الرئيسية / نشرة الإنسان والتطور / ملف‏ ‏التفكير‏ (18) : خلفية تخليق الضلالات (ومايقابلها) (2)

ملف‏ ‏التفكير‏ (18) : خلفية تخليق الضلالات (ومايقابلها) (2)

نشرة “الإنسان والتطور”

الأثنين: 31-3-2014

السنة السابعة

العدد: 2404

 

 الأساس فى الطب النفسى

الافتراضات الأساسية

الفصل الثالث: ملف‏ ‏التفكير‏ (18)

خلفية تخليق الضلالات (ومايقابلها) (2)

استهلال:

يبدو أن كتابة هذا الجزء من اضطرابات التفكير، بعد ما فتحنا ملف الإدراك على مصراعيه، وأيضا بعد أن تعرى التفكير وتنازل عن عرشه لدرجة أنه اصبح ظاهرة تالية أو ثانوية لمنظومات من المعرفة لا نحيط إلا ببعضها، يبدو أن هذا التتابع قد أوقعنا فى ورطة مراجعة ما يسمى ضلال بشكل فيه كثير من التحدى من حيث أنه قد يستدرجنا إلى الاعتراف بأن كثيرا مما نرى أنه معتقدات سليمة، وبديهيات طبيعية، ومسلمات جماعية، اصبحت مهددة بالتصنيف كضلالات بشكل أو بآخر، هذا بالإضافة إلى أن وضع الضلال كفكرة خاطئة أصبح أيضا ثانويا بالنظر لما وراءه من تهيئة إدراكية ووجدانية وإبداعية وحدسية.

أقر وأعترف أننى كلما كتبت فى ما وراء الضلال مما يهيئ لظهوره أكتشف أن ما أكتب عنه يكاد يكون هو هو ما وراء الأفكار العادية، ناهيك عن أنه هو ما وراء الأيديولوجيات السائدة بشكل أو بآخر، بل إن الثقافات التى تسمح بالتجاوز الحر قد تتخطى هذا المستوى إلى ما هو أكثر  جسارة وإحراجا(1)

إذا كان الامر كذلك، فإن ما ورد من أعراض فى نشرة أمس وجزء غير قليل من نشرة  اليوم، قد ينتهى إلى أنه ليس أعراضا اصلا ، وإنما هى فرصة لدراسة حركية تكوين الأفكار التى قد ينتهى بعضها إلى اعتباره ضلالا،

لذلك لزم هذا التنويه

ثم نواصل فى نفس الورطة :

4– الحدس‏ ‏الضلالى Delusional Intuition :

‏ذكرنا‏ ‏ ‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التعبير‏ ‏قد‏ ‏يستعمل‏ ‏مرادفا‏ ‏لما‏ ‏هو‏ “ضلالات‏ ‏أولية‏”، ‏ولكن‏ ‏نعود‏ ‏ونقرر‏ ‏هنا‏ ‏أن‏ ‏هذا‏ ‏التفسير‏ ‏قد‏ ‏يكون‏ ‏اختزالا‏ ‏بلا‏ ‏مبرر‏، ‏الحدس‏ ‏الضلالى ‏هو‏ ‏حالة‏ ‏قريبة‏ ‏فعلا ‏ ‏من‏ ‏الضلالات‏ ‏الأولية‏ ‏ ‏لكنها‏ ‏حالة‏ ‏مستقلة‏ ‏بشكل‏ ‏ما‏، ‏فهى ‏من‏ ‏ناحية‏ ‏محددة‏ ‏تماما‏ ‏من‏ ‏حيث‏ ‏المبدأ‏، ‏ومن‏ ‏ناحية‏ ‏أخرى ‏هى ‏كلية‏ ‏وكيانية‏. ‏أى ‏أنها‏ ‏لا‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏توصف‏ ‏على ‏أنها‏ ‏مزاج‏ ‏صفته‏ ‏كذا‏ ‏أو‏ ‏انفعالات‏ ‏تقول‏ ‏كيت‏، ‏فهى ‏أكثر‏ ‏ارتباطا‏ ‏بالوعى ‏المعرفى والإدراك،  ‏منها‏ ‏بالوجدان‏ دون انفصال عن الأخير، ‏ومع‏ ‏ذلك هى‏ ‏لا‏ ‏تعطى ‏تحديدا‏ ‏معرفيا‏ ‏بذاته‏، ‏وقد‏ ‏يكون‏ ‏وصفها‏ ‏صعب‏ ‏جدا‏، ‏أو‏ ‏مستحيل‏ ‏على ‏المريض‏، ‏لكن‏ ‏الفاحص‏ ‏المتمرس‏ ‏قد‏ ‏يدرك‏ ‏وجودها‏ ‏وأنها‏ ‏قد‏ ‏تكون‏ ‏مصدر‏ ‏الضلالات‏ ‏المحددة‏ ‏فيما‏ ‏بعد‏.

وأحيانا ما يتكلم عنها المريض باعتبارها إلهام خاص فجائى يحل مشاكله الشخصية بحلول غير واقعية، أو مستحيلة، بل وأحيانا يعلن الحدس الضلالى حل مشاكل الدنيا بأسرها، وربما مشاكل الكون

وفى الإبداعقد تسمى هذه اللحظة الانقضاضية: “لحظة الإلهام” مثل اللحظة المشهورة التى أشرقت عند أرشميدس وهو فى الحمام (وجدْتُها)، أو اللحظة التى وصفها سيجموند فرويد أثناء تناوله غداءه، فكانت بداية نظريته فى الأحالام وكتابة كتاب تفسير الأحلام، أو مثل لحظات أخرى كثيرة (تجد كثيرا منها فى شهادات المبدعين (نشرة 17/2/2014: المعرفة الهشة)، وإذا كان الحدس الضلالى ينتهى إلى فكرة ضالة بعيدة عن الواقع …إلخ، فالحدس الإبداعى (الإلهام) ينتهى إلى نظرية علمية أو قصة أو رواية أو فكرة جديدة مبدعة مضيفة. والفرق بين الحدس الضلالى ولحظة الإلهام هو فرق ليس فى طبيعة تكون الحدس نفسه، وإنما فى النتيجة التى يخلص إليها ويتعهدها كما هو الحال فى سائر التفريقات الأخرى التى ذكرناها.

5- الذاكرة‏ ‏الضلالية‏ Delusional Memory :

 ‏تكاد‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏تشبه ما يسمى‏ ‏الترجيف‏ ‏الراجعى  Retrospective Falsification ‏الذى ‏يصل‏ ‏إلى ‏درجة‏ ‏الحدة‏ ‏الضلالية‏، ‏وتعبير‏”الذاكرة‏ ‏الضلالية‏ ” ‏مثله‏ ‏مثل‏ ‏تعبير‏ ‏المزاج‏ ‏الضلالى، ‏هو‏ ‏نوع‏ ‏من‏ ‏”خطأ‏ ‏تسمية”‏، ‏لأن‏ ‏الذاكرة‏ ‏نفسها‏ ‏لا‏ ‏تصاب‏ ‏هنا‏ ‏بأى ‏خطأ‏ ‏يمكن‏ ‏أن‏ ‏يوصف‏ ‏بالضلالى ‏بلاحظ وإنما‏ ‏الذى ‏يحدث‏ ‏أن‏ ‏الخبرة‏ ‏الضلالية‏ ‏تمتد‏ ‏لتــغــير‏ ‏على ‏مساحة‏ ‏من‏ ‏وظيفة‏ ‏الذاكرة‏ ‏فتشوهها‏ ‏لدرجة‏ ‏أن‏ ‏الضلال‏ ‏يظهر‏ ‏وكأنه‏ ‏ذكريات‏ ‏يقينية‏ ‏هى ‏لم‏ ‏تحدث‏ ‏فى ‏الواقع‏. ‏وبألفاظ‏ ‏أخرى ‏فإن‏ ‏الذاكرة‏ ‏هنا‏ ‏تقع‏ ‏ضحية‏ ‏الإغارة‏ ‏الضلالية‏ ‏أكثر‏ ‏منها‏ ‏مشتركة‏ ‏فى ‏التضليل‏ ‏وسوء‏ ‏التأويل.

كذلك‏ ‏ينبغى ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏ظاهرة‏ ‏الذاكرة‏ ‏الضلالية‏ ‏هذه‏ ‏وبين الظاهرة‏ ‏التى ‏سبق‏ ‏أن‏ ‏وصفها‏ ‏المؤلف‏ ‏وأسماها‏ “سبق‏ ‏التوقيت‏”  ante-dating  ، واختص بها تقريبا سبق توقيت بداية الذهان، ‏وهى ‏تعنى ‏أن‏ ‏الذهانى‏ ‏يُرجع ‏ ‏بداية‏ ‏المرض‏،‏ ‏إلى ‏تاريخ‏ ‏سابق‏ ‏لشكواه‏ ‏واستشارته‏، ‏وهو‏ ‏يحكى ‏عن‏ ‏هذا‏ ‏التوقيت‏ ‏وما‏ ‏صاحبه‏ ‏بيقين‏ ‏ثابت‏، ‏رغم‏ ‏أنه‏ – ‏حسب‏ ‏ما‏ ‏رصد‏ ‏سابقا‏ ‏من‏ ‏سلوك‏ ‏وذاكرة‏ ‏لم‏ ‏يشك‏ُُ ‏حينذاك‏، ‏ولم‏ ‏يذكر‏ ‏أيا‏ ‏مما‏ ‏يحكيه‏ ‏الآن من أعراض‏ ‏بعد تلك‏ ‏البداية‏ البعيدة، ‏فهذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏أيضا‏ ‏تنسب‏ ‏إلى ‏ظهور‏ ‏ذاكرة‏ ‏يقينية‏ ‏تحدد‏ ‏بداية‏ ‏سابقة‏ ‏للمرض‏ ‏دون‏ ‏أى ‏دليل‏ ‏أو‏ ‏إثبات‏، ‏ولكنها‏ ‏ليست‏ ‏ذاكرة‏ ‏ضلالية بمعنى أنها خطأ لمجرد أنها بعيدة عن الواقع لأنها تأليف احداث ونسبتها إلى الذاكرة وهى لم تحدث أصلا، وإنما‏ ‏‏كل‏ ‏ما‏ ‏فى ‏الأمر‏ ‏هو‏ ‏أن‏ ‏المريض‏، ‏بعد‏ ‏أن‏ ‏كسرت‏ ‏قشرة‏ ‏دفاعاته‏، ‏استطاع‏ ‏أن‏ ‏يمتد‏ ‏باستدعاءاته‏ ‏إلى ‏أحداث‏ ‏إمراضية‏ ‏حقيقية،‏ ‏فعاد‏ ‏يذكرها‏ ‏باعتبارها‏ ‏أعراضا‏ ‏ومظاهر‏ ‏كجزء‏ ‏لا‏ ‏يتجزأ‏ ‏مما‏ ‏يشكو‏ ‏منه‏ ‏الآن، ‏ومع‏ ‏ذلك‏ ‏فقد‏ ‏تبدو‏ ‏هذه‏ ‏البصيرة‏ ‏ضلالية‏ ‏من‏ ‏الناحية‏ ‏السلوكية‏ ‏الظاهرة فحسب‏، ‏وأذكر لتوضيح ذلك:‏ ‏أن‏ ‏مريضا‏ ‏هوسيا‏ ‏أجاب‏ ‏عن‏ ‏سؤالى‏ ‏عن‏ ‏توقيت‏ ‏بداية‏ ‏المرض‏، ‏فقال‏ ‏جادا‏ ‏وبيقين‏ ‏واضح‏ ‏إنه‏ ‏بدأ‏ ‏منذ‏ ‏يوم‏ ‏ولادته‏، ‏ولم‏ ‏يكن‏ ‏ذلك‏ ‏مجازا‏ ‏أو دعابة‏، ‏وحين‏ ‏سألته‏ ‏إذن‏ ‏فما‏ ‏ذا‏ ‏عن‏ ‏بداية‏ ‏الحالة‏ ‏الراهنة‏، ‏فأجاب‏ ‏إنه‏ ‏شفى ‏من‏ ‏ذلك‏ ‏المرض‏ ‏الذى ‏ظل‏ ‏معه‏ ‏طول‏ ‏عمره‏ ‏منذ‏ ‏الولادة‏ ‏منذ‏ ‏ثلاثة‏ ‏أيام‏ ‏فقط‏ (‏وهو‏ ‏نفس‏ ‏تاريخ‏ ‏بداية‏ ‏نوبة‏ ‏الهوس‏ ‏الحالية‏)، ‏وكأنه‏ ‏يعنى ‏بذلك‏ ‏أنه‏ ‏يعتبر‏ ‏الحياة‏ ‏العادية‏ ‏مرضا‏، ‏كما يعتبر ‏ ‏التحرر‏ ‏بالنوبة‏ ‏الهوسية‏ ‏شفاء‏، ‏وهذه‏ ‏وجهة‏ ‏نظر‏ ‏صحيحة‏ ‏سيكوباثولوجيا، ‏إلا‏ ‏أن‏ ‏التقييم‏ ‏السلوكى ‏قد‏ ‏يعتبرها‏ ‏ضلالا‏ ‏له‏ ‏علاقة‏ ‏بالذاكرة‏ ‏بشكل‏ ‏أو‏ ‏بآخر‏، ‏فالذى ‏يحدث‏ ‏أنه‏ ‏فى ‏الذهان‏، ‏ينشرخ‏ ‏جدار‏ ‏الكبت‏، ‏ويستعيد‏ ‏المريض‏ ‏قدرته‏ ‏على ‏النظر‏ ‏المباشر‏ ‏إلى ‏الداخل‏، ‏بما‏ ‏فى ‏ذلك‏ ‏ذاكرته‏ ‏بما‏ ‏تحوى ‏من‏ ‏تاريخ‏، ‏فهو يقرأ أحداث الذاكرة ‏‏بلغة‏ ‏سيكوباثولوجية‏ مرضه ‏الحالى‏، ‏يذكرنا هذا بما يحدث من تغير لعلاقة كثير من الذهانيين ببعد الزمن، حيث تتراجع دقة إدراكهم لبعد الزمن التتبعى (زمن الساعة فى معصمك) لتحل محلها علاقة حرة تتشكل بحسب تجوال المريض داخل وعبر مستويات وطبقات الوعى بما تحوى،

وفى الإبداعقد يوجد ما يوازى هذه الظاهرة خاصة فى الإبداع الروائى، لكن لا يوجد تشابه مطابق، لكن ربما يستغرق مبدع فى الحكى –مثلا- حتى تتجسد له الأحداث وكأنها ذاكرته هو، لكنه يظل طول الوقت على بصيرة كاملة بأنها ليست كذلك، حتى لو سـُرِقَ إلى بعض ذلك لحظات، وقد تضيف معايشة هذه الخبرة إلى عمق إبداعه إضافة خاصة ترتبط بمدى قدرته على تقمص شخوصه أثناء حالة إفرازه إبداعه.

6- الخبرة‏ ‏الضلالية‏ ‏المعيشة‏:‏

هى ‏حالة‏ ‏ليست‏ ‏منفصلة‏ ‏بالضرورة‏ ‏عن‏ ‏كل‏ ‏من‏ ‏الحدس‏ ‏الضلالى ‏والوجدان‏ ‏الضلالى ‏بشكل‏ ‏خاص‏ ‏وهى أقرب إلى ما اسميناه “الظاهرة الفكروجدانية”،  ‏التى ‏كانت منطلق بدايتنا للتنبيه على أن‏ ‏الضلال‏ ‏ليس‏ ‏مجرد‏ ‏فكرة‏ ‏خاطئة‏ ‏خرجت‏ ‏عن‏ ‏خط‏ ‏السواء‏، وإنما هو ما انغرس فى ظاهرة فكروجدانية، ونضيف الآن، صفة “ضلالية”، ولعلها هى المسماة هنا الآن “الخبرة الضلالية” المعيشة، ونضيف: مع أو بدون ظهور ضلالات محددة، ومن الطبيعى أن يكون الوجدان المصاحب لهذه ‏الخبرة ‏هو‏ ‏خبرة‏ ‏أصيلة‏ ‏فى ‏ذاته ، وهو جزء لا يتجزأ من الإدراك، وليس انفعالا تاليا متعلقا بمحتوى الفكرة الضلالية.

وأحيانا ما تسمى  هذه الخبرة “الجو الضلالى” الذى وجدت أنه يتطابق مع ما ذكرناه حالا عن الخبرة الضلالية المعيشة.

فى الإبداع: يوجد مثل ذلك بشكل أو بآخر لكن المبدع لا يصفه، ولا يعلنه، اللهم إلا بأثر رجعى، كما جاء فى شهادات المبدعين Link وليس بالضرورة أن  تكون شهادة المبدع مطابقة لخبرته تمام، فهو فى شهادته يعتمد على ذاكرته لهذه الفترة قبيل الدخول فى التشكيل الإيجابى، أما ما يقابل هذه الخبرة فهو يجرى على حافة وعيه الظاهر، أو قريبا من ذلك.

7- ظهور الضلالات‏ ‏معقلنة‏:‏

كل ما سبق قد يكون تمهيدا أو إعدادا أو ترتيبا لظهور الضلالات كما نعرفها، أفكارا شاذة وغير موضوعية ولا تمثل الحقيقة ولا تتفق مع ثقافة المريض ..إلخ، وهذا يرجعنا إلى تعريف الضلال باعتباره‏ ‏الفكرة المنغرسة فى‏ ‏‏ ‏خبرة‏ ‏معيشة‏ مهيأة، ‏وحتى إذا ترتب على وجود فكرة ضلالية معينة، تصرفات تابعة لها ونابعة منها، فإن ذلك ليس له علاقة بالخبرة الضلالية الفكروجدانية الأساسية، والتعامل مع الضلال كفكرة خاطئة وارد، لكن لا يمكن تصحيحه بالمنطق والبرهان، ذلك لأنه ليس إلا نتاج كل ما ذكرنا قبل ذلك.

 وما لم يكن تناولنا لحضور الضلال وثباته من خلال مهمتنا كيف نشأ وكيف انغرس فى الإدراك الوجدان فسوف يظل الضلال ثابتا، بل إنه عادة ما يتدعم بأفكار ثانوية مبنية على الفكرة الأصلية ليتكون ما يسمى “منظومة ضلالية “Delusional System ، أو أكثر، لتصبح سلسلة متماسكة فى ذاتها، لو قبلنا افتراض سلامة الفكرة الأولى لوجدنا كل الأفكار تفسر بعضها بعضا. وتختلف المنظومات الضلالية فى شدة تماسكها، وسلامة ترابطها، بقدر ما تختلف الأيديولوجيات الفكرية فى ذلك أيضا، وكلما أزمنت المنظومة الضلالية زادت تماسكا ورسوخا فى معظم الأحيان، ‏وتكون‏ ‏عادة مصاحبة ‏بانفعالات‏ ‏ثانوية‏ مناسبة لمحتواها:  ‏مثل‏ ‏انفعال‏ ‏الخوف‏ ‏والتوجس‏ ‏نتيجة‏ ‏لضلالات‏ ‏الاضطهاد‏.

وفى الإبداعيمكن مقابلة المنظومة الضلالية بتماسك سلسلة الفروض العلمية المترتبة بعضها فوق بعضها نابعة من فكرة الإبداع الأولى، (أو الفرض الأساسى الاول الذى قد يكون بدأ بإلهام مفاجئ “حدس إبداعى”، وهذا يحدث أساسا فى الإبداع العلمى أكثر من كل الإبداعات الفنية الأخرى

‏8- ظاهرة ‏التنشيط‏ ‏الضلالى:  ‏نشاط‏ ‏تكوين‏ ‏الضلالات‏:‏

نقترح‏ ‏هذا‏ المصطلح ‏ ‏لوصف‏ ‏الحالة‏ ‏التى ‏تكون‏ ‏فيها‏ ‏عملية‏ ‏تكوين‏ ‏الضلالات‏ ‏هى ‏الظاهرة‏ ‏الجديرة‏ ‏بالرصد‏ ‏فى ‏الصورة‏ ‏الإكلينيكية‏ ‏أكثر‏ ‏من‏ ‏ظهور‏ ‏محتوى ‏ضلال‏ ‏بذاته‏، ‏وفى ‏هذه‏ ‏الحالة‏ ‏يقوم‏ ‏المريض بتخليق وتأليف‏‏ ‏ضلالات‏ ‏جديدة‏، ‏ومتعددة‏، ‏مع‏ ‏اختلاف‏ ‏المثيرات‏ ‏والحوارات‏، ‏وبالتالى ‏فهذه‏ ‏الظاهرة هى ‏أقرب‏ ‏إلى ‏نشاط‏ “التخييل‏ ‏المرضى ‏الانشقاقى Dissociative Retrospective Falsification‏”، ‏و‏تختلف الضلالات عن  الترجيف  ‏بأنها تكون‏ ‏مصاحَبة‏ ‏بيقين‏ ‏شديد‏،‏ وابتعاد‏ ‏متزايد‏ ‏عن‏ ‏الواقع‏، أما فى ‏ظاهرة‏ ‏الترجيف‏ ‏فيكون‏ ‏اليقين‏ ‏أقل‏، ‏والسطحية‏ ‏غالبة‏، ‏والوعى ‏منشق‏، ‏وأعراض‏ ‏الذهان‏ ‏الأخرى (‏الفصام‏ غالبا) ‏خاصة‏ ‏غائبة‏.‏

 ‏ويمكن‏ ‏التفرقة‏ ‏بين‏ ‏هذه‏ ‏الظاهرة‏ ‏وبين‏ ‏مجرد‏ ‏وجود‏ ‏ضلالات‏، ‏ ‏بأن‏ ‏يطرح‏ ‏الفاحص‏ ‏مثيرات‏ ‏جديدة‏ ‏أثناء‏ ‏المقابلة‏، ‏ثم‏ ‏يرى ‏إذا‏ ‏كان‏ ‏المريض‏ ‏يبادر بأن‏ ‏‏يتجه‏ ‏إليها‏ ‏وينسج‏ ‏حولها‏ ‏ضلالات‏ ‏مناسبة‏ ‏أو‏ ‏تفاصيل‏ ‏يضمها‏ ‏للضلالات‏ ‏الجارية، أو يبنى عليها ضلالات جديدة،

ولا يوجد فى الإبداع ما يقابل هذه الظاهرة تحديدا اللهم إلا عند بعض المبدعين الذين تنشط لديهم عملية الإبداع بطريقة مشتتة متطايرة، فينتقلون من أطروحة إلى أخرى، ومن إبداع إلى إبداع بشكل متلاحق حسب ما تثيرهم جزئية فى الأطروحة الأصل، أو حسب تعدد الاهتمامات والقدرات.

الخلاصة:

يبدو أنه قد أدى بنا فتح محيط الإدراك على مصراعيه، ثم مقارنة الاضطراب الجوهرى للتفكير بأعراض المرحلة الأولى للإبداع، ثم مسايرة مصاحبات وتجهيزات وخطوات تكوين الضلال ومقابلتها بمصاحبات وتجهيزات وخطوات تكوين الإبداع يبدو أن كل ذلك قد أدّى إلى اكتشاف أنها عملية واحدة لها نتائج مختلفة.

فقط علينا أن نتذكر إلى أننا لم نتناول خطوات تكوين المفهوم Concept Formation وهى عملية جارية يوميا فى كل لحظة، وهى ليست إبداعية بالمعنى الكامل، ولا هى ضلالية بالمعنى المرضى وربما يمكن وضع فرض تكاملى يشمل الظواهر الثلاثة: تكوين المفهوم، تكوين الضلال، تكوين الإبداع.

وهذا ما قد نرجع إليه فى نشرة قادمة

[1] – توجد كتابات كثيرة فى الغرب تعتبر أن الاعتقاد فى وجود الله سبحانه هو ضلال عند كثير من المتدينين، حتى ألف بعضهم كتبا بهذا العنوان “ضلال الإله” Delusion of God ، ثم انتقل الأمر إلى اعتبار منظومات تبدو معاصرة وتنويرية وهامة ، مثل منظومة العلم المؤسسى، التى تعتبرها الحركة الناقدة لجموده وسطوتها نوعا من الضلال حتى ألفت فيها كتبا أيضا بعنوان ” ضلال العلم” Delusion of Science ، وهكذا.

تعليق واحد

  1. في أحد المرات اثناء المقابلة مع أحد المرضى ، حينما سألتها عن بداية ضلال و هو ( مراقبة الناس لها) قالت أن هذا بدأ منذ أن كانت طفلة و لم أستطع تحديد ماهية حقيقة هذه البداية ، لكن بعد أن قرأت عن الذاكرة الضلالية أستطعت الأن فهم حقيقة هذا الضلال

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *