الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / رمضان .. والحديث عن العلم والايمان

رمضان .. والحديث عن العلم والايمان

الاهرام 1191975

رمضان .. والحديث عن العلم والايمان

ما ان تثبت الرؤية – بالعين المجردة! – حتى تنطلق الاقلام فى الحديث عن فؤائد الصيام التى لا تحصى على الجسم والنفس والعقل والقلب!.. وربما الاقتصاد والتخطيط والعلاقات الخارجية.. الى آخر هذه المقالات والابحاث التى تطالعنا كل عام وستطالعنا كل يوم.

وهذا كلام العلماء ليقنع البسطاء من الذين يصرون على البحث عن فائدة سريعة، وسبب مباشر جاهز لكل حركة وسكنه فى حياتنا، بما فى ذلك العبادات.

واتذكر بائع النعناع الذى كان يوزع علينا قرص النعناع – كرما واعلاما – نحن راكبى القطار بالدرجة الثالثة وهو يعدد فوائد النعناع الذى يجنى القلب ويسر الخاطر ويمنع العطش وشرب الدخان ويعالج الصداع والامساك وربما العتم بأذن واحد أحد، واحس أن البائع كان اكثر صدقا فى إيمانه بما يقول من يعفى أولئك الذين يعرضون بعض المعلومات الطبية المبتورة لتبرير الصيام، فيكلفون العلم ما لا يطيق، ويكلفون الدين ما لا يصبح، حيث لا تحتاج العبادات الى هذا التبرير السطحى، ولا يحتاج المؤمنون الى هذه “المكافأة التشجيعية” – ولا استطيع ان اقاوم الجزع والغيظ الذين يتملكنى وأنا اقرأ كلاما عن رمضان كوسيلة عصرية للرجيم (وخاصة وأنه سيعود علينا فى العام القادم على البلاجات) أو وأنا أقرا عن صلاة القيام كرياضة أو كمساعد للهضم (والتخلص من “فائض القيمة” الغذائية) الى آخر هذه الوصفات العجيبة التى تشوه العلم وتحط من قدر الصيام فى آن واحد.

صيام رمضان اكبر من كل هذا، وهو فى غنى من كل هذا، فاذا ذكرنا شئ مما ذكر به الذين من قبلنا، فهى مجرد تذكره فمن شاء ذكره.. ولكنها ليست الحكمة الفريدة وراء فرض الصيام – فمن كان صيامه لله، فهو لله، وهو يجزى به- ومن كان صيامه لعود سمهرى او تخفيض فى ضغط الدم (الخ) فصيامه لما صام له، ان هذه الخبرة الجادة – الصيام – تذكرنى بحاجتنا فى مرحلتنا هذه لدرجة حافله من الجدية والالتزام: وتدعونى الى مراجعة الاشاعة المشوهة من أصول التربية الحديثة التى توهم الناس ان التساءل والاستسهال هما الوقاية من العقد النفسية، والعلم الجاد برئ من كل هذا، لان العلم ينبع نم الواقع ويدرك تماما ان انسان هذا العصر يعيش على الارض تنتظره مشاكل الجوع والقهر والهوان وهو يصعد سلم العمر فى مشقة وعنت، والعلم الجاد يعلمنا انه مادام اطفالنا لا يولدون فى الجنة، ولا ينمون فى أنابيب مكيفة، ولا يموتون من الدعة والراحة فان علينا ان نعدهم لواقع الحياة الصعب، حتى لو تصور بعض من أداء الله عليهم من فضله أن حياتهم سهلة رضية.

داؤنا الجديد القديم هو الاستسهال المغلف بصيحات الادعاء والرفض بالالفاظ وأغلب شبابنا لا يستطيع التأجيل ولا يطيق التريث فى التفكير او تحمل مسئولية حريته الداخلية، فهو بين ساقط متشنج أو مطيع أعمى – والعياذ بالله من الاثنين معا.

ولكن كيف يكون الصيام تذكرة بما نحن فيه وما نحتاج اليه الا ان يصعب الحرمان من الطعام والشراب والجنس تقشف نفسى صادق، وفكر يقظ متأمل وعفه فى الطعام عند الافطار، فلا ينتهى يوم الصائم لمائدة فى صيامه، أو متذكرا للمحرومين من بنى جنسه، هذا أن استطاع ان يقوم اصلا، وبذا يصبح كقول الشاعر العربى، ” ……… من كلها ضرحالب… ودافئه من بعد ذلك ما حلب” – او – “وكأنك يا بو زيد ما غزيت”.

حياتنا الواقعية – دون احلام او هرب او نسيان للأخرين – شاقة وشقية وينبغى ان نصيغها بحجم تسوتها لتخفف منها فتصبح جادة مرضية ثم خلاقة ومثمرة، ولا يمكن ان يتم اى من ذلك بأن تلغى مشاعرنا اولا بأول، فتدفق اللبن بعد عليه اذ تقابل اى سؤال جاد برد سريع جاهز، وتفرغ اى انفعال عميق بصيحة سخط عالية، ونهدر اى يوم صوم بمائدة تخمة بشمة…، وانما علينا ان نتعلم كيف نثنى بارادتنا لنسعد وننمو، فلا نسمح بعد لا ان يشقينا لنقل ونستحق.

كلا انها تذكره، فمن شاء ذكره – اما انها حكمة الصيام فحاشا لله وكلا.. ثم كلا..

***

على أن هذا الحديث فى هذا الشهر المبارك مع ما يصحبه من حذر قد يطرح علينا تساؤلا اشمل ينبغى ان نتحمل مسئولية توضيحه وهو:

اين تقع القيم الدينية – بما يصاحبها احيانا من حرمان – من حاجات الانسان الاساسية للتواجد فى هذه الحياة بايجابية ووعى متكامل!

أو لتطرح السؤال فى صورة ابسط هل الفضيلة من حاجات الانسان اللازمة لوجوده ام انها مجرد هرب وكبت وخوف … ثم تعلم كما اوحت بعض الفرق المناسبة!

ولكن … لهذا حديث آخر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *