الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / خيانة العلم والشعر

خيانة العلم والشعر

نشرت فى الاهرام

6-2-2006

خيانة العلم والشعر

حين كتبت فى الأهرام (30/5/2005) عن “أينشتاين شاعراً”، هاتفنى د. نبيل على مثينا على ما كتبت، ففرحت بشهادته وهو مَنْ هو فى المعلوماتية، والثقافة، واللغة، لكننى حين عدت للمقال وجدت به شيئا ناقصا، فى الاتجاه الآخر وهو: كيف يكون الشاعرعالما بدوره؟، كيف يكشف و يضيف للمعرفة؟ وليس فقط كيف يشرق فى الوعى والوجدان؟

فجأة قفز إلى وعيى ذلك العمل الهائل الذى قام به الشاعر عبد الرحمن الأبنودى فى جمع السيرة الهلالية، قلت له ذات مرة إن هذا عمل يعجز عنه الأكاديميون للحصول على الدكتوراة وما بعدها، ولم أنتبه ساعتها إلى فضل شاعريته التشكيلية على تنظيم رؤيته التوثيقية المتقنة هكذا.

ثم أننى فوجئت به مؤخرا ينحت قولا غير مأثور بجرأة غير مسبوقة وهو يقول: ” العلم كالشعر إذا خنته مرة واحدة خانك إلى الأبد”، ثم يضيف: هذا القانون من وضعى وليس لأحد ممن سبقونى” يا خبر يا عبد الرحمن، كيف وصلت إلى هذا بكل هذه الشجاعة والوضوح: هكذا خبط لصق، هذا شعر آخر.

تساءلت وأنا أصدقه: كيف عرف بحدس إبداعه أن حمل أمانة العلم أوالشعر تصل إلى هذه الدرجة من المسؤولية فقالها بهذه الروعة المتحدية.

كان ذلك بمناسبة الجدل الذى دار ويدور حول حادث بنى مزار المؤلم والغامض.

نعم، يوجد خونة للعلم، بوعى أو بغير وعى، هم خونة حين يخدمون التجارة العملاقة والشركات إياها، بالتفرغ لأبحاث براقة لا تخدم إلا التجارة والتكاثر الاستهلاكى أو الإهلاكى. أبرز مثال لذلك ما تفعله شركات الدواء حتى يصل بها الأمر أن تبرمج عقول الأطباء (الصغار، والكبار بالسلامة) ليخدموا أسواق الشركات، وليس صحة المرضى.

خيانة أخرى يمكن أن تكون مثالا أوضح وهى سوء استعمال ما يسمى الطب النفسى السياسى أو علم النفس السياسى حين يسخر العلم ليس فقط لتأويل الأحداث الكارثية، وإنما لتبريرها أو لغسيل المخ أو قلب الحقائق أو وصم المخالفين للنظام بالجنون، أو لمّا يتسطح تناول أمر ما: استسهالا أو استعجالا، بوعى أو بغيره حين يأخذ بعضهم معلومة مبتَسرة من هنا، أو قولا مرسلا من هناك، لتعميم الحكم على أمور لا يحسمها إلا القضاء النهائى بعد ردح من الزمن.

الطب النفسى بالذات، والطب النفسى الشرعى تحديدا، ينبغى أن يتحرى وهو يصدر أحكاماً عامة على أحداث عامة، مشتبه فيها مَنْ بِهِ شبهة مَرٍضٍ ما، كل حادث متفرد فى ذاته، وكل متهم ليس كمثله أحد، مهما توحد التشخيص، لابد أن نتناوله فى حدود المعلومات المتاحة الموثقة، وما أقلها للإعلام، ما أغمضها وأصبعها عند الفحص المباشر العميق.

 على العالم أو الأخصائى أن يتذكر طول الوقت مَنْ يخاطب؟ ولماذا؟ وأين؟ هل هو القاضى؟ أم القارئ العادى؟ أم زميل مشترك فى نقاش علمى ..الخ.

فى كل هذه الأحوال: صمت العالم والأخصائى هو مسئولية وأمانة، مثله مثل كلامه سواء بسواء.

كذلك الشعر حين لا يكتفى بأن يأبى أن يكون نظما راقصا، أو دغدغة لذيذة، أو تحريضا صارخا، فيتحمل مسؤولية تفكيك اللغة وإعادة تركيبها صورا تتحرك أنغاما تعيد تشكيل الوعى البشرى، فهو يحمل أمانة الخالق المبدع. فى ندوة “اللغة وتشكيل الوعى العام” التى عقدتها لجنة الثقافة العلمية بالمجلس الأعلى للثقافة (مارس 2005) وكنت مع د. نبيل على مسؤولا عنها قدمت ورقة بعنوان “حركية اللغة بين الشعر و الشارع”، حمّلت فيها الشاعر مسؤولية احتضان الشارع واحترامه بشطحاته العشوائية، حتى يحتويه بتصعيده فى شعره الجميل، وهذا بعض ما يفعله الأبنودى، هذا هو الجهاد الأكبر لترشيد وعى ناسنا ما أمكن ذلك.

 لعل وعسى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *