الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / “الوصاية” على الذوق العام

“الوصاية” على الذوق العام

الاهرام: 8 / 8/ 1983

“الوصاية” على الذوق العام

مازال المأزق الحضارى المعاصريواجهنا فى كل موقع، وهو المأزق النابع من “اغارة التكنولوجيا على تلقائية تشكل الوعى وابداع الحياة.

وبدون الدخول فى نظريات التذوق وفلسفة الجمال، يجدر بنا أن نتذكر بشكل عام ان الحلقة دائرة متحركة ابدا بين الابداع والاستمتاع، وان كلا منهما يشكل الاخر بطريق مباشر أو غير مباشر. انيا او مؤجلا

ولقد كان الأمر متوازنا – بشكل ما- حين كانت ثمة حلقتان متوازيتان تساهمان فى تشكيل الوعى (ومن ثم الذوق) أما الحلقة الأولى، فهى تلك التى على مستوى العامة: حيث يبدأ طرف الدائرة من التلقائية (الحدوتة، الاسطورة، والأغنية، الفرحة، العمل معا). ليصب فى الادراك الحدسى الشعبى (وبالعكس) أما الحلقة الثانية: فهى الخاصة بالصفوة المثقفة، حيث يبدأ طرف الدائرة من الابداع الناضج المسئول ليصب فى النقد المنهجى المتخصص (وبالعكس) مارا بالمتمتع الجاد طبعا – الا أن الاغارة التكنولوجية والتغيرات السياسية (الاقتصادية) قد احدثت اضطرابا اكيدا فى هذا التوازى، حيث تزايد رفض تقسيم البشر ابتداء الى “عامة” و “صفوة” وبالتالى فقد تأثرت الأطراف ببعضها بشكل يحتاج الى وقفه ومراجعة، ومن ذلك:

اولا: تساهم الاغارة الاعلامية (مدعمة بالانجاز التكنولوجى) من صحف يومية واذاعة مسموعة مرئية فى تشكيل الوعى العام بشكل لا يتفق مع المرحلة التاريخية، او احتياجات التطور، ذلك لأن السلطة المسئولة من هذا النشاط الاعلامى ليس تلقائية، كما انها ليست مبدعة بالضرورة لكنها تنظيمية اعلانية قاهرة فى اغلب الأحوال.

ثانيا: بزوال الحاجز بين الدائرتين سالفتى الذكر: اصبح “وعى العامة” هو المستهلك الأساسى لابداع الصفوة.

ثالثا: تضاءل دول النقد فى تغذية المبدع الجديد، ومن ثم “المستهلك” نظرا لفرط تخصصه، وافتقاره الى القنوات الاعلامية الكافية والمناسبة.

رابعا: ضاقت مساحة الاختيار امام المتذوق، وذلك نتيجة لسرعة ايقاع الحياة من جهة وتزايد مطالبها من جهة اخرى فأصبح تشكيل الوعى يحدث نتيجة لما يصل اليه من خارجه – دون استئذان- وليس استجابة لما يسعى هو اليه

وقد ترتب على ذلك كله ان اصبح “الوعى المصنوع” لا يمثل مرحلة الانسان الحالى او احتياجاته الحقيقية. كما تراجع الابداع “المتحدى المخالف” تاركا المجال للانتاج “الراشى” بالطمانينة والدغدغة، مما يعرض اى جديد حقيقى للتحلل بالاهمال والتخطى، او للرفض باعتباره نوعا من الشذوذ او الجنون وفى نفس الوقت ضاقت دائرة فاعلية النقد الباعث لمزيد من الحفز الابداعى لحساب النقد المساير للوعى السائد (المصنوع) لو لحساب النقد المفرط فى التخصص (المنعزل)

مطالب ملحة:

ولو صح ما سبق لأصبح المطلوب حاليا بالحاح لا يقبل الانتظار:

1- العودة الى النهل من المصادر التلقائية ومن أهمها  الأسطورة الشعبية والتراث عامة مع الانتباه الى خطورة تشويه هذا التراث بالتدخلات التجارية اللاهثة.

2- استقلال وسائل الاعلام عن السلطة بكل اشكالها وباكبر قدر ممكن مع السماح بالاعلام الثقافى المخالف.

3- تنشيط حركة نقدية عامة اقل تخصصا واكثر مباشرة.

4- القبول بجوار متصل على كل المستويات الابداعية وفى كافة مجالات التلقى.

5- دعم المحاولات غير المألوفة والصبر عليها قبل الاسراع بدمغها بصفة مرضية او تصنيف شاذ او قياسها بمنهج ثابت جامد.

نتائج مأمولة:

وقد يترتب على ذلك بعض النتائج التى قد تسهم فى تطوير الذوق الى ما يفيق بمرحلتنا المعاصرة واحتياجاتنا الحضارية مثل:

اولا: مزيد من تحمل الغموض الناتج عن مواجهة اسلوب غير مألوف او حقائق غير واردة فى ارضية ظاهر الوعى المصنوع. ذلك أن الكثيرمن الكتابات المتهمة بالغموض انما تبدو كذلك لما تحمل من جديد لا لما بها من اغراب.

ثانيا: احترام ما هو صعب مما يحتاج للجهد الضرورى لعمق التذوق فلا يكون الجيد هو المرادف للسهل الظاهر وانما ايضا وقبلا هو الاصيل الغائر.

ثالثا: رفض اعتبار الفن من اشكال الهواية حتى لا يقع فى المرتبة الأدنى بالنسبة للاحتراف فى الكسب او الحرب!! حيث يثبت انه الساق الأخرى اللازمة لمواصلة السير المتوازن فى الحياة.

رابعا: نقل ثقل التذوق من “الطرب لما يثير الحماس” “الى الفرحة بما يبعث التحدى” فيكون موقفنا من الابداع ليس طلبا لتثبيت “ما هو نحن” بفرض التسكين وتحصيل الحاصل بل رغبة فى الاكتشاف “لما هو نحن” بمغامرة التوليد واقتحام المجهول.

وبعد

فاذا وجد القارئ فى بعض ما قدمت ما يعتبره صعبا او غامضا فليبدأ فى تبنى ما جاء به بمحاولة الاقدام على فهمه مرة اخرى.

افليست هذه هى بداية ما دعوت اليه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *