قصة قصيرة سرطان

الأهرام

20/11/1986

قصة قصيرة

سرطان

-1-

قررتُ ألا أذهب.

كم ذهبت، وكم باركتُ، وكم حضنتُ، وكم قبّلتُ، وكم تلقيتُ القبلات، بقايا القبلات اللزجة تستمر معى وقتا، أحيانا يعود ملمسها حين تهبّ علىّ تهديدات مثلها، هذا الصباح، وأنا أغسل وجهى، شعرت بدهننةٍ ما حين تذكرتُ “الدعوة”.

لم أعد أستطيع، لم يعد ممكنا، ومع ذلك فلا يكادون يلوّحون لى.. حتى أعد أقنعتى السبعة أخفى بها أفواه الجوعى فى الداخل، هذا الصباح أيضا، شعرت أن نداء الأفواه قد فاق سـُمك الأقنعة حتى كاد يفضحنى أمام المرآة.

حين أُضطر للذهاب… أروح أبحث عن شىء لم يـَعدنى أحـٌد بتقديمه، بل لم يُشِر أحد أصلا إلى وجوده، ، وبديهى أنى لم أعثر عليه أبدا.

 صعبٌ كل هذا، صعبٌ ويزداد صعوبة.

 وحين تيقنتُ أنى لم أعد أحتمل… قررت أن الأسلم هو أن أصبر. أنا لست قدر الاستسلام ، ياليت.

 قررت  ألا أذهب.

 تمنيت (كالعادة) أن يضغطوا علــىّ حتى أذهب، لكن أحدا لم يفعل ذلك: احتراماً لرأيى، وتقديراً لتعقلى، وفهماً لحكمتى، وتوفيرا لوقتى، باعتبار أنى لا أحب “هذه المسائل”، من أدراهم هؤلاء ماذا أحب وماذا لا أحب؟، ثم من أين لهم تحديد هذه المسائل من تلك؟ بل من أدرانى أنا؟

-2-

قررت أن أذهب.

 كيف السبيل؟

لا يمكن أن أسمح أن أبدو لهم أبلها عديم الرأى مهزوز الموقف،  الوقت يمرّ يثـّاقل على وعيى حتى يكاد يوقف حركةً كنت أحسبها لا تتوقف، فأزداد عجزا عن القراءة، أروح أستنقذ بالقلم.

الكتابة تربطنى باللحظة، تجذبنى إلى الصفحة حتى لا أتشتت، يخذلنى القلم، ويشمت الورق، الموسيقى الصامتة تزداد صمتا، تتداخل الحروف تتخلل السدود فتُطِل الأفواه الجوعى من الداخل فتتباعد الأقنعة أو تشفّ، فأتخلخل، فأخاف، وأحتاج أكثر فأكثر إلى أى قدر من دفءٍ بشرىٍّ ما.

 أزداد عناداً فيقظة رغم بطء الإيقاع وكثافة الهواء.

لو أن ابنى رجع ناسياً شيئاً فسألتمس مدخلاً للحديث لابد وأن يؤدى بى إلى اصطحابه، لو أن “هاتفاً” رن للاطمئنان أو السؤال أو الطلب أو حتى بدون سبب، فلسوف أجرجره فى الحديث حتى يعاود دعوتى، ويلح، فيصر، فأذهب. لماذا صدَّقونى وأنا أعتذر؟ لماذا يصدقونى؟ أنا لم أقصد أن أشوه صورة الأحضان وقبلات الطقطقة، لم أعلن صعوبتى أبدا، أنا لم أدمغ أبدا طَرَبَ الطبل والرقص والغناء، أنا فقط كنت أصفها لنفسى؟ لم يسمعنى أحد، غالبا، قبلاتٌ وأحضانٌ، وأحضان وقبلات، وفيها ماذا ؟ وهم؟ مالهم؟  مالهم هم ؟ كل ذلك لا يعنى أنى أرفضها، هل يعرفون طبعى أكثر منى؟ هكذا يبدو الأمر، بمجرد أن  اعتذرتُ، قـِبلوا، بسرعة، وبكل تقدير واحترام!!!

 الناس طيبون، وأنا متورط، وعلىَّ تصحيح الوضع إن أردت،

 وقد أردت:

أعرف الميعاد، والمكان، والطريق، وأعرف أنهم سيفرحون بقدومى بعد دهشة عابرة، بل قد يعتبرونه “تفضلاً” بل “تنازلاً”، ولسوف أدعهم يحصلون من خلاله على إقرار ضمنى بأنى لا أرفض ما تصوروا أنى أرفضه.

 ولماذا أرفضه؟

-3-

نزلت من العربة بعد أن وجدت مكانا بالموقف خارج سور النادى، سارعت بنقد المنادى رشوة كبيرة وكأنى أرجوه بها ألا يعلن قدومى على الملأ، أو كأنى أبعد بها نظراته الشامتة حتى لا يعايرنى أنى “قلت ورجعت”. دخلت إلى الحديقة الآهلة بالأضواء، والعربات، والجنود، والورود، وسألت المنادى الآخر (أو لعله البواب) عن صالة الفرح، فأجابنى أن ثمة فرحين: الأول فى الدور الأول، والثانى فى الدور الثانى !! فأيهما أريد؟ فوجئت مفاجأة ضخمة وكأنى واجهت تناقضاً ليس له حل، وكأن احتمال وجود فرحين معا فى نفس المكان والزمان هو المستحيل بعينه، مع أنى لاحظتُ من يومين اثنين وأنا أدور حول ميدان التحرير أن ثلاثة مآتم قد أقيمت معا فى مسجد عمر مكرم، وفجأة تركنى الرجل عـَدْواً إلى سيارة تهم بالحركة فعلمت أنه المنادى لا البواب.

-4-

واصلت سيرى نحو الدور الأول، فقابلتنى باقات الورود الكثيرة وقد تناثرتْ فى إهمال حول بئر السلم، وحولها يجرى أطفال فى عبث صاخب، فقدرت أنها باقات فاضت عن القاعة، فاقتربت من إحداها أفحص البطاقة لعلنى أتعرف منها على اسم صاحب العرس الأول فى الدور الأول، لكنى ضبطت نفسى أفعل ذلك لأدارى وجهى وكأنى أعيد النظر فى محاولة اختفاء جديدة، فاختلستُ نظرة من طرف عينى عبر الباب المفتوح فعرفتُ وجوها أعرفها، فسمعتُ صياحا مألوفا، فالتقطتُ قهقهقة مميزة، ها هم أولاءِ، وهذا هو العرس الذى أقصده، وبدلا من أن أطمئن للعثور على بغيتى غرقت فى موجة ربكة كنت قد نسيت نوعها، ارتبكت مثل طفل ذهب يشترى لأبيه شيئا لا يعرفه رغم أنه مكتوب فى الورقة التى أعطاها له أبوه، وحين ابتسم البقال عند قراءة الورقة ، زاد ارتباك الطفل حتى كاد يبتل ـ فاقتربتُ أكثر من باقة الزهور أكاد أدفن وجهى فيها، فإذا بى ألاحظ أنها بلا رائحة. بلاستيك هذه أم زهور للإيجار؟ فوجدتنى بجوار بداية دَرَج السلم، فانطلقت عدوا صاعدا أربعا أربعا.

-5-

دخلت إلى العرس الثانى (فى الدور الثانى) وأنا فى حالة من الطمأنينة القصوى حيث غمرنى اليقين بأن أحدا لا يعرفنى، واستقبلنى أهل العروس ـ هكذا حدست ـ وكأنى من أهل العريس، وهكذا فعل أهل العريس، أو العكس، وفرحت فرحة قديمة أيضا حتى كدت أستمرئ اللعبة لولا أنى انتهيت قبل أن أتورط فى الجلوس إلى مائدة محدودة الأفراد، إذْ ماذا لو كان بها ممثلون لكل من العروس والعريس معا؟ فدرت دورة كاملة وعدت أهبط الدرج مسرعا إلى الباب عابراً الفرح الأول حذراً من المطاردة، ولم تعد السكينة إلىّ ثانية إلا وأنا داخل السيارة أدير مفاتيحها دون أن تنشق الأرض عن شبح المنادى الذى يبدو أنه قد قنع بالرشوة الأولى.

-6-

استجاب المحرك بسرعة غير مألوفة رغم برودة الجو، فانطلقتُ وكأنى على ميعاد محدد رائع مع شخص غير محدد وغير رائع، وما أن انحرفتُ إلى الشارع الرئيسى فجأة حتى اضطررت للضغط على “الفرامل” تلقائيا قبل أن أتبيّن لماذا، فسمعت أصوات  أبواق السيارات خلفى كما تخيّلتُ اللعنات بوضوح كاف. رجّحت أن دواراً أصابنى، أو أنه عمى شبكى مفاجىء، وتمنيت ألا أكون فى طريقى إلى فقد وعيى، استبعدت ذلك لأنى كنت أزداد فى كل ثانية يقظة وعنادا بما لا يقاس. لاحت لى لألآت ساطعة وسط ستار الضباب فحسبتها ثريات الفرح وكأنى لم أنصرف عنه إلا فى الخيال، ثم لمحت صفاء الجانبين، كذا صفاء الزجاج الخلفى فى المرآة، فبدأت أدرك حقيقة الموقف ومددت يدى أتحسس الزجاج الأمامى فإذا به ينهار كالمطر الوابل المحمل بالثلوج الصغيرة، فقفزت فَِرحا من داخل الداخل، مخترقا الغصة والدهشة والربكة حتى نسيت ما غمر ملابسى وساقى من آثار المطر الثلجى المنهمر.

لماذا أسموه “سرطانا”؟ أبعد الاحتمالات أن يصاب زجاج بسرطان ما،  وهل يحدث السرطان هكذا فجأة ؟السرطان نمو خبيث وليس انهيارا منقضّا هكذا.  ولماذا الآن بالذات؟ السرطان هو زحف الموت الغادر.

  هذه النشوة المتفجرة ضد كل الحسابات ليس لها علاقة بالزحف أو بالموت .

-7-

 اكتشفت أننى لم أتوقف أصلاً رغم كل ذلك، فمازالت  السيارة تواصل السير، تخترقنى الريح الباردة فأخترقها، يصل هواؤها إلى النخاع فيلين بتفجر حبات البَرَدِ مطلقةً دفئاً غير متوقع، فأمد يدى إلى آخر مداها فلا يحول دونها شىء حتى خيل إلىّ أنها تستطيع أن تمسك بذيل السيارة التى أمامى، أو أن تلتقط بعض ضوء النجوم تفرزه من بين ثنايا الإنارة الصفراء المنبعثة من تلك المصابيح الباهتة القبيحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *