الرئيسية / مقالات صحفية / جريدة الأهرام / …. حتى لا يشترى أطفالنا أدمغتهم!!

…. حتى لا يشترى أطفالنا أدمغتهم!!

نشرت فى الاهرام

21-2-2005

…. حتى لا يشترى أطفالنا أدمغتهم!!

 كنا نعرفه فى أواخر الأربعينيات باعتباره ممثلا كوميديا، اسمه “دانى كاى”،( مزيج من أشرف عبد الباقى وأحمد بدير وشريف منير). فى هذا الفيلم: كان أبا جميلا وأما حانية وطفلا صديقا معا. الأطفال يتقافزون حوله وهم يرقصون ويرددون ما يغنى: ” أنا هانز! أنا هانز!، أنا هانز، كريستيان أندرسون،إنه أنا!!!” فيرد الأطفال: ” إنه هانز، إنه هانز، إنه هانز، كريستان أندرسون، هذ هـى الحقيقة!” جاءتنى هذه الصورة وأنا أتابع الاحتفال بمرور مائتى عام على مولده، أغنية أخرى من نفس الفيلم حضرتنى الأسبوع الماضى حين صحنا معا “لقد فعلناها”، كنا طوال أعوام كثيرة نبحث من خلال العلاج الجمعى والممارسة الخبراتية عن منهج يثبت ما يذهب إليه العلم المعرفى الحديث من أن الجسد ليس قفازا نلبسه، هو أداة للمعرفة يقوم بدوره المتكامل فى التفكير والخيال. أتاحت لنا التكنولوجيا الحديثة والمثابرة فى تحقيق فروض متداخلة استلهمناها ممن سبقنا: أن “نفعلها”(ليس فقط نجدها). تذكرت دانى كاى (هانز) وقد تعلقت أطرافه بالخيوط كدمية خشبية، وهو يغنى: بوبو البوبيت يمكن أن يفعل أى شىء، إذا ما أمسك أحدهم بالخيوط. تنتهى الأغنية بأن الدمية تحررت من الخيوط، لكنها لم تتوقف عن الرقص لحسابها، يصيح أندرسون : لقد فعلها (بوبو، الدمية)، فيرد الأطفال :” فعلها، فعلها، فعلها”.طاعة فى التدريب تؤدى إلى إبداع وتلقائية. هكذا تصورن أننا التربية !! هكذا فعلناها لتتحقق فروضنا.

أغلب الجارى عندنا فى التربية والنصح والإرشاد والبحث العلمى والسياسة ليس كذلك، لقد توقف أغلبنا “اشترى دماغه”. فأعفى نفسه من شرف ورعب التفكير والخيال فى صفقة واحدة. قرر أن يوفر وقته مكتفيا بالتقليد مشدودا بخيوط الماضى أو بهرالمستورد طول الوقت، طول العمر، لا فرق بين أن يقلد نظما مستوردة أو نظما محنطة. ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد. إننا نخاف أن نفكر أو أن نرى أحدا حولنا يفكر، ناهيك عن الخيال المبدع. ينتج عن خوفنا هذا ذلك التعليم الباهت، والتربية الجبانة، نحن نجهض محاولات أطفالنا في الإبداع والتخيل لتنمية فطرتهم، نفعل ذلك خشية أن يغرونا أن نحذو حذوهم، فنعود للتفكير والتخيل، فنرعب من جديد بعد ما تنازلنا عن حقنا فيهما.

 لم تكن حكايات أندرسون للتسلية فحسب، كانت تدريبا على التفكير النقدى بما فى ذلك النقد السياسى، قصته “السلطان العارى” تروى كيف نافق الجميع السلطان وراحوا يمدحون ثوبه المزعوم أنه منسوج من خيوط القمر، وهو ليس إلا عريا كاملا. أثناء مرور موكب السلطان وهو يتوهم ارتداء الثوب المزيف صاح طفل لم يتشوه مهللا متعجبا: “إن السلطان عار” فساد الهرج فى دهشة زائطه. هذه القصة بها من النقد السياسى ما يعجز مجلد أن يفعله، تماما مثل بعض ما يعلمنا أحمد شوقى فى قصائده للأطفال: “الليث ووزيره الحمار” أو “ملك الغربان وندور الخادم” أو” نديم الباذنجان” وغيرها (يمكن أن يرجع إليها فى “المختار من ديوان شوقى للأطفال”. شكرا لمكتبة الأسرة).

 لا يمكن أن تستمر الحال هكذا.

إن لم نتعلم كيف نتقن استيعاب من سبقنا ونحن نتجاوزه، وإن لم نراجع ما وصلنا من أجدادنا الكرام لنطوره أو نضيف إليه ونحن نخترقه دون أن ننكره، وإن لم نحترم الاختلاف الحقيقى وليس مجرد التفويت والتسويات الخائبة، وإن لم نكف عن وأد ما خلقه الله فينا

 فى أطفالنا أولا بأول، وإن لم نمارس حقنا فى التفكير الناقد والخيال الخلاق، فلنستعد لدفع الثمن: تخلفا وتبعية.

القطار لم يفت، مع أن العد التنازلى يتسارع.

 فليحمل كل منا كرامة عقله وجسده، وناسه، ويفعلها. لعل وعسى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *