الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / البعد الإيماني ومستقبل البشرية‏ (مستقبلنا‏)‏

البعد الإيماني ومستقبل البشرية‏ (مستقبلنا‏)‏

الأهرام

02/07/1999

البعد الإيماني ومستقبل البشرية‏ ( مستقبلنا‏)‏

إذا كان لثورة المعلومات والتواصل من فضل لا يمكن إنكاره‏,‏ فهو أننا أصبحنا أكثر وعيا بأن مستقبلنا‏,‏ ومستقبل كل تجمع بشري‏,‏ بل ومستقبل كل إنسان فرد مرتبط بعضه ببعض‏,‏ فحتي الخمس الذي يتمادي في الثراء علي حساب إفقار‏ (‏ وتجويع‏)‏ الأخماسي الأربعة أخماس الأخري من البشر‏,‏ سرعان ما سيكتشف إن عاجلا أو آجلا أن مستقبله مرتبط بمستقبلنا‏(‏ وبالعكس‏)‏ وهذا هو الأمل الحقيقي في توقيفه‏,‏ ومن ثم في إفاقة بشرية كاملة‏.‏

ذات مرة منذ بضع سنوات‏,‏ وأنا أشاهد أحد الأهداف الصعبة الجميلة في كأس العالم لكرة القدم‏,‏ كان المذيع قد نبه إلي أن حوالي ألف مليون إنسان يتابعون هذه المباراة‏,‏ وآنئذ شعرت والكرة تدخل المرمي أن مليار بني آدم يشاركونني هذه اللحظة‏,‏ نعم‏,‏ شعرت فجأة انني واحد منهم‏,‏ وتساءلت‏:‏ هل يكون هذا بمثابة ما يمكن أن يسمي الحج الالكتروني الحديث؟‏,‏ وحضرني منظر الحجيج حول الكعبة المكرمة‏,‏ وأنا أنظر إليهم ـ إلينا ـ من الدور الأعلي‏,‏ وأسبح الله وأحمده وأستغفره‏,‏ ولم يخطر ببالي أي تشبيه مباشر‏,‏ أو استبدال‏,‏ لكنني شعرت كيف أن العلم الحديث قد يهيئ للبشر هذه المشاركة الشاملة التي تقربنا من بعضنا البعض بشكل يوازي ـ لا يحل محل ـ ما أوصت به الأديان في عبادات الجماعة والتجميع‏.‏

وما أحاول أن أبينه في هذا المقام بإصرار وربما بتكرار ممل‏,‏ هو أنه‏:‏ يمكن للإنسان المعاصر إذا أحسن استخدام ما اكتشف وصنع وأبدع‏:‏ أن يكون أكثر إنسانية وأعمق وعيا وأرحب إيمانا‏,‏ بديلا عن الغرور العلماني من جهة‏,‏ وعن التدين الاغترابي من جهة أخري‏.‏

يقتطف أنور عبدالملك‏(‏ أهرام‏99/6/15)‏ من دراسة الأب كولنباخ‏,‏ فنقرأ معه عن ضرورة العودة إلي البعد الروحي‏,‏ وعنده ‏(‏ عند كولنباخ‏),‏ أن مجموعة الكنائس المسيحية الكاثوليكية حول روما‏,‏ والكنائس الأرثوذوكسية في أوروبا الشرقية تملك تراثا روحيا مشتركا‏..‏ إلخ‏,‏ لينتهي إلي أن ثمة محاولات تهدف إلي طرح البعد الروحي كأساس لوحدة أوروبا‏,‏ ثم يشير إلي دعوة البابا إلي السعي للتنقيب عن طرق جديدة لنشر الإيمانية‏..‏ إلخ‏.‏

فما هو المقصود ـ تحديدا أو حتي تقريبا ـ بالإيمانية؟

وما علاقة الإيمانية بوحدة أوروبا الجديدة بعد أن فشلت الجغرافيا‏,‏ والأيديولوجيا‏,‏ وحتي علامات ما تنبئ به توحيد العملة‏,‏ في أن تفي باحتياجات إخواننا الأوروبيين في أن يكونوا وحدة عضوية جديدة بدرجة كافية؟

فإذا كان هذا البعد الإيماني هو الذي يلوح في أفق أوروبا ليوحدها‏,‏ وإذا كان ما يشبه هذا البعد هو الذي يلتف حوله ربع سكان العالم في الصين‏,‏ حتي إذا لم يسمه الصينيون إيمانا‏,‏ وإذا كان هذا البعد هو ما وراء الصحوة الإسلامية الحقيقية‏(‏ غير المتعصبة‏,‏ وغير المغتربة اختزالا‏),‏ فما هو حقيقته؟ وما علاقته بالإنجازات التكنولوجية الأخيرة؟ وبالقيم المستحدثة التي أثرت هذا التواصل العالمي الشامل؟

في محاولة الإسهام للإجابة عن هذه التساؤلات نشير إلي ملاحظات مبدئية تقول‏:‏

أولا‏:‏ نلاحظ أن ثمة أبجدية جديدة بدأت تدخل عالم السياسة والاقتصاد بعد أن كانت مقصورة علي الدين وأحيانا التربية‏,‏ وذلك مثل الإيمانية الأخلاقيات الروحانية البعد الإيماني‏.‏

ثانيا‏:‏ إن كثيرا من الاتجاهات مازالت تتناول هذا البعد الإيماني من منطلق استقطابي أو متعال‏,‏ حين يتحدثون عن الروحاني في مقابل المادي‏,‏ أو عن الجسد في مقابل الروح‏..‏ إلخ‏.‏

ثالثا‏:‏ إن أغلب المتحدثين بهذه الأبجدية‏,‏ هم من المفكرين أو رجال الدين أو الوعاظ أو حتي المبدعين‏,‏ أما أهل السلطة ومتخذي القرار‏,‏ ومنظمي برامج التربية والتوعية ومسارات النمو وتشكيل الوعي‏,‏ فهم قد يستعلمون هذه الأبجدية لغير ما تعني‏.‏

وعندي أن الاكتفاء بهذا الموقف الإرشادي أو الوعظي أو الروحي أو الأخلاقي أو المناوراتي يحمل من المخاطر أكثر مما يطمئن الجوعي والفقراء علي احتمالات العدل والمشاركة الإنسانية‏,‏ ذلك لأنه إن لم يواكب هذه الرؤي ثورةإنسانية عملية‏,‏ يمكن تطبيق نتائجها في التربية والتعليم والإعلام والإبداع‏,‏ فلن يتعدي دورها التسكين والتأجيل والتلويح بما لا يكون‏.‏

وأتصور أن البعد الإيماني المطلوب إحياؤه‏,‏ أو المطلوب إعادة اكتشافه في البشر المعاصرين‏,‏ ينبغي أن يتحدث لغة العصر من جهة‏,‏ وأن تكون له وسائل تدريب وتنمية عملية من جهة أخري‏,‏ نتعلم ذلك من لزوم الالتزام بالعبادات في كل دين‏,‏ وهو إنما يشير إلي إمكانية الانتفاع بالإنجازات العصرية‏,‏ لإثراء حياة أغلب الناس بما هم أهل له‏,‏ حيث يعمق وجودهم‏,‏ البشري إذ يملؤه بطعم حقيقي لما هو حياة‏,‏ فيختلف نوع الوجود فعلا يوميا يمشي علي الأرض‏.‏

وتجنبا لأي سوء فهم نبدأ بالتعريف بالنفي فنقول‏:‏

إن البعد الإيماني الذي يمكن أن يوحد أوروبا‏,‏ ومن باب أولي أن ينهض بنا في اتجاهنا معهم نحونا‏,‏ ليس أيا مما يلي‏:‏

‏(1)‏ ليس بديلا عن أي دين قائم طبعا‏,‏ لا من ناحية العبادة ولا من ناحية العقيدة‏.‏

‏(2)‏ ليس دعوة أخلاقية لا يدفع ثمنه إلي الضعفاء والفقراء‏.‏

‏(3)‏ ليس دعوة روحية غامضة منفصلة عن الجسدية أو المادية أو الاقتصاد اليومي‏.‏

‏(4)‏ ليس دعوة طقوسية‏(‏ بعض الوقت‏)‏ يمكن أن تفيد في التعويض والتأجيل والتسكين‏.‏

‏(5)‏ ليس دعوة تصوفية فردية انعزالية‏.‏

‏(6)‏ ليس دعوة ثيوقراطية تستعمل الدين لتسوس به الناس إلي نفس قيم الحياة الكمية المغتربة‏.‏

فإذا كان البعد الإيماني ليس كل ذلك‏,‏ فماذا هو إذن بلغة العصر؟

لقد ظل الله سبحانه وتعالي يرسل إلينا الرسول تلو الرسول ـ عليهم صلواته وسلامه ـ ليدعونا إلي ما يحيينا‏,(‏ ياأيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم‏)‏ فالدعوة أساسا هي إلي ما يحيينا فراح الوحي يهبط إلي الأنبياء ـ عليهم الصلاة والسلام ـ الواحد تلو الآخر‏,‏ لكن ما إن تمضي الأيام حتي ينسي الناس ويغتربوا‏,‏ ويشوهوا‏,‏ ثم يمضوا إلي ما يميتهم لا إلي ما يحييهم‏,‏ فيرسل الله سبحانه وتعالي الرسول التالي يذكرنا بما نحن‏,‏ ويدعونا إلي ما يحيينا ففريقا نكذب‏,‏ وفريقا نقتل‏,‏ فإذا صدقنا وانتبهنا سرعان ما نغترب ونشوه ما هو نحن‏,‏ حتي ختم الله رسالاته بالإسلام الحنيف‏,‏ ليضطرنا ـ كما يقول شاعر وفيلسوف الإسلام محمد إقبال ـ أن نواصل نحن‏,‏ كل من موقعه‏,‏ عملية إحياء فطرتنا‏:‏ مواجهين مسئولية تجديد إيماننا بما نمارس من عبادات وإبداع ورؤي واستلهامات‏,‏ لا بما ننتظر من رسل جدد‏.‏

لكن الذي حدث أن أنقسم أغلب الناس إلي أقسام‏:‏

القسم الأول‏:‏ هو الذي أحل التدين غالبا محل الإيمان فاستعمله‏,‏ لا ليحييه؟ ولكن ليغترب به عن ما هو‏(‏ قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم‏).‏

والقسم الثاني‏:‏ انتبه إلي هذا الاغتراب‏,‏ فأراد أن يؤكد أن الدين هو الحل لكنه اختزله إلي حكم وسياسة‏,‏ بدلا من أن يمتد به إلي وجود كلي متكامل‏,‏ فكانت النتيجة أن علقت لافتة الدين علي أبعد ما يدعو إليه الإيمان‏.‏

أما القسم الثالث‏:‏ فقد انتبه إلي خطورة سوء الاستعمال هذا‏,(‏ خطورة السلطة الدينية علي الإيمان وعلي الناس‏),‏ فراح يؤكد ضرورة فصل الدين عن السلطة‏,‏ وإذا به يفصله عن سائر نشاطات الحياة وتجلياتها‏,‏ إلا في المناسبات‏,‏ وفي الأزمات‏,‏ ولزوم التسكين‏,‏ ومن ثم نشأت العلمانية التي لا تنكر الدين‏,‏ وإنما هي تحجمه فيما تصورت أنه يحميه من التشويه‏,‏ ويحمي البشر من استغلال من يرفع شعاره دون أن يعيش حقيقته‏.‏

ثم يكتشف الإنسان أنه تحت كل هذه الشعارات العبارات الشكلية‏,‏ والسلطة الدينية‏,‏ والعلمانية الحذرة‏,‏ يكتشف أنه قد استغني عن الإيمان بشكل أو بآخر‏,‏ فيرتمي في أحضان ما تيسر من ظاهر العقل‏,‏ وما استحدث من أدوات العلم‏,‏ وإذا به يختزل نفسه فيتمادي في الشقاء‏,‏ إذ تتمادي الأقلية في أوهام الرفاهية والإنجاز الكمي والتطاول في البنيان‏,‏ في حين تتمادي الأغلبية في ذل الفقر وقهر الجوع‏.‏

إذن فنحن نواجه الآن وعيا جديدا حالة كوننا نملك أدوات أكثر‏,‏ وعلوما أقدر‏.‏

ثم إن هذا الوعي يمكن أن يسمح لنا أن نكتشف زيف نجاحنا ـ المغترب ـ وبالتالي فقد يسمح لنا أن نكون أكثر اقترابا من بعد الإيمان إذ يمكن أن نكتشف حاجتنا إلي من يدعونا إلي ما يحيينا‏.‏

لكن الله سبحانه وتعالي حسم الأمر وختم الرسالات بالإسلام الحنيف‏,‏ ليتركنا لنواجه مسئوليتنا هنا‏,‏ والآن فيلوح أمل من بعيد ـ من جديد ـ أنه قد يمكننا أن نستعمل هذه الأدوات والإنجازت في إحياء ما هو نحن‏,‏ ذلك أن هذه الأدوات نفسها إنما تسمح بتعدد وسائل تنشيط الإبداع‏,‏ وتنمية الجمال‏,‏ وتعميق الوعي‏,‏ ثم دعونا نأمل في احتمال أن تسهم في تأصيل العدل‏,‏ وتوسيع دوائر الإرادة والحرية‏,‏ بما يتجاوز مزاعم القرارات المعقلنة الواعية المختزلة‏,‏ ثم لعلها ترحمنا من ألعاب الديمقراطية الزائفة‏.‏

إن الأماني مفتوحة لتسخير إنجازاتنا لصالح عمق إيماننا‏,‏ لا لنعلن دينا جديدا‏,‏ وإنما هي وسائل خليقة أن تشحذ البعد الإيماني الذي نأمل ـ من واقعنا الجديد وبأدواتنا الأحدث ـ أن ننتبه إلي نفعه المباشر للفرد والجماعة الآن ومستقبلا‏.‏

وحتي لا أنتهي بالمقال إلي ما حذرت منه في البداية‏(‏ دعوة أخلاقية مثالية تسكن ولا تغير‏)‏ أضع بعض تصوراتي لرؤي جديدة تقول‏:‏

أولا‏:‏ إن الإنسان المعاصر لديه الفرصة الآن‏,‏ أن يشعر من واقع التواصل البشري الحميم‏,‏ أنه ليس إلا واحدا من ستة مليارات من البشر‏(‏ غير ما يستجد‏)‏ لهم الخصائص نفسها‏,‏ يعيشون في اللحظة نفسها‏,‏ علي الكوكب نفسه‏(‏ فكيف يجرؤ بعد ذلك أن يتعصب أو يتجرأ أن ينساهم؟‏)‏

ثانيا‏:‏ إن الإنسان المعاصر لديه الفرصة أن يكتشف روعة اختلافه مع واحد من نوعه في أقصي الأرض‏,‏ وفي الوقت نفسه روعة إمكان الاتصال به‏,‏ وربما الاستمتاع بفنه‏,‏ واحترام دينه المختلف‏.‏

ثالثا‏:‏ إن العلوم الأحدث‏(‏ وبالذات الطبيعة الكمومية‏,‏ والرياضية الكمومية‏,‏ وعلوم الشواش وعلوم التركيبية‏)‏ تعلمنا أن أي تغير في أي مكان يمكن أن يمتد تأثيره إلي أي مكان آخر‏:‏ تأثيرا متداخلا مكثفا‏,‏ لا نملك إزاء تعقده وعمقه‏,‏ إلا أن ندرك كيف أننا نعيش معا‏,‏ وأن أي خطأ سندفع ثمنه جميعا‏,‏ وأن أي إحياء لما هو نحن قد يعمنا جميعا‏,‏ والمثال الذي لا أمل من تكراره هو كيف هدتنا بعض هذه العلوم إلي أن حركة جناح فراشة فوق بكين في الصين يمكن أن يؤثر عليالمناخ فوق لندن‏,‏ إذن لابد أن نتصور كيف أننا ـ قياسا ـ نتأثر ببعضنا البعض سلبا وإيجابا‏,‏ وبالتالي لا مفر من تحمل المسئولية مجتمعين‏.‏

رابعا‏:‏ إن الإنسان المعاصر لديه الفرصة أن يكتشف عقوله الأعمق‏(‏ وليس عقله الباطن‏)‏ لا لتحل محل العقل الظاهر‏,‏ لكن لتخفف من وصايته‏,‏ فلا ينكر ما لا يعرف‏,‏ ولا يختزل ما هو محيط به إلي مجرد ما يعرف‏.‏

خامسا‏:‏ إن الإنسان المعاصر إذ يبدأ من عمقه الإيماني كحقيقة موضوعية مرتبطة بطبيعته الأساسية‏,‏ دون انشقاق إلي مادة وروح‏,‏ إلي جسد ونفس‏..‏ إلخ‏,‏ سوف يعرف أكثر وأكثر كيف يتجلي هذا الإيمان ـ بفضل الله ووحيه ـ ثم بتكليفه لكل إنسان بمواصلة مسئولية سعيه‏,‏ سوف يعرف كيف يتجلي البعد الإيماني في الديانات المختلفة‏,‏ حسب موقعها من التاريخ‏,‏ ومن الجغرافيا‏.‏

خلاصة القول‏:‏

إن الفرصة الآن متاحة لكل البشر دون استثناء‏,‏ ليعمقوا إيمانهم‏,‏ ليصبحوا بشرا بحق‏,‏ حين يستجيبون للدعوة لما يحييهم‏,‏ إذ يتجلي إيمانهم كل فيما هو‏,‏ ليتألفوا إلي ما يمكن أن يكونونه مما لا أعرف‏,‏ لكنه رائع حتما‏(‏ ربي كما خلقتني ربي كما خلقتني‏).‏

أليس الله موجودا؟

فهو رائع حتما‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *