يحيى الرخاوى طبيب نفسى
نشرة “الإنسان والتطور”
الأثنين: 19-5-2014
السنة السابعة
العدد: 2453
الأساس فى الطب النفسى
الافتراضات الأساسية
الفصل الثالث: ملف التفكير (32)
اضطرابات التفكير
ضلالات التحكم (ظاهرة السلبية) وملكية الأفكار
إذا كان الأمر كذلك (نشرة أمس) أو يمكن أن يكون ذلك (فروض شيلدراك والسامرائى) فنحن نقترب من دعم فرض “أن المرض النفسى، الذهان بالذات، إنما يكشف عن أصل الطبيعة البشرية”، وإن كان لا ينجح فى استيعاب كل أبعادها، ولا يتمكن من احتواء جدل مكوناتها المتعددة المتناقضة الممتدة، فينتهى إلى فشل لا ينبغى أن يلهينا عن فائدة ومعنى وحقيقة ما كَشَفَ.
يمكن إيجاز ما وصلنا إليه حتى الآن فيما يتعلق بهذا التناول المتجدد فيما يلى:
أولاً: التنازل عن الفصل الحاسم (التعسفى) بين الداخل والخارج (داخل النفس وفى محيطها).
ثانياً: التعامل مع الوعى الجماعى باعتباره كيانا حيوياً (بيولوجيا) ممتدا جامعا متداخلاً فاعلاً (ثم حسب الفروض الجديدة) مفكِّراً، مُدْرِكا.
ثالثاً: قبول حقيقة المريض (ضلالاته) على أنها كشفٌ لداخله وخارجه معاً (داخلنا وخارجنا).
رابعاً: محاولة احتواء مستويات الوعى ودوائر الوجود (وربما فى ذلك طاقات الأفكار) بغير تسرع فى معاملتها كرموز أو اختزالها وقياسها بأفكار معقلنة من خارجها (أفكار المجتمع المغترب، وأيضا أفكار المعالج شخصياً).
خامساً: التعامل مع هذا كله بكل وسائل العلاج بما فى ذلك التثبيط الانتقائى بالنيوروليبات و/أو “إعادة التشغيل” لضبط إيقاع الدماغ، بأمل إعادة التشكيل باستعادة كفاءة الإيقاع الحيوى للنمو والتكيف والإبداع.
وبعد:
كل الوظائف العقلية والنفسية تتكامل مع بعضها البعض فى لحظة بذاتها للقيام بعمل ما يؤكد واحدية الكيان وتناسق الوجود، يحدث كل ذلك فى سلاسة تلقائية لا يعى الشخص تفاصيلها فى كل لحظة. وحين يتبدى نوع من الوعى غير العادى بإحدى هذه الوظائف أكثر من سواها تظهر أعراض تنتمى إلى هذه الوظيفة أو تلك أكثر، حسب زاوية التناول، ولغة التوصيل.
حين ينفصل التفكير عن كلية الـ “أنا الواحدة” يبدأ اهتزاز ملكية للأفكار، وتبدأ درجات الانفصال عن التفكيربشكل تدريجى، وأشهرها الشكوى من صعوبة التركيز، علما بأنه ليست كل صعوبة فى التركيز كذلك، وقد تتوقف عند هذه المرحلة فى الأغلب، وقد يتمادى هذا الانفصال حتى يشعر المريض أن عليه أن يبذل جهدا خاصا حتى يحتفظ بملكية أفكاره، (وسنعود إلى هذا مع دراسة درجات انفصال الوعى).
ثم قد يتمادى الأمر فيبزغ للمريض يقينٌ يؤكد أن الأفكار ليست أفكاره، ويرتبط ذلك بفقد الواحدية بشكل أو بآخر، ثم قد يُسقط هذا الشعور إلى الخارج، ويبدأ تكوين أعراض اضطرابات ملكية التفكير مثل ضلالا ت قراءة الأفكار، وضلالات إذاعة الأفكار، وغيرها.
لن أحاول الربط بين فروض شيلدراك والسامرائى وبين معظم ضلالات هذه المجموعة، لكننى سأبدأ بالتذكرة، بالفائدة العلاجية من اتباع المنهج الحالى فى فهم، ومن ثَمَّ علاج، مثل هذه الضلالات، وبالتالى سوف أعرضها واحدا واحدا ثم أعقب تعقيبا ربما يبدو مستقلا فى محاولة الربط العملى الممكن.
والآن:
من هذا المنطلق يمكن ترتيب اضطرابات ملكية التفكير حسب المسافة التى يستقبل منها المريض اغتراب أفكاره على الوجه التالى:
1- أفكار مسموعة (صوتا):
بالرغم من أن هذا التعبير وارد مجازا عند الأسوياء إلا أنه يعنى هنا أن التفكير يصبح مستقلا حتى يعتقد الشخص أنه يسمع أفكار نفسه بشكل أو بآخر، وإذا وصل إلى درجة السمع الحسى فعلا فإنه يصبح نوعا من الهلاوس، وحين يصعب التمييز بين الهلاوس السمعية وبين الأفكار المسموعة audible thoughts يستحسن محاولة التأكد مما إذا ما كان المريض يسمعها “عبر أذنيه” مثل صوت الفاحص (أو أى صوت آخر) وأيضا عما إذا كانت تأتيه من خارج رأسه أم من داخلها، وقد تختلف إجاباته لأنه فى كثير من الأحيان ينتقل هذا العرض من صفة إلى أخرى بسبب أو بدون سبب.
ولا تعتبر كل الأفكار المسموعة ضلالات بل قد تكون مجرد تفكير ذاتى مجسد، لكن فى أحيان أخرى قد يكون محتواها شاذ بحيث يستغربها المريض نفسه،
وإذا كانت البصيرة ما زالت متماسكة بقدر كاف فإن كثيرا من هذه الأفكار تعتبر “وساوس” غالبا.
وأحيانا يشكو المريض من مثل هذه الأصوات المسموعة دون تمييز التفاصيل.
2- قراءة الأفكار:
يشكو المريض هنا من أن أحدهم يستطيع أن يقرأ ما يدور بخلده وقد يفسرها بقدرة بعضهم على التمتع بنوع من التخاطر عن بعد (التليباثي).
وقد يشكو مريض آخر من أن أفكاره مقروءه لكل الناس، كأن دماغه أصبح كتابا مفتوحا وأنه لم يعد يستطيع أن يحتفظ بأى سر، وبالتالى لم يعد فكره يميزه شخصاً متفرِّدا، وقد يصاحب ذلك شكوى مواكبة من فقد الهوية، ما دام لم يعد يحتفظ بما هو ذات وكيان مستقل.
3- إذاعة الأفكار:
هذا العرض قريب مما ذكرنا عن قراءة الأفكار مشاعا على كل الناس، إلا أنه هنا يضاف إليه ذكر الوسيلة المناسبة مثل (الراديو) أو التلفاز (التليفزيون) أو الأقمار الصناعية غير ذلك.
وأحيانا ما يعزو المريض الأفكار التى تذاع فى الأخبار مثلا على أنها أفكاره هو، وهذه مرحلة أخرى من فقد الهوية، فمادام لم يعد له هوية ذاتية محددة فإنه يتماهَى مع ما هو خارجه، ليتحدد ولو بشكل مستعار (امراضيا).
4- سحب الأفكار وسرقتها:
قد تظهر هذه الظاهرة تلقائيا بشكل مستقل، وقد تكون تفسيرا لظاهرة عرقلة الفكر حين يتوقف التفكير فجأة ويبدو الدماغ خاليا مما كان يسير فى اتجاهه، وبالتالى يفسر المريض هذا الفراغ المفاجئ بأن شخصا انتزع منه الأفكار عنوة، وقد يشكو المريض من فراغ عقله من الأفكار، وهو نوع جزئى من سحب الأفكار إذا ما فسَّر هذا الفراغ لاحقا بفعل فاعل.
وأحيانا ما يرتبط هذا العرض بإذاعة الأفكار بمعنى أن يشكو المريض من أنهم أخذوا أفكاره وأذاعوها، وأيضا ربما يشكو من سرقة أفكاره النادرة غير المسبوقة بمعنى أنهم سرقوا أفكاره المبدعة الخاصة باختراع الآلة الفلانية أو اكتشاف نظرية جديدة، (معروفة أو مجهولة).
وقد يربط بعض المرضى بين ضلالات التنصت والمراقبة وبين الاستيلاء على ثمين أفكارهم بالتحايل والتجسس. ويحدث ذلك خاصة حين يتصور المريض أن أفكاره إبداعية أو أصيلة أو أنها أصل اختراع الجهاز الفلانى، أو اكتشاف نظرية فى العلم أخذوها منه وأذاعوها أو أنها أفكار حساسة لما يتعلق بالأمن القومى مثلا.
وقد يحدث العكس حين يعتقد مريض أنه هو الذى يستطيع أن يقرأ أفكار غيره أو ينتزعها منه، وهذه الظاهرة لا تحسب ضمن الملكية الذاتية للأفكار وإنما يمكن اعتبارها نوعا من “شيوع ملكية الأفكار”، وهذا يرتبط عادة بالاعتقاد بامتلاك نوع من القوى الخارقة أوالمطلقة مثلما يحدث فى حالات الهوس
وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة الأخيرة لا تمثل فقد التحكم بل إنها قد تبدو بمثابة فرط التحكم فى فكر الآخرين، إلا أنها يمكن أن تفهم على أنها ظاهرة تعويضية -إمراضيا: سيكوباثولوجيا-، وبالتالى فإنها أيضا مرتبطة باختلال حدود الذات بدرجة تسمح بالامتداد إلى أو حتى اقتحام حدود ذات الآخر.
وقد تستحق هذه الظاهرة إسم “الضلالات الكشفية” أو “الضلالات التحريكية” حسب محتواها لتتميز عن ظاهرة السلبية (التى هى عكسها سلوكيا)،
فإن صح ذلك فيمكن وصف كل ما يقابل ظاهرة السلبية فى الاتجاه العكسى، أى أن إملاء الأفكار من الآخر، يقابله إملاء الأفكار على الآخر، وتوجيه الفكر الإرادى من قوى خارجة عن المريض، يمكن أن يقابله قدرة المريض على توجيه وتحريك الآخرين، وهكذا.
ضلالات إقحام الأفكار (Thought Insersion)
يعتقد المريض هنا أن أفكاره لا تنبع من ذاته ولا تخضع لإرادته، وأن شخصا خارجيا، أو قوة أخرى، تزرعها أو تقحمها أو تفرضها عليه فرضا دون إرادته أو ضد إرادته، وحين يصل اليقين من هذا الضلال إلى درجة التسيلم لهذا الإقحام وأن هذه الأفكار المُقْحَمَة ليست أفكاره أصلا، قد يترتب على ذلك أنه يتخلى عن مسئوليته عن ناتج فعله، وناتج فكره، وقد يتوقف اثر هذا الضلال على الشكوى منه، لكن الأمر قد يتطور إلى مضاعفات تصل إلى حد الجريمة إذا هو استسلم لهذا التبرير الذهانى، ليحقق من خلاله بعض غائية مرضه، فيعزو محاولات الانتحار أحيانا إلى ضرورة استجابته لهذه الأفكار المُقْحَمَة، وكذلك قد تكون هذه هى الخلفية لبعض جرائم إيذاء الغير (حتى القتل أحيانا).