الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / الطبنفسى الإيقاعحيوى (33) Biorhythmic Psychiatry جدلية و”تناصّ” مستويات “الوعى” فى “العلاج الجمعى”

الطبنفسى الإيقاعحيوى (33) Biorhythmic Psychiatry جدلية و”تناصّ” مستويات “الوعى” فى “العلاج الجمعى”

نشرة “الإنسان والتطور”

السبت: 16-4-2016

السنة التاسعة

 العدد:  3151 

 الطبنفسى الإيقاعحيوى (33)

Biorhythmic Psychiatry

جدلية و”تناصّ” مستويات “الوعى” فى “العلاج الجمعى”

مقدمة ضرورية كالعادة:

أثبت بريد الجمعة الماضى (يمكن الرجوع إليه: نشرة 15-4-2016) أنه ليس هناك – على الأقل ممن أعرف ووصلته الرسالة –  من يهمه الأمر!! مع أننى أتصور أحيانا أن “هذا الأمر” هو فرض عين، لا فرض كفاية، على من يتصدى لما يسمى “علاج المرض النفسى”، ناهيك عن تربية الأطفال، وعن حمل الأمانة عموما، وعن سعى، أى بشر خلقه ربه فى أحسن تقويم، أن ينقذ نفسه من أن يرتد إلى “أسفال سافلين” لو أنه لم يتعهد هذا: “الأحسن تقويم”  بأن يؤمن فيرعى ما خلقه الله به، وأن يعمل صالحا بأن يملأ الوقت بما هو أحق بالوقت، فيحقق ما خلقه الله له، هذا هو ما وصلنى من الاستثناء الذى عرضه خالقه سبحانه عليه، حتى لا  يتردى إلى قاع السفالة  سواء بالمرض أو بالكفر أو بالاغتراب، أو بالتكاثر والظلم.

كالعادة التمست للجميع العذر، فلا الأطباء النفسيون (وربما النفسيون عموما) مهتمون بالنقد الأدبى، ولا النقاد غالبا يقبلون بسهولة من يتطفل على تخصصهم ويستعيره لغير ما تخصصوا فيه، فلمن أكتب عموما؟ ولمن أكتب هكذا هنا بالذات؟ أعتقد أن أى متابع لما أحاوله سوف يعرف الإجابة.

المهم أننى التمست العذر لهؤلاء وأولئك، وانتبهت إلى أننى وأنا ما زلت فى مقدمة العمل غُصْتُ فجأة فى موضوع غير مألوف بالنسبة للأطباء والنفسيين عموما، وهو موضوع فى النقد، ومع أننى كررت مرارا أن ممارستى للنقد الأدبى هى التى هدتنى إلى أن أتعامل مع الكائن البشرى على  أنه “نص” أبدعه من ليس كمثله شىء على أحسن تقويم، إلا أنه ثبت أن كلمة “نص” فى حد ذاتها غير مألوفة عند هؤلاء المختصين فما بالك بكلمة أكثر غرابة وهى مشتقة منها وهى “التناصّ”.

التناص لغة فى الأصل يفيد الازدحام، تناصّ الناس: أخذ بعضهم بنواصى بعض فى الخصومة عادة، أما تناصّت الأشياء: فتعنى اتصلت وتقابلت، والتناص كمصطلح أدبى يشمل المعنيين معا، ولن أرجع لما سبق شرحه فى أصل وبعض تاريخ استعمال هذا المصطلح فى النقد الأدبى، لكن يبدو (كما أظهر البريد، أعنى غياب البريد) أنه غريب بل مرفوض، بل أننى أكاد أجزم أن أغلب الزملاء الأطباء والنفسيون لا يستسيغون كلمة نَقْد أصلا، وليس فقط التناصّ فى النقد، فكثير منهم يفضل أن يتعامل مع ما يتصور أنه الحقائق الثابتة والمعلومات المحُكْمة، وهو لكى يفعل ذلك عليه أن يختزل الإنسان (المريض ونفسه) إلى أى من ذلك، فإذا اختصرهُ إلى “الحقائق الثابتة”: راح يطبق عليه أيديولوجيا جاهزة صلبة لا تحتمل النقد، وإذا اختصره إلى “المعلومات  المُحْكمة” أخذ يتعامل معه بالقطعة، أعنى بالتجزئة حسب المعلومة التى وصلت إليه من معمل كيمياء أو نظرية مشتبكية موصلاتية (1). وبالرغم من أننى كررت لأعتراضى على هذا أو ذاك مئات المرات وأعتقد أن الكثيرين تقبلوه بطيبة وكرم، إلا أننى حين بدأت فى عرض البديل لم يهضموا المصطلح الأول أو استعملوه مجاملة (ربما ليسايروا الكاتب المتحمس) وهو مصطلح “نقد النص البشرى”، ثم حين تقارب هذا المصطلح الجديد مع  مصطلح أقل ألفة بكثير، أعلنت هذه الاستجابة السلبية فى البريد وكأنها إشارة“قف”.

بعد أن التمست للجميع العذر، عدت أتساءل: ما هى علاقة هؤلاء الأفاضل بكلمة “نقد” أصلا بعيدا عن النص البشرى وعن النص الأدبى، هل يمكن ينمو أن التفكير العادى عند الطفل العادى إلا من خلال ممارسة النقد المستمر، وإعادة النظر، طول الوقت (ثم المفروض طول العمر) هل يمكن أن ينمو إلا من خلال ممارسة “النقد”؟ أليس التفكير الفرضى الاستنتاجى الذى يظهر عند الطفل حول سن السابعة(2) هو تفكير نقدى بالدرجة الأولى؟ أليس التقدم عموما، بل وتاريخ الحضارات الإيجابى هو سلسلة من النقد المتوالى لا تنقطع خاصة بعد فترات السقوط أو الانهيار؟ فلماذا يا ترى نفروا من كلمة “نقد” حين تصف النص البشرى، لقد عذرتهم حين استغربوا كلمة “تناصّ” ولكن عذرى لهم كان أقل وأنا أتصور رفضهم لكلمة “نقد”، وهل التفكير السليم من أول المحادثة الجادة حتى جدل الحوار الهادف إلا مستويات وملفات من النقد، ثم لعلهم رفضوا أيضا أن نتعامل مع الإنسان باعتباره “نصا” مخلوقا مع أنه أكرم ما أبدع بديع السماوات والأرض فى نصوص!!

انتبهت أيضا إلى إشكالة أخرى يمكن أن تمثل حاجزا أو متاهة فى مواجهة ما أريد توصيله، وذلك حين انتبهت إلى إفراطى فى استعمال كلمة “الوعى” أو مصطلح “الوعى” بشكل خاص، وهى كلمة – برغم شيوعها – إلا أنها تصل إلى عامة الناس، وأيضا إلى فئات مختلفة من تخصصات متنوعة غير ما أقصد إليه وأعايشه، فبمجرد أن تذكر كلمة “الوعى” لمن ينتمى إلى التحليل النفسى مثلا  فإنه يتعرف عليه عادة من خلال أنه “ما هو: ضد اللاوعى”، أما الشخص العادى والطبيب (النفسى أيضا) العادى فهو ينتبه إما إلا “طور اليقظة” (ضد النوم) أو سلامة الانتباه لما حول (التعرف على الزمن والمكان والأشخاص) أما وعى النوم، ووعى الحلم، ووعى الجنون، ووعى الإبداع، ووعى الإيمان، فهذه كلها مناطق بعيدة عن تركيز المتلقى الهادئ عادة، وبالتالى أعذره حين لا يصل إليه ما أقصد مما هو غالبا  ليس يهمه!!

وبرغم أننى أشرت فى النشرات الأخيرة (يومى الأحد والأثنين الماضيين) إلى أن التناصّ فى النقد الأدبى لا يستعمل مصطلح “الوعى” أو حتى لفظه، فإننى لم أفهم طبيعة التناصّ وأبعاده إلا من خلال معايشتى لحركية الوعى البشرى طول الوقت فى ممارستى للعلاج  الجمعى خاصة، فخطر لى – لأجعل الموضوع أسهل أو أكثر تقبلا – أنها فرصة أن أبدا بترتيب مراحل تقديم الطبنفسى الإيقاعححيوى (من منطلق تطورى نيوروبيولوجى) من خلال هذه الخبرة العملية التى يعرفها معظم  – إن لم يكن كل – الزملاء المعالجون حتى لو لم يكونوا يمارسونها بشكل مباشر أو منتظم، ووجدت أن هذا المدخل–العلاج الجمعى – ربما يسهل لنا التدرج لتقديم الفروض والتنظير اللاحقين، بل لقد خيل إلىّ أن هذ المدخل قد يوضح من البداية الفرق بين التناصّ فى النقد الأدبى والتناصّ فى نقد النص البشرى(3)، ذلك أن النقد الأدبى لا يشير إلى حركية تلاحم أو تبادل الوعى بين النص الأقدم والنص الأحدث، وإن كان يشير أكثر إلى حضور النص الأقدم فى “لاوعى” صاحب النص الأحدث، ليس كذكرى أو نموذج لحوح (إلا فى أنواع أخف من التناصّ مثل المعارضة الشعرية) وإنما كأثر باق فى لاوعى كاتب النص الأحدث، وهذا الأثر هو الذى يؤثر وقد يلوّن إبداعه اللاحق، مما أشرت إليه سابقا وسوف نعود إليه غالبا.

أما فى العلاج فى حالة المرض النفسى فإن حركية جدلية الوعيين (أو أى عدد من مستويات للوعى للفرد أو للجماعة) وما يترتب عليها من إعادة تخليق النص البشرى المشارك (مريضا ومعالجا) فإنها تتم بين مستويات الوعى (مهما عجزنا عن رصدها أو توصيفها بشكل حاسم)، وبالتالى: قد يكون  التعرف على ما يجرى فى العلاج الجمعى من منطلق مستويات الوعى وتصنيفه هو الأقرب لاستدراج “من يهمه الأمر” لمتابعة هذا التوجه والتعرف على الفروض من هذا المنظور وما سواه.

قد يكون مناسبا أن أكتفى اليوم بعرض موجز  لخطوات تبادل حركية مستويات الوعى منذ بداية انعقاد جلسات العلاج الجمعى حتى الإشارة الصريحة والضمنية إلى امتداد دوائر الوعى إلى ما تعد به:

(1) يبدأ العلاج بالتعرف العادى على المعالجين (والمتدربين) والمرضى، دون الاستدراج إلى أية تفاصيل حتى ذكر الشكوى الخاص بكل فرد، إلا إذا جاءت غفوا.

(2) يتم التأكيد على نظام وتوقيت ومدة كل جلسة وكذا مدة التعاقد العلاجى للمجموعة ككل وهو بالنسبة لخبرتى طوال نصف قرن تقريبا لا تزيد على سنة واحدة (أثنى عشر شهرا) إلا باستثناءين  أثنين (4)

 (3) يتأكد من البداية التركيز المطلق على قاعدة “هنا والآن” وقد لاحظت أن هذه القاعدجة كانت لها الفضل الأكبر فى أن أتعرف على أن ما يجرى بيننا هو حوار مستويات وعى متعدد مع ما يقابلها فى كل منا، لكننى لم أكن مهتما بتمييز ذلك أو الإشارة إليه، إلا حين اضطررت لكتابته حاليا.

(4) يتواصل الأفراد مع بعضهم البعض بقيادة المعالج الأساسى ومساعدة المتدربين الذين يقومون بدور المعالج المساعد بعد مدة تتراوح من أسابيع إلى أشهر (بشروط ذكرتها فى موقع سابق لمن شاء أن يرجع إليها: (نشرة 4-8-2013) و(نشرة 5-8-2013).

(5) يتحرك الوعى البينشخصى بين أى فردين متحاورين جنبا إلى جنب مع الحوار اللفظى العادى دون أن نلاحظه  تحديدا أو نفصله عن الحوار العادى

(6) يتحرك الوعى البينشخصى أيضا حتى دون حوار لفظى بين أى شخصين مُنْتَبَهٌ ومُنْتَبَهٌ، إليه.

(7) تبدأ ملاحظة قدرة أى فرد – دون تميز خاص   إلا المعالج المتمرس أحيانا – أنه يمكنه أن يتبادل حركية الوعى البينشخصى مع أكثر من شخص فى نفس الوقت، وهو ما أعزوه الآن إلى التدريب على اتساع مجال وطيف الانتباه تدريجيا نتيجة التركيز فى “هنا والآن”.

(8) الوعى البينشخصى ليس مجرد وصف  لحوار وعى ووعى بين شخصين (أو أكثر) وإنما هو وعى يتخلق خارجهما أيضا ككيان قائم امتدادا إلى داخلهما وبالعكس، ذلك وهما يمارسان (يمارسون) فى جدلية حركية مستمرة برغم أنها غير مقصودة ولا مرصودة.

(9) وعى الجماعة هو جُمّاع من تفاعلات الوعى الشخصى ثم البينشخصى للأفراد وهو أيضا كيان حيوى متواجد خارجىّ/داخلىّ، لا ينتمى لوعى أى فرد بذاته، وإن كان لا ينفصل عنه، وهو أيضا ليس جَمْعا مباشرا للوعى البينشخصى بين عدة أزواج من الحاضرين، وإنما هو يتخلق من جدلية وتفاعل كلىّ مواكب، موَاكَب طول الوقت.

(10) مع تطور نمو المجموعة، وانتظامها فى مواعيدها المحددة بالدقيقة فى نفس المكان ونفس الساعة  بمنتهى الدقة يتدرج الانتماء إلى الوعى الجمى أكثر من الوعى البينشخصى دون إغفال أو تهميش الوعى الفردى.

(11) تمثل الدائرة الأكبر – فى خبرتنا – وهى الدائرة التى يحضرها طالبى العلم والتمهيد للتدريب اللاحق بالدور، وهى دائرة تحيط بدائرة العلاج الجمعى – بعد استئذان المرضى والمتدربين وأخذ موافقتهم الصريحة – وتتم المناقشة بعد انتهاء الجلسة بما اعتبره نوعا من تحريك ونقد علاج كل الحاضرين بدرجة أخف كثيرا لعدم التزامهم بقاعدة “هنا والآن”، إلا أن ملاحظاتى لما يحدث لرواد هذه الدائرة الأوسع مثَّلت جزءاً من اطمئنانى إلى الفروض المتصلة بامتداد وعى الجماعة إلى الوعى الجمعى.

(12) وددت لو اكتفيت بهذا الامتداد الآن إلا أن معايشتى لهذه الخبرة المستمرة فى ثقافتنا خاصة تلزمنى بأن أكشف عن انتمائى العملى، والمهنى، والشخصى، لامتداد الوعى إلى دوائر أكبر فأكبر سوف أؤجل الإشارة إليها فى الوقت الحالى.

وبعد

أرجو أن نبدأ غدًا فى التعرف على هذه المستويات وربطها بنقد النص البشرى فالتناصً، مع تأجيل المقارنة التى وعدنا بها الأسبوع الماضى لبيان الفروق بين نقد النص الأدبى ونقد النص البشرى،

ثم أختم الآن بنشر هذا الشكل دون شرح الآن.

16-4-2016_1

[1] – Synapte traussions

[2] – Hypothetico deductivee thinking

[3] –  وهو ما وعدت به فى نشرة الإثنين إليه سابقا

[4] – أحدهما بسب بحث علمى والآخر كتجربة، وقد ثبت  ضعف جدوى هذا الامتداد لأكثر من عام.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *