الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / الإنسان العربي المعاصر‏..‏ ولغتنا العربية

الإنسان العربي المعاصر‏..‏ ولغتنا العربية

الاهرام: 9/8/2004

الإنسان العربى المعاصر‏..‏ ولغتنا العربية

أتألم مكررا حين يعاودنى الشك فى أن الإنسان العربى المعاصر هو صاحب هذه اللغة الجميلة المسماة “اللغة العربية”‏.‏ إن ما وصل إليه الإنسان العربى حاليا يفرض علينا أن نعيد النظر فى مدى انتمائه إلى هذه اللغة‏،‏ ناهيك عن مدى جدارته بحمل مسئولياتها‏،‏ ومن ثم التصدى لتطويرها دون أو بدل نفسه‏!!.‏

اللغة كيان وجودى بيولوجى غائر‏،‏ وهى غير الكلام وإن ظهر بعضها من خلاله‏،‏ هى نسيج الثقافة الحالية بقدر ما أنها تعلن جذور الثقافة الممتدة فى التاريخ‏.‏

فى فترات التحول الحرجة ـ تطورا أو انحلالا ـ تتعرض أى لغة إلى خلل مؤقت قد يدوم إذا لم يحتمل أصحابها مسئوليته‏،‏ إذ يستوعبون دلالته‏.‏

الإنسان العربى المعاصر‏،‏ وصورته‏،‏ يعلنان حالا خطيرة من السلبية والخمول والجمود والتبعية فى حين تعلن لغته الأصيلة أنه مشروع قادر واعد‏.‏  من نصدق‏،‏ ومن نكذب؟ من نحن؟ هل نحن كما صرنا إليه حقيقة وتشويها؟ أم نحن ما تقوله لغتنا عنا إذ تشير إلى أصل شامخ ذى إبداع متجدد‏،‏ ومرونة رحبة‏،‏ وطبيعة سخية‏،‏ وحوار خلاق؟

هذا التباعد بين الإنسان العربى الحالى ولغته الأصيلة جعلها عبئا عليه‏،‏ فراح يتعامل معها كجسم غريب ناشز‏،‏ أو فى أحسن الأحوال‏.‏ كأثر تاريخى يوهم بفخر زائف‏.‏ ترتب على كل هذا أن تصدى للمسألة فريقان على طرفى نقيض‏:‏ أحدهما راح يندب حظها‏،‏ ويرثى مالها‏،‏ ثم يتمادى فى تثبيت مواقعها فى سجون معاجمها‏،‏ وكهوف نحوها‏،‏ أما الآخر فقد انصرف هربا منها وهو يتخلى عنها سرا أو علانية‏،‏ إهمالا أوتشويها‏،‏ حتى ظهرت تلك البثور المتقيحة على وجهها‏:‏ إما من لغات أخرى أو من لا لغة أصلا‏.

لعل ما آلت إليه حال لغتنا هكذا ليس إلا إعلانا عما آل إليه حالنا كله فى أكثر من مجال‏،‏ هذا الرطان المتقيح يعلن فيما يعلن عن احتمال رطان اقتصادى ورطان اجتماعى ورطان سياسى بشكل أو بآخر‏.‏

ثم يخرج علينا مجتهد متألم ليشارك فى مواجهة الموقف بما لا يمكن إنكار حسن نيته فيه‏،‏ فيزعم أن الحل هو فى أن نخفف من قيودها‏،‏ وأن نحرر نحوها‏،‏ وأن نجدد قديمها‏..‏ الخ‏،‏ الفكرة واردة وجيدة‏،‏ فاللغة كائن حى طول الوقت‏،‏ وأى وصاية عمياء عليها لا تؤدى إلا إلى تصنيمها حتى التشويه والجمود فالتحلل‏.‏ لكن التطور المبدع لايأتى فقط من الخارج إلى الداخل‏.‏ فخشيت أن تكون المسألة استسهالا‏.‏ لا مسئولية مبدعة متحدية‏.‏

لن تنصلح لغتنا بتحسين شكلها أو بتخفيف قواعدها‏.‏ إن ما آل إليه حال لغتنا إنما يعلن ما نحن فيه بشكل أو بآخر

حين يكون لحياتنا معني‏،‏ ولوجودنا هدف‏،‏ ولجماعتنا شمل‏،‏ سوف نكتشف كيف أن لغتنا أصبحت سهلة هادفة متطورة متجاوزة حتى ما وصلت به إلينا من قدرات وجمال‏.‏ يسرى هذا على الفصحى مثلما يسرى على العامية التى هى لغة شفاهية فائقة الجمال كاملة المواصفات أيضا‏.‏

إن الله لايغير ما بقوم – بما فى ذلك لغتهم- حتى يغيروا ما بأنفسهم‏.‏ إن استعادة حيوية وإبداع وفاعلية ومرونة لغة ما هى نتاج استعادة أهل هذه اللغة لكل ذلك ممارسة موضوعية ناقدة هادفة مبدعة‏،‏ أما تلك الإسعافات المتعجلة الضجرة فهى تأجيل للمواجهة‏،‏ ناهيك عن احتمال التشويه‏،‏ والرقص على السلم‏،‏ والتخلى عن الهوية‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *