الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف‏ ‏التفكير‏ (24) : الشعور بالذنب بين الدين والإيمان والثقافة

ملف‏ ‏التفكير‏ (24) : الشعور بالذنب بين الدين والإيمان والثقافة

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 21-4-2014

السنة السابعة

العدد:  2425

 

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الثالث: ملف‏ ‏التفكير‏ (24)

اضطرابات التفكير

الشعور بالذنب بين الدين والإيمان والثقافة

مقدمة:

وعدت أمس أن أتكلم عن المسار والمصير لهذا الشعور الأساسى الذى صاحب اكتساب الإنسان مسئولية الوعى والوعى بالوعى، لكننى وجدت أن هناك اساسيات ينبغى أن تسبق ذلك حتى يتضح هذا الشعور الذى تضمنه هذا الوصف (بالذنب) تعسفا، ففضلت أن أوفى بعض هذا الجانب حقه أولا

أبعاد تشكيلات، وتفعيلات، وتجليات الشعور بالذنب

لا يظهر هذا الشعور بشكل مباشر على سطح الوعى الظاهر فى كل الأحوال، بل إن كثيرا من تجلياته تظهر فى تفعيله، أو إزاحته، أو تحويره، أو غير ذلك.

سوف أكتفي بعرض بعض مظاهر تجلياته فى المجالات المختلفة فى الشكل

لكننى لن أتناول بالتفصيل  إلا البعد  الإيمانى، (وهو غير وارد فى الشكل)، الذى سيرد ذكره لاحقا مع المسار الإبداعى لارتباطه بالنمو وتطور الوعى أساسا، حتى أخفف من الاستطراد.

  21-4-2014_1

أولا: البعد الدينى

من أظهر مظاهر الشعور بالذنب ما يبالغ فيه، بحق وبغير حق، غلاة المنذرين بالعقاب قبل الثواب من نصوص دينية ظاهرة ومحددة لا جدال حولها، لكنها لا تكتمل إلا بنصوص أخرى تخفف من غلواء هذا الموقف الرسمى أحادى التوجه، ذلك أن التركيز على الترهيب، وتجسيد أنواع العذاب، وحجم العقاب يكاد يلغى صراحة أو ضمنا جانب العفو والرحمة والغفران، حتى إذا واكب الترهيب قدر من الترغيب، فإنه عادة يكون ترغيبا استقطابيا ضد الذنب المقتَرف وليس متجادلا معه، أو محاطا برحمة ربنا وغفرانه من البداية للنهاية.

 قد تكون الصورة الاستقطابية الاشهر هى التركيز على عذاب القبر، وخاصة إذا ما توجه الخطاب للأطفال، وأيضا على الذنوب التى لا تغتفر (إن كان هناك ذنوب أصلا عصية على رحمة الله وعفوه).

 أما طقوس جماعية التكفير والاعتذار فيستحسن اعتبارها ثقافة أكثر منها دين، علما بأن الدين، وخاصة الدين الشعبى، من أهم مكونات أبعاد ثقافة مجموعة ما، أو مجتمع ما، هذا البعد الدينى قد يتجسد جماعيا فى طقوس بعض الأديان ، مثل بعض فرق المسيحية السمحاء، فى طقوس الغفران لصلب المسيح عليه السلام.

21-4-2014_2

 وأيضا بعض جماعات الشيعة المغالية فى التحسر والندم والاستغفار لمقتل الحسين رضى الله عنه كما يظهر فى طقوس يوم عاشوراء وما شابه ذلك.

21-4-2014_3

   كل هذا ما زال يقع فى حدود المقبول فى ثقافة معينة ، وإن ارتبط بدين معين.

البعد الإيمانى:

احتواء الشعور الذنب، والنهى عن ذكره فى مسيرة النمو: الإبداع : الإيمان

ابتداء: ينبغى أن نميز بين الدين بما يمثله فى المستوى السلوكى، وبين الإيمان وعلاقته بالوعى الشخصى، والوعى الجمعى، والوعى الكونى، والتركيب البشرى(1)، هذا البعد الإيمانى يتجلى أحيانا فى ممارسة التصوف، ليس بالمعنى الشائع وإنمابالمعنى المعرفى الإدراكى، حيث نجد نهيا عن الشعور بالذنب، أكثر مما نجد ترهيبا أو وعيدا يدعم وينمى هذا الشعور، نضرب  لذلك مثلا مما قاله “النفرى”  فى بعض مواقفه، وكيف عقبتُ عليه استلهاما:

سوف أضطر أن أعيد نشر هذا المقتطف كاملا تقريبا، لأننى أرى أنه جوهرى فيما يتعلق بوعى “الفصل  óالوصل”، و”رحلات الداخل  óالخارج”، و”جدل مستويات الوعى نحو الواحدية نموا متصلا”،

كل هذا، برغم المسميات الأخرى التى تطلق عليه، هو من صلب حركية الممارسة الطبية النفسية، فى ثقافة إيمانية واقعية مرتبطة بتاريخنا، وربما مستقبلنا:

عن الشعور بالذنب: من مولانا النفرى

 (سبق نشره فى “يوميات ” الإنسان والتطور بتاريخ   28-1-2008)

من مواقف النفرى:

النفرى:

أوقفنى فى الصفح الجميل

وقال لى:

لا ترجع إلى ذكر الذنب، فتذنب بذكر الرجوع

وقال لى

ذكرُ الذنب يستجرّك إلى الوجـْـد بهْ

والوجد به، يستجرك إلى العود فيه.

فوقفت فى الصفح الجميل، وقلتُ لى:

يا خطّاء أنت كما خلقك فسواك فعدَلكْ،

إن كان ما مضى مما اقترفتَ قد مضى،

فهو لم يعد ذنبا إلا إن كنتَ مصرا على جمودك عنده.

وتكرار ذكره  لا يعنى إلا الوجْد بِهْ

والوجْد بهْ هو الذى يستجرك إلى العودة إليه

فتنغلق الحلقة عليك وأنت داخلها

تدور حول نفسك تلهث بكلمات ،

ولا تدرى أنك لا تفعل إلا إعلان ثبات موقفك فى بؤرة ذنبك

ذَنْبُ ذكر الذنب ليس فى مجرد ذكره،

إنك بذكر الذنب إنما تدلّ على تمسكك به، وإصرارك عليه.

هذا وجدٌ به، ودعوةٌ ضمنيّهٌ للعودة إليه،

لا تتصور أنك تخلّصتَ من مسئوليته، بمجرد أنك  تحكى عنه.

الذنب الأكبر من الذنب: هو الذى ذِكرُه يحول بينك وبين غافر الذنب وقابل التوبة.

هو الذى يوقف سعيك إليه.

هو الذى يعوق كدحك للقائه.

“أنا مذنب  إذن أنا موجود”.

فافرح بوجودك، وامضِ إليه

 

ثم وقفتُ فى موقف الصفح الجميل وقلت له:

“ذنب المعصية” و”ذنب الغفلة” و”ذنب السهو” و”ذنب فتور العشم فيك” :

كلها ذنوب تذكــّرنى بك، فتلهب كدحى إليك

أنا لست مذنبا مهما أذنبت.

لست مذنبا ما أخلصتُ السعى فانصهرتُ فى بوتقة المحاولة،

فالكشف والتعلـّم والمجازفة والرعب.

منذ عرفت الطريق إليك، واطمأننت لوقفتى فى رحابك،  توقفت عن النعابة.

لم أتوقف عن التألم، ولا عن التعلّم.

الذنب الذى يعلّمنى يغيّرني.

فلا أعود أنا هو الذى أخطأ.

فلِمَ ذكر الذنب، اللهم إلا إن كنت أتذرّع حتى لا أتغيّر؟

ذكر الذنب يعلن الإصرار على العودة إليه، والعياذ بك من مثل ذلك،

وسوف أعود إليه ولن يكون هو هو

ثم أرجع إليك راضيا مرضيا

أنا أذنب، وأنت تغفر،

فأتغير.

فأولد من جديد !!.

 

و من مواقف النفرى أيضا

موقف العهد (ص83)

أوقفنى فى العهد وقال لى:

 اطرح ذنبك على عفوي

وألق حسنتك على فضلي

فوقفت فى العهد وقلت له:

لو لم توقفنى فى العهد لما ترددت أن أقتحمه عشما فيك، وثقة بك،

وهل أمامى سبيل آخر؟

طلقتُ الذنب حين رضيُت أن أتحمل يقين أخطائى.

بمجرد أن أطرح ذنبى على عفوك، يصبح حسنة

أطرحها على فضلك، فيداركها عفوك

فأين الذنب

لا أطمع بهذا فى التمادى،

هو يثير حيائى منك.

إذا طرفتْ عينى بعيدا عنك أذنبتُ فى حق نفسى لا فى حقك.

وإذا وجـَبَ قلبى لغيرك حرمتُ نفسى من نبضةٍ أنا أوْلى بها إليك.

هذا هو العقاب، وأنت أعدل من أن تعاقبنى مرتين.

الحسنات هى أيضا لى، وقبولها مرهون بأن تكون خالصة لك،

إن خلُصتْ حسنة واحدة إليك، فقد عرفتك،

وإن عرفتك فمن أين تأتى السيئات

هى كلها حسنات،

فما أَعـْدَلَك.

****

وقال مولانا أيضا:

وقال لى:

إذا أذنب الواجد بى جعلت عقوبته أن يذنب ولا يجد بي.

وقال لى إذا أذنب وهو واجد بى استوحش من نفسه

واحتجَّ لى عليها، وإذا أذنب ولم يجد بى أنـِسَ

بمبلغ تأويله واحتج علىّ

موقف القوة (ص 127)

فوقفت فى موقف القوة وقلت له:

الذنب عقوبة لا تحتاج إلى عقوبة عليها،

فما بالك إن اقترن بالحرمان من الوجد بك.

حين أُذنب وأنت معى، يغلبنى الحياء، فأستوحش، وأكره الذنب.

لولا عشمى فيك لما رجعت إليك مؤتنسا برغم ذنبى.

حين أذنب فأبرر وأفسـّر يبدو كأنى أعتذر فكأنى أصرّ.

فأبتعد، فيحرمنى الذنب من الوجد بك،

خجلا أو عمًى.

الوجد بك فرصة لأعيد تخليق نفسى من خلاله.

فتتخلق منى إليك

وتتخلق منك إليها

الذنب يترصّدنى وأنا أجدُ بك،

نغمةٌ نشازْ

جسمٌ غريبْ

إلا أنْ يقرِّبنى إليك

لا أريد أن أذنب: مرة بالذنب

ومرة بالبعد

****

وقال مولانا النفرى أيضا- فى موقف الصفح الجميل

وقال لى اجعل سيئتك نسيا منسيا،

ولا تخطر بك حسنتك فتصرفها بالنفي.

وقال لى قد بشـَّرتكَ بالعف، فاعمل به على الوجد بي

وإلا لم تعمل.

وقال لى يا ولى قدسى واصطفاء محّبتي.

وقال لى يا ولى محامدى يوم كتبت محامدي

فقلت له:

علمتـَنى أن الوقوف عند السيئة هو وجدٌ بها،

وفرط الاستغفار عن السيئة هو تذكيرٌ بها،

وإعلان الذنب تجاه السيئة هو إصرارٌ عليها،

السيئة تختفى فى ثنايا الكل،

السيئة حين تذوب فى الكل لا تعود سيئة

اجترارى ذكر الحسنة هو دلال عليك.

أنا أهلٌ له.

وأنا خجِلٌ منه.

كرمك وأنت تمنحنى ولاية قدسك، واصطفاء محبتك، وولاية محامدك

هو حارسى ومانعى من التطاول عليك بمعاودة السيئات،

أو بتذكر ما فات.

***

(انتهى المقتطف، ولم أعد إليه،

ولست واثقا إن كان هو بحروفه بعد ما ناله ما ناله الآن،  

لكننى راض عن ما آل إليه،

لعله يقوم بالواجب)

***

وفى المسيحية السمحاء:

 وصلتُ إلى أن الأمر ليس كما شاع أنها تكرس للشعور بالذنب،

حتى لو بالغ البعض فى طقوس التكفير والاستغفار والاعتذار،

ومن ذلك (على سبيل الأمثلة لا الحصر):  

  • ….يمكننا أن نشعر بالامتنان للإحساس بالذنب إذ أنه يدفعنا لأن نطلب المغفرة. ولحظة تحول الإنسان من الخطيئة إلى الإيمان بالرب يسوع، تغفر خطاياه. والتوبة هي جزء من الإيمان يقود إلى الخلاص (متى 2:3 و17:4 وأعمال الرسل 19:3).
  • “….يا أولادي اكتب إليكم هذا لكي لا تخطئوا. وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار” (يوحنا الأولى 1:2).
  • “…..اختبرني يا الله واعرف قلبي. إمتحنّي واعرف أفكاري. وأنظر إن كان في طريق باطل وأهدني طريقاً أبدياً” (مزمور 23:139-24).
  • ….. وعندما يلاحقك الشعور بالذنب حتى وإن كنت قد اعترفت بخطاياك، ارفض ذلك الشعور كشعور كاذب. فالله صادق في وعده أن يغفر لك. (مزمور 8:103-12.)
  • ” ….قد محوت كغيم ذنوبك وكسحابة خطاياك, ارجع إلىَ لأني فديتك”(اش44: 22)

وبعد

أرجوا أن أكون قد أوضحت أن التوقف عند الذنب، والتحدث عن الندم عليه، بل ومحاولة تصحيحه خاصة إن كان لا يُصحح، هو سمة عادية فى الحياة العادية، وقد تبدو فضيلة بشكل ما، لكن عمق الدين الأصلى، وحتى الدين الشعبى الذى يقول فيه المثل “مِنْ قرّ بذنبه، ربنا غفر له” ، يواجه إتيان الذنب بغفران جاهز، وليس فى هذا تشجيع على اقتراف الذنوب، وإنما هو إقرار بالطبيعة البشرية، وأن كل بنى آدم خطّاؤون، وخير الخطائين التوّابين

فى الممارسة الإكلينيكية:

ولكن ما فائدة كل هذا فى الممارسة الطبية النفسية فى ثقافتنا بوجه خاص؟

من  واقع التجربة عبر نصف قرن بعض ما خطر لى أن اسيعاب بعض ذلك إنما يساعد على:

  1. أن نتقبل ظاهرة الشعور بالذنب باعتبارها طبيعة بشرية من حيث المبدأ
  2. أن نحذر من التمادى فى قبولها حتى لا تنقلب المسألة – دون أن ندرى- إلى تبرير وتسويغ لذنب قادم
  3. أن نرصد المبالغة فى الحديث عن ظاهرة الذنب باعتبارها ظاهرة سلبية
  4. أن ننتبه كيف يصل الأمر إلى أن تكون هذه المبالغة (والزّنّ) تثبيتا للذنب وليس محوا له
  5. أن نحذر التوقف عند الرضا بإقرار الذنب كلاما، دون أن نلحقه بـ “إذا ماذا؟”.
  6. ألا نستسهل الاعتذار، أو نطمئن إلى قدرته على المحو
  7. أن يكون التعلم من خبرة اقتراف الذنب هو المقياس الأساسى لإيجابية هذا الشعور
  8. أن نلاحظ كيف أن التركيز على ذكر الذنب، هو تركيز على الوعى الشخصى المنفصل
  9. أن نعمل على أن يكون هذا الشعور فرصةلتنشيط حركية الوصْل بالوعى الجمْعى، والوعى الكونِى، إلى ما بعده
  10. أن نحسن تقييم متى وصل هذا الشعور إلى حدّة ضلالية (وهو ما فصلناه فى النشرات السابقة

…………..

ثم وعد آخر، أرجو أن يصدق هذه المرة:

أن نعود إلى المسارات المختلفة لهذا الشعور الأسبوع القادم

 

[1] – فضلتُ أن أؤجل الحديث عن الأسس البيولوجية للإيمان، وموقع الفطرة فى التركيب النفسى، خشية الاختزال وسوء التأويل، مع أن ذلك يمثل بعدا شديد الدلالة فى فهمنا للظاهرة، حين تمتد أبعادها من مجرد الشعور بالذنب ثم الاستغفار والتكفير عنه، إلى الجذب البيولوجى الطبيعى للعودة إلى الوعى المطلق بجدل نمائى حركى متواصل، ” كل من انفصل عن أصله، يطلب أيام وصله”

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *