الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف‏ ‏التفكير‏ (23) : (تابع) أنواع الضلالات (3) ضلالات‏ ‏الإثم‏، ‏والشعور‏ ‏بالذنب‏

ملف‏ ‏التفكير‏ (23) : (تابع) أنواع الضلالات (3) ضلالات‏ ‏الإثم‏، ‏والشعور‏ ‏بالذنب‏

نشرة “الإنسان والتطور”

الأحد: 20-4-2014

السنة السابعة

العدد:  2424

 

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الثالث: ملف‏ ‏التفكير‏ (23)

اضطرابات التفكير

(تابع) أنواع الضلالات

(3) ضلالات‏ ‏الإثم‏، ‏والشعور‏ ‏بالذنب‏

20-4-2014_1

 انتهت نشرة الاثنين الأسبوع الماضي  بطلب يبدو أنه لم يكن خالصا حين قررت أن أعرض عليكم عينات من عناوين “الاستطرادات الممكنة التى قد تبعدنا عن الموضوع الأساسى، فى انتظار رأيكم”، الآراء التى وصلتنى، وأوردت بعضها فى بريد الجمعة، ترحب أغلبها أن نعرج إلى موضوع الشعور بالذنب عامة  وعلاقته بضلالات الإثم، وقد كنت أتوقع ذلك، مع أنه سبق عرضه باكرا كما ذكرت فى مجلة الإنسان والتطور(عدد إبريل 1988 “الموسوعة النفسية حرف (ذ) الذنب”)، وأيضا فى نشرة الإنسان والتطور اليومية  فى نشرات متعاقبة: (نشرة 27-1-2008 “الشعور بالذنب”1”)، و(نشرة 28-1-2008 الشعور بالذنب “2” النفّـرى..، والشعور بالذنب)، و(نشرة 29-1-2008  الشعور بالذنب “3” سر اللعبة: لعبة الذنب)، و(نشرة 30-1-2008  الشعور بالذنب “4” أغنية للأطفال، ورحمة ربنا)، مع بعض الألعاب الجماعية لسبر غور الظاهرة فى الأحوال العادية، لا مفر من بعض التكرار، ولكننى سوف أحاول أن أتجنب كثرة الاستشهاد بمقتطفات أدبية مثل التى جاءت فى التقديم الأول للأطروحة فى مجلة الإنسان والتطور،  وسوف ألتزم بطرح أصل المسألة، لأن ذلك يوضح لنا الخط العام الذى نقدم به الأعراض من حيث أن اصولها موجودة عند كل الناس، لكن تفعيلها ومصاحباتها وآثارها ويقينها وإعاقتها للأداء والعلاقات، هى التى تنقلها من هذا المستوى العام إلى مستوى المرضي، وبالذات مستوى الضلال

ضلالات الإثم، غير الشعور بالذنب (1)

أبدأ اليوم بالتأكيد مرة أخرى على الافتراضات الأساسية بعد تحديثها بدرجة ما  :

(1) إن ضلالات الإثم، غير الشعور بالذنب

(2) إن الشعور بالذنب، غير إدراك الخطأ

المضامين “الشائعة” لكلمة ذنب:

يمكن أن نعدد بعض ما يمكن أن يكون وراء ما يشاع أنه ذنب – على المستوى المباشر والسلوكى بما يترتب عليه  من إثارة أو تبرير أو استغفار أو جلد للذات حتى المرض، بغض النظر عن حقيقة ما إذا كان هناك إثم قد اقتـُـرِفَ فعلا أم لا، على الوجه التالى:

لقد شاع بيننا، وفى ظاهر ما تعارفنا علين  أن الذنب:

1 – هو ما نهى عنه الوالدان والسلطة (أيا كانت).

2 – هو ما حاك فى الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس.

3 – هو العجز عن تحقيق ما توقعوه منك، أو ما توقعوه لك.

4 – هو التقصير دون تحقيق الأمان أو الستر (أو كليهما) بالسخرة عادة (السخرة لأى سيد بما فى ذلك أوهام الفقر وضلالات الخلود الخ).

5 – هو الاختلاف عن الجماعة .

6 – هو إلحاق الأذى بالغير، حقيقة أو خيالا (ظاهرا أو باطنا).

7 – هو أى شئ عليه عقاب معلن (تم العقاب أو لم يتم).

8 – هو الجرأة على التفكير (مجرد التفكير) فى المقدسات (الدينية، أو الاجتماعية أو الإيديولوجية الشائعة والغالبة والثابتة).

كل هذا على سبيل المثال لا الحصر، ويبدو من هذا العرض أن ما يسمى ذنبا قد استولى على مساحة شاسعة من (وجداننا/وجودنا) بما يصاحب ذلك من لوم ذات، وندم وما يتبع ذلك من استغفار وتكفير، وكل هذا متعلق أشد التلق بمحاولة حشر الناس فيما هو تشكيل واحد لصالح الوضع القائم.

تطور الوعى والشعور بالذنب:

إن ظهور الوعى البشرى، وبالذات ظهور النصفين الكرويين تطوريا، وبزوغ ما يسمى النفس يعتبر الأرضية التى نشأت منها ملاحظة الذات)(2)، ثم محاسبة الذات، ومن ثــَـمّ “الشعور بالذنب”.

(2) بالتالى يكون مبدأ الشعور بالذنب مرتبط بشكل ما بالشعور بالذات، وليس بالضرورة بحركية ما يسمى الضمير (أو الأنا العليا، وما شابه).

(3) إن كلا من الشعور بالذات، والشعور بالذنب، مرتبط بشكل ما، ليس فقط بالوعى، وإنما بالوعى بالوعى، وهو ما يميز النوع البشرى بوجه خاص.

إن الشعور بالذنب قد نشأ مع ظهور الوعى البشرى بما هو، أى بتعدد مستوياته، إذ لا يكفى أن يكتسب الإنسان ظاهرة الوعى ليقع فى إشكالة إصدار الحكم على نفسه بحكم قضائى داخلى خاص، وإنما يلزم أن يكون ثمة وعى، ووعى آخر، فثالث….وأكثر، ومن ثم الجدل والحرية، فالإنسان إذ اكتسب الوعى قد انفصل قليلا أو كثيرا عن هارمونية “الزمان/ المكان”  فى اتساعهما المطلق، فأصبح بإمكانه أن ينظر من موقف متعال إلى مسيرته الذاتية، لكن ذلك لا يكفى لتولد الشعور بالذنب، إذ لابد أن يصاحب هذا الانفصال تعدد مجادِل، وكذلك إمكانية اتخاذ قرار حر، مما يستتبع ظهور مسئوليةٍ ما، وبما أن الوعى الذى يختار لا يمثل كل الوجود الفردى الذاتى، فإنه بالتالى من الطبيعى أن يكون ثم  قرار مضاد كامن، جاهز أن يطل للوم، ومن ثم المحاكمة، فالحكم، متى حانت الفرصة.

ذنب الانفصال عن هارمونية الكل هو الخطوة الأولى لتولد هذا الشعور، ويمثلها بوضوح شديد الفكر المسيحى، وأيضا  الفكر الإسلامى، ويقابل ذلك فى التنظير النفسى موقف أوتو رانك Otto Rank بصفة خاصة، حيث اعتبر الخروج من الرحم هو الصدمة الأولى (المقابلة للخروج من الجنة)، ثم راح ينظر إلى الانفصال عن الوالدين فى مرحلة لاحقة (هى المراهقة أساسا)، باعتباره مبعثا لمزيد من تدعيم الشعور بالذنب (أنظر بعد)، وعلى نفس المستوى كان أوتو رانك هو الذى ربط الشعور بالذنب بالحرية (الفعل الإرادى) ربطا مباشرا، حتى وضعها صريحة كالتالى “إن كل فعل إرادى ينتج عنه شعور بالذنب” وقد يكون هذا موازيا لمعنى الأمانة التى حملها الإنسان: “إنه كان ظلوما جهولا”.

إن ظهور الوعى وما صاحبه من إعلان الانفصال عن الطبيعة الأم، وكذلك ما صاحبه من اكتساب حرية الإرادة، هما أول علامات تشير إلى تولد هذا الاحتمال.

لكننى قلت للتو أن المسألة تحتاج إلى وعى آخر (على الأقل) حتى يمكن للذنب أن يحتل الوساد الشعورى الظاهر، وقد اعتاد النفسيون أن يصوروا هذا الوعى الآخر باعتباره الضمير، أو الأنا الأعلى، لكن ثم احتمالا آخر (من منطلق أوتو رانك أيضا، وكذلك الفكر الدينى) وهو أن يكون المعاقـِب، واللائم هو وعى نكوصى طفلىّ، وليس بالضرورة وعى والدى طاغ، وفى هذه الحالة يكون الإشعار بالذنب نوع من اللوم للحيلولة دون النكوص (أى: الرغبة فى الاعتمادية المطلقة ،العودة إلى الرحم / العودة إلى الجنة / الالتحام بهارمونية الطبيعة)

هكذا يصبح الشعور بالذنب ليس مجرد فعل ضمير أخلاقى، وإنما يمكن أن يكون وظيفة تعطيلية ضد الحرية وضد الاستقلال، كما يمكن على الجانب الآخر يكون لوما ضد الحرمان من الاعتمادية الرضيعية (أو حتى الرحِمية.

الذنب والجنس والعدوان:

بهذه الصورة يمكن إعادة النظر فى التركيز على ربط الشعور بالذنب بالمرحلة الأوديبية، وخاصة ما يتعلق بمضاجعة المحارم، وأيضا على ربطه بالضمير، وبالأنا العليا، وما شابه.

فرض الأصل الكيانى التطورى لطبيعة الشعور بالذنب فى التركيب البشرى:

إن  الشعور بالذنب مرتبط أساسا  بظهور وتوجه كل من:

(1) ظهور الوعى بمستوياته

(2) توجّه العدوان باحتمالاته

(3) ضبط الجنس، بمحظوراته

بهذا الترتيب.

وبمقابلات ذلك مما يمكن الإشارة إليه فيما هو:

(1) ظهور الوعى بمستوياته : بتجليات التفرد والتعدد

(2) توجّه العدوان باحتمالاته : ودوره فى التفكيك للإبداع (بما يصاحبه من حرية التشكيل)، فى مقابل التحطيم للدفاع

(3) ضبط الجنس، بمحظوراته : اللذة والتواصل مقابل أجرومية الأسرة Grammer of the family

وعلى ذلك يمكن صياغة الحوار المسئول عن ظهور هذا الشعور الضابط المنضبط كالتالى:

(1) أنا موجود … إذن أنا مذنب.

(2) أنا أقرر، أختار،  أفعل… إذن أنا مذنب

(3) أنا أحب، أتواصل،.. إذن أنا مذنب.

وينبغى الانتباه إلى أن تعبير “أنا مذنب” هنا هو لمجرد الاتفاق على توحيد نقطة البدء، لأن المقابل الحقيقى لها هو تعبير “أنا مسئول”

هكذا تبدو هذه الظاهرة بدئية وأساسية ووجودية، ومرتبطة بالتركيب البشرى وتطوره الطبيعى، وبالتالى لابد أن يكون لها وظيفة بناءة مادامت بهذا الوجود الغائر على كل هذه المستويات، وما دام قد ظلت قائمة  بهذا الإلحاح وهذا الشمول طوال هذا التاريخ، فننضيف فرضا تاليا يبدو مكملا وطبيعيا يقول:

 إن وظيفة هذا الشعور هى “ضبط الجرعة” حتى يحافظ الإنسان على إمكانية استمرار الجدل بين مستويات الوعى (مستويات المخ)، وأيضا للحفاظ على حركية الجدل مع الآخر (الموضوع)

المنظور التركيبى والشعور بالذنب:

إن المنظور التركيبى لتعدد الكيانات (الذوات /مستويات الوعى/الأمخاخ…) هو المسئول عن هذا الشعور،  إذ لابد من وعى آخر يعوق، ويحاسب، ويعارض أو حتى :  يتهم ويحكم، ويعاقب، ثم تختلف بعد ذلك المسارات – مما سيرد ذكره تفصيلا.

مستويان للشعور بالذنب:

من هذا المنطلق، يمكن إعادة النظر فى هذا المصطلح “الشعور بالذنب” لنستقبله على مستويين متباينين:

الأول: هو ما أشرنا إليه من شعور ملازم – ولازم – لظهور الوعى وممارسة الحرية، وقد نشأ هذا الشعور بجرعة مناسبة، وفى تضفر جدلى مع ما ظهر ليضبطه (الحرية/الاستقلال الخ..) ويمكن أن نسمى هذا المستوى: الذنب الوجودىExistential guilt، ومن ثم ننظر فى وظيفته فى النمو والإبداع والتطور، وأيضا نرى احتمالات إعاقته، أو الانحراف به إلى ما هو اضطراب أو مرض.

الثانى: الشعور الناشئ من تقمص المجتمع السلطوى القاهر، الذى أحال الحركة النمائية الوجودية إلى تقزيم أخلاقى، وقهر فوقى، معيقا بذلك النمو، والحرية والإبداع، وربما يجدر تسمية هذا النوع باسم الشعور بالذنب الأخلاقى Moral guilt feelings

هذا، وقد غلب حاليا استخدام تعبير الشعور بالذنب على المستوى الثانى (الأخلاقى)، فى حين تراجع المستوى الأول (الوجودى) أو تسمى باسم آخر.

وعلى هذا الأساس يمكن اعتبار عقدة أوديب، وكبت الغريزة الجنسية بصفة عامة، وإنكار العدوان (أو التنكر له باعتباره سلبا خالصا) ، يمكن اعتبار كل ذلك مسئولا عن تهميش  المستوى الوجودى الأعمق، وبالفاظ أخرى فإن الذنب الأساسى هو “أن أوجد”، “أن أكون”،”أن أقرر”، “أن أختار”، وهو ليس ذنبا بمعنى الإثم الذى يحتاج إلى تكفير، ولكنه ذنب بمعنى الإنذار بمآل سلبى، إذا لم نحمل مسئولية إقدامنا على حمل أمانة الوعى بكل مستوياته.

إن التفرقة بين الذنب الوجودى الحافز للحركة ، حتى لو انتهت إلى نهاية سلبية، وبين الذنب الأخلاقى المعوّق للنمو والمهدد بالمرض هى أساسية فى هذه المداخلة بشكل جوهرى

مرة أخرى: كلمة ذنب، على المستوى الوجودى الاول، ليست مرادفة لما هو إثم، أو جرم، أو معصية، لأن هذه المواصفات إنما تسقط على أى فعل لا يرضى عنه الوعى المانع (داخل الذات أو خارجها، أى مما يحمل إيحاءات التجريم والإدانة، فيتطلب التكفير والغفران، وما يستتبع ذلك من مطالب التبعية والنكوص.

المسار والمصير:

مع عمومية هذا الشعور كخبرة طبيعية فى عملية النمو، يصبح علينا أن نتابع المسارات المختلفة التى يمكن أن يتخذها حسب ظروف التنشئة وفرص النمو والإبداع، بما فى ذلك احتمالات المرض حتى ظهور “ضلالات الإثم”، (وفيما يلى الشكل المبدئى بعد التعديل) وهو ما سوف نناقشه غدا.

20-4-2014_2

[1] – من عجب أن مادة ذنب (ذال / نون / باء)، كما وردت فى أغلب المعاجم ، تتعلق بما هو ذنـَب أكثر مما تتعلق بما هو ذنـْب، فى حين أنها فى التنزيل الكريم لم ترد إلا بمعنى الإثم والجرم والمعصية، وفى المعجم الصوفى (ابن عربى) لم ترد كمادة مستقلة وعند النفرى اعتبرها هى الإثم نفسه، وليس محتوى الشعور المنسوب إليه الذنب (أنظر بعد!!).

[2] = The self and its Brain, Karl R. Popper&   John C. Eccles 1991.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *