الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / سدرة المنتهى والتنمية العربية

سدرة المنتهى والتنمية العربية

نشرت فى الاهرام

16-5-2005

سدرة المنتهى والتنمية العربية

فجأة، وجدت نفسى غارقا فى “تقرير التنمية الإنسانية العربية” لعام 2004 “نحو الحرية فى الوطن العربى”، ذلك أننى مدعو للمشاركة فى مناقشته فى الندوة المغلقة التى تعقد اليوم بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية. توقفت عند فقرة النهاية بعنوان “سدرة المنتهى”، فلم أدرك مغزى العنوان، رحت أبحث عن “جنة المأوى” فى التقرير فلم يقفز إلى ظاهر وعيى إلا حديث عن “الثقب الأسود” و”الخراب الآتى”، أما الثقب الأسود فالتقرير يعنى الحكومات العربية باعتبارها “ساحة لا يتحرك فيها شىء، ولا يفلت من إسارها شىء”، أما “الخراب الآتى” فالتقرير يعنى به تداول السلطة بالعنف المسلح .أين سدرة المنتهى؟  فقرة النهاية هذه مليئة بألفاظ رنانه من أمثال “.. “وهل من غاية أنبل من مجتمع الحرية  الذى تنتفى فيه جميع ألوان الانتقاص من الكرامة الإنسانية، مجتمع لا يفتقر فيه كائن واحد إلى أى من احتياجاته الأساسية المادية والنفسية والروحية وتنفتح أمامه دوما طاقات الرقى الإنسانى !!!!!”..هل هذا التعميم الحالم هو سدرة المنتهى فى تقرير رسمى تساهم فيه الأمم المتحدة ؟ !!.

هو تقرير وصفى جيد ملىء بالأشجان والأرقام، حالم بالنبل والكرامة، يقرر أنه: لا توجد حرية حقيقية فى كل البلاد العربية، وأن الأمل بعيد ، وأن الاستعانة بقوى مساعدة خارجية مقبول  كحل مرحلى. شعرت بخطر ما برغم الجهد: خشيت أن يغنينا هذا الوصف المحكم عن الجدل الخلاق على أرض الواقع، خشيت أن نطرب لهذه الأرقام والأصوات الخطابية فلا نتحرك جدا نحو الوعى العام الحقيقى لتحمل المسئولية معا. الشائع أن التشخيص هو حتم سابق لنجاح العلاج، لكن هذا ليس صحيحا، حتى فى الطب: كثيرا ما نتوقف مبهورين بلذة الوصول للتشخيص دون أن نستوعب عجزنا عن العلاج.

كثير من المسلمات والأرقام والعبارات الواردة فى التقرير تحتاج مراجعة. مثلا رحت أتقمص المجيب فى استطلاع الرأى عن الحرية فى البلاد العربية. سؤال: “إلى أى درجة تعتقد أن… “كذا أوكيت” مرتبط بـ”مفهومك الشامل عن الحرية”؟ (أى والله!!)، بحثت شخصيا عن مفهومى الشامل عن الحرية ، فلم أتبينه…إلخ

 بعيدا عن التفاصيل، عندى شك شخصى غامض فى موضوعية، وأحيانا جدوى، مثل هذه النشاطات الدولية الكمية الممولة مهما حسنت النوايا. افتقدت إغفال المصادر الأقدر على كشف وعى الناس الحقيقى فى مرحلة تاريخية بعينها،  ومن أهمها: الناتج الفعلى لما يسمى الحرية فى أى صورة إبداعية، سواء نشرت أو ظلت مسودة، هذا أمر شديد الارتباط بالحرية السياسية. ثم إنه قد غمرنى خوف حقيقى أن تلهينا حبكة التقرير وجمال إخراجه عن حقيقة الثقب الأسود الأخطر الذى يدير دفة العالم سرا وعلانية، إنها الشركات الأخطبوطية العالمية المسئولة عن إجهاض أى إبداع سياسى حقيقى، وأى إصلاح اقتصادى، وأى حرية خلاقة، هو دوامة عملاقة تهدد استمرار النوع البشرى، وليس فقط حرية المواطن العربى.

 وصلنى أيضا كيف يرادف التقرير أحيانا بين الديمقراطية والحرية، كما افتقدت التفرقة بين حرية الإبداع فى ذاتها، وحرية التعبير عن  ناتجه، علينا ألا نستسلم للأرقام والألفاظ دون الرجوع إلى عمق الوعى من واقع الممارسة، إن ما يصلنى فى عيادتى مثلا عن الغش فى الامتحانات، وعن الاقتصاد الشعبى العشوائى الذى يسير حياة الناس رغما عن الحكومة، وعن العصيان المدنى بالذهاب للعمل دون عمل، وعن اللغة الشبابية، وعن التنازل عن التفكير والخوف منه، وعن لامركزية نشاط النت، هو من أهم ما نحتاج لإدراكه ممنهجا لنحقق هدف التقرير النبيل، لكن: لا الأمم المتحدة، ولا الصندوق العربى للإنماء، ولا برنامج الخليج العربى، ولا أحد، مستعد للتمويل.

ذاهب أنا (والقارئ يقرأ هذه الكلمات) إلى الندوة للمناقشة. لعلى أخطأت.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *