الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / قصة قصيرة: أبـَــدا……

قصة قصيرة: أبـَــدا……

“نشرة” الإنسان والتطور

الأربعاء: 10-12-2014

السنة الثامنة

العدد: 2658

          قصة قصيرة

أبـَــدا……

-1-

قالت له وهو يحاورها:

” –  كيف؟”

فكر أكثر فأكثر، وكأنه لم يفكر من قبل فى إجابة لهذا السؤال ، نفس السؤال، وكأنه لم يعجز عن الإجابة فى كل مرّة، كم مرّة ؟ لا تعدّ، ألف مرة ؟ بل آلاف، بل أكثر،  ومع ذلك راح يجتهد من جديد،  التفت إليها فجأة فى حماس لا يهمد، وكأنه “وجدها” أخيرا قائلا دون تردد:

 –  ثمة وسيلة لا أعرفها، ولكن ليس معنى ذلك أنى مخطىء، أو مخرف، ثمة وسيلة.

صدقتْه بشكل ما، وتعجبت من حماسه هذا الذى يتجدد أبدا، رغم أنه لا يضيف شيئا أبداً.

-2-

قال لها وهى تحاوره:

 – نعم، لابد أن يحدث كل ذلك لسبب بسيط وهو أنه لا بديل.

قالت وهى تتحكم فى احتمال ضجرها (المتسحب والمتزايد باستمرار) مِن هذا الحماس الذى لا ينقطع، وليس له أى مبرر واقعى، كانت تستلهم طاقة استمرارها من نظرته المتوثبة الطفلة:

 – ما الفائدة، ما دمنا لا نمسك حتى ببداية الخيط؟

هـّم أن يكتفى بالصمت ردَّا، كاد يتيقَّنُ من صواب رأيها، لكن شحنة جديدة تفجرت من مخزن إضافى مجهول، فمضى يحتج:

 –  أية فائدة؟ الكلام بحساب الفائدة لا يغنى شيئا، لأننا لا نعرف فائدةَ ما هو مفيد، هذا الكم الهائل من الفوائد لم يعد يصنع لأى أحد شيئا، فلا تحاسبينى بحساب الفوائد الرقمية.

قالت لنفسها هذه المرة: “وما فائدة الرد المعاد؟”

-3-

أخذ يجرى فى انتظام لاهث، العرق يتصبب منه، والأتوبيس يقترب، وهو لا يفتح ساقيه أكثر، فلا تزيد سرعته، ثقة ما بعدها ثقة، وفعلا: وصل إلى المحطة قبل أن يغادرها الأتوبيس، وكان ثمة موضعا لقدم واثنتين على السلم، لكنه لم يضع قدمه، ومضى يتجاوز الأوتوبيس الواقف ويواصل هرولته، فكاد يصطدم ببعض الناس، وتجنب البعض الآخر، ثم مرق منه الأتوبيس بسرعة مناسبة، وهو يجرى، وأتوبيس آخر يعبره، وهو يجرى، ومحطة أخرى، لا هو يتوقف عند المحطة، ولا الأتوبيس يتوقف عنده، وترابٌ لزج، وعطشٌ، وعرق، وبدايات إفلاس، فانحرف عند أول ناصية، وهدأت خطواته حتى المشى، فترك جسده يسقط على أقرب كرسى فى أقرب مقهى.

أشفق صبى المقهى عليه فتركه فى حاله قليلا، حتى هدأ، ثم ذهب يرحب به، ويلاقيه، ويعرض خدماته:

 –  الحمد لله على السلامة.

اطمأن تماما فرد بكل يقين، وكأن الكلمتين تحملان كل ما يريد من معان:

 –  الله يسلمك.

ردّ الصبى النادل بحذر:

 –  إن شاء الله خير؟

أجابه وهو يمسح وجهه بمنديل أكثر اتساخا:

 –  طبعا، ألف حمد.

وطلب “حلبة حصا” ولكن بدون سكر، فمضى الصبى رافعا حاجبيه، مَغيظاً مشفقاً، طيباً، مبتسماً.

-4-

نظر إلى ساقيه الممدتين فى استرخاء، فتعجب من قدرتهما على أن تتسلق إحداهما الأخرى دون أن تنتبه أى منهما إلى حركة الأخرى.

-5-

عاد إلى المنزل فـَرِحا فـَرَحـَا لا يخفى، وكأنه يحمل تفاصيل النبأ العظيم، فاستبشرتْ خيرا، “أخيرا !!”، وقالت له بكل أمل نفس كلمات الصبى الظريف:

 –  الحمد لله على السلامة

قال برضا أكثر فأكثر:

 –  الله يخليكِ

سألت فى أمانٍ سمح

 –  أُحضر لك الغداء؟

لكنه كان قد اختفى فى الحمام، وسمعت صوت “الدش” بلا إعداد سابق، فلا سخّان، ولا غيار فى الداخل، أواخر ديسمبر، والماء ثلج، ومع ذلك لم تجرؤ أن تقترب من الحمام لتسأله أو تعينه، فقط أحضرت الغيار ووضعته على أكرة الباب، وانتظرت تتلهى بأى شىء..

-6-

خرج من الحمام  كما توقع وأكثر، أنعشه الماء المثلج حتى انتشى أكثر، جعل يأكل بشهية وهو يحس – ربما لأول مرة منذ مدّة طويلة – أن للأكل مذاق الأكل، وما أن انتهى حتى لبس حلة قديمة، لكنها نظيفة ومكويّة، وقد كانت هذه الحلة بالذات عزيزة عليه جدا.

ربت على شعرها بهدوء وهو يجيب على سؤالها المنتظر وهو يهم بالخروج من جديد دون تفسير.

 كان سؤالها البديهى يقول:

 – “إلى أين”؟

ردّ فى غموض لم يتعمده:

– “أبداً….”

ولم تلاحظ هذه المرّة أيضا أن عينيه اغرورقتا بالدموع، ربما لأنه أسرع بالالتفات عنها مركزا على مقبض الباب حتى فتح وخرج فى هدوء.

ولم تعاود السؤال

كان قد اختفى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *