الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / الإبداع‏:‏ الطريق الي الوعي الإيماني

الإبداع‏:‏ الطريق الي الوعي الإيماني

الأهرام

29/05/2000

الإبداع‏:‏ الطريق الي الوعي الإيماني

كنت قد عزفت في البداية عن المشاركة في الحوار الدائر في هذه المسألة‏,‏ حيث وجدت أنه قد قيل وكتب كل مايمكن أن يقال ويكتب الا أنني حين قرأت المقال الهاديء المتألم المسئول الذي كتبه د‏.‏ محمود زقزوق متي نعي الدرس أهرام‏2000/5/24‏ حتي شعرت بمسئولية حتم المشاركة بعد شكره علي دعوته الضمنية أن يكون مقياس كل كتابة‏,‏ وكل رأي وكل فتوي‏,‏وكل حركة‏,‏ وكل فعل‏,‏ وكل احتجاج‏,‏ وكل هيجة هو العائد الموضوعي علي ديننا وعلي حضارتنا وعليمسارنا فتوكلت علي الله لأضيف ماعندي علي الوجه التالي‏:‏

إن حصاد ماحدث يكمن في ماانتهي اليه الحال من احتمال التدخل‏,‏ السافر‏,‏والسطحي‏,‏ والقطعي في نشاط العقل البشري الذي نحن أحوج مانكون إلي طلاقته وأصالته في هذه الفترة من تطور الزمان بوجه خاص هذه الطلاقة التي يمكن أن تسمح لنا بأن نقول لنا‏,‏ ولهم مانتصور أننا نتميز به‏,‏وهو الطريق اليه سبحانه‏.‏

لكن لنبدأ من البداية‏.‏

ان المأخذ الذي يؤخذ علي هذه الرواية الوليمة ليس فيما قال المهدي جواد أومهيار‏,‏ أو غيرهما وهما شخصان خياليان يتحاوران بما شاءا كيف شاءا المسألة هي أن كاتبا له وجهة نظر ترزح تحت ايديولوجية متحيزة هو مؤمن بها‏(‏ حتي لو أنكرها في تصريحاته فهو حر في الحالين‏)‏ ظهرت هذه الايديولوجية في مجمل توجه روايته وكأنها الاصح والاقرب الي العقل والحرية والتحضر فرعب من ذلك الكثيرون وأكثر من رعب منهم هومن يعبد الله علي حرف‏,‏ وتعجب البعض بحسن نية أو خبث مقصد‏,‏ من أن تسمح الدولة بنشر هذا النص وكأنها ـ بذلك ـ تتبني وجهة نظر المؤلف وهذا تفسير خاطيء في بلد حر ودولة متحضرة

هذه هي المسألة لاأكثر ولاأقل ولو أخذت من هذا المنطلق لكان للموضوع شأن آخر‏.‏

فالرد علي ظهور مثل هذا النص المتحيز هو الدعوة الي تحريك الحوار وتعميق الجدل الخلاق ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينه الرد لايكون إلا بأحد سبيلين لا ثالث لهما‏:‏
الاول‏:‏ هو النقد المبدع والموضوعي الذي يبلغ مثل هذا الكاتب انه برغم اختبائه وراء شخوصه الا أن تحيزه قد ظهر‏(‏ حتي لولم يقصد‏)‏ ظهر من خلال مجمل نصه‏,‏ وليس من الفاظ شخوصه وأن هذا من وجهة نظر النقد البحت انما يقلل من قيمة ابداعه فيضعه في فصيلة الادب الملتزم بفكر محدود فينقص من عمق أصالته حتي لو امتلك أدوات مصقولة أظهرت عمله براقا يرضي محتواه من يحتاج إلي أن يتقمصه‏,‏ لكن أصالته تظل تتناسب عكسيا مع تدخل ايديولوجيته وفرط تحيزه‏.‏

والثاني‏:‏ هو أن يستثير هذا النص المتحيز مبدعا آخر له توجه ايماني عميق ويملك أدوات بنفس الصقل والمهارة‏,‏ وربما أفضل كثيرا فيطلق العنان لابداعه‏,‏أو يواصله فيقف ابداع أمام ابداع قل تعالوا نجمع ابداعنا علي ابداعكم ثم ندعو لنجعل لعنة الله ـ أو رحمته ـ علي ظالمي أنفسهم هذا مافعله نجيب محفوظ وهو يخرج من مصهر حيرته الرائعة ليسخر ضميره المبدع ومواهبه الخلاقة في محاولة الاخذ بيدنا معه الي وجهه تعالي‏,‏سواء في الطريق او الشحاذ أو زعبلاوي أو الحرافيش أو غيرهم‏.‏

وبألفاظ أخري‏:‏ انه لايعري تحيز الاديب في نص بذاته‏(‏ أكرر‏:‏ والتحيز نقص في الابداع‏)‏ الا نقد موضوعي موثق‏,‏ كما أنه لايفل دعوة نص الي ايديولوجية معينة‏,‏ الا دعوة أقوي وأرجح تهدي الي بديل لها يحرك الوعي أعمق‏,‏ويملأ النفس أرحب‏.‏

المسألة الاخري هي أن الادب هو أدب لاأكثر ولاأقل لاهو درس في الكهنوت‏,‏ ولا هو فلسفة للتطبيق‏.‏

ومن الادب مايتصدي لمشكلة الكينونة والمصيروهي تتجلي في الواقع والمشاعر والسلوك والتدين والشك‏,‏ واليقين والحب والكرة والحرب والسلام‏.‏

ومنه مايكتفي بمساحة مكانية محدودة في واقع زماني بذاته دون أن يحاول التصدي لهذه المسألة الاعمق‏:‏ مسألة الله سبحانه والمسار والمصير‏.‏

ولايصح أن نعامل كل ما جاء ذكره في نص أدبي عن الله سبحانه أو عن الخلود أوعن الموت وكأن هذه هي القضية المحورية اللهم الا اذا اكتشف النقد ذلك في النص ودعمه بما يراه‏.‏

ورواية الوليمة رواية لم تتصد من قريب أو بعيد لمشكلة الكينونة الانسانية وجوهر الايمان وكل ماورد بهذا الشأن هو خلفية وهوامش لاحداث أخري احداث تجري في مساحة أضيق علي مدي أقصر وهذا اختيار لايؤاخذ عليه كاتب ولايمدح غيره لاقدامه عليه فلكل وجهة هو موليها ولو أن الادب الخالد هو الذي يستعمل الواقع الحالي والحدث الظاهري ليتناول من خلاله قضايا أزلية تظل تعاود البشر ماداموا بشرا‏,‏ أما أدب تصوير القهر الموقفي العابر فهو أدب محدود جغرافيته مائلة توجهاته قد يكون جميلا ومريحا وبراقا يستهوي بالذات من مر بمثل الظروف التي وردت في النص‏,‏اذ يسمح له بتقمص ابطاله فيأتنس وتخف آلامه وهو يستدعي ذكرياته فيصفق للنص ويهلل له لأنه خفف عنه وأشعره بالمشاركة‏..‏الخ أما أن يكتب لمثل هذا الادب الخلود او الامتداد أو يدخل التاريخ بوصفه لمس ماينبغي أن نعود اليه ـ كبشر ـ مرارا فدائما فهذا أمر آخر لم يقصد اليه صاحب الوليمة‏,‏ وهو حر‏.‏

أخلص من هذا التنويه الي أن القضية كانت ينبغي‏(‏ كما يقول القانونيون‏)‏ أن ترفض من حيث الشكل ماكان ينبغي أن تثار أصلا‏,‏ لو أن الذي استقبلها دون غرض كان واثقا من دينه‏,‏ حريصا علي كرامة عقله فخورا باسلامه مالكا ناصية لغته فاهما لدور الادب والنقد حق الفهم‏,‏ أقول‏:‏ لو أن أيا ممن أهاج أو حكم أو استشهد به اطمأن الي حقيقة كل ذلك اذن لأمكنه أن يستنتج بسهولة شديدة أن الكاتب كان له لغته الخاصة ذات الدلالات الخاصة للمدلولات الخاصة فهو لم يهاجم الإسلام‏,‏ ولا النبي عليه الصلاة والسلام‏,‏ ولا الله تنزه وتعالي عما يصفون‏,‏ وإنما هو هاجم المعاني السلبية التي شاعت حول هذه الألفاظ‏,‏ ليس بأصلها التضميني الجوهري الثابت‏,‏ وإنما بما آلت إليه علي يدي من لم يتحملوا مسئوليتها نتيجة لسوء الاستعمال ممن زيفوا دينهم حتي أصبح بهذه الهشاشة‏,‏ أو من الذين سخروه للقهر والاستغلال‏,‏ أما الدين الذي أنزله الله علي نبيه صلوات الله عليه‏,‏ فإن الكاتب لم يقترب منه‏,‏ بل إني أشك في أنه يعلمه حق علمه‏,‏ ربما ليس لقصور فيه‏,‏ ولكن لتقصير ممن يعرفه من المؤمنين السالكين سبيلهم إلي وجه الله إبداعا‏.‏

اللغة تفيد ما تفيد في سياقها المحدد‏,‏ اللفظ نفسه يفيد أكثر من معني‏,‏ حسب متغيرات أكثر‏,‏ يعرفها الطفل قبل العالم‏,‏ ولأضرب لذلك مثلا بسيطا‏:‏ حين يطلب طفل من والده أن يشتري له لعبة‏,‏ فيقول له الوالد إن شاء الله‏,‏ فيرد الطفل غاضبا أنه بلاش إن شاء الله‏,‏ فلا الطفل يعني إن شاء الله‏,‏ التي جاءت في التنزيل الحكيم‏,‏ ولا الوالد كان يعني الاستهزاء بالتعبير وهو يستعمله للتسويف والتأجيل مما نفر الطفل من استعماله‏,‏ وقس علي ذلك‏.‏

وأنا لا أريد أن أتمادي في تحليل دلالات ما ورد في الوليمة‏,‏ ولا أريد أن أدافع عنها أصلا‏,‏ ولكن المسائل الخطيرة‏,‏ والدلالات المهمة هي الدروس التي ظهرت في أثناء خوضنا لهذه المحنة‏(‏ وشكرا مرة أخري للدكتور زقزوق‏)‏ وهي دلالات ينبغي أن نتوقف عندها كثيرا كثيرا‏,‏ ومن ذلك‏(‏ علي سبيل المثال لا الحصر‏):‏

‏1‏ـ إن أغلبنا ـ وخاصة الشباب منا ـ قد فقد علاقته باللغة‏,‏ وبالمعاني وبالدلالات أصلا‏.‏ في الوقت الذي نردد فيه أننا في عصر المعلومات‏,‏ والتحديث والشفافية‏,‏ وما إلي ذلك‏,‏ نقول هذا في الندوات‏,‏ والمقالات‏,‏ والمؤتمرات‏,‏ والمحاضرات‏,‏ ولا نمارس عشر معشاره في مثل هذه القضية‏.‏

‏2‏ـ إن سمة الاتقان‏,‏ في القراءة‏,‏ أو الكتابة‏,‏ أو النقد‏,‏ أو غير ذلك قد اختفت أوكادت‏.‏

‏3‏ـ إننا تنازلنا عن ديننا الحقيقي لصالح ما شاع عنه من جهة‏,‏ أو تسليما لأوصياء عليه من جهة أخري‏.‏

‏4‏ـ إننا لا نتحمل الاختلاف من حيث المبدأ‏.‏

‏5‏ـ إننا لا نعرف بالقدر الكافي أصالة الأديان‏,‏ ولا نفعها‏,‏ ولا قدرتها علي الاستمرار‏,‏ ولا حقيقة حاجة الناس إليها‏(‏ كل الناس‏:‏ حتي من تصور منهم أنه استغني ـ ملحدا ـ عنها‏).‏
هذا بالنسبة للدلالات‏,‏ أما عن المخاطر فهي أعمق وأبلغ نذيرا‏,‏ ذلك لأنه بهذا الموقف السطحي علي الجانبين قد تجاوزت القضية حدودها إلي هز ثقتنا في عقولنا ونحن نتساءل‏:‏

أولا‏:‏ هل من حقنا أن نفكر أم لا؟

ثانيا‏:‏ هل من حقنا أن نبدع أم لا؟

ثالثا‏:‏ هل عندنا ما نضيفه لهم علي الجانب الآخر من واقع هذا الحق أم لا؟

إننا إذا تمادينا في مثل ما حدث مكتفين بالحديث عن المسموح والممنوع‏,‏ وليس عن الإضافة والابداع والتنوع الخلاق إنما نعلن ضمنا أننا جهزنا أنفسنا أن نقادا من أي عقل بشري آخر عدو‏,‏أو سطحي أو تافه أو خبيث قديم أو مستورد أو غير ذلك هو ليس عقلنا نحن والسلام انه اذا كان عندنا ـ من واقع اختلاف نوع ديننا وإيماننا وتديننا ـ مانعتز به ونتصور أننا يمكن أن نضيفه الي مايملكون وأنهم يحتاجون إلي مثل ذلك فإن هذا لن يتم بأن نصيح مرددين هذا النهي‏,‏ او ذاك النذير آمرين بالبقاء ساكنين داخل هذا القفص الفكري الموصي عليه من غير ذي صفة إننا لوفعلنا ذلك فلن يسمعنا أحد بل انهم لن يحترموا مانقول بأي لغة وهم يشاهدوننا ونحن نعدو خائفين من هذه العبارة مرعوبين من ذلك النص كذلك نحن لايمكن أن نوصل اليهم معاني مانريد في شكل منشورات او خطب تردد تفاسير لم نعد نحن نفهم معناها أو نطيق تطبيقها‏.‏

ان الطريق الحقيقي لنقول لهم عن اسلامنا وعن ايماننا مايجعلهم يحترموننا وقد يفكرون في الاستفادة من الحوار معنا هو الابداع من موقعنا المختلف ان كنا نري أن به فعلا مانتميز به ويستحق أن نوصله‏,‏ لكن ماحدث يقول عكس ذلك يقول‏:‏ إن أغلب من اشترك في هذه الهيجة العمياء وليس كلهم قد حارب الابداع بشكل أو بآخر‏.‏

‏1‏ ـ الذي هاجم رواية فأظهرها بما لايستحق نسي أنه يتعامل مع ابداع وليس مع بيان حربي‏.‏

‏2‏ـ والجموع التي هاجت استسهالا أو غباء او ازاحة لم تبذل جهدا في أن تتبين النبأ‏.‏

‏3‏ ـ المهيجون المغرضون والمهيجون الطيبون‏,‏ والمهيجون الخائفون ألقوا السلة بالطفل الذي فيها فقهروا الفكر وحقنا في استعمال عقولنا المبدعة وهم يتصورون أنهم يزيلون القذي من عيون لاتبصر‏.‏

‏4‏ ـ والذين تحيزوا للرواية وصاحبها تعميما‏:‏ تجاوزوا القضية الاساسية وهي حقنا في الابداع ولم ينصفوا قضية الابداع بالقدر الكافي‏.‏

مرة أخري اذا كان ديننا وايماننا واسلامنا الاصلي فيه مايضاف إليهم فلن يكون ذلك الا من خلال ابداع أصيل فلا تحرمونا من هذا الحق‏.‏

اننا لن نصل اليهم من خلال خطب منبرية معادة لاتهمهم في شيء ـ ان كانت مازالت تحتوي مايهمنا ـ ولا من خلال المؤسسات السلطوية المسجونة في قيود الماضي‏,‏ ولا من خلال الخبرات الصوفية العاجزة عن الانتشار والتعميم رغماصالتها؟

لن نصل إليهم أو الينا إلا من خلال الابداع الذي يهدينا الي طريق الله سبحانه وتعالي من خلال تنوع ايمان وإلحاد آل كرامازوف من خلال ضجر وسعي عمر الحمزواي الشحاذ من خلال دورات عاشور الناجي الحرافيش وحتي من خلال مجاهدة محمد فهمي عبد الله ـ قصر العيني ـ بل ومن خلال إلحاد مهدي جواد الوليمة‏.‏

فلنتق الله في عقولنا وفي حقنا في الوصول اليه بما وهبنا اياه من حركية الابداع وسيلتنا لنكون علي شاكلته سبحانه حتي نري وجهه تعالي فنلقاه وقد أكرمنا أنفسنا بما كرمنا به‏.‏

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *