الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / الفجوة..، والمقاييس !!

الفجوة..، والمقاييس !!

نشرت فى الاهرام

17-7-2006

الفجوة..، والمقاييس !!

إذا كان علينا – موضوعيا – أن نعترف بالفجوة الرقمية والحضارية والعلمية والجامعية التى بيننا وبينهم، فإن من حقنا أن نراجع المقاييس التى يقيسوننا بها .

أنا استاذ جامعى منذ أكثر من ثلاثين عاما، أعلم ما آلت إليه جامعاتنا سواء فى التدريس أو البحث العلمى، ناهيك عن الإبداع والنشر العالمى، فحين أنبه إلى ضرورة التوقف عن إطلاق هذه الصرخات النعّابة، والتعليقات الساخرة ونحن نناقش موقع ترتيب جامعاتنا بين جامعات العالم، لا أدافع عن إنجازات وهمية أو أزعم أن ظلما قد وقع علينا بهذا الترتيب المتدنى، فأنا أعلم تمام العلم أننا لم نصل حتى إلى المرتبة التى وضعونا فيها. برغم كل ذلك فإننى أرفض نصب هذا المعزى بهذه الصورة التى لا تعلن إلا  الشعور بالدونية أو حتى بالذنب دون حفز أو أمل.

 هل ثم سبيل آخر لمواجهة هذا الواقع المر؟

 إذا كانوا هم يسيرون بسرعة خمسين كيلومترا فى الساعة (أو فى الثانية) فنحن نسير بسرعة خمسين مترا فى اليوم أو  فى السنة،  فالمسافة تزيد باضطراد ما دمنا على نفس الطريق بنفس النظام، نقاس بنفس المقاييس. علينا –إذن- أن نتوقع أن يتراجع ترتيبنا باستمرار سواء فيما هو دون صفر المونديال، أو ترتيب الجامعات  أو  عضوية مجلس المنظمة الدولية الجديدة لحقوق الإنسان ..إلخ. ومع ذلك فقد يحق لنا أن نتعاطى بعض المسكنات – لا المخدرات – ونحن ننفخ فى إنجاز شاب مصرى حقق بطولة فى الاسكواش أو فى المصارعة، أو حين نتملى فى النظر إلى عضلات فتاة مصرية صغيرة ترفع الأثقال، أو نتيه فرحا بكأس الأمم الأفريقية، وننسى أنها إنجازات محدودة متباعدة وفردية غالبا. هذا التسكين – على أية حال- هو أفضل من أن نستغرق فى اتهامهم بأنهم السبب فى تخلفنا الذى نصر عليه، وكأنه غاية فى ذاته، نبرر به  شعورنا بالاضطهاد والمؤامرة.

السبيل الآخر، الذى هو ليس بالضرورة  هروبا أو تبريرا أو دفاعا ، يبدأ بمراجعة المقاييس التى قيّموا بها ترتيب الجامعات (كان أشهرها الترتيب الصينى :جامعة شنغهاى)، فنلاحظ أن المعايير الموضوعة قد لا تكون أنسب المعايير التى علينا أن نحرص عليها للوفاء بشروطهم، لأن كثيرا منها مقول بالتشكيك، من أول شرط النشر العالمى حتى جائزة نوبل نفسها.

واقع النقد المنهجى الجارى على مستوى العالم ، ومن الشرفاء عندهم قبلنا، ينبه أن “العلم أخطر وأنبل وأهم من أن يـُـترك للعلماء”، وأن “المعرفة أكبر من العلم وأشمل”.  لم يعد التقدم المأمول، من البشر وللبشر،  مهمة الجامعات ومراكز الأبحاث دون سائر الناس. الشخص العادى مدعٌّو عبر العالم للإسهام فى توسيع وسائل وأدوات المعرفة، بل وفى توجيه مسار وعطاء العلماء. أغلب العلماء الآن – فى كثير من بقاع العالم – بوعى أو بغير وعى، يُستعملون لأغراض غير علمية، حتى وصل الأمر فى بعض المجالات (السلاح والدواء مثلا)  إلى ان يُبَرْمَجُوا كوقود للسعار الكمى، والحياة الاغترابية والمزيد من العملقة الاحتكارية على حساب تطور الانسان كنوع، له كل هذا التاريخ الرائع.

أنا لا أنكر قيمة ودقه المقاييس السائدة، لكننى أنبه إلى ضرورة البحث عن طريق آخر، هو بالضرورة أصعب جدا، طريق ألمحتُ إليه مرارا قبل ذلك، طريق يبين كيف يمكن أن نستلهم من ثقافتنا وتاريخ، وتاريخ الإنسان، ما يهدينا إلى منهج آخر، وسبيل آخر، وقيم أخرى، ومقاييس أخرى، ونوعية للحياة مختلفة، لعلهم أحوج ما يكونون إليها معنا، ومثلنا، طول الوقت.

أمل بعيد، لكن بغيره، لن نحقق حتى أن نكون أدوات مصقولة، تقع فى قاع جراب الآلات التى يشحذونها لتحقيق أغراض مغتربة، لم يعلن عن تفاصيلها، بخبثٍ أو بغفلة.

الدعوة عامة، والتحدى شامل، والأمل قائم، وفرض المعرفة هو فرض عين على كل واحد من البشر على ظهر الأرض دون استثناء.

 هذا هو شرف الوجود وغايته معا. “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *