الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / حالات وأحوال: استلهام الثقافة الفرعية للفروض العلاجية قهر الانوثة، فرفض الحياة: برفض الأكل (1)

حالات وأحوال: استلهام الثقافة الفرعية للفروض العلاجية قهر الانوثة، فرفض الحياة: برفض الأكل (1)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأربعاء: 22-6-2016

السنة التاسعة

العدد: 3218 

حالات وأحوال:

استلهام الثقافة الفرعية للفروض العلاجية

 قهر الانوثة، فرفض الحياة: برفض الأكل

مقدمة

نحن نتحدث كثيرا عن الفروق الثقافية، وأهمية الانتباه إلى تأثيرها على الموقف العلاجى، بل وعلى التنظيرات التى وراءه، والمسألة لا تقتصر على التوصية باستعمال اللغة العربية، أو التحذير من التعامل مع مشاعرنا  وآلامنا وبالترجمة الفورية بألفاظ غريبة عن ماهيتنا وأحوالنا، لكن المسألة تمتد إلى جذور الثقافة والثقافات الفرعية والفرعفرعية.

هذه الحالة هى عرض نموذج لمثل ذلك، وقد تصادف أن المريضة من بلدنا (بلدتى – شخصيا – الريفية جدا)، وقد استلهت وضع فروضها النفسِمْراضية مما رسخ فى قاع وعيى من أيام طفولتى من حكاية طريفة أعجبتُ بها، ومازلت، واستشهدت بها كثيرا فى تدريسى وممارساتى، حكاية بسيطة، قد تكون قد حدثت، أو يكون الوعى الريفى الطيب ألّفها، لكنها أخرجت مثلا سائرا.

وفكرة ان تجرى حادثة أو تُحْكَى حكاية، فيخرج منها قول قصير دال، يتداوله الناس حتى يصير مثلا فكرة عربية أصيلة فى الفصحى والعامية على حد سواء (أنظر الهامش حتى لا يطول الاستطراد) (1) كذلك الحال فى العامية السلسة ، خصوصا فى الريف المصرى، وهاكم الحكاية، وكيف خرج منها المَثَل”:

 “.. كان ” سيدنا” (الفقى) يعلّم الصبية والبنات فى الكتاَّب أمور دينهم كلها، وذات يوم ذهبت بنت صغيرة (2)فى مثل سن فتاة الحالة إلى الكتاب وفوجئت بما يعلمه سيدنا للعيال، ففزعت ورجعت على أعقابها عَدْوًا إلى بيتها دون أن تحضر درس الفقى، وأثناء عدْوها هاربة مما رأت عند الفقى اشتبكت فردة خلخالها فى عتبة باب دار الفقى، فانخلعت الفردة، فسألتها الأم عنها حين لاحظت فردة الخلخال الغائبة، فقالت البنت: أنها “انشبكت فى العتب” أثناء عودتها عدْوا هربا مما “شافته” ويقوله الفقى للعيال، فسار الحوار بين الأم وابنتها مثلاً وهذا نصّهْ

قالت الأم:  شفتى إيه من فقيكِ لمّا فردهْ الخلخال اتشبكت فى العتب؟

قالت البنت: شفت وشفت، وشفت فقينا بيعلم أولاده قلة الأدب”

الحالة:

نهى : (ليس الاسم الحقيقى) 15 سنة توأم لـ “منى” ( منى سليمة تماما، ظاهرا على الأقل) لها أخوان أكبر، من أسرة متوسطة جدا.

العرض الأساسى: رفض الأكل، التشخيص المبدئى: فقد الشهية العصبى Anorexia Nervosa لدرجة الخطر حتى التعرض للهلاك (الموت جوعا)

هى حالة، فحصتُها مع زميلاتى وزملائى فى قصر العينى: بنت تعانى مما يسمى “فقد الشهية العصبى” جمالها مصرى هادئ برغم نحافتها المفرطة، عمرها خمس عشرة عاما، دخلت القسم الداخلى بسبب امتناعها عن الطعام وعن أى شراب مغذى نهائيا حتى وصل وزنها إلى مرحلة الخطر (26كجم)، وفقدت كل معالم أنوثتها، وكانت شكواها كلها بالنفى على غير المتعاد،

تسلسل الأحداث: 

  • انتبهتُ من البداية من أول عرْض مقدمة الحالة إلى أن “نهى” راحت تنفى كل الشائع عن أسباب المرض النفسى كما تسرى بين العامة والإعلام، (وبعض الأطباء): تقول:

أنا كويسة وبنام كويس ومش باكل، ومش عايزة اكل، وماليش نفس للاكل،

…………

أنا مش باعمل رجيم ولا زعلانه من حد، ولا زعلانه من حاجة، ولا بحاول اعاقب نفسى، ومش باحاول انى افضل صغيرة، أنا عايزة اكبر وأرجع المدرسة

عايزة اطلع مدرسة – مـُدَرِّسة فرنساوى – أنا كنت جايبة فيه النمر النهائية وباحب الفرنساوى.

ماما وبابا وأخواتى بيحبونى أوى وأنا ماتخانقتش معاهم – مش عايزة أضايقهم.

أنا مش بافكر انى أموت، ولا عايزة انتحر، والموضوع إنى بس مش عايزة ومش قادرة أكل.

كنت باجيب درجات عالية فى المدرسة، وماعنديش أى مشاكل، وماكنتش بحب ولد فى المدرسة، ولا ليه أى قصة إعجاب أو حب فى المدرسة، فاللى حصلى ده مش بسبب خناقة مع ولد.

فى حين كانت شكوى الأم:

بعد ما نجحت فى الامتحانات وجابت نمر عالية، مرة واحدة بدأ وزنها ينزل، وتخس جامد ومنعت الأكل تقريبا من خمسة شهور هىّ قطعت الأكل مرة واحدة – كانت فى الأول بتقلل، بس دلوقتى بطلت تاكل خالص، وماشيه بس على عيش وجبنة ولا عايزة تغيرهم ومزاجها كويس بس أما نجيب سيرة الأكل بتتضايق وتعيط وكان لازم نساندها ونكون جنبها.

وأما أغصب عليها تاكل تقول “مش عايزة اكل، مافيش حد بياكل غصبن عنه”.

  • هكذا خطر لى من البداية فرض يقول:

“إن معنى  رفض الأكل هنا هو إعلان رفض للحياة، وهو هنا معادلٌ لرفض تفجر الأنوثة فيها فى هذه السن بالذات، وأن كل هذا النفى لأى خلفيه يمكن أن تكون سببا لما هى فيه هو إعلان لنوع  من الإنكار المطلق لأى حركة حيوية طبيعية فى هذه السن”.

  • حضرتنى حكاية ريفية أخرجَتْ مثلا سائرا، ليس شائعا، وهى حكاية من عمق الثقافة الفرعية لبلدنا، (وهى التى حكيتاها فى المقدمة) وهى تبين كيف أن البنت  – مثل أى بنت– لابد أن تُعَدّ لتقبل النقلة إلى الأنوثة الكاملة بكل زخمها، وتخوفاتها، وحلاوتها، وحنينها، وشوقها، وميولها، وأن تشعر بالسماح بها فيمن حولها.
  • ثم امتد الفرض بعد حوار مع الأم جرى بصدق واحترام شديدين: إلى أن الأم مارست الزواج والأمومة دون أن تمارس الأنوثة والجنس الحقيقى الطبيعى العلاقاتى الناضج، وقد ألمحتُ للبنت أن العلاج قد يتضمن أن أعلمها “قلة الأدب”، وحين انزعجتْ حكيت لها الحكاية التى حضرتنى من بلدنا، وأن سيدنا (فقيه الكتاب) كان يعلم العيال قلة الأدب (بالأصول)، أن البنت التى فرعت لأنها لم تكمل وعادت هاربة إلى أمها كانت فى نفس سنها، وكان ذلك تمهيدا لتقديم روح العلاج الذى حاولتُهَ أمِلاً فى أن تقبل البنت من خلال ذلك أنوثتها (وجنسها)، فتقبل أن تعود للحياة، وتأكل.
  • سألتنى البنت بصوت منخفض يعنى إيه “أتعلم قلة الأدب”، ولم أعرف كيف أجيبها، لكن استمر الحوار ونحن نستعمل نفس التعبير “تَعَلُّمْ قلة الأدب” دون تغيير أو تفسير مباشر، وكان المعنى يصل ضمناً دون انزعاج.
  • تطور الحوار إلى أن البنات فى مصر، وحتى معظم السيدات، لا يعرفن “قلة الأدب” التى أقصد أن أوصلها للبنت.
  • بدأت البنت تقبل الحوار باستغراب قليل، وطيبة حقيقية، وهى لا تكاد تصدق أن “قلة الأدب” التى أتكلم عنها هى بشكل ما: “خِلقة ربنا”، وأننا علينا أن نعيش كما خلقنا الله بكل ما خلقنا به، ودار حوار طويل نسبيا حول ذلك، حتى امتد إلى احتمال أن أمها نفسها لم تتعلم قلة الأدب هذه، (وكان هذا ضمن الفرض الذى خطر لى).
  • حين استفسرتُ من الأم عن هذا الاحتمال أنكرتـْه على الفور، لكنها استدركت وحدها فى الحال وقاطعتتى قائلة: بصراحة “آه” (تعنى أنها لم تتعلم أبداً قلة الأدب)
  • اتسع فرض السيكومْراضية ليشمل احتمال حرمان الأم نفسها من أنوثتها، أى من اعترافها بحقها فى الجنس كما خلقه الله.
  • خطر لى بناء على هذا الاحتمال الأخير أنه لو صحَّ تسلسل الفروض هكذا: فإن وجود الأم مع البنت فى القسم الداخلى، قد يحول دون تخلصها من خوفها من أنوثتها، أى من الحياة، الذى ظهر فى صورة الامتناع عن الطعام حتى التهديد بالموت (بأن تقوم البنت بالاحتجاج –بالمرض- نيابة عن أمها وهذا هو قريب ما يسمى (الجنون المُـقْـحَمَ Folie Imposé )
  • برغم قبول البنت الخطوط العامة للتفسير، فإنها كادت تنهار فى نهاية أول مقابلة حين قدمت لها رأيى أن تتركها الأم فى القسم وحدها، حتى تكمل علاجها.
  • فى المقابلة الثانية (بعد أسبوع) طلبتُ من البنت، بعد استكمال توضيح الفكرة بقدر ما سمح تلقيها، ودون اتهام صريح للأم، طلبت منها أن تقوم هى بإبلاغ أمها رغبتها أن تغادر القسم وأن تتركها وحدها ولا تخاف عليها ، وذلك بناء على توصيتى.
  • يبدو أنه قد وصل فعلا للبنت بعض معالم فرض النفسمراضية، ومنه احتمال أن أمها تشاركها نفس رفض أنوثتها شخصيا، وأن الأمأرسلت لها رسالة لاشعورية فحواها غير المنطوق: “إنه لا داعى للأنوثة فى سن تُفَجُّرِهَا هذا ، إذا لم تضمن إطلاق سراحها: لتنمو بها، وتعيش حقها طول عمرها”.
  • يمكن إيجاز الفرض حتى الآن كالتالى: إنه يبدو أنه قد وصل للبنت ترجمة لمرضها، أنه: إذا كان لا داعى للأنوثة فلا داعى للحياة، فلا داعى للأكل.
  • يبدو أيضا أن هذا التفسير وصل للأم ليس باعتباره اتهاما لها بأنها يمكن أن تكون سببا فى مرض ابنتها وتهديد حياتها، وإنما على أنه احترام ضمنى لمأساتها واحتياجاتها: “العادية: خلقة ربنا” (هنا التعبير “خلقة ربنا” تردد فى الحوار كثيرا).
  • يبدو كذلك أن سرعة وسلاسة قبول الأم – بكل ألم – ترك البنت وحدها فى القسم الداخلى – بعد مقاومتها الشديدة فى البداية، يمكن أن يكون دليلا أيضا على أن الفرض النفسمراضى قد وصل للأم وقبلته نسبيا على الأقل.
  • تحسنت البنت بعد مغادرة الأم المستشفى، وبالتالى فقد أغـْنَـتْنى عن اللجوء إلى الفصل التعسفى (استئصال الوالدة) Parentectomy
  • فى مقابلة الأسبوع التالى شكرت البنت بصدق، وحين استغربتْ، سألتها يا ترى هل عرفتْ لماذا أشكرها؟ فأجابت أننى أشكرها لأنها قامت بتنفيذ توصيتى بالانفصال مؤقتا عن الأم.
  • بدلا من أن تتساءل البنت عن موعد عودة أمها أو تستعجل موعد خروجها: شكرتنى بدورها تلقائيا بطيبة ووداعة.
  • دار حوار حول معنى هذا الشكر المتبادل وأنه يحمل تصديقا متبادلا، واحتراما متبادلا، ولم تُستعمل كلمات الحب أو العطف أو مصطلحات الطب مع الإشارة فى الحوار كيف أن الاحترام هو من أرقى تجليات الود والتعاطف.
  • تعاقدت مع البنت بأن نعتنى: هى وأنا، بحالة أمها بعد شفائها، وخروجها من المستشفىدون ذكر المقصود من ذلك أو الإشارة لأى تفاصيل عن كيفية ذلك.
  • تم عرض اقتراح مشاركة البنت فى “العلاج الجمعى” الذى أجريه فى القسم أسبوعيا والذى تبدأ مجموعته الجديدة بعد شهر من تاريخ المقابلة (ولمدة عام كامل).
  • رحبت البنت، وتمنت لو سمحت إمكانيات الواقع بذلك، وهى مقيمة فى قرية بعيدة نسبيا

وبعد

كل هذا حدث خلال الأسبوعين الماضيين (اليوم 16-6-2016)، ولا أعرف ماذا سيصير إليه الحال بالمتابعة.

[1] – رحت أبحث عن أصل مثل بالفصحى حتى أوضح كيف تنقلب الحكايات: مثلاً، فقفزت إلىّ صورة والدى وهو يفسر لى مثلا عربيا جميلا يقول “لأمرٍ ما باعتْ المرأة سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور” قال رحمه الله“..مرّ رجل على امرأة فى السوق، وقد فرشت أمامها فرشة عليها سمسم مقشور، فمر كلب فلعق فى السمسم، فانزعجت المرأة وكتمت فى نفسها، حتى جاءها شارٍ يعرض بضاعته من السمسم غير المقشور، فعرضت عليه أن يشترى سمسمها المقشور، بسمسمه غير المقشور، كيلا بكيل، وبعد دهشة لم تطل، فرح الرجل بالصفقة وأتمها بسرعة وانصرف” وكان المشاهد المارّ قد شاهد كل ما جرى، فقال قولته الشهيرة “..لأمر ما باعت المرأة سمسما مقشورا بسمسم غير مقشور، كيلا بكيل”، فصارت مثلا،

 وأمثال أخرى كثيرة مثل “على نفسها جنت براقش” وأيضا: “لأمر ما جدع قصير أنفه” …الح

[2] – فى مثل سن فتاة الحالة المقدمة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *