مقعـدان

الأهرام‏: 19-12-1984

مقعـدان

-1-

 “… كذا رضا”.

قالها وكأنه يحدث نفسه.

 كانت قبضته تمسك برأس عصاه فى ثقة، مثل طمأنينة صديقين مزمنين إلى بعضهما البعض دون حاجة إلى شهادة ثالث، كان قد أسلم ظهره لشمس لا تغمر إلا نصف المساحة أمام المقهى. شمس أوحشته منذ ثلاثة أيام بالتمام، ثم هاهى قد حنّت على الكون برغم أنف مصلحة الأرصاد.

قال وهو يحدث نفسه:

“قوى.. قوى.. هو القوى، هكذا رضا، و.. زيادة”.

ردّ صوت آخر آت من الجالس خلفه على بعد خطوتين (يبدو فى  السن ذاتها) محافظاً على مسافةٍ ثابتةٍ تعلن حدود الأمان:

“ربنا يقوى إيمانك”.

رد الرجل الأمامى متحفزاً، دون أن ينظر خلفه:

“ما باليد حيلة.. ومن لا يعجبه يشرب من البحر”.

يأتى صوت “الرجل الآخر” من الخلف:

“كلام كما الترياق. فقط لو…”

-2-

 يدق الفتى ماسح الأحذية على جنب الصندوق بالفرشاة، فيشير الرجل إلى قدميه دون كلام. يفرد الصبى تحت رجليه مساحة من الورق المقوى، يبدو أنه كان صندوقا لشىء ما، ثم فتح على مصراعيه دون عناية. ينظر الرجل الجالس إلى قدميه، ويحاول أن يتهجى الحروف المتبقية على الورق المقوى: مالــ.. مالـــر.. مالربو … هاهى. نعم. . هى سجائر الغزاة الجدد، ولكن لماذا قفز ثمنها إلى هذا الرقم الخيالى، دون زيادة حادة فى المعاشات؟. من لا يعجبه يشرب من البحر فعلاً، أو يحافظ على صحته مُـرغماً.

-3-

 تمر الصغيرة السمراء، وقد حملت كتبها فى حقيبة محظوظة، تضغط بها فوق صدرها، فيكاد ينبعج ثدياها كل إلى جانب، لولا مرونة اللحم الشاب الطازج. ينظر الرجل الجالس إلى الساعة بطرف عينه؛ ليقفز خاطر خبيث “إلى أين يتبختر الغزال الأسمر، والميعاد ليس ميعاد المدرسة، لا ذهاباً ولا إياباً؟” كم هو مشتاق إلى أن تكون له أم صغيرة مشتهاة، نعم”. . أم “و”صغيرة لا تتجاوز الثمانية عشر. لو حدث هذا لعاد يرضع منها كما صغار العجول الرقطاء، ولزالت الآلام الروماتيزمية مرة واحدة.

-4-

يفيق على دقة ماسح الأحذية، على جانب الصندوق، فيمد رجليه باستسلام، ويضع قدميه فى الحذاء اللامع دون رغبة واضحة. تعود أفكاره إلى داخل رأسه مختنقة، حتى ليكاد يربط بين حركة أصابع القدم الطليقة، وحركة الأفكار الحرة؛ فتتململ الأصابع داخل الحذاء اللامع.

-5-

 يتكلم “العجوز الخلفى” وكأنه قد اقترب قليلا دون استئذان، فيسأل “العجوز الأمامى” عما فعل صاحب العمارة الجديدة المقابلة التى أصبحت تحجز نصف الشمس، عن نصف المقهى.

 –  اللجنة عملتها بخمسة وخمسين بعد اثنين وتسعين، ومتظلم.

 –  معه حق، المبانى تتكلف هذه الأيام، هذا ظلم.

 –  ليكن، لكن من أين يأتى الشباب بالنقود؟

 –  لا حل إلا فى عقد عمل أو إعارة.

 –  البنت  سافرت  مع  زوجها، ولم  ترسل  حساً  ولا خبراً.

 –  الدنيا مشاغل.

 –  لابد أن النذل زوجها منعها خوفا من الطلبات.

 –  الله الغنى يا شيخ.

 –  “فشر”… هى وهو على “هذا”، لو كان الأمر كذلك.

-6-

 يسود صمت جديد قديم، وكأنهما لم يتكلما أصلا. يتسحب الرجل الخلفى إلى الخلف، كما لو أنه كان قد تقدم أصلا، فتعود المسافة كما كانت (بالضبط)، وبجوار كل منهما كرسى خال.. ومنضدة مستديرة من الصفيح الصدىء.

تتسلل الأفكار فى رحاب دفء الشمس، وكأنها صف كتاكيت يتبع أمه فى نظام “.. هانت، والجنة تنتظر الصالحين بعد حسن الختام، ثم إن رحمته أكبر من أخطاء البشر. أعظم ما فى الجنة هو قلة الكلام، واختفاء الرؤساء، ووفرة الحور العين، ولكن أين ستذهب أم الأولاد؟. (ذلك لو دخلت الجنة أصلا، ألم يقولوا إن أكثر أهل النار من النساء؟) أقول لنفسى: يا ترى لو أغنانا الله عنها بالحور العين، فماذا هى صانعة فى هذه المسألة؟ حتى لو رجعت حورية، فإن نفسى تهفو إلى الأخريات ممن لا أعرف، أليس هذا أضمن؟ إذ من أدرانى ماذا ستفعل هناك ، بعد أن تزهو بنفسها وكأنها حورية فعلا، ثم إن الجنة نفسها لا يمكن أن تغيّر من  طباعها، وهى معتادة دائماً … دائماً معتادة” . . دائمًا والعياذ بالله. ومع ذلك فما يشغلنى هو احتمال وجود حور من الذكور، كله جائز، ولا خطر على قلب بشر، يا خبر!! ما هذا؟

– إستغفر يا غبى إيش أفهمك أنت فى أى شىء..

– وأنا مالى؟ تدابيره تفوق تفكير أمثالى.

-7-

نظر فى استقامة أمامه، فرأى عربة الفول الصغيرة، وقد اصطف حولها صبية المحلات يفطرون وقوفاً فى انتظار فتح الورش؛ حين تحين ساعة الانضباط. وتساءل عن هؤلاء الشباب الذين لا يركعونها، والذين لن ينالوا دنيا ولا آخرة، راحت عليهم بين الأرض والسماء، يا حبة عينى.

وبالرغم من هذه الشفقة الواخزة العاتبة، فقد ظل وجهه مبتسما، إذ خطر له – يقينا – أن الله سبحانه لابد سيكون أعدل، وأرحم من الحكومة، وأمريكا، وروسيا، والصين، وشيوخ الإمارات، وفاتورة الكهرباء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *