الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (71) Biorhythmic Psychiatry المقابلة الإكلينيكية (24) “خوارزمية نسبية” من أول لقاء (1)

الطبنفسى الإيقاعحيوى (71) Biorhythmic Psychiatry المقابلة الإكلينيكية (24) “خوارزمية نسبية” من أول لقاء (1)

شرة “الإنسان والتطور”

السبت: 16-7-2016

السنة التاسعة

العدد:  3242

 الطبنفسى الإيقاعحيوى (71)

 Biorhythmic Psychiatry

  المقابلة الإكلينيكية (24)

“خوارزمية نسبية” من أول لقاء

 أنهيت نشرة الاثنين الماضى بتقديم شكل تسلسلى (لا أظن أنه خوارزمى جدا)، ووعدت أن أتناوله بالتفصيل مرحلة مرحلة بدءا من هذه النشرة، ونحن ما زلنا فى التعرف على كيف نلّقى مريضنا، أو من حضر على أنه مريض للاستشارة بمحاولة التعرف عليه إنسانا متفردا قبل الهجوم بتعداد وترقيم الأعراض، لجمع بعضها إلى البعض، وتعليق لافتة التشخيص.

وسوف نتدرج انطلاقا من الشكل الذى انهينا به النشرة الأخيرة بعد تقسيمه إلى ما يمكن أن نناقشه خطوة خطوة لعل أفكارنا  تتنظم بنفس الترتيب.

16-7-2016_1

فى نشرة الإثنين الماضى تناولت هذه المرحلة التى أناقش فيها احتمال ألا يكون المستشير مريضا أصلا، وسوف أكتفى الآن بإضافة ملاحظات عابرة ثانوية فى نفس النقطة، إلا أنها قد توضح ما أعنى أكثر من أنه “ليس بالضرورة أن من يحضر للعيادة النفسية هو مريض نفسى لمجرد أنه حضر

وفيما يلى بعض تلك الملاحظات، وأكتفى بذكر بعضها بما في ذلك من بعض التندر:

(1) أحيانا أكتشف أن المريض يحضر ليكشف علىّ ، أكثر من أننى أنا شخصيا أكشف عليه، بمعنى أنه يأتى من باب حب الاستطلاع والبحث عن إجابات ولو قابعة تحت السطح عن ما هو الطب النفسى أو المرض النفسى، والأهم هو: من هو ذلك المدعو “الطبيب النفسى”، وذلك أكثر من كونه يعانى معاناة موضوعية تستأهل هذه المشقة

(2) أحيانا يستدرجنى المريض، ومن البداية إلى مناقشة سياسية، وخاصة وأنا – مثل بعض زملائى- أظهر فى وسائل الإعلام فى برامج الرأى بشكل ليس نادرا ، وهنا ينبغى أن ينتبه الطبيب: أولا  لفصل الأدوار وتحديد الغرض المهنى ، يفعل ذلك باحترام لحق المريض فى حب الاستطلاع، ولكن دون السماح بالاسترسال، فإذا تمادى المريض فعلى الطبيب أن يحوِّل الموضوع، أو أكثر، ومع أن الإنسان المعاصر هو كائن سياسى بالضرورة (مريضا كان أو طبيبا)، إلا أن وقت الاستشارة هو للاستشارة وليس لتبادل الرأى السياسى

(3) أحيانا يستدرج المريض الطبيب إلى جدل حول رأى عام، ليس بالضرورة سياسيا، لكنه ليس طبيا، وليس خاصا بشكوى المريض أو حالته، وعلى الطبيب أن يعتذر أيضا وبسرعة عن التمادى فى ذلك

(4) يصل الأمر، وإن كان ذلك نادرا، أن  تحضر إحداهن للكشف على درجة خفة دم الطبيب كما  سمعت عنها من صديقتها، وهى طبعا لا تصرّح بذلك، ولكن يمكن استنتاج ما يبرر هذا الظن، وخاصة إذا ظهر عليها أنها اكتشفت خيبة حكم صديقتهاّ !!!!

كل هذه المقدمات بما فى ذلك هذه الاستطرادات هى لتنبيه الطبيب ألا يندفع إلى التعامل مع كل من يأتى له باعتبار أنه مريض بالضرورة، ويبدو أننى انتبهت باكرا لأهمية هذا التحذير وأنا أكتب باكرا عن الحيرة فى تعريف الصحة النفسية سنة 1971 حين وصل الأمر إلى المبالغة فى هذا الاتجاه عند بعض الأطباء النفسيين لدرجة اعتبار أن المريض هو “من ذهب يستشير طبيبا نفسيا” أما الصحيح نفسيا فهو الذى لم يفعل ذلك (أو لم يحتج لذلك) فقد جاء بالنص فى كتابى حيرة طبيب نفسى (1):

“….. حاول‏ ‏فريق‏ ‏آخر‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏أن‏ ‏يحدوا‏ ‏أنفسهم‏ ‏بالذين‏ ‏يحضرون‏ ‏إليهم‏ ‏للعلاج‏ ‏طائعين‏ ‏أو‏ ‏مكرهين‏، ‏فلجأوا‏ ‏إلى ‏التفرقة‏ ‏بين‏ “‏المريض‏” ‏والذى ‏به‏ ‏مرض‏”، “‏فالمريض‏” ‏عندهم‏ ‏من‏ ‏يحضر‏ ‏لاستشارتهم‏، ‏يحضر‏ ‏هو‏ ‏أو‏ ‏يحضره‏ ‏آخر‏، ‏أما‏ “‏الذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏فقد‏ ‏يحضر‏ ‏أو‏ ‏لايحضر‏ ‏وقد‏ ‏لايحضره‏ ‏آخر‏,، ‏وحين‏ ‏لا‏ ‏يحضر‏ ‏يتصور‏ ‏هذا‏ ‏الفريق‏ ‏من‏ ‏الأطباء‏ ‏أنه‏ ‏ليس‏ ‏لنا‏ ‏أن‏ ‏نحكم‏ ‏له‏ ‏أو‏ ‏عليه‏، ‏لعل ما يدعم‏ ‏أصل‏ ‏هذه‏ ‏الفكرة‏ ‏وجود‏ ‏لفظين‏ ‏فى ‏اللغات‏ ‏ذات‏ ‏الأصل‏ ‏اللاتينى ‏يختلفان‏ ‏فى ‏المعنى ‏نفس‏ ‏هذا‏ ‏الاختلاف‏ ‏وهما‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏الانجليزية‏ ‏مثلا‏ ‏لفظا‏ “Ill & patient” (‏ولم‏ ‏أجد‏ ‏لهما‏ ‏مقابلا‏ ‏مباشرا‏ ‏فى ‏اللغة‏ ‏العربية‏ ‏فترجمتها‏ ‏إلى ‏ماسبق‏ ‏وهو‏ ‏أن‏ ‏المريض‏ ‏هو‏ ‏ال‏ Patient “‏والذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏هو‏ (ILL ‏فالمريض‏ ‏”Patient” ‏إنما يعنى بترجمة عن ‏اللغة‏ ‏الانجليزية حرفية‏: ‏”الشخص‏ ‏المريض‏ (‏حالة‏ ‏كونه‏) ‏يعالج‏ ‏بواسطة‏ ‏طبيب”‏، ‏وأما‏ ‏الذى ‏به‏ ‏مرض‏” ‏ILL فترجمته‏ ‏الحرفية‏ ” ‏فى ‏صحة‏ ‏سيئة‏” (‏ولكن‏ ‏لهذا‏ ‏اللفظ‏ ‏الأخير‏ ‏معان‏ ‏أخرى ‏مثل‏ “‏ذو‏ ‏خلق‏ ‏سئ‏” ‏أو‏ ‏مؤذ‏.. ‏وهى ‏معان‏ ‏ليست‏ ‏بعيدة‏ ‏عن‏ ‏بعض‏ ‏أنواع‏ ‏المرض‏ ‏النفسى ‏على ‏كل‏ ‏حال‏).‏وقد‏ ‏ذكر‏ ‏جيليس‏ Gillis ((2)2]) ‏فى ‏ذلك‏ ‏أنه‏ ‏لا‏ ‏يوجد‏ ‏مبرر‏ ‏لمحاولة‏ ‏أن‏ ‏نفصل‏ ‏“الخراف”‏ ‏عن‏ ‏”الماعز”‏ ‏باعتبار‏ ‏أن‏ ‏من‏ ‏يحضر‏ ‏للعلاج‏ ‏فقط‏ ‏هو‏ ‏المريض‏” (هذا هو نص تعبير جيللس).

الخطوة الثانية

أنتقل بعد ذلك إلى الخطوة التالية بعد أن يقتنع الطبيب أنه أمام مريض يحتاج إلى طبيب، وأنه لا ينبغى أن يسارع بالبحث عن اسم المرض النفسى الأنسب لحالة المريض وذلك بجمع الشكوى وترجمتها إلى أعراض أولا بأول كما ذكرنا، لأن هناك خطوة تالية بادئة أيضا تلزمه ابتداء أن يحدد أن المرض هو مرض نفسى أصلا، وهنا تجدر الإشارة إلى ضرورة حذق الطبيب النفسى للطب العام، والطب الباطنى خاصة.

وقد كان من حسن حظى أن تدربت على يد المرحوم الاستاذ الدكتور عبد العزيز عسكر، الذى كان يلزم الطبيب النفسى المبتدئئ (الطبيب المقيم) أن يحصل على تخصص أعلى فى الأمراض الباطنة العامة، (بعد بكالوريوس الطب والجراحة طبعا) وذلك قبل التقدم للحصول على التخصص فى الطب النفسى والأمراض العصبية، وقد أفادنى ذلك كثيرا، كما أفاد كل زملائى الذين التزموا بهذا الترتيب، ذلك أن كثيرا من الأمراض الجسمية العامة ، تكون من أهم مصاحباتها أعراض نفسية تزول بعلاج المرض الأصلى، وما زلت أذكر المرحوم أ.د. أبو شادى الروبى وهو أستاذ الأمراض المتوطنة فى قصر العينى، حين كان يداعبنى أنه عرف مضاعفات مرض “الميكسيديما”  (نقص إفراز الغدة الدرقية) من رواية بالإنجليزية بعنوان “القلعة” للكاتب الإنجليزى A.J. Cronin أ. كرونن.

16-7-2016_2

أخلص من ذلك أنه على الطبيب النفسى قبل أن يسارع بوضع لافتة المرض النفسى على  مريضه أن يبحث عن الأمراض الجسمية العامة التى لها أعراض نفسية، ولا ينسى قول هـ. لانج أن بين العقل والجنون، ثلاث درجات فهرنهايت، وهو يعنى أن أى حمى حادة قد تسبب ارتفاعا شديدا فى درجة الحرارة، وبالتالى قد تكون سببا مباشرا فى ظهور هلوسة حقيقية وهو فى حالة الهذيان  الحمّى.

 قبل أن أستطرد أود أن أنبه أن المبالغة أيضا فى هذا الاتجاه، خاصة بالنسبة لأمراض تقع بين المنطقتين لها مثالبها الخاصة، فمن مصادر حضور المريض أن يأتى محولا من طبيب عام، أو تخصص فى تخصص آخر، نصحه هذا أو ذاك باستشارة طبيب نفسى، وكثيرا ما يقول المريض أن هذا الطبيب المحوّل قد أخبره أنه “ما عندوش حاجة (ليس به شىء)”، ثم نصح بتحويله، وهذا موقف غير علمى وغير مفيد، وهو يضطرنى أحيانا إلى أن أنبه المريض، وأهله أحيانا إلى أنى لست متخصصا فى “المفيش حاجة”، وإنما فى فرع من فروع الطب مثل سائر الفروع.

وكثير من المرضى يفضلون أن تكون “فيه حاجة” عندهم، عضوية، تفسر ما يعانون منه، ومعظم الأطباء يلتقطون ذلك، ويستجيبون لهم بأن عندهم نقص فى المادة الفلانية أو زيادة فى المادة العلانية (الكاتيكولاين / السيروتيتن..الخ) وبرغم صحة بعض ذلك، دون فصل بين السبب والنتيجة، إلا أن الاختزال يصل إلى درجة أننى أحيانا حين أسأل المريض: “مم تشكو” فيجيبنى:  “من نقص السيروتيتن (مثلا)  بدلا من أن يجيبنى عن حزنه أو مشاعره أو أرقه.

 وقد شاع لفترة ليست قصيرة، تراجَعَتْ تدريجيا، أن تعُزى أغلب نوبات الهلع إلى ارتخاء فى صمام فى القلب، مثل هذا يثبِّتُ الأعراض ولا يدفع المريض أن يساهم فى مواجهتها للعلاج.

الخطوة التالية هى من صميم عمل الطبيب النفسى (بالاشتراك أحيانا مع طبيب الأعصاب)، وهى التأكد – أيضا قبل الإسراع إلى وضع لافتة المرض النفسى الشائع -، من أنه لا توجد أمراض أو أسباب إمراضية عضوية محددة بالمخ، مثل الحمى المخية، أو الضمور، أو الجلطة، أو تصلب شرايين المخ، أسباب يمكن أن تكون مسئولة عن الأعراض النفسية الحاضرة، خاصة بالنسبة لكبار السن، والمصابون بأمراض السكرى وارتفاع ضغط الدم، وهذا الاستبعاد المبدئى له أهمية قصوى قبل الانتقال إلى مرحلة تصنيف الأمراض النفسية الخالصة، لأنه فى أحيان ليست قليلة، وخاصة فى الحالات الحادة، يكون السبب العضوى قابل للإزالة، وفى هذه الحالة لا يصح تجاوزه أو التأخر عن تشخيصه فعلاجه بأسرع وأنجع ما يمكن.

 وهنا تجدر الإشارة إلى أنه بمجرد ترجيح أنه مرض مخّى عضوى ينبغى تحديد ما إذا كان حادَّا أو مزمنا، وهذه التفرقة كانت موجودة فى دليل التشخيص الأمريكى الأول سنة 1952 DSMI  لكنها للأسف ألغيت بعد ذلك وحتى الدليل الخامس DSMV مع أنها مهمة لضرورة الإسراع بعلاج النوع الحاد إن كان له علاج.

وعندى من منطلق الطبنفسى الإيقاعحيوى ملاحظة إكلينيكية هامة فى هذه المنطقة ، فكثيرا ما تبدوا الأعراض عامة غامضة ومتداخلة بشكل غير مفهوم أطلاقا، وعدم المفهومية هذه صفة تطلق عاة على أعراض الفصام المتفسخ، وينسب إلى كارل ياسبرز أنه كان يرجح  تشخيص مرض الفصام بمدى وجود هذه اللامفهومية  un-understandability إلا أننى مع طول الممارسة والغوص إلا النفسمراضية للفصاميين،  رفضت هذا التعميم الذى لم يقل به كارل ياسبرز  هكذا مباشرة، ذلك أننى أتمكن – وأدرب من أعلّم – أن يكون انطلاقنا  للعلاج هو من خلال فهمنا الأعمق لغائية الفصام “ماذا يريد الفصامى أن يقول بمرضه هذا؟” وغالبا ما ننجح، فضلا عن ما أضافه الطبنفسى التطورى (وليس فقط الإيقاعحيوى) من إرجاع الأعراض إلى وظيفتها التطورية الأسبق، وحين تبلورتْ عندى هذه الفرضية وأمكنننى فهم  لغة وغائية أغلب ما يعرض لى من فصاميين، ازداد رفضى تدريجيا أن يكون الفصامى مهما تناثر غير مفهوم، وبالتالى أصبح تعثرى فى عدم مفهومية أعراض مريض ما، وعجزى عن جمعها حول  فهم غائى، سببا فى افتراض مبدئى لوجود سبب عضوى عجز الفحص الإكلينيكى بل والمعملى والأشعاعى (حتى بالرنين المغناطيسى) أن يكتشفه، و أروح أتابع هذا المريض بهدوء وصبر فى انتظار ظهور السبب العضوى الذى غاب عن الرصد فى البداية، وكان عادة ما يظهر فى بعض مثل هذه الحالات، ويتم علاج السبب العضوى بنجاح وفى الوقت المناسب، وقد ربطت هذه الخبرة بتلك الفروض التطورية التى توصلت إليها مؤخرا، وبعد فهم غائية المرض بما فى ذلك الفصام، وسوف نعود إلى شرح هذه الغائية فى طرح التشخيص المبنى على الأبعاد Dimentions وهو “البعد الغائى  مقابل الفوضى العشوائية“Disorganization versus Chaotic

وبعد

 إنه بعد استبعاد  الفاحص كلا من الأمراض الجسدية العامة، وبعد تحديد الأمراض العضوية المخية المحددة (وأغلبها ضمن اختصاصه أيضا)، وبعد أن يستقر عنده الرأى أن مريضه يعانى من مرض نفسى أصيل ومستقل، فإنه ينتقل إلى تسلسل بقية المسلسل بشكل مطمئن،

هذا هو الذى سنواصل عرضه ابتداء من باكر، مع الاكتفاء الآن بعرض الشكل حفزا للتفكّر.

16-7-2016_3

[1] – يحيى الرخاوى: (“حيرة طبيب نفسى” ملحق الكتاب: مستويات الصحة النفسية)، دار الغد 1972 ص 184 – 185

[2] – Gillis, L.S.: who is Mentally Healthy, South Africa Medical Journal, Vol. 35, No. 8, Deel, 35,cape Town (Feb).1961‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *