الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (63) Biorhythmic Psychiatry الجذور (10) حالات الوجود المتبادلة (2) الجنون فى رحاب العقل

الطبنفسى الإيقاعحيوى (63) Biorhythmic Psychiatry الجذور (10) حالات الوجود المتبادلة (2) الجنون فى رحاب العقل

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 26-6-2016

السنة التاسعة

العدد:  3222

 الطبنفسى الإيقاعحيوى (63)

Biorhythmic Psychiatry

   الجذور (10)

حالات الوجود المتبادلة  (2)

الجنون فى رحاب العقل

26-6-2016_1

مقدمة:

بإعادة ‏النظر‏ ‏فى ‏موقفنا‏ ‏مما‏ ‏يسمي‏”‏الحياة‏ ‏العادية‏”، ‏يبدو أنه ‏ ‏ليس‏ ‏صحيحا‏ ‏أن‏ ‏يكون‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏: ‏‏ “‏الحياة‏ ‏العادية‏” (‏عند‏ ‏العامة‏ ‏والأطباء‏ ‏على ‏السواء‏) ‏هو‏ ‏المرادف‏ ‏البديهى ‏لما‏ ‏هو‏ “‏صحة‏” “‏نفسية‏!!”، ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏مايسمى ‏بالحياة‏ ‏العادية‏ ‏ليس‏ ‏إلا‏ ‏إحدى “‏صور‏/‏حالات‏” ‏الوجود المتعددة‏. ‏ومهما‏ ‏كانت‏ ‏هذه‏ “‏الحالة العادية”‏ هى ‏الغالبة‏ ‏إحصائيا‏ (‏حيث يتصف بها معظم‏ ‏الناس‏) ‏والسائدة‏ ‏زمنيا‏ (لمعظم‏ ‏الوقت‏)، ‏فهى ‏ليست‏ ‏كل‏ ‏الوجود‏ ‏حتى ‏تحتكر‏ ‏ما‏ ‏يطلق‏ ‏عليه‏ ‏الصحة النفسية‏. ‏ذلك‏ ‏لأن‏ ‏مايسمى”‏الحالة‏ ‏العادية‏” ‏لو‏ ‏سادت‏  طوال‏ ‏الوقت‏ ‏لأصبحت‏ ‏عاملا‏ ‏معوٍّقا‏ ‏لمسيرة‏ ‏الحياة‏، لأن المبالغة فى تقديسها يمنع أى مغامرة للتغيير بل للابداع، ‏حيث‏ ‏أنها‏ ‏عاجزة‏ ‏عن‏ ‏احتواء‏ ‏حركية‏ ‏الظاهرة‏ ‏البشرية‏ التى تميز الفطرة المتخلقة ‏فى ‏جدليتها‏ ‏المتصاعدة‏. ‏

‏ ‏إن‏ ‏التحدى ‏الملقى ‏علينا‏ – ‏والذى ‏نحاول‏ ‏تحمل‏ ‏مسئوليته‏ ‏فى ‏هذه‏ ‏الدراسة‏- ‏هو‏ ‏مواجهة‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏السكونية‏ (العادية) ‏بفهم‏ ‏أعمق‏ ‏لطبيعة‏ ‏المسيرة‏ ‏البشرية‏، ‏حتى ‏لانُخْدَع‏ ‏فنعتقد‏ ‏أن‏ ‏الصحة‏ ‏النفسية‏ ‏المناسبة‏ ‏ليست‏ ‏إلا‏ ‏المضاعفة‏ ‏المتراكمة‏ ‏لهذه‏ ‏العادية‏ الكَميِّة‏ ‏السكونية‏.

‏”الحالة العادية” إحدى أطوار دورات الحياة النابضة‏:

‏إن‏ ‏ما‏ ‏يطلق‏ ‏عليه‏ ‏تعبير‏”‏الحياة‏ ‏العادية‏” Normal Life، ‏ليس‏ ‏سوى “‏حالة‏ ‏العادية‏” State of Normality، ‏على ‏أساس‏ ‏أنها‏ “‏حالة‏” ‏من‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏أخرى ‏لازمة‏، ‏بالتبادل‏ ‏والتفاعل‏، ‏لاستمرارية‏ ‏الحياة‏ ‏البشرية‏ ‏فى ‏كفاءتها‏ ‏القصوى ‏ونمائها‏ ‏المتصل‏، وهذا ما يساير تاريخ التطور من جهة، وطبيعة وحيوية ودور الإيقاعحيوى من جهة أخرى.

فما‏ ‏هى ‏تلك‏ ‏الحالات‏ ‏الأخرى؟ إنها حالات بلا حصر، تتعدد بقدر تعدد نبض الإيقاعحيوى، وسوف نتناول منها ‏ ‏بصفة مبدئية “‏حالة‏ ‏الإبداع‏” “‏وحالة‏ ‏الجنون‏”، ‏على ‏أساس‏ ‏أنهما‏ ‏تمثلان‏ ‏ألوان‏ ‏النشاط‏ ‏المتبادلة‏ (‏والمتداخلة‏ ‏والمتفاعلة‏) ‏مع‏ ‏حالة‏ ‏الوجود‏ ‏العادى ‏الغالبة‏، (وأكرر التنبيه إلى ضرورة التركيز على صفة “حالة” فى كل مرة نذكر فيها “العادية” أو غيرها حتى لا تختلط الأمور.)

‏ ‏وإذا‏ ‏كنا‏ ‏نقبل‏ ‏أن‏ ‏تتبادل‏ ‏حالة‏ ‏العادية‏ ‏مع‏ ‏حالة‏ ‏الإبداع‏،  بمعناه الأشمل، بما فى ذلك إبداع الحلم  وإبداع الذات نموّا، ‏فمن الطبيعى أن نُدْهَش أو حتى نخاف من فرض‏ ‏ضرورة‏ ‏التبادل‏ ‏مع‏ “‏حالة‏ ‏الجنون‏‏”؟!!

إن ‏”الحالة” التى نسميها هنا الجنون والتى ‏نصر‏ ‏‏على ‏أنها‏ “‏إحدى ‏الحالات‏” ‏اللازمة‏ ‏لكفاءة‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى، ‏هى مجرد ‏مرحلة‏‏ (‏مهما‏ ‏قصر‏ ‏زمنها‏) ‏من طبيعتها أن‏ ‏تتحور،‏ ‏ولها عمر افتراضى قصير محدود مهما عاودت الظهور فى طورها المناسب، فهى قد‏ ‏تسكن‏ ‏وتتراجع‏ ‏لتعلن‏ ‏حالة‏ ‏العادية‏ ‏كما أنها قد‏ ‏تتمادى ‏للتفسخ‏ إلى ناتج سلبى فى ظروف غير ملائمة، ‏فالناتج‏ ‏السلبى فقط هو الجنون بمعنى المرض، أما إذا انتهى طور هذه الحالة إيجابيا فإنها قد تتوجه ضامة فى إعادة تشكيل ‏إلى ‏حالة‏ فائقة من الجدل والتوليف فهو “‏الإبداع الفائق‏”.

أن‏ ‏المفهوم‏ ‏السكونى ‏الشائع‏ ‏عن ماهية‏ الصحة النفسية تحت‏ ‏زعم‏ ‏تقديس‏ “‏العادية‏” ‏فحسب‏، ‏لا‏ ‏يتفق‏ ‏مع‏ ‏ما‏ ‏يعد‏ ‏به‏ ‏الوجود‏ ‏البشرى ‏ويستطيعه‏ ‏فى ‏حركيته‏ ‏النامية‏ ‏الغائية‏، وبالتالى لا يتفق مع الأسس البيولوجية والتطورية للطبنفسى الإيقاعحيوى.

تسلسل الافتراضات الأساسية:

“لا يوجد إنسان هو مبدع بالطبيعة والاستعداد والموهبة، فى حين أن غيره ليس كذلك، ولا يمكن أن يكون كذلك، الاختلافات واردة، والفرص مختلفة، لكن ‏ ‏الطبيعة‏ ‏البشرية‏ ‏بمسيرتها‏ ‏الحيوية‏ ‏تسمح بالتبادل الحتمى لكل فرد دون استثناء‏‏ ‏بين‏ ‏حالات‏ ‏الوجود‏ ‏التى أشرنا إليها حالا: حالة العادية، وحالة الجنون، وحالة الإبداع. الإشكال إذن فى التوقف عن هذا التبادل قهرا أو خوفا أو تشويها، بما يترتب عليه دوام إحدى هذه الحالات على حساب الأخريتين، ولا يتم التوقف الدائم فى “حالة العادية” إلا من خلال (1) جدار صلب من دفاعات جاهزة أو (2) تفريغ نزوى عشوائى أولا بأول: لطاقة الحياة المتولدة أو (3) انغلاق دائرة النبض ودوران الإيقاعحيوى فى المحل بأعادة نفس النص (سكريبت) المغلق طول الوقت.

 نتيجة لهذا التوقف تغلب‏ ‏حالة العادية‏ ‏طوال‏ ‏الوقت‏، ‏فيتجمد‏ ‏الوجود‏، ‏ فيما يسمى “فرط العادية” الذى قد يشمل فى تضخمه الكمى نوعا من بعض ما يعرف بـ “اضطرابات الشخصية”‏

أما إذا‏ ‏توقفت الحركية عند حالة‏ ‏الجنون‏ ‏ فتمادى سلبيا طوال‏ ‏الوقت‏، ‏فالناتج هو  تخثُر‏ ‏الوجود إلى التدهور المتمادى فالتحلل المتفسخ السلبى (الإزمان والموت النفسى = الجنون الصريح المتمادى). ‏

حتى حالة ‏الإبداع‏ ‏ لو غلبت وتواصلت طوال‏ ‏الوقت‏، ‏تقلص‏ ‏الوجود‏ُ فى تدفق بلا نبض كافٍ، ‏باسطا‏ ‏ما‏ ‏احتوى ‏فى ‏تشنج‏ ‏ممتد‏ ‏حتى ‏ينقلب‏ ‏الإبداع‏ ‏إلى ‏عكسه‏ ‏مفتقرا‏ ‏إلى ‏تجديد‏ ‏مادته‏ ‏الأولية‏ ‏اللازمة‏ ‏المتغيرة‏ ‏لحركية‏ ‏الجدل‏ ‏فى نبضة إبداع تال.

وقد قمت بوصف هذه الحالات تفصيلا فى ملف الصحة النفسية ويمكن الرجوع إليها (نشرة 1-12-2010) و(نشرة 14-12-2010)  لكننى لم أربط بينها وبين الإيقاعحيوى أو دورات المخ وهو يعيد بناء نفسه.

تصنيف الأحوال بديلا عن تصنيف البشر:

هذه النقلة من “تصنيف البشر” إلى “تصنيف الأحوال” هى اعتراف ضمنى بحتمية التطور عند كل الناس فهى تؤكد انطلاقة نحو قبول الطبيعة البشرية بما يسمح للعادى أن يبدع، ويُطَمْئِن المبدع حتى لو خاف مخاطرة الجنون (اللاعودة = سكة اللى يروح ما يرجعشى)، كما أنها بمثابة تنبيه إلى ضرورة احترام الذى جـُنّ باعتبار أنه احتمال قائم عند أى واحد منا، وأيضا باعتبار أن ثمة فرصة أمام الذى تورط فى هذه المحنة “محنة الجنون”: ليس فقط للعودة إلى العادية والتبادل الصحى، وإنما لاحتمال الإبداع ما دام أنه تحرك بما يشير إلى احتمال أنه أَجْهزُ للتفكيك من المتصلب العادى، مع اتخاذ كل الحذر لتعرضه أكثر من غيره للحل السلبى المتمادى.

“حالة الجنون” ليست جنونا، و”حالة العادية” ليست جمودا

نوضح‏ ‏هنا‏- ‏ثانية‏ ‏وكثيرا‏- أن‏ ‏اعترافنا‏ ‏بـ‏ “‏حالة‏ ‏الجنون‏” ‏على ‏أنها‏ ‏مرحلة‏ ‏ضمن حركية النمو‏، ‏لاينبغى ‏أن‏ ‏يعطيها‏ ‏أية ‏شرعية‏ ‏للتمادى، حتى تصير إلى ما يسمى “الجنون” نفسه، إذن فلا بد من التأكيد على أنحالة الجنون هى غير الجنون وإن كانت هى المؤدية إليه متى طالت، وتمادت إلى مآل سلبى كما ذكرنا، ‏كما أن‏ ‏دفاعنا‏ ‏عن‏ ‏حقها فى‏ “‏التواجد‏” ‏و”التبادل”‏ ‏و”التفاعل‏” باعتبارها إحدى حالات النبض الايقاعحيوى وبالتالى فإن كل هذا هو تنبيه لقبول درجاتها البادئة لتوجيه مسارها إلى ما بعدها أو عودتها إلى ما قبلها، وعلى ذلك فإن القبول بحالة الجنون ليس‏ دفاعا ‏عن‏ ‏ظاهرة‏ ‏الجنون‏ مرضاً، ‏أى ‏أننا‏ ‏نقبل‏ ‏الجنون‏-‏وندافع‏ ‏عنه‏- ‏بما‏ ‏هو‏ ‏حالة‏ ‏مرحلية‏ ‏نشطة، واحتمالٌ وارد، وبالتالى نسمح بحركتها‏ ‏فى ‏إطار‏ ‏حركية‏ ‏متكاملة‏ ، ‏لكن‏ ‏ليس‏ ‏أبدا‏ ‏بوصفها‏ ‏ظاهرة‏ ‏مستقرة‏.

 إنها دعوة أن نقبل حالة الجنون وليس الجنون، باعتبارها حالة ‏نحترم‏ ‏بدايتها‏ ‏دون‏ ‏مسارها‏ (‏إلى ‏التدهور‏ ‏والنكوص‏ ‏المستتب‏). ‏هذا‏ ‏الاضطرار‏ ‏الحذر‏ “‏الجنون فى رحاب العقل” ‏هو‏ ‏المخرج‏ ‏المحتمل‏ ‏لمواجهة‏ ‏غلبة‏ ‏رفضنا للجنون‏‏ ‏كليةً‏ ‏وابتداءً‏ ، ‏مما‏ ‏يترتب‏ ‏عليه‏ ‏رفض‏ ‏للحركية‏ ‏ضمنا‏، ‏ومن‏ ‏ثم‏ تراجع ‏احتمالات‏ ‏الإبداع‏ ‏الذى ‏يتفق‏ ‏معه‏ (مع الجنون) ‏فى ‏البدايات‏.‏

أما حالة العادية فهى أيضا ليست جمودا على طول الخط كما تبدو للساخرين أو الثائرين على الورق.

وهذا ما سوف نتناوله غدًا.

ملاحظة هامة:

من فرط ترددى فى تسمية حالة الجنون التى هى ليست جنونا ولكنها شديدة الدلالة فى هذا السياق اكتشفت أننى حاولت أن أحسم الأمر فى إحدى النشرات السابقة (نشرة 3-1-2012) على الوجة التالى:

على الرغم من البدء باسم:  حالة الجنون” فإننا تراجعنا خوفاً من سوء الفهم إلى “حالة الجنون/اللاجنون”، ثم خفنا أيضا من مزيد من الغموض فاكتفينا باسم “حالة الفوضى الخلاقة“، لكننى خفت مؤخرا أن تختلط “بحالة الإبداع” ففضلت هذا الاسم الأخير “حالة التعتعة المفترقية“، باعتبار أن مشروع التخلق قبل تماديه هو مفترق طرق وهو إما أن يجهض إلى “حالة الجنون” أو يتجمد فى “حالة فرط العادية” أو يعود إلى “حالة العادية” فى انتظار دورة لاحقة فى نبضة قادمة لهذا أضفت إلى صفة التعتعة صفة “المفترقية”.

وبعد

كان ذلك حين كنت أتصور أن فُرَصَ هذا التبادل لا تسنح إلا فى أزمات النمو المعروفة، لكن مع تمادى ارتباطى بمفاهيم الطبنفسى الإيقاعحيوى أصبحت أميل إلى تصُوِّر درجة ما من هذا التبادل مع كل نبض للإيقاعجيوى المستمر!! ثم إنى اعترف أننى برغم كل هذا التردد فى التسمية مازلت أرجو أن أحتفظ بمصطلح “حالة الجنون” للتأكيد على أن هذه الحركية النابضة الإيقاعحيوية هى جزء طبيعى من وجودنا بما يبرر عنوان النشرة الحالية “الجنون فى رحاب العقل”.

2 تعليقان

  1. جزيل الشكر و فائق الإحترام و التقدير لك مولانا الحكيم على هذه الحرفية فى الفصل و الضم بين حالات الوجود المتبادلة و إبداع وصفك لما أطلقت عليه بابداع مسمى “التعتعة المفترقية”
    و هذا التوضيح بسلاسة و عمق للفرق بين قبول حالة الجنون باعتبارها حالة ضمن حركية و تبادل حالات الوجود و بين الرفض المسؤول للتوقف فيها و الثبات عليها

    دمت معلمنا الحكيم و دام للانسانية نفع علمك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *