤقتة، فلاح من الفتحة ردْفان متوسطان، وقد انحسرت مؤخرة الثوب عن مؤخرة الركبة، فلاحظ كيف تُلامس أصابع الموز طبق اللبن، وانبعث لحن شهى من البوق العاج، لم يحاول الفتى أن يلغيه  بأىة ضوضاء مضادة. النصف الثانى من الجذع كان قد انحنى فوق الخيشة وهى تتحرك ذات اليمين وذات اليسار فى رقصة كونية أخرجها فاطر السماء والحبوب والقلوب. أما الشعر الأسود الفاحم، فكان يحيط بكل الرأس، من كل جانب، ويتمايل مع حركات المسح فى اتساق متناغم.

-4-

 طال الصمت داخل الحجرة حتى كاد الوالد يعتقد أن الأمل الذى لاح قد تزايد إلى درجة تسمح بمواصلة الحديث. فراح يعاود المحاولة:

 ـ  نذهب معاً، وسوف ترى بنفسك.

 ـ  اتفقنا.

تردد الوالد فى أن يفرح من مفاجأة هذا التحوّل العكسى، لكنه لم يحاول أن يتراجع أو يتأكد، فنادى ابنته ـ فتاة الصالة ـ يتعجل قدح القهوة، ولم يستطع مع ذلك أن يحافظ على تحفظه:

 ـ  اتفقنا على ماذا؟

 ـ  مادمت حضرتك مصراً. فإذا ثبت أنه ليس هو، فلابد أنه “حضرتك”.

-5-

تمالك الوالد نفسه حتى لا يقفز، وساعده فتح بقية الباب فجأة؛ لتدخل الفتاة تحمل صينية القهوة، وقد أشرق وجهها ببراءة طفلية رحبة. لم تستطع  الطفولة أن تخفى ترحيبا أنثويا دافئا سلساً لكل قادم دون تمييز. لاحظت الفتاة سهو والدها، فنبهته ألا ينسى القهوة حتى تبرد. التفت الوالد للولد، وكأنه التقط تفسيراً جديداً.

 ـ  لابد أنك …..

ولم يكمل.

رد الفتى وقد علت شفتيه ابتسامة أخرى ، ويقين جديد:

 ـ فعلا،  لا بد أن الأمر كذلك.

زادت ابتسامة الوالد قسراً  بعد أن صوّر لنفسه أنه قال شيئا وأن الولد وافقه عليه . انقلبت الابتسامة إلى ما يشبه الضحك، ظهرت أسنانه لتستدعى قهقهة خافتة، فراح يصدق نفسه، وهو يرتشف قدح القهوة فى سرعة لاهثة، رفع يده ودق بها على ظهر ابنه دقة واحدة متوسطة الثقل، وانصرف بسرعة، قائلا بوضوح شديد:

 ـ  يا شيخ  !!!  قل ذلك من الأول …!!!؟.

وانصرف وهو يعتقد  أنه فهِمَ . وأنه نجى.

مقعدان

مقعدان

مقعـدان

-1-

 “… كذا رضا”.

قالها وكأنه يحدث نفسه.

 كانت قبضته تمسك برأس عصاه فى ثقة، مثل طمأنينة صديقين مزمنين إلى بعضهما البعض دون حاجة إلى شهادة ثالث، كان قد أسلم ظهره لشمس لا تغمر إلا نصف المساحة أمام المقهى. شمس أوحشته منذ ثلاثة أيام بالتمام، ثم هاهى قد حنّت على الكون برغم أنف مصلحة الأرصاد.

قال وهو يحدث نفسه:

“قوى.. قوى.. هو القوى، هكذا رضا، و.. زيادة”.

ردّ صوت آخر آت من الجالس خلفه على بعد خطوتين (يبدو فى  السن ذاتها) محافظاً على مسافةٍ ثابتةٍ تعلن حدود الأمان:

“ربنا يقوى إيمانك”.

رد الرجل الأمامى متحفزاً، دون أن ينظر خلفه:

“ما باليد حيلة.. ومن لا يعجبه يشرب من البحر”.

يأتى صوت “الرجل الآخر” من الخلف:

“كلام كما الترياق. فقط لو…”

-2-

 يدق الفتى ماسح الأحذية على جنب الصندوق بالفرشاة، فيشير الرجل إلى قدميه دون كلام. يفرد الصبى تحت رجليه مساحة من الورق المقوى، يبدو أنه كان صندوقا لشىء ما، ثم فتح على مصراعيه دون عناية. ينظر الرجل الجالس إلى قدميه، ويحاول أن يتهجى الحروف المتبقية على الورق المقوى: مالــ.. مالـــر.. مالربو … هاهى. نعم. . هى سجائر الغزاة الجدد، ولكن لماذا قفز ثمنها إلى هذا الرقم الخيالى، دون زيادة حادة فى المعاشات؟. من لا يعجبه يشرب من البحر فعلاً، أو يحافظ على صحته مُـرغماً.

-3-

 تمر الصغيرة السمراء، وقد حملت كتبها فى حقيبة محظوظة، تضغط بها فوق صدرها، فيكاد ينبعج ثدياها كل إلى جانب، لولا مرونة اللحم الشاب الطازج. ينظر الرجل الجالس إلى الساعة بطرف عينه؛ ليقفز خاطر خبيث “إلى أين يتبختر الغزال الأسمر، والميعاد ليس ميعاد المدرسة، لا ذهاباً ولا إياباً؟” كم هو مشتاق إلى أن تكون له أم صغيرة مشتهاة، نعم”. . أم “و”صغيرة لا تتجاوز الثمانية عشر. لو حدث هذا لعاد يرضع منها كما صغار العجول الرقطاء، ولزالت الآلام الروماتيزمية مرة واحدة.

-4-

يفيق على دقة ماسح الأحذية، على جانب الصندوق، فيمد رجليه باستسلام، ويضع قدميه فى الحذاء اللامع دون رغبة واضحة. تعود أفكاره إلى داخل رأسه مختنقة، حتى ليكاد يربط بين حركة أصابع القدم الطليقة، وحركة الأفكار الحرة؛ فتتململ الأصابع داخل الحذاء اللامع.

-5-

 يتكلم “العجوز الخلفى” وكأنه قد اقترب قليلا دون استئذان، فيسأل “العجوز الأمامى” عما فعل صاحب العمارة الجديدة المقابلة التى أصبحت تحجز نصف الشمس، عن نصف المقهى.

 ـ  اللجنة عملتها بخمسة وخمسين بعد اثنين وتسعين، ومتظلم.

 ـ  معه حق، المبانى تتكلف هذه الأيام، هذا ظلم.

 ـ  ليكن، لكن من أين يأتى الشباب بالنقود؟

 ـ  لا حل إلا فى عقد عمل أو إعارة.

 ـ  البنت  سافرت  مع  زوجها، ولم  ترسل  حساً  ولا خبراً.

 ـ  الدنيا مشاغل.

 ـ  لابد أن النذل زوجها منعها خوفا من الطلبات.

 ـ  الله الغنى يا شيخ.

 ـ  “فشر”… هى وهو على “هذا”، لو كان الأمر كذلك.

-6-

 يسود صمت جديد قديم، وكأنهما لم يتكلما أصلا. يتسحب الرجل الخلفى إلى الخلف، كما لو أنه كان قد تقدم أصلا، فتعود المسافة كما كانت (بالضبط)، وبجوار كل منهما كرسى خال.. ومنضدة مستديرة من الصفيح الصدىء.

تتسلل الأفكار فى رحاب دفء الشمس، وكأنها صف كتاكيت يتبع أمه فى نظام “.. هانت، والجنة تنتظر الصالحين بعد حسن الختام، ثم إن رحمته أكبر من أخطاء البشر. أعظم ما فى الجنة هو قلة الكلام، واختفاء الرؤساء، ووفرة الحور العين، ولكن أين ستذهب أم الأولاد؟. (ذلك لو دخلت الجنة أصلا، ألم يقولوا إن أكثر أهل النار من النساء؟) أقول لنفسى: يا ترى لو أغنانا الله عنها بالحور العين، فماذا هى صانعة فى هذه المسألة؟ حتى لو رجعت حورية، فإن نفسى تهفو إلى الأخريات ممن لا أعرف، أليس هذا أضمن؟ إذ من أدرانى ماذا ستفعل هناك ، بعد أن تزهو بنفسها وكأنها حورية فعلا، ثم إن الجنة نفسها لا يمكن أن تغيّر من  طباعها، وهى معتادة دائماً … دائماً معتادة” . . دائمًا والعياذ بالله. ومع ذلك فما يشغلنى هو احتمال وجود حور من الذكور، كله جائز، ولا خطر على قلب بشر، يا خبر!! ما هذا؟

ـ إستغفر يا غبى إيش أفهمك أنت فى أى شىء..

ـ وأنا مالى؟ تدابيره تفوق تفكير أمثالى.

-7-

نظر فى استقامة أمامه، فرأى عربة الفول الصغيرة، وقد اصطف حولها صبية المحلات يفطرون وقوفاً فى انتظار فتح الورش؛ حين تحين ساعة الانضباط. وتساءل عن هؤلاء الشباب الذين لا يركعونها، والذين لن ينالوا دنيا ولا آخرة، راحت عليهم بين الأرض والسماء، يا حبة عينى.

وبالرغم من هذه الشفقة الواخزة العاتبة، فقد ظل وجهه مبتسما، إذ خطر له ـ يقينا ـ أن الله سبحانه لابد سيكون أعدل، وأرحم من الحكومة، وأمريكا، وروسيا، والصين، وشيوخ الإمارات، وفاتورة الكهرباء

محاولات

محاولات

محاولات

-1-

 أمسك عادل بمضرب كرة الطاولة، وأخذ يحاول أن يضرب الكرة كما شاهد أخاه فؤاداً يفعل. لكنه خشى أن يكسر البيضة فيـنْساب محتواها على ملابسه، فلا يمر اليوم بسلام. فعدل غير آسف، واتجه إلى أمه وهى منهمكة فى مهمة غير مسبوقة فى المطبخ. تيقن من انشغالها، ورجح أنها لن تستجيب لطلبه، فلم يحاول أصلاً. وحين خرج مندفعاً كاد يصطدم بأخته الصغرى،  رأى وجهها وقد تلطخ ببقايا حمراء من إصبع “الروج”؛ حين لم تستطع أن تحكم الإمساك به حتى لا يتجاوز شفتيها.

-2-

 أما أم عادل (الحقيقة أن اسمها أم فؤاد) فقد راحت تقرأ من ورقة فى يدها، كانت قد كتبتها بحرص شديد من برنامج “لك يا سيدتى”. وبرغم أنها كانت غير مقتنعة تماماً، بعد فشلها ثلاث مرات سابقة. وبعد أن تجرأت وكلمت المذيعة فى التليفون كما يسمح البرنامج، وصححت المقادير، زاد تصميمها أن تجرب للمرة الرابعة، مهما كانت النتيجة.

-3-

أثناء ادعائه الانهماك فى القراءة، كان الأستاذ عبد السميع (أبو فؤاد) قد ترك أصابعه تحاول النقر على سطح المكتب، وهو يعلم تماما مدى إزمان عجزه عن إخراج الهواء من فمه؛ فى شكل صفير منغم، وأنه منذ ثلاثين سنة قد اكتفى بصفير خافت مبتور يصدر حين يشفط الهواء  بشفتين لا يعرف كيف يغلقهما إلا قليلا،  وهو ما زال يذكر ابن عمه، وهو يصفر بفمه موسيقى “الربيع” كلها لفريد الأطرش. كان ذلك ا قبل أن تفسد أعمدة الكهرباء ذلك السحر الفضى المنساب من القمر فوق سطح منزلهم فى طوخ طمبشا، وكان الضوء يتلألأ مختلفا مع كل  مقطع من مقاطع الأغنية، “كان القدر راضى علينا حنوَن، وكان القمر جماله يسبى العيون”. وعلى الرغم من هذه الغيرة من ابن عمه هذا ذى الشعر المسبسب، ذى الحظوة عند فتيات العائلة وغير العائلة، إلا أنه لم يتمالك نفسه من الإعجاب به.

ـ4ـ

جاء صوت المؤذن فى مكبر قبيح الحشرجة أن “الصلاة خير من النوم” فتردد الصدى أجمل من الصوت ألف مرة

 وكان فلاح مصرى جداً يدفع الحجر رقم اثنين وثلاثين، بعد الأربعمائة من الألف الثمانين: وهو يكمل بناء ما يبْنِى، فنظر فى اتجاه صوت المؤذن باسماً ساخراً وقال نافخاً صدغيه المتورمين من سوء التغذية :… “جرّبنا ده وجربنا ده”” .

عربى والثقب الأزرق

عربى والثقب الأزرق

عربى “والثقب الأزرق

-1-

قفز عربى من العربة، وأخذ يوجه قائد سيارتنا  الذى كان يخفى خوفه بزهو وإشارات موافقة،  كانت الفجوة بين الجبل وبين الصخرة  على شاطئ خليج العقبة شمال “عصلة” مباشرة ضيقة والأرض وعرة بما يبرر هذه الأناة كلها. وكان يمكن أن نركن العربة قبل الموقع بعدة أمتار ونتجنب هذه المغامرة، لكن هذا المرور من هذا الممر القصير الضيق كالـثقب  كان من أهم طقوس زيارة هذا الموقع، وحين عبرت العربة إلى رحم الوادى، لم يكف عربى عن الكلام والإشارة والشرح والتوجيه، كان شابا نحيفا ً، شديد القفز، واضح الإشارة، حاد الانتباه، خفيف الظل، لا يفرض نفسه مع أنه لا يكف عما يفعل. لم يكن يرتدى  سوى سروالاً تحتىاً طويلاً كان ـ فى يوم من الأيام ـ له لون أبيض.

-2-

 العجيب، كما قال عربى، واضطرّنا أن نصدقه، أنه لم يكن بدويا من أهل المنطقة، قال إنه يعيش الآن فى القاهرة. لم يقل أين؟ مع أنه أصلا، هكذا أكّد لنا من جديد، من الفيوم، ووالده  ما زال هناك، وإنه وُلد بعد أن غادر اليهود المنطقة بأربع سنوات ـ عمره 71 سنة الآن ـ  فكيف يذكرهم؟ (كان يرد على سؤال  أحدنا) ـ وقال إن له  أصدقاء  كثيرين هنا، وهو يحضر لزيارتهم والإقامة والعمل معهم كثيرا لكنّه لا يقيم هنا بصفة دائمة، ولم يقل لنا ماذا يفعل بين حضوره وحضوره؛ وقال إنه يتعلم اليهودية (العبرية) والألمانية حين يحضر،  ويقوم بدور الدليل دون مقابل أحيانا ـ كما يفعل معنا هذه الليلة ـ  وراح يحكي وتاريخه يقفز مع حكيه، ولا أحد يصدق كل هذا الذى بدا عكس مظهره، ولون بشرته، وتقديرنا لموطنه الأصلى. بدا لنا يقينا صبىاً بدوىاً من أهل المنطقة لا أكثر ولا أقل، وأنه يعمل بهذه السياحة الخاصة المشهورة فى عسلة، وأنه مؤهل للعمل فى السياحة”الحميمة جدا” قريبا جدا.

-3-

 جلس عربى فى صندوق أمتعة السيارة وهى مفتوحة، فافتقدنا حضوره وطلاقته ووصفِه لحوار الظلام مع ضوء القمر. وأثناء عودتنا، لاح ضوء بعيد على جانب الطريق غير الممهد (المدق)  فتوقفنا، فقفز عربى يسأل إن كان قد أصاب العربة ما استدعى الوقوف. وكنا فى حاجة إلى أن نسأله نحن عن هذا المكان، وهذا المبنى، وهذا الضوء، وهؤلاء بضعة النفر الجالسين أمام المبنى، حول المائدة يتسامرون  أو …، أو ماذا يا عربى؟

ردّ عربى بلا تردد، وراح يفتى  عن الغطس، وعن الثقب الأزرق، والنفق المرجانى الذى على عمق “كذا….”، والذى طوله “كيت…” وحكى لنا عن الألمانى المفقود من أربع سنوات، وعن زوجته التى تحضر كل عام مصرة على أنها ستلقاه هنا، وقال إننا يمكن أن نتناول باردا أو ما نشاء، وجلسنا على مائدة أبعد قليلا من موقع بضعة النفر سالفى الذكر،  وراح عربى يذهب ويجىء بيننا وبينهم، فإذا ذهب رطن  كأنه يتحاور معهم، وإذا عاد شرح وكأننا نفهم ما يريد.

وسأله أحدنا:” لماذا؟”. فسأله عربى بدوره: ” لماذا ماذا؟”  وكأنه لا مكانهنا  لمثل هذا السؤال أصلا، ألمان. . ألمان، ويهود أيضا، كانوا ألماناً أو كالألمان،  يغطس الواحد منهم فى منتصف الليل  إلى عمق البحر، ويمضى بين شعب المرجان فى نفق مجهول  ويخرج أو لا يخرج، ماذا فى هذا، حتى نسأل لماذا؟

ألم تدخل عربتنا منذ قليل بين الجبل وبين الصخرة دون لماذا؟

ثم أدركنا، كل على حدة، لماذا  القاهرة ـ هكذا ـ حزينة وهى تلبس ثوب الغبار الأغبش طول العام.

انتظار

انتظار

انتظار

-1-

  ـ  السلام عليكم ورحمة الله.

 ـ  السلام عليكم ورحمة الله.

اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام. أستغفر الله العظيم الذى لا إله إلا هو الحى القيوم، وأتوب إليه… … إلى أن قال: ولا يؤوده حفظهما وهو العلى العظيم، وثلاثاً وثلاثين: “سبحان الله”، ومثلها “الحمد لله”، ومثلها “الله أكبر”، وكانت قطة تـُرضع صغارها غير بعيد من كوم القش الذى كان يصلى عليه، وهو لم يحب القطط أبداً، لا ليلاً ولا نهاراً، وهو يحـَتج مستغفراً، متسائلاً : لماذا الكلب هو النجس والقطط لا ؟. وذات مرة، قبل عشرين سنة، سمع عواءً على طرف النافذة، وهو يسميه عواءً تقريباً، فقد كان خليطا من النحيب والعويل، والمواء والبكاء،  فظن أنه طفل يحتضر، وإذا به يتبين أن قطا ذكرا قد أنشب أسنانه فى رقبة قطة تحته وهى مستسلمه تئن فى لذة بشعة. كره بعدها مضاجعة امرأته وعزف عنها شهرا بالتمام ، حتى ظنت به الظنون.

 -2-

 مـّد يده إلى جيب صديريته، ذات الأزرار الصدف المتراصة فوق بعضها، فى تناسق جميل غير منتظم تماماً، وأخرج الرسالة التى أودعها فيه قبل الصلاة، والتى أجـّل فضها حتى ينتهى من صلاته، ويدعو له بما تيسر، ثم يفضها، وهى حتماً من عند “الغالى”، وهو مشغول عليه أكثر من أىة مرة، ومتوكل على الله أكثر من كل مـّرة. أخذ يدير الرسالة إلى أعلى وإلى العكس، يحاول أن يجعل رأس الخطوط إلى فوق، لكنه، من فرط انفعاله، لا يكاد يميز للخطوط رأساً من ذيل. والورقة فيها حتماً كلام كثير عن الغائب الغالى، لكن لماذا عنه وليس منه؟ ربنا يجعله خيرا، لا بد أن فيها كلاماً عن كفيل لم يوافقْ، ومُحاكمة لم تُنْصفْ، وعمرة لم تتمْ، وسفراً لم يتحددْ، ووجهة لم تتضحْ.  كل هذا يهون ما دام  الغالى قد حدد موعد عودته، لابد أنه حدد موعد عودته. وراح يقلب الرسالة من جديد رأسا على عقب وكأنه ينفضها ليسقط منها بعضاً من هذه “اللملمات” ، فعلاً  راح ينفضها، كما ينفض رغيف الخبز الطرى الساخن الخارج لتوه من الفرن من عوالق القش قبل أن يأكله.

لماذا العجلة ؟ ما عليه إلا أن ينتظر الشيخ مرسى أبو العينين ليقرأها له كلمة كلمة، وسوف يعرف منها موعد العودة ، ولو أجازة؟

ماذا لو أنه طاوع “سيدنا” وقرأ الآية “رُبـَمَا يود الذين كفروا…” لماذا أصر ثلاث أيام متتالية، فأسبوع، فأسبوعين أنها “ربـَّما” وليست “رُبـَما، لو كان قد أخذ سيدنا على قدر عقله، لكان الآن مدرساً ثانوياً، أو قاضياً شرعياً حتى. إنه مازال يذكر سيدنا، وهو يقسم عليه ألا يعود إلى الكتّاب إلا إذا قرأها ربَمَا وليس  ربّما،  وهو لم يقبل أبدا أن يقرأها كما طلب سيدنا، حيث لا يمكن أن تكون إلا  ربَّمَا؟ فكان الطرد إلى غير رجعة.

مع الطرد ، طَرَدَ هو بدوره  كل ما علق بعقله من بدايات القراءة والكتابة، حتى لم يتبق له إلا رسم اسمه الذى حماه من استعمال خاتم صدىء، قد يزيفه أولاد الحرام.

 -3-

 وحين حضر الشيخ مرسى أبو العينين، وناوله الرسالة. لم يكد  الشيخ يبدأ القراءة، حتى صمت، ثم راح الشيخ مرسى يقرأ كلمتين، وينط أربعة. وصاحبنا يقرأ وجه الشيخ مرسى  ناطقاً وصامتاً، ولم يقرأ فيه إلا أن الغالى سوف يعود قريبا.

سأل الشيخ مرسى فى النهاية: ألم يقل متى يعود تحديدا؟ ولمـّا لم يرد الشيخ مرسى، أكمل هو أنه يعرفه، وأنه  قد استحلى جوار رسول الله عليه الصلاة والسلام، ودعا أن يوعده الله بالزيارة.

وقال لنفسه إنه سوف يتعلّم القراءة  من جديد، وإذا لزم الأمر أن يقرأها ربَمَـا فسوف يقرأها ربَمَا، و سوف يرضَى عنه  سيدنا أخيرا، وحين يصل الخطاب التالى من الغالى سوف يقرأه شخصيا دون حاجة للشيخ مرسى أبو العينين ، الذى لا بد أنه أخفى عنه موعد عودة الغالى خوفا عليه أن يموت من الفرحة.

خدش الظلام

خدش الظلام

خدش الظلام

-1-

ضوء القمر يسرى فضيا متلألئا فى حياء عذراء تعرف قيمة جمالها، وتضن به، يفضى به الجبل من حضن إلى حضن. عدد قليل من النخيل يقبع فى زاوية بعيدة حيث اختار الماء أن يتجمع أحيانا،  وكان عليك أن تسير بضعاً وخمسين خطوة قبل أن تتبين أنه نخيل مختلفٌ أطواله، يقف منك كأنه يحرسك من  ريح المدينة أن تفسد ما أنت فيه،  وهو يخترق وعيك، بما هو، حتى ليحرسك ـ أيضاً ـ من جفاف ذاكرتك اللحوح. فإذا عدت إلى مكانك الأول حول النار عاد معك. فـَرُحـْتَ تسمع حفيف سعفه : وكأنه يهمس لك. وما كان كذلك قبل ذلك.

-2-

 قال مصطفى النادى: “هل سمعتم”؟. فضحك عبد الرؤوف سليمان فى سرّه، فسمع أحمد عبد السميع ضحكته، ولم يفهمها، فاقترب محمد رفعت من حسن مجاهد، المسئول عن إنضاج السمك، ورآه منهمكا فى نفخ النار بلا جدوى، فشكّكه أن النار سوف تكفى لإنضاج لفة السمك المتبلة الملفوفة فى الورق المفضض.

-3-

اقترب الصوت فأخذت أنيسة سليمان  المسألة بجدّية أكبر. هى المرأة الوحيدة الموجودة معهم، سألت: “صوت ماذا هذا؟” فردّ أحمد عبد الرحمن بيقين لا يختلج: “صوت ضبع”. وتساءل إبراهيم عبد الحافظ: من أين أتى أحمد عبد الرحمن  بكل هذا اليقين؟ وهل سمع  صوت ضبع من قبل، أو حتى رأى ضبعاً له صوت قبل ذلك؟ صحيح أن الصوت ليس عواء ذئب، ولا نباح كلب، ولكن هذا لا يعنى أن يكون صوت ضبع، هكذا خبط لصق.

-4-

رفضت أنيسة سليمان أن تستجيب لدعوة أن تذهب هى إلى داخل السيارة، وتبقى هناك حتى يستبين الأمر. فقد كانت فى حالة رائعة من الدهشة والألفة والرغبة واليقظة والجنس والتوجس.  موجة غمرتها صاحَبَتْها رعشة جسدية نفذت حتى نخاع العظم إلا قليلا، وحين فشلت تماما أن تصف ـ لنفسها ـ ما هى فيه راحت تبحث عن ضده، حتى تتأكد مما هو. فوجدته ضد شعورها وهى تعبر أحد شوارع القاهرة المزدحمة، وهو عكس  شعورها قبيل سماع أخبار لندن. وكذلك هو ضد ما تعيشه وهى تشاهد توزيع جوائز الشمعدان، أو تحضر المناقشات العلمية حول ثقب الأوزون.

كل هذه المقارنات لم تنفعها فى تحديد ما يغمرها الآن ، وإن كانت قد أشارت إلى ما أرضاها وطمأنها  إلا قليلا.

-5-

 قال عم عليان، وهو يتأكد من ثبات بضع عنزات فى أماكنها بجوار الخيمة الممزقة، قال وهو ينظر فى اتجاه الصوت فى ضوء القمر: “لا تخشوا شيئاً ما دمتم فى ضيافتى، ثم إننى لا أراه هناك حتى الآن، وحين أراه سوف أنبهكم إذا لزم الأمر”

وكان مسعد القاضى قد نبّه عبد الرقيب فودة، أن يسارع بتناول يد عمّ عليان؛ حين يمدها للسلام، لأنه  ضرير

-6-

تكرر الصوت وكأنه يقترب، فاقترح محمد السيد إبراهيم أن يضيئوا أنوار السيارة العالية فى اتجاه الصوت، وأن يدير المحرك بأعلى قوة، وأن يدقوا بوق السيارة عدة مرات؛ حتى يفزع الوحش المزعوم فينصرف. واعترض الجميع، ولكن أحدا لم يعلن اعتراضه.  وكان أكثرهم احتجاجاً هو عبد المولى، مع أنه هو الذى قام ونفّذ اقتراح محمد السيد إبراهيم بحذافيره.

-7-

تسحّب  مصطفى النادى، ففوجىء، خلف ساتر، بالمليحة العذراء وهى مستلقية على فخذ أمها الطيبة التى راحت  تنقّى  شعرها ـ فى ضوء القمرـ من شوائب غير مرئية.

 قال لنفسه بتصميم جديد: إنه قد عدل نهائيا عن أن يلقى بماء النار فوق وجه تلك التى هجرته بنذالة هناك. وقال أيضا وهو يبتسم مقتقدا حقدا كاد يحرقه “خيرها فى غيرها”.

-8-

 اختفى الصوت، لكن خدش الظلام لم يندمل، فتسرب القمر وضوؤه حتى انطفأت لمعته، ولم يبق منها إلا تقليد منصهر الفضة البارد.  شىء مزيف أشبه بـ”الصيغة” التى كانت الحاجة أمينة خالة أنيسه سليمان تتحلى بها  لضيق ذات اليد، تلمع كالفضة لكنّها تنثنى كالصفيح.

-9-

 كانت العودة ثقيلة، كأن السيارة تسير بمجدافين فوق سطح نهر من الرصاص الذى ينصهر ببطء عنيد.

لاحت فيما بَعْدَ الأفق مساكن شعبية رُصَّت وحداتها فوق بعضها، مثل علب الثقاب الفارغة، وطفحت على واجهاتها بثور الملابس المدلاة على حبال الغسيل المتراخية.

10

 أدرك رمضان سامى  فجأة ـ هكذا حدّثته نفسه ـ أن العلاقة بين الغابة الحمراء فى سان فرانسيسكو، وبين معبد الشمس فى سويسرا، هى علاقة تبرر أن يكون الانتحار الجماعى هو الصرخة التى تذيب الحاجز الجليدى الزائف بين القتل والانتحار، حتى لا ينقرض البشر بسبب ورطة الكذب الموثق.

-11-

 بلع نبيل أبو الروس ريقه، ولعن الأمر الواقع.

– 12-

 وتساءل  مختار عبد الحكيم: “هل من الضرورى أن …؟”

( ولم يكمل).

-13-

لكن نفيسة التى كانت لاتزال تعيش فى غمرة ما كان، اعترضت بشدة قائلة (وكأنها  تصيح):

ـ ليس الأمر هكذا تماما،  أنا لا أوافق.

براءة!!

براءة!!

بـراءة ….!!

-1-

اختلف هذه المرة عن كل مرة، ليس فقط لأنه غيـّـر القهوة التى اعتاد أن يجلس عليها، بل لعل تغييره القهوة ذاته، كان دالاً على أن هذا الاختلاف قد بدأ منذ فترة دون أن يدرى.

كان الوقت صباحاً ولم يكن قد حضر إلى القهوة إلا أربعة أشخاص بالتمام. شاب يلبس عفريتة ليست متسخة على كل حال، وعامل بناء على ما يبدو، وشيخ معمم، ولكنه ليس شيخا بالضرورة، ورجل لا يلبس طربوشا ولكنه يوحى بذلك. ولم يكن هذا العدد كافياً حيث لابد أن يبلغ المحلفون عشرة، ويقال ثمانية، ويرد آخر: بل اثنى عشر، ولكن لا مانع أن نضم المعلم الجالس أمام منضدة الحساب والصبى الذاهب العائد بلا داع ولا زبائن؛ فيبلغ العدد ستة، وعلى الله التساهيل. ولسوف أبدأ دفاعى دون انتظار، وليكتمل العدد وقتما يكتمل، وحتى لو حضر الآخرون فسأبدأ من جديد، ولتكن الإفادة فى الإعادة حتى تتأكد وجهة نظرى، بل إنى لن أنتظر القضاة ولا الدفاع ولا ممثل الاتهام، فهؤلاء جميعا لن يقدموا أو يؤخروا فى الأمر شيئا، المهم أن يعلن المحلفون أنى برىء، وساعتها لن يكون هناك أى احتياج لقاض يصوغ الحكم، أما الاتهام أو الدفاع فهذا أمر له وجوه، سأتهم من يتهمنى، وليدافع كل منا عن حقه فيما يتصور أنه كذلك، لكن القانون يقضى أن يكون المحلفون من البيئة ذاتها حتى يستطيعوا أن يتقمصونى. يا خيبة أمل الجميع. يتقمم.. يتقمر… يتقمع.. يتقمش..، كل ذلك جائز. أما أن يتقمص الواحد منا الآخر، فهذا يذكرنى باللغة التى يرفس بها الحمار ويثور ويستهين ويدافع، يقولون إنه يـِقَمَّص”، وهذا أمر أسهل من “التقمص” وأصدق..، إلا أن القانون هو القانون، والأمر يحتاج إلى امرأة وفتاة وباشكاتب ورائد بوليس، وبهذا وحده أستطيع أن أطمئن إلى مصيرى بدرجة ما، ها هى السيدة فى الشرفة المقابلة تنشر الغسيل فى هذه الساعة المبكرة من الصباح، تنتهز فرصة طلوع الشمس فى مواجهة هذه الواجهة من البيت قبل أن تستدير، تنحنى بشكل أكروباتى مغامر فيسقط ثدياها بما يمثل خطرا حقيقيا، لأنه إذا كانت الرأس أثقل من الجسم كما تعلمنا صغارا، فكيف بهاتين البطيختين تطب بهما الكفة فى الشارع دون تردد، اللهم إلا إن كانت الثقالات الخلفية وراء سور الشرفة كافية لحفظ التوازن مقابل النهود المدلاّة، ثم ها هى الصبية بائعة الصحف تكمل العدد ستة، وليكن الأفندى المطربش دون طربوش هو الباشكاتب، أما سيادة الرائد فسوف تصله كل الأخبار والحجج والأسانيد دون حاجة إلى حضوره، فهو يعرف كل شىء لأنه يعرف كل شىء، وحضوره مثل غيابه فى نهاية النهاية.

-2-

 ليبدأ الدفاع فى سرد وقائع الأحداث بغير صيحة الحاجب أنْ “محكمة”، لأنه إذا كان الحكم بالبراءة مفروضاً مسبقا؛ بحيث استغنينا عن القضاة، فما لزوم الحاجب بالله عليكم؟ ألا يعتبر عمالة زائدة تعطل الإنتاج؟

الأمر وما فيه، يا حضرات السادة، أنه لا توجد جريمة ابتداء. إن أركان الجريمة غير متوفرة أصلا. فقد وجدت الضحية دون أى آثار اعتداء. وبالرغم من تأكيد الطبيب الشرعى أن الوفاة غير طبيعية،  فالمسألة  ينبغى أن يعاد  النظر  فيها؛ لأن أىة  وفاة ـ فيما عدا الانتحار ـ هى غير طبيعية بلا أدنى شك. إذ لو كان الموت طبيعيا، لتغيرت كل القيم السائدة بشكل جذرى. فهل نصدق الطبيب الشرعى، أم نصدق ما يجرى حولنا يا أصحاب الفطنة والضمير الحى؟ إن الأمور تحتاج إلى مزيد من البراهين.

-3-

 أقبل ماسح الأحذية ـ ثانية ـ ونقر على صندوقه فى صمت، فطلب منه المتهم أن يشترى له الأخبار والأهرام من الصبية على الرصيف المقابل. وفعلا ذهب وعاد واحتفظ بالباقى دون استئذان؛ فتمت الموافقة دون إذعان.

والآن هل أطمع من سيادتكم واحدا واحدا وواحدة واحدة أن تتركوا ما جئتم به قليلا، بل أن تتركوا ما جئتم من أجله، فتنظروا إلى هذا الشخص الماثل أمامكم فى حجم الإنسان العادى وتقولوا إنكم رأيتموه إن كنتم حقا فعلتم، ثم تبدأ المساءلة، إن كان لها داعٍ أصلاً. نعم، لابد أن يرانى الواحد منكم، قبل أن يحكم علىّ، وإلا فعلى أى أساس سوف تصدرون أحكامكم؟ وقسما بالله العلى العظيم إنى لا أشك لحظة فى عدلكم أو حسن نيتكم، إلا أن لى أن ألتمس العفو منكم، وأنا أتساءل عن قوة إبصاركم، وهذا  أمر خارج عن  نطاق  الأحكام  الأخلاقية؛ لأن أحدا لا يملك التحكم فى قوة بصره. إنها ـ يا سيادة  المحلفين ـ ليست بضاعة تباع وتشترى، ويستطيع أى منكم ـ منا ـ أن ينتقى العدسات المكبرة اللازمة لدقة الإبصار. والحقيقة وواقع الأمر أن المطلوب فى قضيتنا هذه، ليس قوة العدسات ولكن إحاطتها، إذْ ماذا لو كبـّرت العدسات المكبرة من فصاحتى، دون النظر إلى وحدتى وضعف بصرى وقصر يدى؟ التهمة ساقطة من أساسها، إذ أن جسم الجريمة واقع فى منطقة بعيدة عن متناولنا جميعا، وأنا واحد مثلكم تماما، لكن القضاء والقدر هو الذى حدد لنا أدوارنا. أنا متهم وأنتم محلفون..، ومع ذلك فلسوف أفند لكم الأمر، وإذا اقتنعتم بمحاكمة القضاء والقدر بدلا منى، فسوف تحال القضية إلى درجة أعلى من هذا المستوى الابتدائى إلى مستويات النقض والإبرام مثلا. وهذا أمر لا يعنينى فى كثير أو فى قليل، بعد الحكم ببراءتى بإذن عدلكم وفطنتكم.

ولكن دعونى أخاطب كلا منكم على حدة؛ لعل فى ذلك ما يقربنى من كل واحد منكم على حدة حتى يرانى أو يعذرنى.

-5-

 ينقطع التيار، فيلتفت إلى العناوين المتاحة “الأرض الجديدة، وادى الراحة، القانون 38، اكتشافات البترول” ألا يدل كل ذلك ـ أيها السيدتان والسادة ـ على براءتى؟

-6-

 ماذا لو كان الزلزال قد تمادى فانتهت حياة مائة ألف دون أى مبرر منطقى، هل كانت تهمتى ستكون هى هى التهمة ذاتها؟ هل كنتم ستصدقون أنه ليس لى شركاء فى الجريمة؟ أم كانت الأمور ستسيح ويضيع الحق؛ نتيجة لكثرة عدد الضحايا؟ إن القانون الإنجليزى لا يسمح أن يحاكم شخص إلا على جريمة واحدة وضحية واحدة، ثم تأتى سائرالجرائم بعد ذلك قياسا وتبعا لهذه الجريمة الواحدة. فماذا يكون الوضع والضحايا هم بمئات الألوف؟ فإذا كان الأمر كذلك ـ وهو كما ترى فطنتكم “هو كذلك” تماما ـ فإن هذه الجريمة موضوع القضية لا تستأهل منكم كل هذا العناء، وخاصة بعد اكتشاف اثنتى عشرة بئراً للغاز الطبيعى قريبة من الشاطىء.

-7-

حضرات السادة المحلفين:

إن حكمكم ببراءتى هو الدليل الأول على أنكم أبرياء مثلى. أما إذا أدنتمونى فلسوف تستريحون بعض الوقت؛ لأنكم سوف تتصورون أن وجود الفاعل يعنى براءة الآخرين، تحت زعم أنه يستحيل أن تتم جريمة واحدة من أكثر من فاعل فى الوقت ذاته، وقد تغريكم بهذا الاتجاه بعض الإشاعات الإعلامية عن مسلسلات جديدة نهايتها مثل بدايتها، ماسخة طول الوقت. ولكنى أحذركم من هذه المناورة التى أدور بها حولكم، لأن الحكم بإدانتى سوف يفتح الباب لاتهام أى منكم، فى أى وقت، اتهامه بتهمة لم يرتكبها، لم يرتكبها هو ولا أنا، لكن حتما قد ارتكبها أحد. وأنا أنصحكم لوجه العدل ـ سبحانه ـ أن تتريثوا قليلا، قبل أن تتصوروا أن فى إدانتى براءة لكم، كما أستحلفكم بأولادكم وصحتكم  الغالية أن يكون الحكـم على بالبراءة ـ لو حدث ـ هو النتيجة الطبيعية لضعف الرؤية، وليس لاختفاء جسد الجريمة. ضعف رؤيتكم أنتم، وهذا أمر طبيعى يجرى على كل البشر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، أما مسئوليتى شخصيا، وكذلك مسئولية كل منكم عن “ما هو”، فهذا أمر سوف يتخطى مستوى المحاكم، بما فيها النقض والإبرام، وسيدخل فى نطاق التاريخ، وفى هذه الحالة، لن تكون ثمة محاكمة أو محلفون أو قضاة أو تاريخ.

 فالحكم يقضى بخـَصـْى كل الكذابين، فكيف يمكن الحفاظ على استمرار النوع؟ هذه مسألة قد حُسمت من قديم الزمان.

-8-

يقترب منه الباشكاتب بلا طربوش، ويقول فى طيبة :

ـ صباح الخير يا أستاذ.

ينتبه الأستاذ وقد بدت على وجهه بشائر السعادة ببراءة محتملة، فيرد فى ثقة:

ـ صباح النور.

ثم يردف، وهو غير مصدق:

ـ صباح الفل.

حرية

حرية

حـــــــرية

-1-

  ـ  ما هذا؟.

قالتها دون رفض، ودون سخرية، وبدرجة متوسطة من الشفقة .

 ـ  ماذا؟ … فيه ماذا؟

حاولتْ أن تتهرب من الرد بأية وسيلة، لكن الموقف لا يحتمل، وبدأ العرق يتصبب منه؛ فازدادت  حرجاً، قالت:

 ـ  لا شىء، لا شىء، كنت أقصد أنه…، أعنى.. يعنى: لم أكن أحسب… أنه …..؟ لا شىء، ليس هكذا تماماً، أنا آسفة.

تفصد العرق منه أكثر، حتى تساقطت قطراته على فخذيها.

قال بنفس الانزعاج، وبنفس الإلحاح، وبنفس التساؤل، وبنفس الدهشة:

 ـ  هكذا ماذا؟ قولى لى: هكذا ماذا بالضبط؟.

خافت، وخجلت، وأخفت وجهها، وانطلقت خارجة تعدو.

 لم يلاحقها، بل تنفس الصعداء. قال: إنه لم يُخلق لهذه المساخر.

-2-

 فى مرضه الأخير سأله ابن أخيه سؤالاً  وهو مطمئن إلى أن الوقت الذى كان يمكن أن يتهدد فيه من احتمالات الإجابة  قد فات، فبدا شابا مهذبا:

 ـ  لماذا لم تتزوج يا عمى؟

رد الرجل بهدوءِ وإعياء النهاية، لكنّه بدا مقتنعا تماما، بل ومتحمسا:

 ـ  الحرية يا بنى.. الحرية. لا يوجد ما هو أغلى من الحرية.

إغفاءة

إغفاءة

إغــــفـــاءة

-1-

 الحكاية أن سائق السيارة الأجرة، كان قد أغفى إلا قليلا، فانحرفت السيارة إلا قليلا، فمـّد الراكب الأمامى يده إلى عجلة القيادة فجأة، فانحرفت السيارة فى الاتجاه الآخر، بنفس سرعة المفاجأة.

صاحت المرأة فى المقعد الخلفى، وبكى الطفلان.

ورفض السائق الاعتراف أنه أغفى، ورفض الراكب الاعتراف بأنه تدخل هلعاً لا حكمة، وأضاف السائق: إنه حتى لو نام، فهى مسئوليته. فانتفض الراكب متسائلا أنه : وبماذا ستنفعه مسئوليته هذه، بعد أن يتوفاه الله؟

تدخلت المرأة، أنه لا داعى لهذه السيرة وأن الله قـّدر ولطف، وصلى السائق على رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ محاولا أن يتذكر شيئا استعصى عليه على الرغم من الصلاة على النبى.

-2-

 وكان راكبٌ يقف على الرصيف قرب الإشارة، وهو يحمل كيسا ممتلئا بأشياء ما، كان قد أشار للسائق أن يأخذه فى طريقه، فى المقعد الخلفى الآخر بجوار الأم وابنتيها، وأخذ يشرح بيديه، كيف أن المقعد الخلفى يكفيه هو وقرطاسه، لكن رجل البوليس لوّح للسيارات بالحركة فقد اخضرت الإشارة فى اللحظة ذاتها.

-3-

 راحت أضواء الإعلانات تتغير برشاقة، باخت لما تكررت.

-4-

مـّد الولد يده فى  الإشارة التالية بالمناديل الورق، وأن العلبتين بجنيه ونصف، فلعن السائقُ أباه فى سـّره، لكن الراكب قال له:

ـ حرام عليك يا أسطى، ماله أبوه.

 فتعجب السائق من فضول الراكب وحدْْْْْسه معا، فسأله فجأة:

 ـ  ما حكاية الضريبة الموحدة هذه؟.

فأجاب الراكب:

 ـ  إيش عرفك أنى محاسب.

فقال  السائق:

 ـ  وإيش عرفك إنى لعنت أبا الولد.

-5-

 قال السائق أيضا:

 ـ  سوف نحارب حتما ـ يوما ما ـ بعد كل هذا السلام الذى يوزعون شرباته، وسوف نستردهما معا، كرامتنا والأرض.

أكد الراكب أن هذا صحيح.

مد السائق يده مصافحاً، وكأنهما أبرما اتفاقية حياة.

أو كأن أحدهما حكى نكتة مصرية جدا،

فاستحسنها الآخر جدا جدا.

 

 

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *