الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / “حالات وأحوال” الحالة: رحلة التفكيك والتخليق

“حالات وأحوال” الحالة: رحلة التفكيك والتخليق

نشرة “الإنسان والتطور”

الثلاثاء20-10-2015

السنة التاسعة

العدد: 2972

حالات وأحوال

كلمة قبل التقديم:

نبدأ فى تقديم الحالة التى أوجزنا خطوطها العريضة أمس، ولكن قبل ذلك لى كلمات قليلة عن العودة إلى ملف “حالات وأحوال“، وما خطر لى بشأنه كما يلى:

أرجو أن يكون هناك من تابع باب “حالات وأحوال” فى السنوات الماضية، ما نشر منها فى النشرة الإلكترونية اليومية وليس بالضرورة فى “مجلة الإنسان والتطور”، وأن يتذكر معنا الحالة بعنوان “عصام يعلمنا الفصام” التى استغرقت (14 نشرة)  (من نشرة 30-10-2007 إلى نشرة 3-6-2009)، وبالتالى يمكن أن يتوقع معنا أنه لكى نقدم خبرة إكلينيكية موضوعية مفيدة من واقع ثقافتنا، مخترقين قيود المنهج العددى، والمنهج الكمّى، والمنهج المقارِنِى: أن يتوقع أن الحالة الواحدة يمكن أن تمتد على عدد أكبر فأكبر من النشرات حتى يصعب متابعتها، ومع علمى بكل ذلك فأنا لا أَعِدُ بغير ما ستجدون من واقع محاولاتى.

عندى مئات الحالات (فعلا مئات) مسجلة بالصوت والصورة، ومنها عدد قليل تم متابعته (وهو الأهم) لكن أغلبها تم تقديمه فى مرور علمى غالبا فى قصر العينى، نظرا لمساحة السماح المتاحة هناك ولأن مرضى قصر العينى أكثر تمثيلا لعموم ناس ثقافتنا الحالية مع أخذ موافقتهم مسجلة باستمرار، وبمراجعة بعض هذه الحالات اكتشفت ما أعرفه وهو: أنه من المستحيل أن يقدمها للنشر بالهدف الذى أرجوه علميا وثقافيا وإيمانيا أحد زملائى أو تلاميذى، لأن الوثائق والتسجيلات الموجودة غير منظمة بطريقة منهجية حديثة، ولأن الشرح  يشمل اجتهاداتى فى تقديم النفسامراضية من منطلق المدرسة التى رسمتُ خطوطها(1)، وأحاول اختبارها وتنسيقها طول الوقت.

المهم الآن: أنه ليس أمامنا إلا مواصلة المحاولة تلو الأخرى وعلى الله قصد السبيل.

الحالة:

رحلة التفكيك والتخليق

تعريف:

  هو شاب التقيته من تسع سنوات، كانت أول مقابلة سنة 13/7 /2006 وتتبعنا حالته حتى 27/11/2008، وكان مريضا داخليا فى قسم الطب النفسى – قصر العينى- وخرج بعد تحسن نسبى، واتفاق أن يحضر العلاج الجمعى أسبوعيا على مستوى العيادة الخارجية، وقد حضر بانتظام جيد لظروف عمله، وأصيب بنكسة واحدة لبضعة أسابيع أمكن احتواءها دون اضطرار لدخوله القسم من جديد.

من الآن، وربما فى معظم الحالات لن أبدا بذكر التشخيص متعمدا لأسباب كثيرة علمية وتعليمية، ولعل المتابع معنا فى باب “حالات وأحوال” يذكر كيف أن نشرات “عصام يعلمنا الفصام” (مثلا) كان المراد منها فى عمق المحاولة: أن ما علَّمَنا إياه عصام ليس هو ما نشيعه عن الفصام، ولا ما يحدده التشخيص فى دليل تشخيصىّ بذاته، ولم يكن هدفنا ابتداع تشخيص جديد، كذلك الحال فى هذه الحالة الآن، فإن البدء بـِذِكـْر التشخيص يمكن أن يبعد القارئ عن عمق وحقيقة ما نريد تقديمه حين يبادر بأن يترجم أولا بأول كل معلومة وكل حوار إلى ما سبق أن سمعه أو حفظه أو كرره أو تصور أنه من الأعراض التى لابد أن يتميز بها ما هو فصام، وكل هذا مقول بالتشكيك.

الأوراق التى جمعتُها عن حالة اليوم بلغت حتى الآن تربو على 135 صفحة من الحجم الكبير (A4) بالإضافة إلى شرائح باور بوينت بلغت 84 شريحة بما وراء هذا أو ذاك من تسجيلات سمعية وبصرية، وبصراحة لا أعرف حتى الآن ماذا سوف أقدم منها وماذا سوف أدع.(2)

بعض ما يمكن أن نقدمه من خلال:

أولا: آمل أن أحقق شرحا أكثر تفصيلا لمجمل ما ورد فى نشرة أمس.

ثانيا: بيان كيف أن من يُسَمَّى مريضا نفسيا، حتى لو كان اسمه فصامى، قد يكون أقرب تواجدا وقربا وتألما ونبضا ليس فقط مما يشاع عنه وإنما أيضا من الشخص العادى.

ثالثا: أن المغامرة بطرح بعض ما يلوح من معالم “النفسمراضية”(3) مهما كان باكرا: يمكن أن يكسر الحواجز بين الطبيب والمريض بشكل يسهم فى استمرار الكشف عن المزيد من ناحية، وايضا سوف نكتشف أن له جدوى علاجية وإن لم تظهر للتو إلا أنها تثبت عادة أن لها أثر باق.

رابعاً: أن الهلاوس والضلالات يمكن احتواءها مباشرة بالتفعيل العلاجى والاحتواء فى الوعى البينشخصى (أثناء المقابلة كما أشرت ثم من خلال الوعى الجمعى) كما سنرى فى لقطات من جلسات العلاج الجمعى.

خامساً: أن لغة النّفْسِمْراضيّة المباشرة قد تكون أقرب للمريض من الطبيب خصوصا من الطبيب المتدرب المكتفى بالمنهج الوصفى الكمى التقليدى (وكل من لا يتخطى السطح “هنا والآن”).

سادساً: أن تقييم حقيقة وطبيعة ما يسمى “الأعراض” ومع مثولها للحواس أو فى الفكر أو غير ذلك: قد يحتاج وقتا أطول بكثير للتسليم به، من مجرد ما تسمح به المقابلة الأولى أو المقابلات الأولى، كما أن الحكى عن بعض الأحداث التى تبدو “سبيبه” قد تكون أحد مظاهر المرض وليست سببا له.

سابعاً: أن مشاركة الطبيب (ثم المجموعة العلاجية) فى تشكيل الوعى البينشخصى ثم الوعى الجمعى تسهل قبول مزيد من أبعاد النفسِمْرَاضِيْة وفى نفس الوقت يمكن أن تسهم فى عملية الجدل فاللأم اللازمة لحفز نقلة نمائية محتملة.

ثامناً: أن أيا من ذلك، بل كل ذلك، مهما صدقت البصيرة واتضحت النَّفْسِمْراضيّة لا يغنى عن المبادرة بالتأهيل الفورى والعودة إلى الحياة العادية فى واقع المجتمع مهما بلغ وصفه بالاغتراب العادى أو المفرط فى العادية.

تاسعاً: إن العلاقة الممتدة مع المعالجين، يمكن أن تقوم بدورها مهما تباعدت مدة اللقاءات، واختلفت وقت المقابلات.

عاشراً: أن الامتثال على العقاقير المناسبة – فى حالات الذهان بالذات- مع استمرار كل ما سبق هو أمر جوهرى ومساعد طول الوقت، وهو يحتاج إلى ضبط الجرعة باستمرار تناسُاً مع الخطة العلاجية أولا بأول على طول خريطة طريق العلاج.

تعريف –تقليدى ضرورى- موجز بمعالم الحالة:

محمد شاب عمره   25سنة،  دبلوم صنايع ، نقاش ، لا يعمل منذ  شهور–  يسكن فى حى شعبى  جداً، بالقاهرة.

الشكوى الأساسية (تلقائيا):

  • حاسس إنى تايه، مش حاسس بنفسى مش فى وعيى، ما عنديش قدرة على التركيز.
  • التعب ابتدا من بعد ما طلعت من الجيش من 8 شهور، كنت مش منتظم فى الشغل وأنام كتير
  • من ست شهور رحت عند قرايبى علشان أسلم عليهم، حطوا لى أكل (مكرونة) وشربت بعدها شاى. بعدها بشهر حسيت إنهم كانوا حاطين لى حاجة فى الشاى وعاملين لى عمل وحاطينه فيه، أحس إن الناس كلهم فى الشارع بيتكلموا عليا، ويشتموا وبقيت أسمع أصوات (ستات) بالليل والنهار تؤمرنى أعمل حاجات مش عايزها، ودايما تشتمنى وتقول لى إنت عبيط، وناقص، وساعات تقول لى موّت نفسك (أنظر الشكل).
  • ماكانش فيه نوم خالص، أقلق كثير بالليل على طول خايف حاسس إن فى حاجة هاتحصل لى.
  • أنا تعبت جامد فى الجيش  ونفسيتى كانت تعبانى، وعايز أقولك على سر: اتحبست مع خمسة زمايلى فى الجيش، كانوا عايزين يعملوا معايا حاجات وحشة ..،.. وكانوا دائما يدخلوا عليا، ويضربوا فيا، ويقولوا لى مثـّـل لنا فيلم جنس، قلد لنا صوت ستات بتغنى، وكانوا يضربونى لو ما عملتش كدا، ويهددونى إنهم هايموتونى

التاريخ العائلى: إيجابى  الخال: فصام متدهور

20-10-2015_2

المدرسة: كان بيحب المدرسة , وكان شاطر , ماسقطش ولا سنة، لحد ماخد الدبلوم.

العمل:  نقاش، محبوب، شاطر، يطبق النهار بالليل  ياخذ 70 جنيه في الأسبوع (2007) يصرف جزء منها لنفسه، وساعات كان بيجيب هدايا لأخواته

الأسرة:  الأب قاسى (شكاك عدوانى) ، الأم طيبة ، طلقا والمريض صبى، تزوجت الأم، وتناوبت إقامته بين الأب والام

الحالة العقلية الراهنة

اضطراب الإدراك: هلوسة سمعية: أصوات نسائية تُسُّبْه، وتأمره بأفعال لا يريد فعلاها

اضطراب التفكير: ضلالات الإشارة وضلالات المتابعة والإضرار

اضطراب الحالة الوجدانية : قلق  وتوتر وحزن متماوج مع حكى الخبرات المؤلمة

البصيرة: معطوبة نسبيا

الإعاقة: توقف عن العمل  فى الشهور الأخيرة

التشخيص: محجوب مؤقتا، مع التشخيص الفارقى، وذلك لزوم الغرض من تقديم الحالة، وللتأكيد على أولوية “النفسمراضية” قبل وبعد التشخيص.

لاحظ :

  • أننى تجنبت وضع التشخيص قصدا للأسباب التى ذكرتها أمس، وفصّلتها اليوم وهو ما سوف يظهر لاحقا مع عرض التفاصيل.
  •  أن التاريخ العائلى إيجابى دال
  • أن شكواه قائلا: “حاسس بنفسى مش فى وعيى” لا تعنى اضطراب كمىّ فى الوعى، ولكنها أقرب إلى ما أشرنا إليه سابقا فى بدايات بعض أنواع الذهان، الفصام بوجه خاص، وهو تعبير أقرب إلى ما سمى البداية الحُلمية للذهان(4) وخاصة وهى إعلان لتغير نوعى فى الوعى والإدراك وبداية الانشقاق الذهانى حيث يرصد مستوى من الوعى حضور المستوى الآخر فيعبر عنه بمثل ذلك.
  •  أنه برغم حبه للمدرسة وتفوقه النسبى  لم يكمل بعد الدبلوم لظروف الأسرة الاقتصادية
  •  أنه بالرغم من أن ما أسماه “سرا”، وهو ما حكاه على أنه حدث فى الجيش، إلا أن التعب بدأ بعد خروجه من الجيش ، وليس بعد الحادث الذى ذكره على أنه “سر” (الحقيقى أو المزعوم)
  •  أن أصوات الهلوسة كانت نسائية تحديدا
  •   أنه متوقف عن العمل منذ شهور، برغم كفاءته فيه وتشجيع “الأسطوات” له.
  • ونبدأ الأسبوع القادم فى عرض تفصيلى للمقابلة الأولى مع المريض.

[1] – النظرية التطورية الإيقاعحيوية Evolutionary Rhythmic Therapy

[2] – وأيضا إن انقطاعه عنى لهذه السنوات الثمان الأخيرة قد يكون له دلالات طيبة وقد لا يكون، وأنا ابحث الآن عن عنوانه أو رقم هاتفه لأتصل به وأطمئن عليه، لعلنى أعرف ما آل إليه بعد كل هذا.

[3] -من الآن فصاعدا سوف استعمل هذه الكلمة النفسمراضية التى نحتّها إصغاما تشجيعا من الرائد أ.د. على زيعور، محل كلمة الإمراضية، وأيضا محل “السيكوباثولوجى” التى هى تعريب كلمة psychopathology راجيا من المتابعين أن يتعودوا عليها دون إشارة إلى أصلها فى الهامش لا بالعربية ولا بالإنجليزية.

[4] – Oneroid Onset  of Psychosis especially Schizophrenia

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *