الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة روز اليوسف / الإنسان العادى، و…المعرفة

الإنسان العادى، و…المعرفة

 

نشرت فى روز اليوسف

19 – 8 – 2005

 

سلسلة الإنسان

أ.د. يحيى الرخاوى

استهلال

نشأتُ – مثل جيلى – فى رحاب مقالات إحسان عبد القدوس السياسية فى روز اليوسف فى الأربعينات وحتى قامت الثورة.  كنا  نستنشق من خلالها عبير تلك السيدة العظيمة التى لم تعد كيانا بشريا له ولد ومجلة ، بل كانت وما زالت معنى متجددا دائما. طمأننى الجيل الذى تولى القيادة مؤخرا أن روزاليوسف هى روزاليوسف، وأنها تتجدد أبدا، فقبلت الدعوة.

أولا: “الإنسان العادى، و…المعرفة”

هى محاولة لنتعرف على ما هو “إنسان” بعد كل الذى كان ويكون.

 الإنسان (كل إنسان)  دون سائر الأحياء، لا يكون كذلك إلا إذا تميز بالوعى، وأيضا تميز بجدل محاولة عمل علاقة بآخر من نفس جنسه،  علاقة تتجاوز مجرد “الاستعمال” و”الكر والفر”. كل واحد منا ، على هذا الأساس، مهيأ – دون وصاية معقدة-  أن يفعلها ، أن يعرف من هو.. لا يمكن أن نفعل ذلك  إلا إذا بدأنا من إنساننا نحن، وتحديدا من  واقع ثقافتنا الراهنة.

من نحن؟ من هو؟ كيف هو ؟  ماذا يستطيع ؟ وكيف يضيع؟

 لا نملك إجابات جاهزة، لكننا نحاول تحمل مسئولية السؤال وكل تركيزنا على الشخص العادى، متلقيا ومحاورا وناقدا ومبدعا. نحن نقدر منذ البداية خطورة الطموح، وصعوبة التواصل،  إلا أن الصعوبة لا تعنى الاستحالة على أية حال.

 وقع بعض العلم أو أغلبه فى مأزق حقيقى وذلك  حين تصور أنه يستطيع أن  يحل محل المعرفة والخبرة المباشرة، ، تماما مثل مأزق بعض الفقه الرسمى حين تصور أنه يمكن أن يحل تماما محل الإيمان الفطرى، العلم المؤسساتى أصبح باهظ التكلفة ، فاحتكره أو كاد يحتكره من يملك تكلفته،

العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يـُـترك للعلماء

المعرفة أكبر من العلم وأشمل، لكن العلم أنصع وأدق.

والوعى أوسع من العقل وأرحب، لكنه لا يلغيه ولا يحل محله !

 يقول أينشتاين: العلم ليس سوى إعادة ترتيب لتفكيرك اليومى.   كما يقول: لا يمكننا حل مشكلة باستخدام العقلية نفسها التى أنشأتها.

لم يحدث من قبل فى أية لحظة من لحظات التاريخ أن أتيحت فرصة  لتقارب البشر بعضهم إلى بعض بكل هذه السرعة والحميمية، بغض النظر عن  النوع والدين واللون والهوية.

فى نفس الوقت لم يتعرض البشر لاحتمالات الانقراض بهذه الوسائل التدميرية العملاقة الجاهزة الغبية مثلما يتعرضون  له الآن. من هنا لزمت المواجهة على كل الجبهات.

لكى ننجح فى هذه المهمة، لا بد أن نعيد التعرف على  ماهية الإنسان من جديد. هذا التعرف هو مهمة كل فرد دون استثناء. والأرجح أن الله سبحانه وتعالى سيسأل كل واحد منا على حدة عن مدى كدحه فى هذا المقام كدحا . من‏ ‏هنا‏ ‏جاءت‏ ‏ضرورة‏ ‏الاهتمام‏ ‏الشامل‏ ‏بالتأكيد‏ ‏على ‏ضروة‏  ‏فتح الأبواب ، كل الأبواب، للمعارف ‏المتنوعة‏ ‏من كل المصادر‏.

نحن نولد ونحن نحمل تاريخ معارفنا الأساسية،  نولد ونحن “نعرف”، وأيضا ونحن “على استعداد أن نعرف”، ثم بعد ذلك تتواصل المعرفة من كل المصادر عبر الوعى والحواس، بالخبرة والممارسة جميعا.  لا ينبغى أن نستثنى أى مصدر، ولا أن نستبعد أية قناة من قنوات المعرفة . لماذا نفعل ذلك؟ نستبعد ماذا ؟ لصالح من ؟ (بأمارة إيه؟)

تعدد قنوات ومناهل المعرفة

المعرفة ، والحاجة إلى المعرفة ، تبدأ ‏  ‏من‏ ‏الناس‏، ‏مما‏ ‏هم‏ ، ‏لتصب‏ ‏فيهم‏، ‏فى ‏محاولة‏ ‏الإسهام‏ ‏فى ‏تشكيل‏ ‏وعيهم‏ ‏، الوعى الشعبى هو الحاضر الآن،  ‏والتراث‏ ‏الشعبى ‏لا‏ ‏يقتصر‏ ‏على ‏الأمثلة‏ ‏العامية‏، ‏أو‏ ‏الأغانى ‏الشعبية‏، ‏أو‏ ‏الرقص‏ ‏الشعبى‏. ‏الوعى ‏الشعبى (‏الآني‏) ‏بكل‏ ‏ثقله‏ ‏ووعوده‏ ‏وعيوبه‏ ‏وأخطائه‏، ‏هو‏ ‏التجلى‏ ‏المباشر‏ ‏لأحوال الناس ‏ ‏ظاهرا‏ ‏وباطنا‏ ‏فى ‏لحظة‏ ‏بذاتها‏. (وهو ليس ما  يظهر بالضرورة فى قياسات الرأى العام) . ‏

 دون الدخول فى تفاصيل يحتشد وعى الكائن البشرى- بالإضافة  لمنظومة‏ ‏الموروث‏ ‏البيولوجى – بكل ما يصله من معارف وخبرات وجمال وقبح من خلال قنوات متعددة، من أهمها:‏  ‏المعلومات‏ ‏العلمية‏، وفعل الفلسفة‏، (وهو غير تنظير التفلسف) و‏منظومة‏ ‏التراث‏ ‏الشعبى،  ‏والوعى ‏الشعبي، ثم  ‏منظومة‏ ‏الفنون‏ ‏والآداب‏،  ‏ومنظومة‏ ‏الوعى ‏الإيمانى (وهو غير الفتاوى الدينية) فتتجلى محصلة كل ذلك وغيره سلوكا ظاهرا وكامنا  ‏فى ‏ ‏الممارسة‏  ‏اليومية‏.‏

إن‏ ‏أية ‏بداية‏ ‏صحيحة‏ ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏تنطلق‏ ‏من‏ ‏واقع‏ ‏الناس‏، ‏ليس‏ ‏بمعنى ‏استفتائهم‏، ‏أو‏ ‏استرضائهم‏، ‏وإنما‏ ‏بمعنى ‏فهم‏ ‏وتعميق‏ ‏أحوالهم‏ ‏المثيرة‏ ‏للكشف‏، ‏والمتجذرة‏ ‏فى ‏الوعى، ‏كما‏ ‏أن‏ ‏أى  ‏تشكيل‏ ‏بنّاء‏ ‏للوعى ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يصب‏ ‏فى ‏صالح‏ ‏الناس‏ ‏وأن‏ ‏يقاس‏ ‏بمقاييس‏ ‏حركية‏ ‏الحياة نحو الأرقى‏، ‏بغض النظر عن ‏ ‏قيمته‏ ‏الأكاديمية‏ ‏المجردة الحقيقية أو المزعومة‏.

‏إن‏ ‏ما‏ ‏يجرى ‏فى ‏المعامل‏ ‏وما‏ ‏يخرج‏ ‏منها‏ ‏من‏ ‏معلومات‏ ‏ليس‏ ‏هو‏ ‏غاية‏ ‏المراد‏، ‏وإنما‏ ‏هى ‏وسائل‏ ‏تستلهم‏ ‏توجهاتها‏ ‏من‏ ‏حاجات‏ ‏وآمال‏ ‏ومشاكل‏ ‏الناس‏، ‏وبالتالى فهى تقيس‏ ‏حقيقة‏ ‏نجاحها‏، ‏بما‏ ‏تصبه‏ ‏فى ‏حياتهم‏، ‏وما‏ ‏توجه‏ ‏به‏ ‏مسارهم‏، ‏وتؤكد‏ ‏استمرارية‏ ‏بقائهم، ‏ ‏فتطورهم.

‏ ‏إن‏ ‏حس‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏ومنطقه‏ ‏البسيط ‏- ‏حتى ‏لو‏ ‏أخطأ‏ – ‏لا‏ ‏بد‏ ‏أن‏ ‏يؤخذ‏ ‏فى ‏الاعتبار‏ ‏من‏ ‏جانب‏ ‏من‏ ‏يتصدى ‏لتقديم‏  ‏البديل‏ ‏المناسب‏ ‏للثقافة‏ ‏الأنفع‏،  ‏وخاصة‏ ‏فى ‏البلاد‏ ‏النامية‏. ‏إن‏ ‏معطيات‏ ‏العلم‏ ‏تتفاعل‏ ‏بشكل‏ ‏مستمر‏ ‏مع‏ ‏كل‏ ‏المعارف‏ ‏الأخري‏: ‏مثل‏ ‏التقاليد‏، ‏والدين‏ ‏الصحيح‏، ‏والدين‏ ‏المشوه‏، ‏والحدس‏ ‏الشعبى ‏الصادق‏ ‏والكاذب‏، ‏والأغانى ‏الهابطة‏ والراقية ، وجمال اللغة وتجديدها، وتشويهها،  بما فى ذلك لغة‏ ‏الشباب‏ ‏الجديدة الجميلة والمشوهة أيضا‏. ‏ليس‏ ‏المطلوب‏ ‏أن‏ ‏يقف‏ ‏العلم‏ ‏فى ‏مواجهة‏ ‏تصادمية‏ ‏مع‏ ‏ما لا يستسيغه من هذه‏ ‏المصادر، هذا موقف غير علمى،  وإنما عليه أن يرصدها، ويستلهمها، ويتجادل معها ليتطور،  وهو يطورها.

‏ ‏منظومة‏ ‏الفنون‏ ‏والآداب  هى مصدر رائع للمعرفة، بقدر ما هى تنسيق للوعى الجمالى. لم‏ ‏يعد‏ ‏الخط‏ ‏الفاصل‏ ‏بين‏ ‏منظومة‏ ‏الفنون‏ ‏والآداب‏، ‏وبين‏ ‏منظومة‏ ‏العلوم‏ ‏بنفس‏ ‏التحديد‏ ‏الفاصل الذى شاع بيننا ردحا من الزمن‏.

‏ إن ‏ ‏أية ‏معلومة‏ ‏تُحشر‏ ‏فى ‏الدماغ‏ ‏دون‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏قابلة‏ ‏للحوار‏، ‏أو‏ ‏الاختبار‏، ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏تكون‏ ‏رائعة‏، ‏أو‏ ‏نادرة‏، ‏أو‏ ‏لامعة‏، ‏لكنها‏ ‏قد‏ ‏لا‏ تسهم فى تشكيل الوعى إلا بمقدار ما تغير من سلوك، وتثير من حوار، وتدعو إلى نقد. ‏وكل‏ ‏هذا‏ ‏إنما‏ ‏يتحقق‏ ‏من‏ ‏خلال‏  ‏الممارسة‏ ‏اليومية‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏(‏ليس‏ ‏بالضروة‏ ‏بقصد واع)

من‏ ‏خلال‏ ‏كل‏ ‏هذا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يعيد‏ ‏الشخص‏ ‏العادى ‏تشكيل‏ ‏وعيه‏ ‏باستمرار‏، وأن يجدد  ثقافته ‏بانتقائية‏ ‏ليست‏ ‏فى ‏متناول‏ ‏العلم‏ ‏المنعزل‏ ‏عن ‏ ‏الممارسة‏ ‏اليومية‏.‏

ثانيا: نبدأ من الأدب:

التفسير الأدبى للنفس الإنسانية

أغلبنا يعرف ما يسمى “التفسير النفسى للأدب”، وأحيانا “التحليل النفسى للأدب” ، وبالرغم من إسهام هذا النوع من النقد النفسى فى تطبيق بعض التفسيرات والمفاهيم النفسية والتحليلية النفسية على بعض النصوص الأدبية نقدا، إلا أن الأمر اشتط أحيانا حتى بدا وكأن العلوم النفسية، وبالذات التحليل النفسى لها وصاية ما ، سابقة أو لاحقة، على الإبداع الأدبى.

الأمر بالعكس تماما كما يظهر فى العنوان  “التفسير الأدبى للنفس”.

الإبداع هو صاحب السبق  فى فهم وكشف، وتعرية، وتشريح، النفس البشرية، ومنه نستلهم ونتعلم ما هيتها وأبعادها ، بل وأحيانا غايتها ومآلها. لهذا، قلنا:

 من هنا نبدا.

نبدأ من الآخر (هات مالآخر)

 أحلام فترة النقاهة. نجيب محفوظ  (حلم 3)

النص

” هذا سطح سفينة،  يتوسطه عامود مقيد به رجل يلتف حوله حبل من أعلى صدره حتى أسفل ساقيه، وهو يحرك رأسه بعنف يمنة ويسرة،  ويهتف من أعماقه الجريحة: متى ينتهى هذا العذاب؟ وكان ثلاثتنا ينظرون إليه بإشفاق ويتبادلون النظر فى ذهول،

 وتساءل صوت:

– من فعل بك ذلك؟

فأجاب الرجل المعذب ورأسه  لا يكف عن الحركة .

– أنا الفاعل.

– لماذا؟.

– هو العقاب الذى استحقه.

– عن أى ذنب؟.

فصاح بغضب

– الجهل.

فقلت له:

– عهدنا بك ذو حلم وخبرة

– جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد

وارتفع صوته وهو يقول:

– وجهلت أن أى إنسان لا يمكن أن يخلو من كرامة مهما يهن  شأنه

وغلبنا الحزن والصمت.

قبل القراءة

الحلم صورة حية. هو تشكيل آنىّ، وهو فى نفس الوقت حركة مستثارة مثيرة لأكثر من توجه معا، ثم هو تجاورٌ وتجاوز للزمن فى آن. هو ليس رموزا جاهزة، ولا مجرد تحقيق رغبة!

إن مجرد إثارة التساؤل عما إذا كان محفوظ يحلم إبداعه، أو هو يبدع حلمه، يبدو أبعد ما يكون عن فهم طبيعة كل من الحلم والإبداع. حتى أنه يوجد فرض يقول: إن الشخص العادى لا يحكى حلمه  تسجيلا لما حدث أثناء نومه “جدا”، وإنما هو يروى ناتج ما  شكـّله مما أتيح له من معلومات قبيل يقظته، يقول هذا الفرض: إن الشخص العادى يلتقط فى زمن قصير جدا ما  تبقى من معلومات مستثارة أثناء نشاط النوم الحالم، يلتقط ما تبقى قريبا لوعى يقظته وهو يستيقظ، فيشكل منه حلمه تشكيلا. الحلم الذى يقال عنه “تحقيق رغبة”، والحلم الذى يختزل إلى رمز واضح، هو أبعد ما يكون عن الحلم الأصلى الحقيقى المبدّع. (لا مجال لتفاصيل أكثر).

محفوظ مبدع بالضرورة، وهو قبل ذلك وبعد ذلك شخص عادى يبدع أحلامه التى لا يحكيها لنا – مثلما يفعل بعضنا-  ، لكنه حين يفعلها وهو يقظ مبدع مسئول، فهو  يشكل الصورة ويخلـّق الجمال ويروض الحركة. هذا شىء آخر:  هو إبداع لا أكثر ولا أقل، هو إبداع قح: سواء كانت مادته حلما أو غير ذلك. الحاصل أن محفوظ  قد اضطـُر، فاختار، أن يصقل هذه الطريقة الإبداعية حتى أضاف إلى الشكل الأدبى هذا النوع النادر من الإبداع ، وإن كانت معالمه التداخلية المركبة قد ظهرت من قبل فى كل من “رأيت فيما يرى النائم، و “ليالى ألف ليلة”، ثم إنه مارس هذا النوع من الرسائل الموجزة  المكثفة المخترِقة فى “أصداء السيرة الذاتية”.  تـُرى هل كان حدسه يعدّه لهذا النوع الخاص جدا من الإبداع حين يضطر إليه؟ ربما.

إبداع محفوظ المسمى أحلاما هو  إثراء شديد التحريك للمتلقى ليتعرف على ما هيته –إنسانا- بطريقة مختلفة، لا أشك أن محفوظ نفسه يتعرف على نفسه وعلينا وعلى الإنسان من خلالها. المبدع يكتشف نفسه – والحقائق- فى إبداعه مثلنا بعد أن يتمه، ثم يتناوله الناقد ليبدعه من جديد، فيرتد إبداع الناقد إلى المبدع ، وهكذا أبدا.

القراءة

يبدأ هذا الحلم باسم الإشارة “هذا.. سطح سفينة” ، فيضعنا على الفور أمام الصورة التى يقدمها لنا، قبل وبعد الحكى، ثم هو يضعنا فى بؤرة “الآن”، فلا نملك إلا أن نشاهد التشكيل بكل أبعاده  معا:  المعذب المصلوب، فالمحيطين من الداخل والخارج (!) .

شخوص التشكيل  كُـثـْر، فبالإضافة للمعذب المصلوب نجد الثلاثة المذهولين شفقة، ثم الصوت، فالحاكى (الراوى) ، ثم إن الموضوعات التى حضرت فى الصورة شديدة التنوع رائعة الإثارة، وهى تترجح بين الألم، والتكفير، والجهل (بالطبيعة البشرية)، والشعور بالذنب، والصبر والحزن، مع إلماحة إلى الحِلم والخبرة.

أما التقابلات والتناقضات  المثيرة أيضا فهى عديدة منها:  تواكُـب الصَّلب والتقييد مع الحركة التى لا تهدأ، ثم تواكُـب الشعور بالذنب فالتكفير مع اكتساب حدة البصيرة ، كذلك تواكُـب الذهول مع الدهشة ، وأخيرا الصبر مع الحزن.

ثمة اختراقات أخرى  إبداعية صادمة تفاجئنا حين يقدم لنا محفوظ الجهل باعتباره رذيلة تستأهل هذا العقاب، وإن كان قد وصلتنى فرحة لاعتبار أن الجهل – اختيارا أو كسلا – هو رذيلة بصفة عامة، إلا أن الحلم هنا حدد نوعا هاما من الجهل، وهوالجهل بطبيعتنا البشرية: سواء طبيعة الغضب، أم نبل الكرامة.

يغوص بنا هذا الحلم أيضا إلى مستوى رائع العمق حين يرينا ان المجروحة هى الأعماق (ويهتف من أعماقه الجريحة) ، مع أن ظاهر الصورة يمكن أن يلفت أنظارنا إلى البحث عن آثار الجروح الناتجة، على اليدين والجسم مثلا، عن فرط الحركة مع حبكة القيد.

الأعماق  جرحُها أكثر إيلاما خاصة إذا واكبتها قيود كبلت صاحبها عن تصحيح ذنبه.

 نعود لنتساءل: من هؤلاء الثلاثة  ؟

ولماذا هو “صوت” هكذا “نكرة” ؟

وهل الراوى هو أحد هؤلاء الثلاثة ، أم هو عينٌ خارجية راصدة؟

وما العلاقة  بين أن المصلوب صاح “بغضب” أن ذنبه هو الجهل، وانه جهلٌ بطبيعتنا الغضبية بالذات؟ ثم يلحق بعد ذلك: وأيضا بكرامتنا الإنسانية . هل اختيار محفوظ لتعبير “وصاح بغضب” هو لبيان أن المصلوب يطلق لغضبه العنان بعد أن اكتشف كيف تجاهله زمنا فاستحق ما يلقاه علما بأنه هو صالب نفسه.  هل هو مجرد شعور بالذنب فالتكفير؟ الأرجح عندى أنه ليس كذلك، زخم الحركة فى الحلم ينفى تجميد الموقف عند لوم النفس وعقابها تكفيرا. الحوارالغاضب والوعى المتجدد، ينبهنا أن المسألة هى إعلان نقلة تائبة ، تحفز إلى الاعتراف بحقنا فى الغضب من جهة ، كما نبهنا المصلوب:”جهلنا أن الغضب استعداد فى كل فرد”، وفى نفس الوقت:  ممارسة التعبير الغاضب فى إعلان امتداد البصيرة إلى التمسك بالكرامة الإنسانية مهما بلغت الإهانة الظاهرة.   هل يريد محفوظ  أن يوصل لنا أن بصيرتنا فى “حقنا فى الغضب” وحسن استعمال هذا الحق هو الذى يمكن أن يحفظ كرامتنا، وأن إنكارنا هذا الحق، ومثله، يصيبنا بالعمى النفسى بما يستتبعه من ضياع الكرامة أو التنازل عنها؟

كل ذلك كشفٌ مكثف لطبيعة النفس البشرية وهو كشف معرفى إبداعى يتجاوز تناول الغضب كانفعال شارد يتخطى حدود الضبط والتحكم (مثلما يفعل سوء فهم بعض العلوم النفسية أحيانا). إن هذا الكشف يبلغنا كيف يتواكب “حق الغضب” مع ” الكرامة البشرية”. فلا يعود الغضب، رذيلة على طول الخط، ولا تعود “النفس المطمئنة” جدا هى غاية المراد ، إلا وهى راجعة لتدخل فى عباد الله قبل أن تدخل جنته سبحانه وتعالى !!

ثم إنه يمكن أن نقرأ كل هؤلاء الشخوص باعتبارهم “ذوات الداخل”, وهى تمارس جدل النمو: هؤلاء الثلاثة المذهولون فى دهشة يمكن أن يكونوا تمثيلا لحالات الذات الثلاثة التى تقول بها نظرية التحليل التفاعلاتى Transactional analysisوليس التحليل الفرويدى، كل واحد من هو “كثير فى واحد” كل واحد منا يحمل ثلاث حالات للذات (هم ذوات فعلا) بصفة مبدئية:  الذات الطفلية، والراشدة، والوالدية. هذه التقسيمة يساء فهمها عند العامة وبعض الخاصة حين يتوقفون عند التحليل التركيبى دون النظر فى جدلية النمو بين هذه الذوات الثلاثة إلى ما يسمى “الراشد المتكامل”، الذى لا يتحقق أبدا، وإن كان يتخلق إلى غايته طول الوقت،  لانه ” فى حالة تكوّن مستمر”.

نحن – كبشر ليس عندنا ذوات ثابتة تحدد ماهيتنا، لكننا نخلـّقنا  تخليقا طول الوقت. نرى ملامح بعض ذلك  فى هذا النص المحفوظى المكثف بما يمثله كل من: الصوت، المتململ، والبصيرة المستعادة، وأخيرا “فعلا: الصبر والصمت”. بلغنى الصمت هنا باعتباره  لغة أخرى أعمق وأهم إذ هى تتصل بالزمن القادر على احتواء الحركة، دون أن تـُجهض بالإفراغ فى رموز متاحة (الكلام والتفكير المعقلن) ، كما أن الحزن فى هذا السياق  (وهو غير الاكتئاب) بلغنى أنه الحزن الحيوى الذى يعلن الوعى اليقظ بالسعى إلى عمل علاقة حقيقية مع “الآخر” برغم بصعوبتها الموضوعية، الأمر الذى يحافظ على الإنسان إنسانا، ومن ثم الكرامة !!

وبعد

إن هذه الإضافات لمعرفة النفس الإنسانية تصل إلى المتلقى لهذه القصيدة /الصورة/ التشكيل / الحلم، دون حاجة إلى كل هذا التنظير. إن هذا النقد هو مجرد اجتهاد يضاف إلى المبدع والمعرفة، يصح أو لا يصح، يـُقبل أو يرفض، من المبدع أو من ناقد لاحق، كل هذا وارد، لكن يظل النص يبعث رسائله، ليعرفنا أكثر فأكثر بما هو إنسان.

(ملحوظة:  خطر ببالى بعد هذه المحاولة أن نلتزم فى هذه الصفحة بالعودة كل أسبوع إلى حلم آخر، أو صدى من أصداء السيرة الذاتية، كنافذة دائمة لمعرفة ممكنة . ما رأى  القارئ؟)

ثالثا: الحاجة إلى الشوفان

 تجربة خبراتية 

فى هذا الجزء الثالث سوف نعرض بإيجاز شديد لبعض عينات محدودة، من محاولات تلقائية ، لكشف ماهية الإنسان، من خلال حركية الوعى الخبراتى الذاتى، مجرد مثال لعرض مشاركة الشخص العادى فى رؤية خبراتية ذاتية تضىء بعض جوانب ما هو “إنسان” فينا.

يقال (فى العلم أيضا)  إن الإنسان يحتاج أن “ُيـُـشاف” منذ الولادة حتى الموت، ويسمى ذلك: “الحاجة إلى الشوفان” ، وقد تسمى أحيانا بدقة أقل: الحاجة إلى “التقدير”، أو الحاجة إلى “الاعتراف”، وإن كنا نرى أن الحاجة إلى الشوفان أساسية أكثر، لأنها تتعلق بالإدراك المباشر ، بالحس المشارك، أكثر من تعلقها بالتقييم الفكرى، أو التقدير الأدبى.

(ملحوظة: “شاف” كلمة عربية، فعل عربى فصيح جميل، “إن الكريم إذا يشاف رأيته مبرنشقا، وإذا يهان استزمرا”، وهى أيضا كلمة عامية بديعة “يا عم شفنا، يا عم احنا هنا”، كما أنك يمكن أن تستنتج وجودها بشكل غير مباشر “أنا اللى تحت يا سيد!!” إلخ.)

بدلا من ذكر التجارب التقليدية  والمشاهدات التى يمكن أن تبحث فى أبعاد هذه الحاجة الأساسية،   “الحاجة إلى الشوفان”  قمنا بتجربة خبراتية ، مع أشخاص عاديين، حيث يطلب قائد المجموعة  من المشارك أن يكمل عبارة ما، حتى لو لم يكن مقتنعا بها، ليكتشف، ولو تمثيلا، ما يتراءى له.

قدمنا عبارات كان على المشاركين أن يكملوها ، وسوف نعرض اثنتين بإيجاز شديد لنظهر كيف يصل الشخص العادى إلى حقائق موضوعية دالة .

العبارة الأولى تقول:

“أنا نفسى حد يشوفنى كلى على بعضى حتى لو …..”

  ثم يطلب من المشارك أن يكمل بسرعة ما يخطر، أو حتى ما لا يخطر، على باله:

  أكمل المشاركون الأربعة بالإضافة إلى الأستاذ قائد المجموعة العبارة على الوجه التالى:

(1)   ……. أنا نفسى حد يشوفنى كلى على بعضى حتى لو: شاف عيوبى.

(2)   ……. حتى لو شاف الحتت المكسرة.

(3)   ……. حتى لو أنا وحش.

(4)   ……. حتى لو ما استحملشى الشوفان ده.

(5)   ……. حتى لو: شايف إنه ظالمنى.

وبمناقشة  هذه الاستجابات معا أقر أغلب المشاركين (وهم اشخاص عاديون عدا الأستاذ) أنهم رأو هذه الحاجة رأى العين، وأن هذه الرؤية تمت دون وصاية أو تلقين، وأن شيئا ما داخلهم قد تحرك نحو إضاءة ما.

واحد قال:

 ” أنا استنتجت إننا كلنا متفقين ان حنا عايزين نتشاف، حتى لو اتشافت مساوئنا، ماكنتش متوقع إن الواحد مستعد إن الناس تشوف مساوئه للدرجة دى”.

الآخر قال:

 “يا خبر دا احنا محتاجين إننا نتشاف بالحتت الوحشة اللى عندنا ونتقبل …إلخ

لم تقتصر التجربة على تعرية الاحتياج للشوفان، والمخاطرة بمايترتب عليه، بعد مناقشة  الشوفان المشروط، والشوفان المتحيز، والشوفان الصفقة، أمكننا أن نتقدم خطوة أخرى نبحث عن توقعات المحتاج لهذا الشوفان من خلال عبارة أخرى تقول:

دانا لو حد شافنى بصحيح يمكن …. ، (ثم يطلب من المشارك أن يكمل)

فجاءت الإجابات كالتالى:

(1)   د أنا لو حد شافنى بصحيح…….  يمكن أتغير،

(2)   ……. يمكن أتحسّن،

(3)   ……. يمكن يحبنى

(4)   …….يمكن أصدق

(5)   ……. يمكن أطـّـمئن شوية،

الخلاصة

هذا النوع من التجريب المباشر يمكن أن يجرى كل يوم، دون أن ندرك أنه يجرى، يحدث ذلك  بيننا وبين أنفسنا، أو بيننا وبين بعضنا، ونتاجه تظهر سلبا أو إيجابا فى الوعى العام.

ربطة

يمكن إذا رجعنا إلى حلم محفوظ كما قدمناه حالا، نلاحظ الفرق بين رؤية المصلوب لعماه وجهله، مع أن المحيطين به عرفوه حليما خبيرا كمثال يحتذى “…عهدنا بك ذو حلم وخبرة”. ثم ها نحن نكتشف من خلال هذه التجربة عن الشوفان أن شحذ بصيرة الشخص العادى ليرى حاجته, وشروطه، وتخوفاته، بالنسبة لحاجة من احتياجاته الأساسية  هو أمر متاح، وبشكل مباشر.

 فنستنتج معا أنه:

(1)         لا يكفى أن تسد حاجتك إلى أن يراك الناس، بأن تعترف بذلك

(2)         ولا يكفى أن يروك كما تشاء أن يروك، بل قد يضرك ذلك

(3)         كما لا يكفى أن يروك كلك بعيوبك ومحاسنك

  • بل يلزم أن تأخذ كل هذه الرؤى وترى نفسك بنفسك، دون أن تعتقد بصواب ذلك أو ثباته، كما رأى المصلوب فى حلم محفوظ حقه –حقنا- فى الغضب، ومن ثم الكرامة الإنسانية.

( ملحوظة: يمكن عرض اللعبة كلها ، مع المناقشة فى أسبوع قادم. ما رأى القارئ؟)

رابعا: الدعوة عامة

(برجاء اصطحاب الأطفال: بداخلكم)

لست متأكدا إن كانت هذه البداية صحيحة أو مناسبة ، دعونا نجرب معا، الممارسة معا يمكن أن تخلّق ما هو أفضل، ما هو أنفع، وما هو أكثر حفزا للإبداع العادى، والممارسة النشطة، فى تشكيل وعى قادر على حمل مسئولية استمراره فى هذه الحياة ، التى أصبحت صعبة، بقدر ما هى رائعة واعدة.

ملاحظات، واقتراحات

1)            نحن نحترم  ذكاء السؤال الذى قد يكون أقدر على الكشف  عن المطلوب من حضور الإجابة. إن كثيرا من الأسئلة ليس لها إجابة جاهزة بالضرورة ، ليسأل كل ما يشاء شريطة أن يحاول هو شخصيا إجابة سؤاله، ولا ينتظر منا إلا محاولة مقابل ذلك، وعليه أن يكمل بنفسه دون عجلة.

2)            سوف نحاول أن نتعرض لمعظم مناهل المعرفة بقدر ما تسمح به المساحة ويثيره الحوار، من أول المثل الشعبى، حتى التراث الشعرى،  والسير الذاتية، مرورا بالعلم إبداعا، وليس فقط المعلومات الكمية الجاهزة

3)            نحن نرحب بمقتطفات مختصرة، وإسهامات مبادئة، ونقد مغامر مهما كان قاسيا أو مخالفا، ونعد بأخذ كل مشاركة مأخذ الجد ما أمكن ذلك.

4)            قد نعرض لتصحيح مفاهيم شائعة، وقد نتعرض لمؤسسات قامعة، إلا أننا نأمل ، بتشجيع القارئ، ألا يحول ذلك دون الاستمرار أو قبول التحدى

5)            قد يصاب القارئ بإحباط مختلف الدرجات حين لا يجد النصائح الجاهزة أنه “لا تخف”، وأن عليه يكون “كويسا”، لأن الكواسة مفيدة لروقان البال، أو أن عليه أن يستشير طبيبا نفسيا على العمال على البطال، كل هذا خارج عما نراه متناسبا مع هدف هذه الصفحة وطبيعتها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *